المقالاتفكر وفلسفة

العصر المحوري: ولادة القياس الكمِّي، وموت الخيال والحدَس

الفكر العقلاني:

أقرَّت الكثير من الشرائع أنَّ الإنسان لا يعيش بـ”القياس المادي” وحده، أي أنَّ التجريد العلمي للحقائق عبر منهج المعايرة الماديَّة، أو حتى بالرأي العقلي المحض، ليست هي دالة الحقيقة الوحيدة، التي يمكن أن تتأسَّس عليها قواعد المعرفة. ومن المآخذ الرئيسة على تطوُّر المعرفة في اليونان القديمة، أنَّ ما سُمِيَ بـ”العصر المحوري” فيها هو أنه كان إيذانًا بفجر جديد من الفكر العقلاني البحت، ممَّا أدَّى إلى ظهور الفلسفة والعلم المادِّي الحديث في النهاية. إذ إنَّ القياس العقلي صار أحد أركان البحث العلمي، ولكي يعتبر أي شيء حقيقي، ولكي تعتبر أي معرفة صالحة، يجب قياسها ومعايرتها وفقًا لمنهج علميٍ مادِّي. ومع ذلك، فإنَّ هذه العقليَّة المفرطة في الماديَّة قد تركت البشريَّة متعطِّشة لشيء آخر، تأكَّدت من خلاله حقيقة أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش بالقياس وحده. وكأنَّ في الأمر مقدَّمة لدعوة توازن لاحقة، جاءت كاقتباس على لسان السيِّد المسيح عليه السلام؛ ظهر مرَّة واحدة في العهد القديم، ومرَّتين في العهد الجديد، ونصَّه: “مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله”. وقد عَدَّتهُ غالب مذاهب الإسلام المصدر الرابع للتشريع، مع حمله؛ لغةً واصطلاحًا، على معاني التدبُّر والمساواة والتقدير العقلي، ولكن من دون أن تكل عليه احتكار انتاج جميع المعرفة اليقينيَّة بأحوال الإنسان الماديَّة والمعنويَّة والروحيَّة، وإنَّما مجرَّد منهج يُعنى ببذل الجهد لاستخراج الحقّ من مظانه الموثوقة.

وبما أنَّنا لا نتقصَّد جدلًا دينيًا، أو نتقفَّى نقاشًا فقهيًّا في هذا المقال، فإنَّ تركيزنا سينصبُّ على ما أطلق عليه الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز في القرن العشرين “العصر المحوري”، الذي بدأ حوالي عام 500 قبل الميلاد، وفيه حدث تغيُّر هائل في الوعي البشري، وطرأ تحوُّل أساسي لدرجة أنَّه كان بمثابة انقطاع مفاجئ، من الناحية التطوّريَّة، مع ما حدث من قبل. وما حدث بعد ذلك، في تقدير “ياسبرز”، هو أنَّه في جميع أنحاء العالم، ظهرت المثل العليا الدينيَّة والروحيَّة والأخلاقيَّة؛ أي ما أصطلح عليه في أروقة الفلسفة بـ”البديهيات” الإيمانيَّة العقديَّة، التي أبلغتها الحضارة الشرقيَّة أولاً للحضارة الغربيَّة. إذ عرف الشرق “بوذا” في الهند، وكان هناك “لاو تسي”، مؤسِّس “الطاوية” في الصين، ومعاصره “كونفوشيوس”. وفي بلاد فارس، كان هناك “زرادشت”، الذي تحدَّث أولاً عن الحياة البشريَّة على أنَّها معركة بين الخير والشر، وفي الأرض المقدَّسة كان هناك الرسل، والأنبياء اليهود، والمسيحيُّون، والمسلمون. وحتِّى في عصرنا المتشكِّك، فإنَّ القيم المتجسِّدة في هؤلاء العظماء ما تزال توجّه ملايين الأشخاص، وتشير إلى متانة التزامهم الروحي، والأخلاقي.

لكن، في رأي الفيلسوف الأمريكي “غاري لاكمان“، أنَّ هناك مكانًا واحدًا، كان فيه التحوُّل، الذي حدث خلال “العصر المحوري” مختلفًا نوعًا ما. بينما يمكن أن نعتبره على نطاق واسع أنَّ الشرق ظهرت فيه مُثلٌ دينيَّة وروحيَّة، أمَّا في الغرب، وخاصَّة في الأراضي المطلَّة على البحر الأبيض المتوسَّط​​، ظهر شيء آخر. ففي “ميليتس”، وهي مدينة ثريَّة في “إيونيا”، في آسيا الصغرى، أو ما يسمَّى اليوم بـ”تركيا”، ظهر شخص يُعتبر عمومًا الفيلسوف الأوَّل، على الرغم من أن مصطلح “فيلسوف” لم تتمّ صياغته إلا بعد قرن من زمانه ذاك. وكان “طاليس”، الذي يُعتبر أحد الحكماء السبعة في اليونان القديمة قد بدأ تقليد “البحث العقلاني”، الذي نربطه بالغرب. وبدلًا من قبول الأسطورة التقليديَّة، أو الروايات الدينيَّة، تساءل “طاليس” سؤالًا بسيطًا عن كيفيَّة نشوء العالم: ممَّا يتكوَّن العالم؟ وما هي “الأشياء” الأساسيَّة، التي يصنع منها كل شيء آخر؟ وناقش كل ما سبقه من قصص حول لماذا جعل الآلهة العالم بطريقة ما دون أخرى. وهذا سؤال، على حدِّ علمنا، لم يسأله أحد قبله، فيما اعتقد هو أنَّ الجواب هو الماء. ويعتقد “هيراقليطس”، وهو فيلسوف مبكِّر آخر، أنَّه النار. بينما اعتقد “أناكسيمنس” أنه كان الهواء، وهي تبدو جميعًا نظريَّات سخيفة. غير أنَّ “لاكمان” يرى أنَّ المهم هنا هو أنَّ ما حدث في الغرب، خلال “العصر المحوري” كان تحوّلًا مما يمكن أن نسمّيه التفكير الأسطوري الخيالي، إلى التفكير العقلاني “العلمي”. وعلى الرغم من أنَّه لم يتمّ اختراع المسلمين للساعات بعد، فقد بدأ الغرب بحاجة إلى معرفة “ما، الذي يجعل الأشياء تتحرَّك” في الزمان والمكان.

تحوُّلات المعرفة:

لقد ثبت أنَّ سؤال “طاليس”، رغم بساطته، أو كما قيل “سخافته”، كان شديد الخصوبة، إذ تحوَّلت به المعرفة الرياضيَّة إلى المعرفة البديهيَّة. وبعد ألفي عام من طرحه السؤال، أرسى أسلوب البحث العقلاني، الذي أطلق الأساس لما نعرفه بالعلم. ففي أوائل القرن السابع عشر، تبلورت الطريقة الجديدة للمعرفة في نهج واسع النطاق والنجاح. لقد حقَّقت الهيمنة، التي تتمتَّع بها اليوم من خلال وضع معايير صارمة لأي شيء يمكن اعتباره معرفيًا، أو “حقيقيًا”، من بين أمور أخرى، وشملت هذه المعايير الكميَّة والقياس. وتجادل معظم سجلات وسجالات الفكر الغربي بأنَّه مع هذا التحوُّل، تلاشت الطريقة الأسطوريَّة والخياليَّة السابقة لفهم العالم. وظلَّت هذه الطريقة المبكّرة الأكثر حدسيَّة للفهم، وما زالت معنا، تحتلُّ نوعًا من عالم الظلّ على هامش الوعي العقلاني، أو ما يسمّيه الغربيُّون بـ”الخيال”. ومع ذلك، فإنَّ هذا ليس خيالًا كما نفهمه عادةً، لأنَّه يتعلَّق بـ”الإيمان”، وأنَّ هذا “الخيال” يصنع “الحقيقة” الأزليَّة والأبديَّة. لذلك، ولكي يتم اعتبار أي شيء حقيقي، أو تعتبر أيَّة معرفة صحيحة، يجب قياسها ومعايرتها، ويتم رفض أي شيء غير قابل لهذا القياس وهذه المعايرة. فكان لهذا المؤهّل قيمة عمليَّة ونفعيَّة هائلة، عندما يتم تطبيقه على العالم المادَّي. وقد أدَّى إلى قوى تنبؤيَّة كبيرة، وفي النهاية، من خلال التكنولوجيا، قاد إلى التمكُّن من الطبيعة. وهكذا بدأ ما يعرف بـ”عهد الكميَّة” حاضرًا معنا لبعض الوقت الآن. ومع ذلك، وحتَّى في بدايته، كان هناك من يعرف أن عهد الكميَّة كان له ثمن. فقد كان عالم الرياضيات والمنطق والمفكِّر الديني “بليز باسكال” يمثِّل معجزة حقيقيَّة، إذ كان يجلس، وهو في سن الثانية عشرة، في مناقشات الرياضيات مع “رينيه ديكارت”، الذي يعتبر، إلى جانب “إسحاق نيوتن”، أحد الآباء المؤسِّسين للعلم الحديث القابل للقياس.

لكن، ووفقًا لـ”لاكمان”، كان “باسكال” رجلاً شديد التديُّن، وتجلَّى ذلك في مجموعة الملاحظات، التي تركها وراءه عند وفاته، وكان يميِّز فيها بين نوعين مختلفين من المعرفة، أو ما يسمّيه “روح الهندسة” و”روح البراعة”، أو العقل الرياضي والحدسي. والفرق بين الاثنين هو أنَّه بينما تعمل الهندسة بتعريفات دقيقة؛ مثل تعريف المثلَّث القائم الزاوية، وتتقدَّم خطوة بخطوة، فإنَّ العقل الحدسي يعمل مع تعريفٍ أقل تحديدًا، ولكن أكثر أهميَّة. فأنواع الأشياء، التي كانت مجال طريقتنا التخيليَّة السابقة للمعرفة، نصل إلى إجاباتها كلّها مرَّة واحدة. وهذا هو السبب، الذي جعل “باسكال” يكتب أنَّ “للقلب أسبابًا لا يعرفها العقل”. فالعقل لا يعرفها، لأنَّ أسباب القلب محسوسة، لكن لا تحسب. وقبل عدَّة قرون من “باسكال”، قدَّم القدِّيس “توما الأكويني” الملاحظة نفسها، مميّزًا بين “البحث النشط” عن المعرفة، وتوظيف العقل، و”الامتلاك الحدسي” له. وعلى مرِّ التاريخ، توصَّل العديد من الفلاسفة الآخرين إلى استنتاجات مماثلة.

المفتاح الرئيس:

إنَّ المشكلة في هذا هي أنَّ العقل الحدسي لا يستطيع أن يشرح كيف يعرف ما يعرفه، بالطريقة، التي يمكن أن يرشدنا بها عالم الرياضيات عبر معادلة منهجيَّة؛ تصل معرفتها تلقائيًا في ومضة. وقد تحدَّث الكاتب الألماني “إرنست جونجر” في القرن العشرين، عمَّا أسماه “المفتاح الرئيس”، وميَّز بين التفاهم، الذي تمَّ التوصّل إليه من “المحيط” والتفاهم، الذي يبدأ من “نقطة الوسط”. ويتطلَّب نهجًا من المحيط “صناعة شبيهة بالنمل”، وهو التثاقل التدريجي، الذي ينقلنا من المستوى الأوَّل، إلى الثاني، وإلى الثالث. لكن الحدس يأخذنا مباشرة إلى نقطة المنتصف وكأنَّ الأمر يشبه امتلاك “المفتاح الرئيس” لجميع الغرف في الفندق، أو كأنَّ جميع الأبواب مفتوحة له، وهذا هو الاختلاف المركزي بين هاتين الطريقتين للمعرفة. ويظلُّ هذا “القياس” على السطح، وهو يرسم هذا بدقَّة شديدة، متحذلقة، لكنَّه لا يصل أبدًا إلى الداخل. فالطريقة الأخرى غامضة قليلاً وغير دقيقة وغير قابلة للتكرار؛ على الأقل عند الطلب، لكنها تتغلغل بشكل أعمق في العالم، وتكشف عن عناصر منه لا تستطيع طريقة “القياس” الكمِّي أن تصل إليها. وهذه هي المعاني، التي تظهر في الشعر والموسيقى والفن، وأشكال الخيال الأخرى، التي نعترف بها على أنَّها أكثر من مجرد “تصديق”. وهذه هي المعاني “الضمنيَّة” “الخفيَّة”، التي قال الفيلسوف “مايكل بولاني” إنَّه لا يمكن التعبير عنها “صراحة” بالطريقة، التي يمكن بها “المعنى” الرياضي، ولكن مع ذلك يمكن الشعور به.

