مقدمة
الإنسان كائن رمزي بطبعه، أبدع الرموز وتشكّل على صورتها، واستطاع عبرها أن يشيّد مملكته الفكرية الواسعة عبر تقاطعات الزمان والمكان. فالرمز عنوان الحضارة الإنسانية ومنطلق وجودها وبوتقة تشكلها، سجل حضوره الكبير في مختلف الفنون والعلوم الإنسانية، ولاسيما في مجال الفن والأخلاق والدين والعمارة ، كما في مجال الأنتروبولوجيا وعلم النفس والميثولوجيا والأساطير، واستطاع في الوقت نفسه أن يشكل أداة منهجية وُظفت بفعالية في تفسير نشأة التنظيمات الاجتماعية الأولى، ودراسة العقائد الدينية، وتحليل النظم الحضارية عبر التاريخ الإنساني.
فالتشاكل الوجودي الحضاري بين الإنسان والرمز، يتميز تاريخيا بطابع الشمول والعمق، وبالتالي فإن هذا التشاكل ذاته بما ينطوي عليه من توترات وديناميات وتعقيدات، يضع مفهوم الرمز ذاته، بوظائفه وأدواره التاريخية في دائرة التساؤل المنهجي، كما يوفر المشروعية المطلوبة لوضعه في محراب الاستجواب العلمي، وإخضاعه لدواعي التقصي السوسيولوجي، عبر نسق منظم ومتكامل من التساؤلات المنهجية التي تتعلق بطبيعته وماهيته وأدائه الوظيفي وتجلياته الإنسانية.
فالرمز يشكل ظاهرة اجتماعية ثقافية كونية متناهية التعقيد، بكل المقاييس، وبالتالي فإن دراسة حدود الظاهرة الرمزية، وتحديد أبعادها، يشكل حاجة فكرية وثقافية ملحة ومهمة، إن لم في غاية الإلحاح والأهمية ([1]). ومن منطلق هذه الحاجة العلمية، وتأسيسا على هذا الدور الكبير للظاهرة الرمزية في الحياة الإنسانية، فإن دراستنا الحالية تضع نفسها في دائرة التجاوب مع مقتضيات الكشف عن حدود المفهوم بمعانيه ودلالاته وتوظيفاته في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.
وهنا يجب علينا منذ البداية، أن نأخذ بعين الاعتبار، أن تعريف الرمز، وتحديد مساراته الإنسانية، أمر فيه عناء ومشقة، وذلك لأن الرموز تشكل منصة الحضور الإنساني المعنوي في عالم الأشياء، ولذا فإن كل محاولة لتعريف الرمز تشكل نوعا من المجازفة الفكرية أو مشروعا فكريا محفوفا بالمخاطر، فقد ينأى الرمز عن حصار التعريف، وإذا كان كل تعريف غالبا ما يكون محفوفا بالصعوبات المنهجية والفكرية، فكيف هو الحال مع مفهوم الرمز الذي يشكل بذاته منصة فكرية لكل أشكال الغموض والتعقيد؛ وهذا يقتضي منا أن نعلن منذ البداية، بأن أغلب المفكرين يفضلون تجنب متاهات التعريف النظري عندما يقاربون مسألة الرموز، حيث يتم تناولها بوصفها مفاهيم تومض بوضوح ذاتي يتجاوز حدود البداهة، فيصادرون عليها بأمثلة حية في دائرة الحياة الواقعية.
فالأسئلة التي نطرحها عن ماهية الرمز وطبيعته تتضمن افتراضا حول الطبيعة المعقدة الغامضة لمفهوم الرمز، وافتراضنا، الكامن في عمق التساؤلات التي نؤسس عليه، أن العالم المادي قائم في الوجود، وبالتالي فإن الحقيقة الرمزية ملازمة لوجوده بالطبع، حيث تشكل الرموز بذاتها كينونة أثيرية دلالية تحيط بالعالم المادي وتحتضنه.
والأسئلة التي نثيرها في هذه الدراسة حول مفهوم الرمز لا تتعدى حدود البساطة العلمية، وهي – كما نراها ونريدها – واضحة لا لبس فيها ولا غموض: ما الرمز؟ ما تعريف الرمز؟ وما وظيفته؟ وما ابرز تجلياته في مجال العلوم الإنسانية؟ أسئلة رباعية الامتداد، بسيطة من حيث الصياغة مشروعة من حيث الجوهر، ولكن الإجابة عنها قد تكون ثقيلة وشائكة.
الرمز في اللغة:
يعتقد تشومسكي أن اكتساب اللغة قضية ترجع إلى آلاف السنين من النمو، حيث تشكل اللغة الموروثة تفكير الطفل الصغير بكل ما تحتويه من دلالات ورموز، وعندما يكبر لا يستطيع أن ينتزع هذا العالم من دماغه، ولا أن ينتزع ما تثبته الدوال من مدلولات ورثها ضمن تركة ثقيلة من الآباء والأجداد ومن ماضيه البعيد جدا([2]).
وهنا وتأسيسا على الأهمية التي يعطيها تشومسكي للغة بوصفها كيانا رمزيا فإنه لحري بنا – قبل الخوض في متاهات الرمز ودلالاته الفلسفية والفكرية – أن نقف على أبعاد مفهوم الرمز اللغوية الاشتقاقية في اللغة العربية. ومن أجل هذه الغاية تمت العودة إلى معاجم اللغة العربية استجلاء لمفهوم الرمز ودلالته، وفي دائرة التقصي الاشتقاقي لم نقع على تراث لغوي اشتقاقي معمق ومكثف في المعاجم العربية. فأغلب هذه المعاجم الكلاسيكية تقدم إشارات خاطفة ومقتضبة حول الرمز لفظا ولغة.
جاء في لسان العرب لابن منظور أن “الرَّمْزُ: تصويت خفي باللسان كالهَمْس ويكون تحريكَ الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إِبانة بصوت إِنما هو إِشارة بالشفتين وقيل الرَّمْزُ إِشارة وإِيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم. والرَّمْزُ في اللغة كل ما أَشرت إِليه مما يُبانُ بلفظ بأَي شيءٍ أَشرت إِليه بيد أَو بعين ورَمَزَ يَرْمُزُ ويَرْمِزُ رَمْزاً “. ويتضح أن لفظة الرمز إبانة بالإشارة من غير كلام، والرمز كما يتضح هنا هو إشارات جسدية حسية يراد بها معاني ودلالة. وقد بيّن التقصي أن القواميس العربية الأخرى: كالصحاح، و مختار الصحاح، والقاموس المحيط، وتاج العروس، لا تضيف كثيرا إلى المعنى الذي ورد في لسان العرب([3]).
جاء في قاموس الصحاح للجوهري أن “الرَمْزُ: الإشارةُ والإيماءُ بالشفَتين والحاجب. وقد رَمَزَ يَرْمِزُ ويَرْمُزُ، وارْتَمَزَ من الضَربة، أي اضطَرب منها ([4]).
وجاء في: مختار الصحاح لزين الدين الرازي أن ” الرَّمْزُ الإشارة والإيماء بالشَّفَتَينِ والحاجب وبابه ضَرَب ونَصَر”([5]).
وورد في القاموس المحيط للفيروز آبادي أن: الرَّمْزُ، ويضمُّ ويُحَرَّكُ الإِشارَةُ، أو الإِيماءُ بالشَّفَتَيْنِ أو العَيْنَيْنِ أو الحاجبَيْنِ أو الفَمِ أو اليَدِ أو اللِّسانِ، يَرْمُزُ ويَرْمِزُ “([6]).
وجاء أيضا في تاج العروس لمؤلفه محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أن ” الرَّمْزُ بالفتح ويُضَمُّ ويُحَرَّك: الإشارة إلى شيءٍ مما يُبانُ بلَفْظ بأَيّ شيءٍ أَو هو الإيماءُ بأَيِّ شيءٍ أَشرتَ إليه بالشَّفتين، أَي تحريكهما بكلامٍ غيرِ مفهوم باللفظ من غير إبانةٍ بصوت أو العينين أَو الحاجِبين أَو الفَمِ أَو اليَدِ أَو اللسان وهو تَصويتٌ خَفِيٌّ به كالهَمْس. وفي البصائر: الرَّمْزُ: الصَّوت الخَفِيّ والغمز بالحاجِب والإشارة بالشَّفَة ويُعَبَّر عن كُلِّ إشارةٍ بالرَّمز كما عُبِّرَ عن السِّعايَة بالغَمْز يَرْمُزُ بالضَّمِّ ويَرْمِزُ بالكَسْر وكلَّمَه رَمْزاً([7]).
وجاء في القاموس المحيط: ” (رمزَ) إليه رمزا: أومأ وأشار بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو أي شيء كان. فـ(الرمز): الإيماءة والإشارة. وـ العلامة. وفي علم البيان: الكناية الخفيّة” ([8]).
وقد تضمن في المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية إشارة إلى ” أن الرمز هو علامة يتفق عليها للدلالة على شيء أو فكرة ما، ومنه الرموز العددية والرموز الجبرية، ويقابل الحقيقة والواقع” ([9]). وفي مكان آخر يعرف المعجم الرمزية بأنها ” نسق من الرموز للدلالة على معان خاصة أو التعبير عن حقائق ومعتقدات، ومنه الرمزية الأدبية والرمزية الفنية، وكثيرا ما اعتمد في الطقوس والتعاليم الدينية”([10]).
ويتضح عبر هذا الاستعراض الخاطف لمعاني الرمز ودلالاته في مدونة القواميس العربية الكلاسيكية، أن الرموز منظومة من الإشارات الجسدية والفيزيائية الدالة على معاني ودلالات محددة. فحركات الوجه وتعبيرات الشفتين والعينين وإيماءات الجسد تشكل منطلق الدلالة الرمزية في اللغة العربية الكلاسيكية. وهذه الدلالة تكاد تعبر عن الجوهر الحقيقي لمفهوم الرمز بوصفه إشارة فيزيائية مادية تدل على معنى أو دلالة خفية غير معلنة أو منظورة.
في تعريف الرمز:
تمهد التعريفات اللغوية للمفهوم لعملية بناء التعريفات العلمية والمنهجية بأبعادها السوسيولوجية والفكرية، وهذا يعني أن التعريف المنهجي للمفهوم يتجاوز حدود التعريفات اللغوية والاشتقاقية التي قدمناه، وبالتالي فإن الصورة المعجمية التي قدمناها لمفهوم الرمز تشكل تمهيدا منهجيا يؤسس لتعريف الرمز في أبعاده الإنسانية.
يميز أندريه لالاند، في قاموسه النقدي للفلسفة، ثلاثة أبعاد في مفهوم الرمز، فقد يعبر الرمز عن خاصة التماثل بين الأشياء، كأن يدل الرمز على شيء آخر يماثله في الجوهر والدلالة والشكل (الشيء المنشطر إلى نصفين على سبيل المثال )؛ وقد يأخذ صورة مركبة تنطوي على نظام متعدد يشتمل على عدة عناصر وحدود، بحيث يمثل كل عنصر وكل حد من حدود هذا النظام الرمزي عنصرا وجانبا من جوانب نظام آخر( مثل الرايات التي تتعدد ألوانها ورموزها )؛ وأخير يتجلى الرمز في صيغه العلمية والرياضية والمنطقية التي تتواتر في مجال العلوم والفنون الرياضية المجردة حيث يكون الرمز صيغة مجردة لمعاني ودلالات مجردة([11]).
ويمكن الملاحظة في هذا السياق أن الرمز يأخذ ثلاثة صيغ متباينة نسبيا، حيث يرمز في الحالة الأولى إلى مبدأ التجانسبين الأشياء المنقسمة من أصل واحد(تجانس الأطراف وانشطارات الأشياء)، وفي الحالة الثانية يأخذ صورة تجسيدية(تجسيد المعاني في صور ودلالات ومعاني مركبة)، وفي الحالة الثالثة يأخذ صورة تجريدية (الرموز الرياضية والعلمية في الكيمياء والفيزياء). وقد تأصلت هذه الدلالات الثلاثية لمفهوم الرمز في مختلف مظاهر الحياة الطبيعية والجمالية والاجتماعية والنفسية.
وقد أخذت هذه الصورة الثلاثية لمفهوم الرمز دلالاتها الوظيفية الواضحة وحضورها العلمي في مختلف العلوم والفنون في بداية القرن العشرين، وذلك مع انطلاقة العلوم الإنسانية في مجال علم النفس عند فرويد ويونغ ولاكان (Freud, Jung, Lacan)، وفي مجال اللغويات لدى ساسور وجاكوبسون (Saussure, Jakobson)، ومن ثم لدى أغلب علماء اللغة والاشتقاق، وفي التاريخ على يد بيجبيدير (Beigbeder) وفي علم تاريخ الأديان على يد ديوميزيل (Dumézil)، وفي علم الإناسة عند ليفي ستروس(Lévi-Strauss) ([12])، وفي علم الاجتماع في أعمال بارث وليفبفر (R. Barthes, H. Lefebvre). ومع أهمية استخدام مفهوم الرمز بتشعباته الثلاثية وتوظيفه الواسع في مختلف المجالات العلمية فإن الحركة العلمية الإنسانية المعاصرة تشهد اليوم ولادة تيارات فكرية واتجاهات نقدية ترفض الصيغ الكلاسيكية لمفهوم الرمز، وهذا التيار النقدي ما زال في طور التشكل ولم يصل بعد إلى تمامه ليأخذ صورة علمية قادرة على الحضور في الحقل المفهوماتي للرمز([13]).
ويمكننا أن نعرف الرمز من منصة السيمياء أو علم الدلالة اللغوية كأحد الخيارات الواسعة الممكنة لتعريف الرمز، حيث يأخذ الرمز صورة علامة لغوية محملة بالدلالة والمعنى، فالرمز يغطي دلالة الترابط بين أمرين وشيئين أحدهما محسوس والآخر مجرد، فالحقيقة المرئية (القابلة للملاحظة بالحواس الخمس) تستحضر في الوعي حقيقة أخرى غير مرئية (مجردة) ملازمة لها. حيث تفرض الحقيقة المرئية نفسها في الحواس لتستدعي حقيقة أخرى غائبة أو مجردة ولكنها وثيقة الصلة بما هو ماثل في الحواس، وبالتالي فإن طرفي المعادلة الرمزية، المرئي المحسوس، والخفي المجرد، يشكلان كلا واحدة ووحدة متكاملة لا يفهم أحدهما من غير الآخر. وعلى هذا النحو يأخذ الرمز هيئة تصور ذهني لحقيقة غائبة أو مجردة، ووفقا لذلك فإن الأنظمة الرمزية تؤدي دورها في التعبير عن أفكار ومفاهيم وتصورات ومعاني ودلالات.
ووفقا لهذا التصور فإن الرمز يأخذ صورته بوصفه علاقة بين دال ومدلول le signifiant et le signifié أو ما بين العلامة والرمز، فالعلامة تمثل الموضوع وهي الحضور المجسد، والرمز يتمثل في دلالة الإشارة ومعناها، وهنا يجب علينا ألا يتم الخلط بين العلامة والرمز، فالعلامة ليست رمزا بذاته بل يكمن الرمز في المعنى والدلالة الكامنة في العلامة، وهذا يعني أن العلامة تجسد الكيان المادي للرمز بينما يأخذ الرمز صورة معنوية أو فكرة ذات مغزى توجد في عقل الإنسان: فالكلمة بوصفها علامة ليست رمزا بذاتها بل الفكرة التي تتضمنها تمثل الرمز. وبعبارة أخرى تمثل العلامة لحظة فيزيائية مادية(كلمة، رسم، نقش، إعلان، إشارة موسيقيةـ طير، حيوان) أما الرمز فيتمثل في المعنى المتجسد في العلامة، مثل: القوة، والسلام، والحب، والجمال. وهنا تجب الإشارة إلى أن العلاقة بين العلامة والرمز قد تكون اعتباطية إلى حد كبيرحيث لا توجد علاقات منطقية بين العلامات ودلالاتها مثل العلاقة بين الكلمات ومدلولاتها: فكلمة الماء على سبيل المثال ترمز إلى الماء، ولكن لا توجد علاقة منطقية بين الكلمة بأحرفها والماء بمعناه، ولذلك فإن دالة الماء – أي كلمة الماء المكتوبة تختلف بين لغة وأخرى بينما يبقى الماء جوهرا معنويا أو مدلولا لا يختلف بين مكان وآخر.
فالرمز غابا ما يتجلى في تعبير جمالي أو صورة جمالية محملة بالدلالة والمعنى، وهذا التعبير الجمالي وهو يخاطب العقل عبر الحواس وأدواته، فالتعبير الجمالي يأخذ هيئة الصور والرسوم والعلامات ويهدف إلى تحقيق معرفة استبصارية للحقائق الوجدانية، وهذا يعني أن الرمز يمكننا من استكشاف حدسي للمعاني العميقة في طبيعة الأشياء، إنه تعبير جمالي حسي للدلالات والمعاني، يتمثل في قدرته على إظهار المعاني غير المرئية عن طريق ما هو مرئي فيضع المجرد في صيد الحسي الملموس، ووفقا لهذه الصورة تتأكد أهمية الدور الحدسي الاستبصاري للرموز، وهذا ما يراه هيغل عندما يرى في الرموز صورة للتجليات الحسية الخارجية التي تخاطب حدوسنا بصورة مباشرة. وهكذا وعلى هذه الصورة تأخذ الرموز صورة تجليات جمالية حسية تعتمد في مخاطبة العقل واستلهام الدلالات والمعاني من أجل التوغل في جوهر الحياة بأعمق دلالاتها وأشمل معانيها المجردة.
الكلمات والرموز:
يستخدم الفلاسفة الرموز في بناء صروحهم الفكرية، وذلك لأن الكلمات كثيرا ما تتعثر في أداء المعاني وتوليد الدلالات، والرموز وحدها تسمح لهم بصوغ نظرياتهم وبناء أفكارهم دون مواربة للوصول إلى أقرب معاني الحقيقة ودلالاتها دون إبهام أو غموض.
فالرموز غالبا ما تتسم بالوضوح، و من يستخدمها قد لا يحتاج كثيرا إلى الشرح والتفسير، بل وبكل بساطة يعبر عن مراميه وأفكاره كما يشعر بها، وكأن من يتلقاها يشعر بأن المعاني تضيء وتومض في عقل مرسلها بوضوح وبيان. فالرموز تسمح بتحويل الأفكار وتحقيق التواصل الذهني بإخلاص لا تعرفه الكلمات وتنأى عنه الجمل والتركيبات اللغوية. وهذا يعني أنه يمكن للرموز أن تلعب دورا اتصاليا مباشرا دون تصنع أو توهم أو مواربة، فالصورة الرمزية الواحدة يمكنها في الآن الواحد أن تومض بنسق متنوع من المعاني والدلالات والإشارات، وهذا يعني أننا نستطيع أن نفهم الأشياء في جوهرها بعمق ووضوح وبساطة بتوسط الرموز وعونها.
فالكلمات قد تخدع دالة الفهم، وتحرف الرسالة عن دلالتها، ومن أجل أن نفهم أمرا ما وندرك أبعاده، فإننا غالبا ما نحتاج إلى عدد كبير منها لنفهم دلالة ابتسامة واحدة أو نظرة أو إحساس. ولكن التواصل قد يكون مباشرا وسريعا ودالا عندما نوظف الرموز، حيث تنساب الصور في أعماقنا فتعتمل فينا لتولد فيضا هائلا من المعاني والدلالات التي تمتاز بالصدق والعفوية والمباشرة بعيدا عن دوار الكلمات ومتطلباتها المنطقية. فالعلامات التي تؤدي وظيفة الرمز ليست مهمة بذاتها ولكن أهميتها تكمن في نسق المعاني والدلالات والتفسيرات الكامنة فيها، وهنا يكون فعل الرموز التي تبرز بقدرتها على وضع العقل في دائرة الامتلاك الأعمق للمعاني والدلالات ([14]).
وهنا تجدر الإشارة إلى عالم الاجتماع هنري Henri Lefebvre ليفيبفر في أبحاثه حول العلاقة بين اللغة والمجتمع (Langage et société) حيث يقدم منهجا جديدا في تحليل طبيعة العلاقة بين اللغة والمجتمع والرمز، وهو في سياق دراسته ينطلق من الأعمال الكلاسيكية لساسور Saussure ومارتينيه Martinet وبينفينيست Benveniste و جاكبسون Jakobson، وهو في دائرة هذا التحليل يتناول صورة التركيبات اللغوية التي تربط بين مختلف العناصر المكونة للوضعيات الرمزية , فإشارات الطريق وعلامات المرور يمكن أن تحلل في نسق من المفاهيم النموذجية(أحمر، أخضر، مسموح، ممنوع، صعود، نزول، انعطاف، يمين، يسار، نوقف انطلاق، تمهل، تسارع، تجاوز)، فالأحمر يؤدي إلى التوقف، والتوقف هنا عملية مشرّطة ارتباطية، وفي عملية التشريط هذه تكمن علاقة ارتباط. وهنا نجد بأن الأبعاد اللغوية تشكل قوانين السلوك في نسقه الشمولي، فمنظومة الإشارات المرورية التي نحن بصددها تشكل المجال الحيوي اللغوي للسلوك من توقف ومتابعة وانطلاق وغير ذلك، وفي كلتا الحالتين فإننا نجد حضورا مميزا وجوهريا للبعد الرمزي في الخطاب اللغوي. وهذا الطابع الرمزي يسم نمط الحياة في المدن بما تنطوي عليه من آوابد أثرية، وذاكرة تاريخية. وهنا فإن الظواهر الرمزية تنفلت من عقال التصنيف وصرامة التوصيف الإحصائي الدقيق ومن حصار نظرية المعلومات ([15]).
أنتروبولوجيا الرمز .
تعود لفظة الرمز Symbole في اللغات الغربية إلى الأصل اللاتيني Sumbolon المشتق من الفعل Sumbally، ويعني التواصل والاجتماع بعد نأي افتراق، وكأن اللفظة Sumbolon تطلق على الأشياء (وثائق أواني أشياء) التي تنتمي إلى أرومة واحدة، كرمز للهوية والمصداقية والأصل الواحد، حيث كان هذا الأمر يتم في المعاملات التجارية والمالية والعقارية، كأن يتم اقتسام ورقة أو سَنَدْ أو وثيقة أو ورقة نقدية بين عدة أشخاص، وفي الأغلب بين شخصين حيث يمكن لاحقا عند إظهار شطري هذه الوثيقة أن يتم يتحقق من مصداقية العقد، وتمكين التعارف بين الطرفين أو الشخصين. وهذه الطريقة في التطابق كانت تضمن سرية العلاقة بين طرفين أو شخصين، ووفقا لهذه الطريقة فإن شطري القطعة النقدية أو الوثيقة أو الشيء المقتسم تلعب دورا رمزيا فكل طرف من أطراف الشيء المقتسم كان يعد رمزا للقاء المنتظر وعودة الفروع إلى الأصل([16]).
وهذا الأمر ينسحب على قضايا أكثر تجريدا ومعنوية، حيث يشار إلى استخدام كلمات السر بوصفها رموزا للتعارف بين الجماعات السرية والحزبية في العصور القديمة، حيث تسمح كلمة سر واحدة محددة، متفق عليها، لمجموعة من الأفراد والشخصيات والمجموعات، أن تجتمع وتمارس دورها المحدد والمرسوم، في سرية تامة، ومثال ذلك تاريخيا كلمة السر ” الكريدو” Le Credo، وهي كلمة السر التي اعتمدتها الجماعات المسيحية السرية الأولى وكانت تعني ” أومن بالله الواحد“.
وقد عرف استخدام الرمز تاريخيا في بلاد الإغريق القديمة، حيث أطلق على العقود الخزفية التي كانوا يعتمدونها في معاملاتهم المدنية والتجارية، فقدماء الإغريق – ولتنظيم العقود بين المتعاقدين – كانوا يلجؤون إلى قطعة خزفية يتم كسرها إلى قسمين، ثم يعطي كل قسم لأحد المتعاقدين، وكانت كل شطر يمثل وثيقة تثبت حق حاملها في العقد المبرم وإن طال الزمن، وكان كل متعاقد من بين المتعاقدين يعتمد القطعة التي بحوزته لإثبات هويته وحقوقه المتفق عليها سابقا في العقد. وكان الشطر الذي يمتلكه كل متعاقد هو البرهان الوحيد على مصداقية عقده. حيث كانت تتم المطابقة بين شطري القطعة الخزفية فإذا وجد التطابق والتكامل بين الشطرين كان ذلك برهانا قاطعا على مصداقية العقد وأحقية صاحبها. والرمز هنا يعني فكرة الأصل الواحد والهوية الواحدة لشيء مشطور ومنقسم ولكنه واحد الأرومة والهوية. ومع مرور الزمن بدأ مفهوم الرمز يشهد تطورا في دلالته ومعانيه وإشاراته، وفي دائرة هذا التطور أخذ مفهوم الرمز يدلّ على المعنى الخفي (غير المرئي) للشعارات الرمزية([17]).
لقد شيد الإنسان تاريخه بالرموز، وصقله بالإشارات، وأغناه المعاني. وقد قدّر للإنسان السابياني L’homo Sapiens، – أي الإنسان المتكلم -(الإنسان ما قبل تاريخي) أن يبدع فن الرسم والحفر على الصخور وجدران الكهوف، وذلك في العصر الحجري الأول، وكانت الحيوانات التي اصطادها الإنسان في هذه المرحلة موضوع رسومه الدقيقة، وقد شكلت هذه الرسوم والنقوش نمطا من الرموز السحرية التي تتعلق بصيد الإنسان ما قبل التاريخي وحياته. وفي مرحلة لاحقة ترك الإنسان كهوفه الأرضية وبدا بتأسيس أوابده الأثرية من الحجارة الضخمة، وبدأ ببناء القبور الجماعية الضخمة بدقة متناهية، وكان هدفه من ذلك إيجاد لحمة وتفاعل اجتماعي دائم ومستمر بين أعضاء المجموعات البدائية القديمة. ومن ثم لجأ إلى توليد نوع من الرمزية الدينية عبر الطقوس والاحتفالات السحرية لتأكيد حضور الجانب الروحي في حياة الإنسان القديم. فالأوابد والمعابد التاريخية القديمة تشكل في جوهرها نوعا من الرمزية الزمنية، وقد ترافق ذلك مع اكتشاف نظام الحساب الفلكي(السنة الشمسية، والدورة القمرية، والخرائط الفلكية) واكتشاف علن الحساب، والتنجيم الفلكي. ومع اكتشاف الكتابة ظهرت الأساطير الأولى والقصص السحرية بداية في الحضارة السومرية. ومن حضارة إلى أخرى(حضارة المايا، والحضارة الفرعونية، والإغريقية) بدأت الأساطير ترتدي حلتها الذهبية وبدأت الطقوس والممارسات الطقوسية تنشط وتأخذ مداها ومن ثم ظهرت المعتقدات الدينية والشعبية، وترافق ذلك بنمو واضح في أساليب الكتابة والحساب .
لقد توجب على الأنتروبولوجيا التاريخية أن تبدع أدواتها العلمية في كشف الملابسات التاريخية للإنسان القديم، وقد تجشمت هذه الأنتروبولوجيا مشقة البحث في الدلالات الإنسانية للظواهر التاريخية المتمثلة في الدين والأسطورة والطقوس السحرية. لقد شكلت الطقوس السحرية والأساطير والطقوس الاحتفالية، والعقائد والأنساق الرمزية، ثقافة شعبية في العصور القديمة. وبدأت الرموز تأخذ مكانها المميز في الأنساق الثقافية للإنسان في الحضارات القديمة، وبدأت تظهر أشكال ثابتة ومتعارف عليها من الرموز الإنسانية، فالقلب يرمز إلى الحب، والدائرة إلى الشمول والكلية، والأسد إلى القوة…الخ. وقد وظفت هذه الرموز في تأكيد الوحدة والتماسك الاجتماعي([18]).
لقد استخدم الرمز في الحركات الباطنية لتوليد التمائم والتعويذات والطلاسم (Talismans). وفي أصل هذه الرموز المستخدمة يفترض وجود معاني كبرى تقوم الرموز بنقلها والسمو بها وتحويلها إلى مجالات وفضاءات أخرى مختلفة. وتأخذ هذه الرموز صيغا مختلفة مثل الشعارات(Logos) التي تستخدمها المؤسسات، أو العلامات التي توضع على الثياب، والرسوم الدينية المقدسة، وهذه الرموز كانت تأخذ قيمتها من قدرتها على أن تكون في متناول الجميع. فالنقود تمثل وضعا رمزيا بذاتها بوصفها صيغة اجتماعية اتفاقية، وهي أي النقود لا تساوي شيئا من حيث قيمتها المادية إذ لا تتعدى أن تكون أكثر من قطعة ورقية مطبوعة قليلة القيمة نسبيا، ولكن هذه القطعة الورقية تأخذ قيمة كبيرة في المستوى الرمزي، حيث تمثل قيمة مادية تحددها رموز الورقة النقدية ذاتها وما ارتسم عليها من رسوم ونقوش وحركات. وإذا كانت النقود تلعب دورا رمزيا في مستوى القيمة المالية، فإن المؤسسات الاجتماعية والحركات السياسية تصمم رموزها من أجل وحدة مكوناتها واستلهام القوة الرمزية ذاتها في تعزيز قدراتها الدعائية والأيديولوجية. وهذه الرموز غالبا ما تعطي لهذه المؤسسات والشركات نوعا من المصداقية العقائدية أو الأيديولوجية.
وغالبا ما تعمل الرموز على تجسيد المعاني لموضوعات وحالات وأحداث عصية على الحضور الحسي(أي لا يمكن أن تمتثل لمعطيات الحواس)، فتعمل على إحياء المعاني الحقيقية لهذه الأشياء في صورة حسية مشبعة بالدلالة الرامزة إلى حقيقة الأشياء الغائبة نفسها. فبرج بابل – على سبيل المثال- الذي يشكل أحد عجائب الدنيا السبع كان في الأصل فكرة تمثل رغبة الإنسان البابلي في الوصول إلى السماء والكشف عن أسرارها، ويمكن لبرج بابل أن يكون مستوحيا من برج زقرة (ziggourat) (برج ديني من عدة طوابق في بابل كان يستخدم في مراقبة النجوم ورصدها).
ويشار اليوم إلى الأنتربولوجي المعروف ليفي ستروس Lévi-Strauss بوصفه من أهم رواد الدراسات الرمزية ولاسيما في كتابه المعروف الميثولجيا أو الأساطير Mythologiques، ولاحقا في كتابه المعروف الأنتروبولوجيا البنيوية ([19])، ففي مقالة شهيرة له حول فعالية الرمز في عام « L’Efficacité symbolique » 1949 نجد ستروس يتبنى موقفا فكريا يعلن فيه أن اللاشعور ليس هو المكان السحري والمدهش الذي يخفي خصوصية الأفراد، كما أنه ليس المستودع الوحيد لتاريخ الفرد، الذي يجعل كل فرد بصمة متفردة في الوجود. بل يُرْجع وظيفته إلى الوظيفة الرمزية، وهي وظيفة إنسانية، بدون شك، ولكنها تمارس فعلها وفقا لقانونية واحدة في المجتمع الإنساني.
توتمية الرمز :
التوتم Totem كما عرّف في المعجم الفلسفي ” كائن خرافي تدين له بعض القبائل البدائية بالعبادة والتقديس ويكون غالبا نباتا أو حيوانا، وقد عرُفت هذه الخرافة لدى القبائل البدائية في استراليا والهنود الحمر في أمريكا، والتوتمية نظرية قال بها دوركهايم وملخصها أن عبادة التوتم هي الصورة الأولى للمعتقدات الدينية لدى الشعوب البدائية وعلى أساسها تعتمد القيم الأخلاقية ” ([20]).
يعد التوتم Totem من أكثر أشكال الرمز حضورا في التنظيم الاجتماعي الإنساني القديم ولاسيما في حياة القبائل والمجموعات الإثنية الهندية والبولينيزية والإفريقية. فالتوتم هو الصيغة الرمزية لوجود القبيلة وهويتها، والقبيلة تُعْرف برمزها التوتمي، كما أن كل فرد من أفراد القبيلة يُعْرف بتوتم قبيلته. الطوطم هو أي كيان يمثل دور الرمز للقبيلة، وأحيانا يقدس باعتباره المؤسس أو الحامي. وأول من أدخل اصطلاح التوتم إلى اللغة الإنجليزية الرحالة جي. لونك عام 1791 إذ استعمله في كتابه (رحلات وأسفار مترجم هندي)، وقد وظفت كلمة التوتمية في الدراسات الأنثروبولوجية لأول مرة من قبل العالم الاسكتلندي جي. مكلينين في عام 1870 لدى كتابته مقالاً بعنوان (الطوطمية). والتوتم يكون حيوانا أو نباتا في الأغلب حيث تكون صورة هذا الحيوان أو ذاك النبات شعار القبيلة ورمزها ([21]). يعتقد أفراد القبائل التوتمية أنهم ينحدرون من توتمهم، وقد جاء في تعريف التوتم ” حيوان أو نبات أو جسم محسوس ينظر إليه الرجل البدائي في احترام، وخشوع دون أن يكون هناك سبب معقول يدفعه لذلك. ويعتقد الناس في القبائل الطوطمية أنهم ينحدرون عن ذلك الطوطم كما تسمى القبيلة باسمه أي أن الطوطم عندهم هو رمز للأب أو الجد وبديل عنه([22]). ويعتقد دوركايم، كما يعلن في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية، أن الطوطمية شكل بدائي للدين وكانت عاملاً هاماً في تنمية التماسك الاجتماعي للمجتمعات الأولى. وللمزيد عن الطوطمية ([23])؛ ويعد الطوطم هو الأب الأول للعشيرة والروح الحامية لها والمعين, يجري توارثه من طرف الأم أو من طرف الأب،و أتباع الطوطم الواحد لا يجوز أن تنشأ بينهم علاقات جنسية. وبالتالي فإن التزاوج يجب أن يكون خارج المرتبطين بالطوطم الواحد. دون رابط واضح أو سببي بين الاثنين: وقد جعل الطوطم من المستحيل على الرجل أن يمارس الجنس مع أي امرأة من عشيرته كون جميع من ينحدرون من الطوطم: الأب الأول أقرباء بالدم وأسرة واحدة .
ومن جهة أحرى فإن التوتم يشكل المنطلق الرمزي للتابو Taboo الذي يشكل القانون الأخلاقي في المجتمعات التوتمية القديمة، فالتابو يعني من جهة مقدس أو مبارك، ومن جهة أخرى رهيب محظور خطير، ومن ثم يتحول إلى قانون أشبه بالمحظورات الدينية، وتعبر هذه المحظورات عن إرادة الروح الأولى لجد العشيرة وأبوها الأول، وبالتالي فإن من ينتهك التابو أو المحرم يصاب باللعنة الأبدية والعذاب الأبدي لتوتم القبيلة الذي يرمز إلى روح الأب الأول للعشيرة أوالقبيلة. ومن أكثر المحظورات التوتمية قتل الطوطم والتزوج من أبناء الطوطم نفسه من الجنس الآخر([24]).
فالتوتم كالرمز تماما، إنه تعبير مادي عن حقيقة ما وهي في الغالب حقيقة روحية مقدسة. فالتوتم هو الصورة الخارجية للمبدأ أو الإله التوتمي، وهو من ناحية أخرى رمز العشيرة، أنه الشارة أو العلامة التي تميز العشيرة وتتميز بها ([25]). وهذا يعني أن الرمز يشكل منطق التوتم وهو لا يعدو أن يكون غير لفظة أخرى تدل على الطابع الرمزي للحياة في المجتمعات التوتمية.
نماذج تاريخية رمزية:
فالتنين على سبيل المثال هو طوطم الأمة الصينية القديمة ورمزها، حيث البدائيون يعتقدون بوجود علاقات وثيقة بين البشر وبين الحيوانات والنباتات فى الطبيعة، لذلك كان الإنسان البدائي يختار نوعا من الحيوانات أو النباتات كطوطم لقبيلته معتقدا أنه يمكن للطوطم أن يدافع عن القبيلة، وفى الوقت نفسه رمزها وأرومتها.
وكان للتنين في الحكايات الشعبية الصينية قرون وحراشف وشارب، ويمكنه أن يطير إلى السماء ويغطس في الماء، ولذلك كان قادرا على توليد الغيوم وإسقاط المطر. فالتنين الأسطوري أو التوتمي يشكل ظاهرة خاصة بالثقافة الصينية.
وكان الأباطرة فى العهود القديمة الصينية يسمون أنفسهم بأبناء السماء أو أبناء التنين الأسطوري. وعلى مرّ العصور أخذ التنين يرمز إلى حب الصينيين لوطنهم وأرضهم، ودائما ما تثير الأقوال المأثورة في أولاد التنين حماسة الصينيين لوطنهم وأرضهم وتفيض الثقافة الصينية بالأمثال والحكايات عن التنين الأسطوري توتم الأرض والوطن.
وتعد نجمة داؤود من أكثر الرموز الدينية والسياسية إثارة للجدل في العصور القديمة والحديثة، وتسمى نجمة داوود أيضا بخاتمسليمان، فهناك بعض الأدلة التاريخية التي تشير إلى أن هذا الرمز أستخدم كرمز للعلوم الخفية التي كانت تشمل السحروالشعوذة، وهناك أدلة أيضا على أن هذا الرمز تم استعماله من قبل الهندوسيين من ضمن الأشكال الهندسية التي استعملوها للتعبير عن الكون والميتافيزيقيا وكانوا يطلقون على هذه الرموز تسمية ماندالا Mandala ويرجح أن اليهود اعتمدوا هذا النجمة رمزا لهويتهم الدينية في القرون الوسطى.
هناك إجماع على إن الجذور العميقة لرمز النجمة السداسية تعود إلى قرون من الزمن سبقت تبني هذا الرمز من قبل اليهود. ففي الديانات المصرية القديمة كانت النجمة السداسية رمزا هيروغليفيا لأرض الأرواح، وحسب المعتقد المصري القديم فإن النجمة السداسية كانت رمزا للإله أمسو الذي وحسب المعتقد كان أول إنسان تحول إلى إله وأصبح اسمه حورس. وكانت النجمة السداسية رمزا لتجانس متضادين وبالتحديد النار والماء في علم الكيمياء في العصور القديمة.
وقد وظفت النجمة السداسية في الديانة الهندوسية كرمز لاتحاد القوى المتضادة مثل الماء والنار، والذكر والأنثى، كما توظف كرمز للتجانس الكوني بين شيفا (الخالق حسب أحد فروع الهندوسية) وشاكتي (تجسد الخالق في صورة الإله الأنثوي)، وقد رمزت أيضا إلى حالة التوازن بين الإنسان والخالق، التي يمكن الوصول إليه عن طريق الموشكا (حالة التيقظ التي تخمُد معها نيران العوامل التي تسبب الآلام مثل الشهوة، الحقد والجهل). ومن الجدير بالذكر إن هذا الرمز استعمل في الهندوسية لأكثر من 10،000 سنة. وفي الديانة الزرادشتية كانت النجمة السداسية من الرموز الفلكية المهمة في علم الفلك والتنجيم. وفي بعض الديانات الوثنية القديمة كانت النجمة السداسية رمزا للخصوبة والإتحاد الجنسي حيث كان المثلث المتجه نحو الأسفل تمثل الأنثى والمثلث الآخر يمثل الذكر.
ولكن القيمة الرمزية لنجمة داؤود تضاءلت وسقطت على أثر استخدامها شعارا للحركة الصهيونية المعادية للإنسانية في عام 1879، حيث اقترح الصهيوني تيودور هرتسل في أول مؤتمر صهيوني في مدينة بال أن تكون هذه النجمة رمزا للحركة الصهيونية، بل أيضا رمز الدولة اليهودية مستقبلا.
ويعد الصليب المعقوف (Svastika) على سبيل المثال من أكثر الرموز حضورا في الحضارات الإنسانية الشرقية والغربية، حيث يرمز إلى الحياة والسعادة في الحضارات الشرقية في الصين والهند واليونان، وفي حوض البحر الأبيض المتوسط.
وقد شكل الصليب المعقوف رمزا من رموز الديانة البرهمانية في الشرق ويرمز إلى الإله الخالق براهما، فالصليب المعقوف لليمين يشير إلى تطور الكون، والمعقوف لليسار إلى تقهقره. أما الصليب الموجه في الجهات الأربع (شمال وجنوب وشرق وغرب) فيرمز للثبات والخلود. كما يمثل الصليب المعقوف أشعة الشمس التي لا يمكن للحياة أن تكون من غيرها.
يعتبر الصليب المعقوف مقدسا ومباركا عند كل الهندوس، ويستخدم في التزيين والتصاميم الدينية، كما يشاهد في مختلف أنحاء القارة الهندية في المعابد والصور والأيقونات الهندوسية حيث يعتبر مقدسا، ويستخدمه الهندوس في الأعراس والحفلات والمناسبات والبيوت والأبواب والمجوهرات والعربات والأطعمة. ولكن هذا الشعار خطف من قبل هتلر ووظف للتعبير عن نزعته إلى الهيمنة والسيطرة، ومنذ ذلك الحين فقد هذا الرمز كثيرا من بهجته وتألقه وابتعدت الشعوب عن استخدامه بعد أن تلوث بدموية النازيين وتجبرهم.
وفي الطب يمكن الإشارة إلى عصا اسكليبيوس، وهي رمز يوناني قديم متعلق بعلم التنجيم وبشفاء المرضى في الطب. يتألف الرمز من أفعى ملتفة حول عصا. وتتضح معالم هذا الرمز في الميثولوجيا الإغريقية، حيث كان اسكليبيوس ابن الإله (آب) وكان اختصاصه التطبيب والشفاء من الأمراض. كما أن العصا يرمز إلى مجموعة نجوم تسمى “أوفيكوس” (Ophiuchus) وهي الرمز الثالث عشر في الأبراج التي تعتمد على زمن النجوم ((إنجليزية)Sidereal astrology) وبخاصة الأبراج الهندية.
فالأفعى في الرمز تشير إلى التجدد الدائم وذلك لأنها عادة تتخلص من جلدها القديم بأخر جديد موسميا، وهذا يعني الولادة من جديد والإنجاب. بينما ترمز العصا إلى السلطة والسطوة والقوة وهي ترمز إلى قوة إله الحكمة (آب) .
هذه الأمثلة التي قدمناها لا تعدو أن تكون غيضا من فيض لا حدود له لرموز إنسانية فنية تتصف بالغنى والتوالد المستمر، وهي بما هي عليه من غنى وجمال وتنوع تشكل نسيجا حيّا للحياة المعنوية والدلالية في المجتمعات الإنسانية القديمة والحديثة.
سيكولوجيا الرمز:
تتجلى أهميّة الظاهرة الرمزيّة في مختلف أعمال فرويد وأبحاثه السيكولوجية ولاسيما في تفسير الأحلام، فالحلم ظـاهرة رمزيّة تنطوي على منظومة من الدلالات، وهو لغة لها قوانينها الخاصة وعملياتها المحددة ووظيفتها الرمزيّة، حيث تبرز أهميّة الإشارات والدلالات الرمزية. فالنظام الرمزي يشكّل بالنسبة للكـائن الإنساني البوتقة التي يتشكّل فيها، ومن هذا المنطلق يمكن القول من على منصة التحليل النفسي بأن النظام الرمزي يلعب دورا حاسما في بناء الفرد وفي تشكيله، وهو بالتالي يجد تعبيرا لوجوده في ميادين الكلام واللغة وسلسلة الدلالات الرمزيّة.
لقد احتلت دلالة الرمز في الحلم أهمية كبيرة في ميدان التحليل النفسي عند فرويد وتلامذته. ففي كتابه تحليل الأحلام ([26]) يرفض فرويد النظريات التقليدية في تفسير الأحلام ويتبنى النظرية الرمزية، فالحلم كما يراه يحمل دلالة ومعنى، وهذه الدلالة من طبيعية رمزية، وبالتالي فإن تحليل الدلالة الرمزية يكمن في اللاشعور الإنساني وفي العقل الباطن حيث تكمن شيفرة الحلم ودلالته الرمزية. وعلى هذا النحو فإن التفسير القائم للحلم يتم بإحالة المعلن من الإشارات والصور والدلالات إلى ما هو خفي ومستتر في اللاشعور مكمن الدلالة الحقيقية للحلم ورموزه , ووفقا لهذا التصور فإن صيغة الحلم تأخذ طابعا رمزيا، وما يفسرها هو الأوضاع الحقيقة الكامنة في اللاشعور. ومن هذا المنطلق انطلق فرويد في تحليله لرمزيات الحلم وآلياته. وهكذا فإن عملية تفسير الحلم في التحليل النفسي تعتمد على مبدأ إحالة المضمون الظاهر إلى المضمون الكامن والمستتر, وهكذا يرتكز تفسير الأحلام إلى نسق من التصنيفات الرمزية التي تنتجها ديناميات الحلم ذاته، مثل ديناميات: التركيز، والتكثيف، والإزاحة. وقراءة الحلم تعتمد على مجموعة كبيرة من الرموز التي تتعلق بالقرابة والولادة والموت والجسد وأعضاء الجسد والأفعال الجنسية. والعلاقة هنا بين الرمز والمرموز إليه وطيدة وقوية في داخل الحلم حيث تأخذ طابع التلميح والإشارة.
ويبين فرويد في كثير من محطات تفسيره لرمزية الحلم أن اللاشعور ينتهك وسائل التعبير عن الفرد، ويتم ذلك في حالة الضعف في نظام المراقبة الشعورية(ضعف الأنا )، وبالنتيجة فإن الرمز يولد نتيجة للصراع بين الأنا الواعي والعناصر اللاشعورية، إذ تُكره هذه العناصر اللاشعورية على أن تأخذ حلة رمزية قادرة على اختراق جدار الوعي والتجلي في الحلم.
الرمز في التحليل النفسي شيء أو تصور يأخذ مكان شيء أو تصور آخر بوصفه مشـابها لـه، أو لأنه يرتبط به بعلاقة ما، وهو في ذلك العملية يقدم دلالة ليست له في الأصل. ولكن توجد في أغلـب الحـالات روابط محـدودة تربط الرمز بالمرموز إليه. عـلى سـبيل المثـال: حفنة من تراب الوطن تمثل بالنسبة للمغترب رمز الوطن البعيد.
لقد بينت تجارب المحللين أن صور الأحلام تمثل عددا كبـيرا مـن الرموز الخاصة بالصور الكامنة، واستطاعوا مـن خـلال هـذه التجـارب تحـديد مجموعة من الرموز التي تشير إلـى عـدد كبير مـن الصـور على نحو منتظم. وتشكّل هـذه الرمزية أيضا وسيلة لاشعورية من أجل التَنَكّر وتجـاوز حـدود الرقابـة الشعورية.
وهناك عدد من الرموز النموذجية، حيث تتجلى السـلطة الأبويـة أو الأموميـة غالبا في رمزية صورة ملك أو أمير، وقد يأخذ صور حيوانات مقتدره كاسره مثل الأسد والصقر والثـور. فالحلم الذي يهاجمنا فيه صقر يشـير إلى هيمنة أبوية وهو يرمز إلى عنصر القهر الذي يمارسه الأب، كما يمكنه أن يمثل الرغبات الأوديبية، ولكن غالبا ما يأخذ الأب المخيف صورة ثور هائج. وهناك أحلام كثيرة مـن هـذا النوع وذلك بالنسبة للأشخاص الذين يشعرون بمكانتهم الدونية تجاه آبـائهم .
تنظر المرأة إلى الذكورة في تجلياتها العـدوانيه حيث تـأخذ رمزيـة الأدوات القاطعة والحادة. أما الأنوثة فتأخذ رمزية سلبية عند الذكـور، إذ غالبا ما تأخذ صورة مادة مثقوبة أو قناة أو حفرة أو كهف أو قارب، وقـد يرمـز لهـا بصـورة العنكبوت الذي يمثل الأم المخيفة التي تسجن طفلها داخل حلقات سيطرتها. هذا ويرمز إلى الولادة وبشكل منتظم بانبثاق المـاء، حـيث يتـم الغوص في الماء أو الخروج منه. وهذا يشير إلى حـمل أو ولادة أمـا المـوت فيرمز له بالرحيل([27]).
تجدر الإشارة أن الخلاف حول تفسير الرموز كان سببا في الافتراق بين فرويد ويونغ حيث أورد يونغ أفكارا مختلفة تتعلق برمزية الليبيدو الفرويدي. لقد ذهب يونغ إلى الاعتقاد بأن الليبيدو لا ينطوي على السببية بل هو نتاج لها. وهذا يعني نوعا من الانقلاب النظري على نظرية فرويد. وهنا يرى يونغ أن تحليل الليبيدو وفك الشيفرة السلوكية له فيما يتعلق بالاستبدال الرمزي Substitutions symboliques، أو بعملية التسامي Sublimation، لم تقدم صورة واضحة عن طبيعة الليبيدو ذاته، بل وعلى خلاف ذلك قادت إلى فكرة مناقضة حيث يكون الليبيدو والجنسانية نتاجا ونتيجة وليس علة وسببا، وهذا يعني أن الجنس نفسه قد يكون نتاجا لعملية التسامي، وليس التسامي نتاجا لكبت الجنسانية. والسؤال هو كيف يكون ذلك؟ لأن من وجهة نظر يونغ فإن التصورات والصور الذهنية وأنماط السلوك ناجمة عن اللاشعور الجمعي L’inconscient collectif. وهي بالتالي تعبر عن نفسها في داخل الأنظمة الرمزية التي تتعلق بالأساطير والحلق والحياة والنور والظلام، وهذا يعني بأن الليبيدو ليس مجرد طاقة دافعية للهو Le ça)) الفردي بل هو طاقة لعمليات حيوية عامة جمعية وهذا بدورة يكشف لنا طبيعة الرموز ودلالتها في التحليل النفسي.
ويؤكد جاك لاكان في هذا السياق على اللاشعور الفرويدي كمصدر أساسي في تحليله للرمز، ولكنه يركز في تحليله على البعد اللغوي لمكونات اللاشعور، وهنا نجد تركيزه على الخطاب والكلمات بوصفها رموزا صادرة عن اللاشعور ذاته عند فرويد، ووفقا لهذه الصورة فإنه يعبر عن الإنسان بوصفه كينونة لغوية، وبناء على ذلك يعتمد في تحليله للإنسان وأحلامه على منطق اللغة والكلمات والرموز. وعبر رؤيته هذه، فإن جاك لاكان يصل إلى نتيجة مفادها أن النظام السلوكي عند الإنسان يرتكز برمته ويعتمل قي نسق بنيوي قادر على التمييز بين في الوقت نفسه بين الحقيقي والمتخيل: وهذا النظام هو النظام الرمزي وفقا للصورة التي يراها ليفي ستروس ([28]).
وظائف الرمز:
يقول ميشيل فوكو في كتابه المعرفة والسلطة ” إن المسافة كبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ إليه وما تستره، إلا أن ذلك التباعد ذاته، هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة، وتلك المسافة، وما تتطلبه من عنت وجهد شك وتساؤل، هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فناً من الفنون”([29]). هذا ما يراه فوكو في وظيفة الرمز، وفي هذه الرؤية العبقرية لفوكو تكمن إحدى أهم الإشارات الدالة على الوظيفة الإبداعية للرمز من حيث التحريض على التأمل والنظر وتوليد معاني الإبداع والابتكار التي تولد في جدل المسافات الفاصلة التي تتركها الرموز بين الخفي والمعلن بين الدلالة والمدلول وبين الصورة والمعنى.
وفي هذا الدوال يعلن ديران في صورة تتجانس مع تصور فوكو بأن الرمز قد لا يدل مباشرة على موضوع دلالته، وقد تكون الدلالة غامضة وإشكالية وهذا يعني أن اللغة الرمزية تعيدنا إلى دلالات مختلفة عن هذه التي تأخذنا إليها اللغة الواقعية. وهنا يعلن ديران أن العالم الذهني للإنسان يأخذ هيئة تصورات بنائية يقوم مخيالنا ذاته بتوليدها وتشكيل أبعادها الرمزية [30]. وهذا يعني أن الرمز يضع مخيالنا في دائرة إبداعاته الإنسانية.
ومع أهمية التلميح الذي يقدمه فوكو وديران حول وظيفة الرمز، يبقى السؤال المنهجي حول وظيفة للرمز مشروعا وملحا في الحضور: ما الذي يؤديه الرمز؟ وما وظيفته؟ والإجابة عن هذا التساؤل البسيط العفوي غالبا ما تكون معقدة ومتباينة.
فالرمز كما بينا يجرد ويجسد، يوحد ويجمع، ويجعل ممكنا ما ليس في الإمكان. وهو في قدرته على الجمع والتوحيد والتجسيد والاختزال وتمكين ما ليس في الإمكان يستطيع أن يلعب دورا حيويا ووظيفيا في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية المادية والمعنوية كما هو حاله في واقع الحال، ومن المؤكد اليوم أنه من غير الرموز تأخذ الحياة الإنسانية دالة الاستحالة القصوى، إذ لا نستطيع أن نتصور أن الحياة الإنسانية قادرة على الاستمرار من غير فعالية رمزية قادرة على تنظيم الحياة الاجتماعية وتقنينها؛ ولنتساءل كيف يمكن للمجتمع تنظيم الحياة الاجتماعية، من غير الأعلام، واللغة، والشيفرات، والأرقام، والطقوس والتقاليد والأحكام، من غير العلوم الرمزية مثل الرياضيات والجبر والهندسة؟ فالرموز شئنا أم أبينا تشكل نسيج الحياة الاجتماعية وجوهرها، ومن غيرها تأخذ الحياة الاجتماعية طابع الاستحالة واللاإمكان.
في اللغة تأخذ تلعب الرموز دورا حيويا يتمثل في الدلالات غير المباشرة لتحقيق التواصل الإنساني المباشر وغير المباشر، ومن غير اللغة – وهي كيان رمزي – تستحيل عملية التواصل الإنساني برمتها. إذ لا يمكن أن تكون هناك حياة إنسانية من غير رموز ولا تكون الرموز أيضا من غير حياة إنسانية أو اتصال إنساني. وتلك هي الحقيقة التي نجدها في أعمال ليفي ستروس الإناسية حيث يؤكد إن المجتمع بطبيعته يعبر عن حركته ودينامياته المختلفة بصورة رمزية، وهذا الدينامية الرمزية تتجلى في العادات والطقوس والمؤسسات والفعاليات الإنسانية المختلفة، ويرى في هذا السياق أن سلوك الأفراد في المجتمع لا يكون رمزيا بذاته، ولكن عناصر السلوك الفردي تشكل بذاتها مادة للعلاقات الرمزية في المجتمع، لأن هذه العلاقات والرموز لا يمكنها إلا أن تكون اجتماعية أي متأصلة في المجتمع بوصفه كلية رمزية أو نظاما رمزيا.
فالرموز تقدم صورة بديلة للأصل، ولكنها لا تكتفي بذلك بل تتعدى الأمر إلى فعالية رمزية عميقة الدلالة في معانيها ودينامياتها، فعلى سبيل المثال لا يرمز الصولجان والتاج إلى القوة والسلطة فحسب بل يدعوان إلى الخضوع والامتثال والطاعة والاحترام، وكذلك لا يرمز الأسد إلى القوة والشجاعة فحسب بل تكمن رمزيته في دعوة مضمرة إلى الخوف والهيبة، ولا يرمز اللون الأحمر إلى العنف والدم بل يدعو إلى الامتناع والخوف والابتعاد (كما في إشارة المرور )، ففي كل رمزية دعوة سلوكية محددة ومرغوبة ومعنية وهنا تكمن الوظيفة الأساسية للرموز في أداء دور ثقافي اجتماعي تنظيمي في دائرة الحياة الاجتماعية.
وفي هذا السياق فإن فخامة المنابر وهيبتها تؤدي دورها الرمزي وتترك أثرها في الوجدان الإنساني، فهي تدعو الحضور إلى توخي الهيبة والشعور بالنقص والضعف إزاء من يرتقي هذه المنابر ويرتدي بهيبتها. والمنبر بفخامته لا يلعب دوره في استلاب الحضور أو العامة فحسب، بل يعطي لمن يتسنمه إحساسا هائلا بالقوة والعظمة والقدرة على السيطرة. فالمنبر يتيح له أن يحظى بالارتفاع عن مستوى الجمهور، حيث يبدو الجمهور أمامه صغيرا على ضخامته كما يبدو أفراده كذرات متناهية الصغر. وهكذا فإن المنابر وفخامة والقاعات والردهات والأناقات والسجادات الحمراء تلعب دورا رمزيا استلابيا في وضع الآخر موضع الخضوع ووضع الأنا(أنا المسيطر) في موقع السيطرة والهيمنة.
وهنا يمكن الإشارة إلى صيغة القبب الكنائيسة والدينية، فهذه الكنائس التي استلهمت فنها من معين الهندسة الرومانية القديمة تريد أن ترمز إلى التميز والاختلاف والعظمة، فالقبب تستوفي في هندستها عناصر القوة والوضوح والمقاومة بالإضافة إلى دالتها الرمزية: فهي تستلهم صورة السفينة التي تبحر في اتجاه معاكس وهذا يعني أن الكنيسة ترمز غلى حركة مضادة للتوجهات الدنيوية الخارجية إنها سفينة تبحر إلى فضاء آخر قوامه الحق والخير والفضيلة. ويضاف إلى ذلك وضعية البناء التي تسمح بإضاءة وتوهج ضوئي وللصوت بمضاعفة الصدى والهيبة التي تفرضها القبة من الداخل وكأنها مهد كوني، كل هذا يرمز إلى الرهبة والقوة والقدرة والعظمة التي تدفع النفوس إلى حالة من الاستسلام المطلق لإرادة الكاهن والكنيسة المكللة برموز العظمة والهيبة والوقار.
وكل هذه الأمثلة التي أثرناها تدل على الطاقة الهائلة للرمز في حياتنا وقدرته على الاستلاب وفرض نظام الخضوع والإذعان وتحقيق الانتظام، وهذا ينسحب على الحياة النفسية برمتها وهذا ما تؤكده الدراسات الجارية في مجال التحليل النفسي حيث ينظر إلى الأحلام ويتم تحليلها إلى دلالاتها الرمزية.
وباختصار يمكن القول بأن حقل الرمز يتصف بطابع الشمول والعمومية، إنه ظاهرة إنسانية ضاربة الجذور، ويندر أن نجد سلوكا إنسانيا أو فعلا اجتماعيا ينأى عن حقل الممارسة الرمزية. فالموضة والإعلان والتمدن والهندسة والخطاب السياسي والخطاب الديني والخطاب الإيديولوجي حتى الخطاب التربوي قائمة على معادلة الحضور الرمزي وترتدي حلته البهية.
فلسفة للرمز:
الإنسان كائن رمزي أبدع الرموز وخلع حلتها على الكون فأضفى عليه جمال بهاء المعاني وجمال الدلالات، وعالمنا الإنساني يسمو بالرموز ويرفل بالمعاني، وفيه تتجلى أكثر الإبداعات الإنسانية وأكثرها سموا ودلالة، فالرموز هي التي تضفي على عالمنا الإنساني مسحة جماله وبهجته، والرمز في أكثر تجلياته يمثل حالة اتصال وجدانية بين جمال المعنى وجمال الحس، فالحسي ينهض إلى المجرد وسمو المعاني، والمعنى يترجل ليتجسد في صورة جمالية حسية. أليس النقوش والرسوم الفنية التي أبدعها الإنسان عبر تاريخه صورة للجمال المادي المتضمخ بالمعاني؟ ألا تكتسب المعاني كمالها وجلالها وبهاءها عبر الحضور في صور مادية وحسية في الأسطورة وفي الحكايات والشعر والموسيقى؟ إنه التقاطع الأبدي الجمالي بين عالمي الحس والمعاني بين العلامة والدلالة بين الدال والملول بين سحر الصورة وسمو المثل المجردة. وفي صورة هذا التقاطع الجمالي يتولى الفن بناء الرموز وتشكيل المعاني، وهذا يؤكد الروح الجمالية للرمز بكل المعايير والمقاييس، وعلى هذا الأساس ارتبطت الرموز بعلم الجمال في الفن والنحت والأدب إنه عالم جمالي يفيض بكل معاني الجمال.
