الحقوق والحرّيّات في الإسلام
رحيّل الغرايبة
في الوقت القصير الممنوح للحديث حول هذا الموضوع الواسع، أرجو أن أسلك مسلكا لا يقوم بمحاولة التوغل العميق من خلال استدلالات ونصوص. وإنما أضيء بعض الإضاءات على هذا الموضوع لنشكل من خلالها معالم الصورة لنظرية الإسلام في مجال الحقوق والحريات، وأعتقد ابتداء أننا بحاجة بشكلٍ دائم ومستمر إلى ضبط بوصلة كل العاملين في مجال التنوير وصناعة التحضّر من حيث تكون البوصلة متّجهة نحو الإنسان لأنه أي مشروع نهضوي يحقّق النجاح من خلال المؤشرات التي تتصل بجوهر الإنسان عقلا ووجدانا وروحا ومهارات وقدرات وغير ذلك.
الإضاءة الأولى، حقيقة في هذا الموضوع أن التصور الإسلامي لمنظومة الحقوق والحريات الإنسانية ينبثق من مجموعة من المبادئ العامة، أولها أن الله عز وجل عندما أراد أو شاء إيجاد مجتمع إنساني على الأرض كان يقوم على فكرة الأسرة البشريَّة الواحدة، وهذه مأخوذة من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
أنا أعتقد بأن المؤشِّر الذي أردته في هذه الإضاءة أن الله عز وجل جعل البشريَّة جميعها مردها إلى أبٍ واحد وأمٍ واحدة وهذا يضفي الجو الأسري فيه قدر كبير من المشتركات وقدر كبير من العلاقات بين الأفراد التي تشبه علاقة أفراد الأسرة الواحدة الكبيرة الممتدّة على الرقعة الأرضيَّة.
الإضاءة الثانية أن أيضا مشيئة الله في هذا الوجود الإنساني أنه قام على مسألة التنوّع والتعدّد والاختلاف بالأفكار والاجتهادات والإنجازات والآراء والأديان والمذاهب بين البشر وهي تمثِّل سنَّة وقانونا من قوانين الكون والحياة لا يمكن نفيه او القضاء عليه، وهي تمثِّل نمطاً معيشيّاً وحياتيّاً لكل موجودات الكون. انظر إلى قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).
وهنا نقصد بذلك التنوّع والتعدُّد داخل الأسرة الواحدة، ولا يشكِّل هذا الاختلاف والتنوّع مادة للنزاع أو للكراهية او التنافر أو غير ذلك من عوامل الاحتراب والاقتتال، وهذا يترتّب عليه مجموعة واسعة وممتدّة من المبادئ التي تكمِّل هذا التصوّر، فهذا ينبغي عليه الاعتراف بالآخر، واحترامه، واحترام رأيه ودينه ومذهبه.
النقطة الأخرى، لا بد من إدارة هذا الاختلاف بحكمة والاستفادة من التعدديّة على وجهةٍ إيجابي يحقّق المصلحة المشتركة. ومبدأ الاختبار أيضا والابتلاء الذي قُرن بالحياة من خلال قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وهذا الابتلاء مترافق مع التنوّع والاختلاف والتعدّد، ويترافق معه أيضا، مبدأ التنافس العادل بين الجماعات وبين العقول وبين الأفراد.
الإضاءة الثالثة فكرة الدور الرسالي لوجود الأسرة البشريَّة على وجه الأرض المأخوذ من مفهوم الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض والمأخوذ من قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وهنا كان الوجود فيه معنى التشريف للاختيار الإنساني لهذا الدور العظيم الذي يقوم على معنى الاستخلاف في الأرض ومعنى المسؤولية والأمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).
الإضاءة الرابعة المتعلّقة بالتكريم الآدمي الذي جعله عز وجل للمخلوق الإنساني منذ ولادته بصفته الآدميَّة بعيداً عن كل أنواع الاختلاف الأخرى، أو بعيداً عما يحمل من معتقدات وآراء ومذاهب، فالله خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزوده بالعقل تلك القوة التي تجعله قادرا على التعلّم والتقاط الحكمة ومن ثمّ معرفة الخير والشرّ، وبعد ذلك التمييز بين الحقّ والباطل من اجل اكتشاف ما في الكون من سنن وأسرار يتمكّن من تسخيرها في خدمة الحقّ وتنمية الخير ومواصلة مسيرة الإعمار ومقاومة الفساد.
الإضاءة الخامسة هي قضيَّة الحرّيَّة وهي جوهر الوجود الإنساني الذي لا تكتمل إنسانيّته ولا آدميته إلا أن يكون حرّا، فالله عز وجل خلقه حرّا وهذا ما قرَّره سيدنا عمر عندما قال: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”. الحرّيّة بكونها لصيقة بالكرامة الإنسانيَّة، وهي ضرورة من أجل أن يقوم الإنسان بمهمّة الاستخلاف على أكمل وجه وضرورة من أجل إدراك مبدأ الابتلاء في الحياة وضرورة من أجل إدراك مبدأ الابتلاء في الحياة وضرورة من أجل اكتمال مفهوم العدل الرباني. الحرية أولا قبل الدين وقبل وجود السلطة بكل أشكالها، فالحرية هي طريق العلم، والحرية هي جوهر الحياة.
أمّا الإضاءة السادسة فهو مفهوم العدالة الذي قامت عليه موازين الكون ومقاييس الحياة (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) كل التشريعات المختلفة في كل المجالات إنما جاءت لحماية حقوق حرّيَّة الإنسان وحماية حقوقه حتى يكون قادرا على أن يقوم بمهمّته التشريفيَّة.
الإضاءة السابعة مفهوم السلام، أعتقد أن وجود الأسرة على هذا النحو بهذا المفهوم يقتضي أن تعيش على وجه الأرض بسلام، ولذلك عندما كان الحوار الذي جرى بين الله وملائكته عندما أراد أن يوجد الإنسان (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) بمعنى أن هذا الجواب من الملائكة قائم على استنكار منهج الفساد والاقتتال، وأن الوجود البشري لا تتحقَّق رسالته على أكمل وجه، إلا إذا أدرك أنه لا بد من ترسيخ السلام ووجوده وعوامله في إطار نظيف يقوم على احترام الحقوق والحرّيّات بين الناس بعيداً عن القتل والإهانة والسخرية والحطّ من الكرامة في أي تصرّف أو قول مهما كانت درجته، وهذا يقودنا إلى ما عرف باستخدام مبدأ الجدال بما هي أحسن والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنى هي الطريق الأوحد للتعامل مع الأفكار ومع المذاهب والأديان والمعتقدات.
بقيت الإضاءة المتعلقة بتلازم الحق بالمسؤوليَّة، وهذه أشرنا إليها منذ الدور التكليفي للأسرة البشريَّة، بأن القاعدة ليس هناك حق إلا مقابلة واجب، فالناحية المثالية والحالة المكتملة أن يمارس الإنسان حقوقه وهو يشعر بالمسؤوليَّة، فالمسؤوليَّة تضبط عمليَّة ممارسة الحق وتهذّبها وتصقلها بمعنى أنه لكل حقّ شرع من أجل تحقيق غاية خاصَّة محدّدة، فيجب استعمال الحقّ فيما شرع له. واستخدام الحقّ في غير ما شرع له هو جوهر التعسّف، ولذلك فإن الحياة أو حقّ الحياة وحقّ التكريم الآدمي والحرّيَّة جاءت في سياق التكليف بمهمّة الخلافة وإعمار الكون ومواجهة الفاسدين والمفسدين.
أمّا الإضاءة الأخيرة فهي فكرة الموازنة بين الحقّ الفردي والحقّ العام. في جو الإحباطات عادة ما ينزع بعض العقلاء أو أكثرهم إلى منهج الخلاص الفردي، ولذلك هنا لا بد من أن نقيم بديهيَّة حقيقيَّة أن قطار التحضّر لا يسير إلا على سكتين؛ السكّة الأولى هي سكّة بناء الذات والانطلاق على المحور الدافع للإبداع وتطوير المهارات وتحقيق الطموحات والأماني، أمّا السكّة الثانية فهي سكّة العمل الجماعي المنظّم المنسّق الذي يقوم على تكامل الأدوار وتوزيع التخصّصات، غير ذلك القطار يتوقّف.
ولذلك نحن نحتاج أولا إلى بيئة مفعمة بالتعاون والتكامل والتكافل، نحتاج إلى منظومة قيم جمعيَّة ترتكز على احترام الآخر واحترام رأيه وفكره ووجوده.
ونحتاج أيضا إلى منظومة من التشريعات التي تحفظ الحقوق وتعرف الحدود الدقيقة بين الأفراد والجماعات، ونحتاج إلى نظام عدالة يحمي هذه الحقوق ويطبّق القانون ويحسم مادة الاختلاف والنزاع.
قطار التحضّر البشري توقّف عندنا عندما كنا نرجع إلى منهج الخلاص الفردي بعيداً عن القدرة في الاستمساك بعناصر السلوك الاجتماعي المنظّم القادر على أن ينتشلنا من هذا الواقع المؤلم.
__________
* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.