وفي قول عددٍ من الفلاسفة، إنَّه ربما كان هذا هو السبب في أنَّ الفيلسوف الألماني “لودفيج فيتجنشتاين” قال إنَّ الأشياء ذات المغزى الحقيقي في العالم لا يمكن قولها، ولكن يجري إظهارها فقط. إنَّ المعرفة الصريحة، التي تمكِّن مسابرنا من الوصول إلى أعماق الفضاءات، التي لا يمكن تصوّرها لا يمكن أن تخبرنا شيئًا عن الرهبة، التي نشعر بها عند النظر إلى السماء المرصَّعة بالنجوم. لكن قصيدة، أو مقطع موسيقي يمكن أن يعطينا فكرة ما، بل ويثير شعورًا مماثلًا بالرهبة، أو الرغبة، في داخلنا. وهذه هي الطريقة، التي تجعل الخيال “حقيقيًّا”، لأنَّه “يدرك” المعاني، التي لا تستطيع طريقتنا الصريحة في المعرفة القيام بها. وهذا هو السبب، الذي جعل الكاتب “جي بي بريستلي” يلاحظ ذات مرَّة أنّه “لا يمكن الحصول على الحقيقة إلَّا على حساب الدقَّة”. فقد نعتقد أنَّ فقدان هذه الطريقة الأخرى للمعرفة هو ثمن عادل ندفعه مقابل جميع المزايا، التي أتت مع عهد الكميَّة. وعلى الرغم من إتقانهم غير المشكوك فيه للعالم المادِّي، فإنَّ القياس والتقدير يمكن أن يوفِّروا الخبز فقط. ومن دون شك، نحن نعيش اليوم كملوك قدامى لا يستطيعون أبدًا أن يحلموا بالعيش بخيالهم. ومع ذلك، كما يعلم “باسكال” وآخرون، فإنَّنا لا نعيش بالخبز وحده، مهما كان متوفّرًا. فالتغذية الجسديَّة ضروريَّة بالطبع، لكن أجزاء أخرى من كياننا يجب أن تتغذَّى أيضًا.

بيد أنَّهم يفعلون ذلك عن طريق اختزال تعقيد العالم إلى “نموذج مفاهيمي واضح تمامًا للواقع”، على حدِّ تعبير المؤرِّخ “فرانسيس كورنفورد”، يمكن أن يفسِّر جميع الظواهر بـ”أبسط صيغة”. لكن هذا يتحقَّق فقط عند فقدان “كل قيمة وأهميَّة العالم”، واستبعاد كل ما هو غير دقيق، وكل ما لا يمكن أن يتناسب مع الصيغة، التي تعني بشكل عام كل ما له معنى بالنسبة لنا. ويمكننا حساب الإشعاعات الكهرومغناطيسيَّة، التي تشكِّل غروب الشمس، لكن لا توجد صيغة توضح سبب جمالها. وهذا هو التناقض بين ما يسميه “كورنفورد” الإحساس “الدقيق” و”الغامض”، أو ما نطلق عليه “الصريح” و”الضمني”، الذي اعتقد “كورنفورد” أنهما “حاجتان دائمتان للطبيعة البشريَّة”. فنحن ندرك الحاجة إلى “الدقَّة” والحقيقة “الصريحة” وقيمتها، وقد بنينا حضارة كوكبيَّة عليها. وما يزال الاعتراف بأنَّ الخبز وحده ليس نظامًا غذائيًا صحيًا يبدو متقطِّعًا، ولكن في كتابه “المعرفة المفقودة للخيال”، ألقى “غاري لاكمان” نظرة على كيفيَّة إدراك الأفراد المختلفين عبر التاريخ الغربي للحاجة إلى الخبز، وهذا شيء بعيد المنال، ولا يتَّسم التفكير فيه بالدقَّة، التي لا يستطيع العالم أن يقدِّمها. ومنذ صعود حكم “الكميَّة”، أصبح هذا الشيء المراوغ، أو “الخيال”، يُنظر إليه على نحو متزايد على أنَّه سراب، والشهيَّة “الغامضة” هي مخلَّفات مؤسفة من أوقات أقل عقلانيَّة. واختُزلت وسائلنا لاحتضان هذا “الخيال”، إلى أحلام اليقظة للرومانسيِّين غير القادرين على مواجهة الحقائق. وقد تبدو هذه النظرة محبطة، ولكنَّها لا يجب أن تكون كذلك. كل ما دفع العقل للخروج من وضعه الأسطوري إلى وضعنا العقلاني قد يكون في العمل اليوم، وهو ما يعدنا للتحوُّل التالي. لا يوجد سبب للاعتقاد بأنَّه لا يمكن أن يكون سببًا تتمتَّع فيه الحاجتان الدائمتان لطبيعتنا برأي متساوٍ لحجيتهما.


*الدكتور الصادق الفقيه: سفير سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.

الخميس، 18 مايو 2023

صقاريا، تركيا

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات