المقالاتمنوعات

الطرح العلمي العربي؛ نزوة تجديد وسقوط متجدِّد

أسوأ عقاب قصدي يمكن أن تمارسه بحقّ قدراتك الذهنيَّة وطاقاتك العقليَّة هو أن تذهب طواعية لقصص ( فرانز كافكا) لأنها كفيلة بخلق حالات مستدامة من الإرباك والارتباك معا بشأن حقوقك المعرفيَّة، وخصوصا أنها تشكِّل عوالم غير معتادة من التشكيلات اللغويَّة والتخييليَّة، وهي فعلا عوالم مستقلَّة قد تجد نفسك خارج حدود الزمان والمكان رغم حضورك الجسدي وبقائك الذهني . لاسيما وأن كافكا نفسه صاحب هذه القصص المتوتِّرة كان في صراع ذاتوي من أجل فهم العالم في مجمله، وأن الأشياء التي تحمل في طياتها وجودنا الحقيقي وتتساقط من حولنا كما يذكر فرانز كافكا مثل ” عاصفة ثلجيَّة ” لكن نظرة البشر لا تسمح لهم بفهم الأمور على حقيقتها الجميلة الهادئة، ويقول نصّا:” إنهم يشوّهون الحقيقة وينزعون عنها الحياة، فيصبح الطريق إليها مغلقة بفضل التباس المسميات التي يطلقونها عليها” .

وربما تقفز قصة كافكا المثيرة ( بلومفيلد العجوز العانس ) التي نشرت في مارس 1915 كاملة في طبعة ماكس برود وأنا أتابع هذا الاستقبال المدهش لوجود عقار أو مصل لجائحة كورونا غربي الصنع والتصدير ممزوجا بفرحة عربيَّة تخفي عقودا طويلة من الحسرة العلميَّة العربيَّة وقرونا بعيدة من الطرح العلمي العربي الذي خلفه المتقدمون العرب ثم انتكص من بعدهم آلاف الأكاديميين العرب.

في قصة كافكا المتشابهة مع واقعنا العلمي ببلاد العرب وكلياتها العلميَّة الضاربة في القدم والتكوين والسقوط أيضا، يحكي عن تفاصيل حياة شخص يدعى ” بلومفيلد” والذي يقول في سطورها عنه وترجمها الدكتور يسري خميس في مجمل ترجمته للأعمال الكاملة لكافكا : ” كان بلومفيلد معتادا في المواقف الطارئة التي لا يستطيع فيها السيطرة على الموقف، تبني وسيلة مساعدة، وهي أن يتظاهر وكأنه لا يرى شيئا، كانت هذه الطريقة تنجح في كثير من الأحيان، أو على الأقل تجعل الوضع أفضل”.

وفي سطور أخرى يحاول كافكا أن يقوم بتشريح الخلفيَّة الذهنيَّة لبطل قصته “بلومفيلد” الذي يجد نفسه في صراع مع كرتين من المطاط تقفزان إلى أعلى سقف حجرته الكئيبة كنفسه، ومحاولاته الفاشلة في التقاط إحداهما دون جدوى، وكيف اجتهد في الإمساك بهما وهما تضربان يده بقوَّة وتقفزان بسرعة غير معتادة، وبعدما حاول ” بلومفيلد” حبس الكرتين في أسفل دولاب ملابسه حينما تملكه الغضب، بدأتا تقتربان منه وهما تتبعانه، وتثبان خلفه مباشرة، وفي كل مرَّة يحاول ” بلومفيلد” أن يخفي نفسه عنهما تظهران له بصورة أقوى وأشد وضوحا، وكانت محاولاتهما هذه تنم على أنهما يسعيان إلى أن يقدما نفسيهما إليه على أنهما صارتا الآن في خدمته.