وإذا كان الرمز صيغة تقاطع فني بين جمال الحس وجمال المعاني، فإنه يأخذ من وجهة نظر فلسفية قيمة الحقيقة ودلالاتها، لأن الرمز جوهر في تجلياته الفلسفية، وهو في صيغته هذا يطرح نفسه في أصل تكوين العالم، حيث لا يتردد المثاليون في النظر إلى الرمز بوصفه نظيرا للنفس والروح، أوليس هو حال المثل الأفلاطونية التي لا تعدو أن تكون رموزا خالدة مؤسسة للكون بما فيه من حقائق زائلة قابلة للفناء.
وإذا كان هذا في المثل الأفلاطونية، فإن الفيثاغورثية الإغريقية القديمة تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير حيث يكون الكون عدد ونغم وموسيقى، الكون عدد ونغم وموسيقى والعدد بالضرورة صيغ رمزية للوجود، محملة بالمعاني مثقلة بالدلالات، ألم يكتشف فيثاغورث في كل عدد وفي كل رقم أسرارا كونية مؤسسة للمعاني والكون في آن واحد. فالرمز فلسفيا يشكل الهيولى الأولى المشكلة للكون ولكل ما ينتظم فيه، وبالتالي وتأسيسا على هذه الرؤية فإن كل تصور أو فعل يبدأ بعملية تجسد كما تبدو لعقولنا. والتجسد يعني هنا حيازة المعنى والمعنى هو الجوهر الخاص بالرمز.
وبالتالي فإننا عندما ندرك موضوعا ما شيئا ما، فذلك يعني أننا أدرك معناه، وعندما ندرك المعنى فإننا من حيث لا ندري نقوم بتجريده إلى صورته الرمزية. ووفقا لهذه الرؤية فإن العالم الفيزيائي سواء أكان مُشكلا من المادة أو الرمز أو من كليهما أو لا، فإنه لا يمكنه أن يكون قابلا للفهم إلا من خلال الرمز وعبره. وهذا الاعتبار يفسر لنا لماذا كان كبار الفلاسفة وأهل الحكمة يتوسلون الرمز عندما أرادوا أن يصفوا الحقيقة. أليس هو رمزا كل ما يوقظ في نفوسا إحساسا ومشاعر؟ أليست الأحرف التي نصوغ بها الكلمات رموزا؟ أو ليست الأفكار التي ترتبط بالكلمات رموزا أيضا؟ وهل يمكن للأرقام التي تشكل العالم والعلم والثورة المعرفية أن تكون إلا رموزا؟ ألا تنبئنا هذه الثورة الجديدة الرقمية بمصداقية كبيرة للمصادرة الفيثاغورثية القديمة بأن الكون عدد ونغم وموسيقى؟
خاتمة:
رحلتنا الخاطفة في متاهة الرمز حطت رحالها، وفي محط الرحال الأخير تكون الغاية العلمية من هذه المقالة قد أنجزت، والأهداف الفكرية قد تحققت، وتكون الإجابة عن الأسئلة التي طرحناها في البداية الإشكالية للمقالة قد صقلت وارتسمت في صيغة واضحة المعالم .
لقد ترحلنا في تضاريس المفهوم وعرّفناه في حقول اللغة والأنتربولوجيا والسيكولوجيا والميثولوجيا وعلم الدلالة. نقبنا في أصول المفهوم وفي تجلياته الإنسانية في مختلف الاتجاهات والدلالات، فكشفنا اللثام عن الغامض والمتخفي للمفهوم، وتبددت بعض أسراره التاريخية الكامنة في استخداماته وتوظيفاته.
وإذا كانت إجاباتنا عن الأسئلة الإشكالية للدراسة حول الرمز ماهية ووظيفة قد اكتملت وأنجزت فإنه يجب علينا أن نعترف بأن ما قدمناها على متن هذه المقالة في دورة التساؤل والإجابة، لا يعدو أن يكون محاولة متواضعة، وهي على تواضعها قد تكون شمعة تضيء الدرب لا لعنة تضرب نفسها في دهاليز الظلام.
مراجع الدراسة وهوامشها
[1] – هناك شبه غياب للدراسات والأبحاث التي تتناول مفهوم الرمز في اللغة العربية إن لم يكن هناك غياب كامل، ويكاد الجزم يكون وفي حدود التقصي الذي أجريناه لم يتم العثور على دراسات عربية تتناول مفهوم الرمز ووظيفته وتجلياته. وهذا الغياب في الدراسات العلمية العربية يقابله ندرة في الدراسات الأجنبية نفسها حول الرمز بوصفه مفهوما.
[2] – عبد الهادي عبد الرحمن، الذهنية العربية منظور لغوي، دراسات عربية، عدد 3/4 كانون الثاني شباط/ يناير فبراير، 1993، صص11-29، ص13.
[3] – ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت. http://www.alwarraq.com
[4] – الجوهري، الصحاح في اللغة، http://www.alwarraq.com .
[5] – زين الدين الرازي، مختار الصحاح، http://www.alwarraq.com
[6] – الفيروزآبادي، القاموس المحيط، http://www.alwarraq.com
[7]– محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، http://www.alwarraq.com
[8] – المعجم الوسيط، الطبعة الثانية، تصدير، إبراهيم مدكور، مجمع اللغة العربية، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر، القاهرة 1972، ص 372.
[9] – مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، تصدير إبراهيم مدكور، القاهرة، 1403 هـ 1982 م، ص 92.
[10] – مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي المرجع السابق، ص 92.
[11] – أندريه لالاند : موسوعة لالاند الفلسفية، ت: خليل أحمد خليل، المجلد الثاني، بيروت، 1996.
[12] – انظر كلود ليفي ستروس، الفكر البري، ترجمة نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1984.
[13] – Encyclopædia Universalis France S.A. 2008, http://www.universalis.fr/polices.php .
[14] – Voir: F. DE SAUSSURE, Cours de linguistique générale, Paris, 1916, rééd. T. de Mauro, Payot, 1972.
[15] – Henri Lefebvre , Le langage et la société, Gallimard , Paris. 1966.
[16] – وكيبديا الموسوعة الحرة ( موسوعة إليكترونية ) – http://ar.wikipedia.org/wiki
[17] -voir : O. Beigbeder, La Symbolique, coll. Que sais-je ?, P.U.F., Paris, 1957.
[18] – انظر : علي سامي النشار، نشأة الدين، مكتبة الخانجي، مصر، 1948.
[19] – C. Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, Plon, Paris, 1958 .
راجع أيضا : محمد بن حمودة، الأنتروبولوجيا البنيوية من خلال أبحاث ليفي ستروس، دار محمد علي الحامي، صفاقص، تونس 1987.
[20] – مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، تصدير إبراهيم مدكور، القاهرة، 1403 هـ 1982 م، ص 92.
[21] – Freud, Sigmund. Totem and Taboo. First published in 1950.
[22] – زكي أحمد بدوي. معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية إنجليزي ـ فرنسي ـ عربي، بيروت، مكتبة لبنان، ط1 1979، الطبعة الجديدة 1993 ص 427.
[23] – É. Durkheim, Les Formes élémentaires de la vie religieuse, Paris, 1912, 2e éd. P.U.F. 1990.
[24] – انظر : سيجموند فرويد، الطوطم والتابو، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1982.
[25] – انظر : علي سامي النشار، نشأة الدين، مكتبة الخانجي، مصر، 1948، ص 156.
[26]– Voir : S. FREUD, L’Interprétation des rêves (Die Traumdeutung, 1900), trad. I. Meyerson éd. rev. D. Berger, P.U.F., 1967 .
[27] – جان كلود فيلو، اللاشعور، ترجمة علي أسعد وطفة، دار معد، دمشق 1995.
[28] – J. Lacan, Écrits, Seuil, 1966 (en particulier : « Fonctions et champ de la parole et du langage », 1953)
[29] – عبد العزيز العيادي، ميشال فوكو، المعرفة والسلطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1994، ص 7.
[30] -DURAND, Gilbert (1984) L’imagination symbolique. Paris: PUF, 1984, c. 1964, 132 p.
__________
*أ.د.علي أسعد وطفة/ جامعة الكويت.
*المصدر: التنويري.