وما سبق ذكره من سرد قد يبدو بطيئا بعض التوصيف، ضامنا وجود عدَّة استفسارات وثمَّة تساؤلات مبهمة بين العلاقة التي تربط قصة فرانز كافكا والطرح العلمي العربي الراهن، إلا أن العلاقة وثيقة جدا بين رجل يمارس كآبته الشخصيَّة في غرفته ويرفض فرص الاكتشاف ومغامرة البحث، وبين واقع علمي عربي بات غائبا تماما عن مشاركة العالم الغربي في منافسة السبق العلمي ورصد مكانة جديدة تليق بمجتمع عربي له تاريخ طويل من الاكتشاف المرتبط بواقع البشريَّة لا مجرد بضعة أوراق افتراضيَّة لا تخصّ سوى العالم ومعمله وأدواته الفقيرة بحثيا.

وعليه، فعليك ألا تصدق أبدًا أن العلم في أكاديميات تدريسه بالوطن العربي هو السبب الكامن وراء صور التقدُّم المادّي أو التميُّز الحضاري في حياة الشعوب العربيَّة التي قرَّرت دون إبرام عقد مسبق أنَّ الأكاديميات والمؤسَّسات العلميَّة العربيَّة كفيلة لتحقيق رفاهيَّة الفرد والمجتمع، لأنها في واقع المشهد الراهن تجدِّد سقوطها المعرفي في مواجهة جائحة كورونا في نسختها الثانية.

وأن ما أعلنته الدول العربيَّة أنها نجحت في استيراد عبوات كبيرة جدا من العدد للقاح مواجهة كورونا لهو كفيل بأن علماءنا العرب المنتشرين في كليات العلوم والطب والصيدلة في مغامرة استثنائيَّة أخرى لاستهلاك الزمن وهم يدغدغون عقولنا وأذهاننا بأبحاث افتراضيَّة تشبه شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونيَّة التي من السهل والممكن والمتاح أن يأتي أحد أطفالنا ويقوم بمحوها مباشرة ودون تخطيط مسبق من هواتفنا الذكيَّة دون أن يدرك فعلته.

وحينما شاهدت هذه الفرحة الإعلاميَّة العربيَّة بتوفير عدد مناسب من لقاح كورونا الغربي على أرض العرب أدركت كم ينقص العقل العلمي العربي فقه المواجهة، وأن علماءنا الذين سافروا للخارج وتكبَّدوا عبء السفر والبحث والعمل خارج تخوم الدراسة الجامعيَّة ثم عادوا حاملين متحاملين على أنفسهم وعلينا درجة دكتوراه الفلسفة أو دكتوراه الدولة في أحد التخصصات العلميَّة الأساسيَّة هم أسرى فقه الافتراض والنظريات التخمينيَّة كأنهم يعودون عشرات العقود لزمن ألبرت أينشتاين ونظريَّة النسبيَّة، وكأنهم عادوا لبلاد العرب لاكتشاف مجهول لا يتَّصل بواقع المحيط إلى الخليج إنما بأزمنة وأمكنة خارج سياق الواقع العربي الأكثر احتياجا لهؤلاء.

وربما بقاء علمائنا العرب أسرى نظريات الافتراض والفرضيات التخمينيَّة المستقبليَّة يجعلنا في مرمى التساؤل بأنه متى ينتقل العقل العلمي الأكاديمي من مرحلة الجمود إلى مساحات التحرر والتمرد وجعل العلوم الأساسيَّة في خدمة الواقع العربي بمشكلاته الحقيقيَّة المباشرة لا اختراع مستقبل بزمان ومكان لا وجود له سوى بأذهان هؤلاء العلماء وحدهم.

لكن ما وجدناه ليس تحرُّرا للعقل من خلال مواجهة مشكلات الإنسان المعاصر، ولم ينخرط علماؤنا الأكاديميون العرب في واقع الجائحة بأبحاث وأوراق عمل كأنها حفل استقبال لضيف غير مرغوب فيه، بل رأينا اكتشافا لمجهول المريخ، ودراسة لتاريخ حيوانات وطيور وزواحف وحشرات وطبيعة كائنات لا حصر لها وكأننا نكتب روايَّة تاريخيَّة للكائنات غير العاقلة، وجدنا بحقّ تطوّرا فاعلا مذهلا في الفيزياء حتى أمكننا القول بأننا نعيش على كوكب الفيزياء ورغم ذلك لم يواكب هذا التحرر الفيزيائي الخادم للبشريَّة على أرض العرب تطوّرا في علوم الحيوان والكيمياء والصيدلة والبيولوجيا يخدم الإنسان العربي بصورة حقيقيَّة وهذا يعد ملمحا رئيسا من ملامح الضعف والهامشيَّة العلميَّة العربيَّة.

ومن باب التطرّق إلى نكوص العقل العربي العلمي وهو يواجه جائحة كورونا الذي لم يعد ضيفا طارئا بل استحال بقاؤه ممكنا لفترات زمنيَّة طويلة في المستقبل، فإن تراجع العلم ببلادنا العربيَّة في راهننا المُعاش يرجع إلى ثمة عوامل وأسباب؛ منها غياب صياغة نظريَّة في المعرفة العلميَّة فما نحن الآن سوى ناقلي معارف ومعلومات لطلابنا بمعاهدنا العلميَّة يمكن الاستغناء عن ذلك بمشاهدة أفلام أكثر كفاءة ودقة على موقع يوتيوب YOUTUBE، كذلك عدم الإفادة من الأسباب التاريخيَّة لفشل توظيف العلم في الوطن العربي منذ إطلاق أول بعثة علميَّة إلى باريس، وهذا مكمنه الفشل في تأسيس الحاضر، ممّا أدّى بهم وبنا قهرا وطوعا إلى اختراع واختلاق مستقبل وواقع افتراضي لدراسة أسنان طائر البطريق وحياة دودة القز والحالة النفسيَّة للشمبانزي، واكتشاف معدن نادر بصحراء أوكرانيا وغير ذلك من مهملات واقع عربي بحاجة إلى علم يخدمه لا إلى علم يتسلى بقراءته وقت فراغه.

وكيف نطالب علماء العرب أن يكونوا ردّ فعل ضدّ ثورات علميَّة متلاحقة والطرح العربي العلمي نفسه نجده مهرولا للنشر في مجلات علميَّة أجنبيَّة وكأنه يعترف بصوت عال ببقائه غائبا دون حضور.

إن ما نجح فيه الغرب في تصديره لناقلي العلوم الأساسيَّة بمعاهدنا العلميَّة العربيَّة هو اللهاث وراء الدراسات المستقبليَّة وسط تغافل وقلة إدراك بمشكلات البيئة العربيَّة، ونجحت أكاديميات العلوم الغربيَّة أن تحول أنظار علمائنا العرب إلى تعميق البحوث العلميَّة حول قضايا وطروحات تتصل ببيئات أوروبيَّة وأمريكيَّة، حتى صار تدريس العلوم في الوطن العربي درسا في تاريخ العلوم.

ومن واقع الدهشة العلميَّة العربيَّة أننا نأمل إجراء استطلاع رأي لطلابنا العرب بكافة كليات العلوم الأساسيَّة والصيدلة عن الأساتذة الذين طوروا مقرراتهم الجامعيَّة وأضافوا أجزاء طويلة متخصّصة وعميقة عن جائحة كورونا ومحاولات التصدي وكيفيَّة المواجهة الحقيقيَّة، لكننا حتى نقوم بهذا الإجراء ـ الافتراضي أيضا ـ سنظل نعقد مؤتمرات علميَّة عربيَّة عن أخلاقيات الهندسة الوراثيَّة وفلسفة علوم الحياة، وأخلاقيات الطب . وإن كنت آمل أن يفيض علينا علماؤنا العرب على طلابنا المساكين بكلياتنا العلميَّة العربيَّة بأحاديث مطولة دونما ملل أو تكرار لما تتناقله وسائل الإعلام المرئيَّة والأفلام الوثائقيَّة عن جائحة كورونا بدلا من الاستطراد في سرد ما هو موجود بالكتب الجامعيَّة أو ما يعرف بالمذكرات الدراسيَّة التي يجري فيها الأستاذ اختبارا لطلابه عن محتوياتها المكرورة والمتناقلة عاما بعد عام.

وما أقسى ما ذكره الناقد المغربي الكبير خالد بلقاسم وهو يرصد حالة المواطن العربي بإزاء جائحة كورونا حينما قال : ” وَلَّدتْ الجائحة فجأة فائضا من الزمن، لم يكن الفرد مؤهلا لتصريفه، إذ لم يعرف كيف يعمل على ملئه، ولا بما يمكنه أن يملأه . فجأة وجد الإنسان الحديث، الذي كان يشكو ضيق الوقت وضغط إيقاع الحياة السريع، نفسه أمام وضع مناقض تماما، لأنه صار في مواجهة فائض من الزمن، كما تحول الموت إلى مجرد أرقام حتى صارت بعض القنوات تبشر بموت اقل ” . إن هذه السطور وحدها كفيلة بإعلان موت العلوم على أرض العرب لأنها تحمل حسرة كبيرة ويأسا من وجود عربي فعال يحقق بقاء أطول للمواطن العربي لا يجعله حقل تجارب لخداع علمي غربي.

وربما أكثر توصيف لواقعنا العربي العلمي هو ما ألمح إليه الفيلسوف السلوفيني (سلافوج جيجك ) حينما أقر بالاعتراف بفشل الأنظمة العلميَّة وعجزها التاريخي في التعامل مع جائحة كورونا وأننا فقط علينا أن ننتظر وقائع وصول قطار أعمارنا إلى محطته الأخيرة .

وأخيرا وأنا أحاول رصد ملامح ومعالم التفاعل العلمي العربي صوب جائحة كورونا وسط تهليل وتكبير فور علمنا بوصول علماء الغرب إلى لقاح قوي ومناسب وأن علماءنا يفتقرون إلى معامل متطورة وإلى أدوات بحثيَّة معاصرة وإلى تمويل مادي كبير وغير ذلك من الحجج الواهيَّة البليدة، إذا كنا قد بدأنا سطور المقالة بأدب فرانز كافكا وقصصه الأكثر دهشة في تفصيلاتها وتشكيلاتها اللغويَّة، فإن الخاتمة هذه المرة تأتي من باب السينما، وخصوصا فيلم  Light of My Life للمؤلف والمخرج  Casey Affleck  2019، من حيث أن كل ما تملكه هو كيس فقير من القماش هو كل ما تبقى لك من حطام الدنيا يمكنك أن تقبع بداخله، وبداخله ضوء خافت وظلمة قد لا تبدو رقيقة لطيفة تحيا داخله وتعيش، لعله يسترك من فوضى العالم الخارجي وشراسته، وبهذا الكيس القماشي يعيش أب وابنته الصغيرة يحاول بكل الوسائل الممكنة أن يفرض الطمأنينة عليها وعلى بقائها النفسي المتوازن، وأن يقنعها بأن البقاء داخل الكيس هو أفضل حياة ممكنة وأقصى درجة من السعادة الحقيقيَّة، لكن البنت على قدر عال من الحساسيَّة لوجود خارج مغاير تماما لما يوحيه هذا الأب المسكين، وكفاءة من الذكاء، وبين خوف الأب على ابنته من خارج قاسٍ لا يرحم، وولع البنت من اكتشاف مجهول هو في حقيقته راهن وواقع حتمي نظل نحن بانتظار معجزة خارقة لعلمائنا الأكاديميين العرب للخروج من رحم القماش ورحمته أيضا.

________

ـ أستاذ المناهج وطرق التدريس (م).

ـ كليَّة التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر .

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات