المقالاتفكر وفلسفة

الحريّة الفرديّة في الإسلام مدخلا للتّنوير؛ بحث في إشكاليّة المواريث

مُلخّص البحث

يُحاول البحث الخوض في مسألة العلاقة بين الإسلام والتّنوير، وهي علاقة ما انفكّت تُطرح في سياقات عديدة محورها السّؤال حول مدى قُدرة الإسلام على مواكبة جدل التّنوير ومدى قدرته على أن يكون مواكبا للتطوّر الّذي يُعدّ سمة الإنسانيّة.

والبيّنُ من خلال قراءة في سرديّات التّنوير في علاقتة بالإسلام أنّها تنقسم إلى فئتين من الآراء والمواقف: رفض التّنوير واعتباره دخيلا عن الإسلام والمسلمين وصادرا عن شروط تاريخيّة واجتماعيّة مُخالفة للموجود والموقف الثّاني تمثّل في السّعي إلى الارتباط بأفكار التّنوير ومحاولة إدخالها إلى التّربة العربيّة والإسلاميّة.

على هذا الأساس يُحاول البحث تقصّي الشّروط الأساسيّة للتّصوّر الإسلاميّ للحريّة وذلك عبر مجموعة من المفاهيم الكُبرى الّتي ارتبطت بالإسلام وجعل هذه المفاهيم في علاقة تفاعليّة مع التكوينيّة الشرطيّة المفاهيميّة للتّنوير وهي العقل والحريّة والذّات.

ولقد اختار البحث النّظر في مسألة الحريّة الفرديّة بوصفها مدخلا من مداخل التّنوير في الإسلام. وسعى إلى ضرب مثال تطبيقيّ هو قضيّة المواريث الّتي ارتبطت في السّياق الحديث بمجال الحريّات الفرديّة. وهذا ما جعل من البحث أمام رهان إحياء مفاهيم نظريّة من القرآن أساسا الحريّة والحريّة الفرديّة في ظلّ المُتصوّر الإسلاميّ للعالم والإنسان وفي ظلّ جملة من الشّروط المنهجيّة والعلميّة كاجتناب الوقوع في أسلمة المعارف وكالتّفريق بين النصّ الأصلي والمُنجز الفقهيّ تفسيرا وتأويلاَ.

الكلمات المفاتيح: الحرية الفرديَّة، التنوير، الإسلام، الميراث، الوصيَّة.

مقدّمة

مثّلت العلاقة الثّنائيّة بين الإسلام والتّنوير مدار اهتمام وُضِعت في إطاره مُؤلّفات عديدة. كما صِيغت مجموعة من التّجارب الإصلاحيّة النّابعة من مُلاحظة الفرق الحضاري بين المشرق الإسلامي والغرب. ضمن هذه العلاقة الثّنائيّة ظهر سؤال حول مدى أن يكون الإسلام معنيّا بالتّنوير، ذلك أنّ النّفس التنويريّ يُعدّ حاجة أنطولوجيّة في ظلّ موجة العنف باسم الدّين وفي ظلّ تفاقم خطاب التطرّف المبنيّ على استراتيجيّة التّحريم والمحظور، هذا فضلا عن أنّ الإسلام باعتباره عنصرا في التّكوين الثّقافي والمرجعي لمجموعة بشريّة مُوسّعة تُعدّ معنيّة بإثراء التّجربة الإنسانيّة، لذلك على هذه المجموعة بما تحمله من خلفيّة مرجعيّة أن تدخل في نقاش قضايا التّنوير والتّحديث.

من هذا المُنطلق كان من الضروريّ البحث عن وسائل تجعل من مناقشة سؤال التّنوير في علاقة بالإسلام أمرا مُمكنا، بمعنى الانتقال من النظريّ المُحتمل إلى الإجرائيّ المُتحقّق واقعا. ثمّ إنّ الرّصيد الّذي أفضت إليه تجارب الإصلاح والتّحديث لم يخرج عن ضربين من المُقاربات أو الاحتمالات: إمّا نفي دور الدّين وإضعافه تمهيدا لطرح مشروع تحديثيّ ولهذا الاحتمال استتباعات أهمّها التّقليد وتخطّي السّياقات التّاريخيّة والاجتماعيّة للأقطار المعنيّة بنموذج الحداثة، وإمّا مُحاولة التّوفيق بين الدّين والمشروع التّنويري. وهذا الاحتمال استتبعه إفراغ المشاريع التنويريّة من الشّروط النظريّة الّتي بُنِيَت عليها في الأصل. لا سيما وأنّ الإسلام يتّسم بتركيبة مُعقّدة ممّا يجعله عائقا أمام مُحاولات التّنوير، بمعنى أنّ التّوفيق بين الإسلام ومشاريع التّنوير مُطالب بإلغاء الكثير من الخصائص الجوهريّة لطرفي المُعادلة: فإمّا تغليب طرف على حساب الآخر وإمّا إفراغ كليهما من المعنى.

فالإسلام ليس فقط القرآن والسنّة بل هو مجموعة من الأحكام الفقهيّة والتّشريعيّة الّتي ترشّحت لتكون مُؤسّسة تفوق في بُعدها التأثيريّ القرآن والسنّة مُجتمعين. أمّا السنّة فهي إفراز فقهيّ بالأساس دُوِّنت تاريخيّا في فترة مُتأخّرة وفاقت القرآن الّذي يُعدّ حدثا تاريخيّا وأدبيّا فارقا في تاريخ المجموعة البشريّة المُستَهدَفة بالإسلام، وهو مُكبّل بنظام تأويليّ فقهيّ هدفه حصر النصّ في دائرة الأحكام التكليفيّة من حلال وحرام ومباح ومكروه… ثمّ إنّ هذه المنظومة الفقهيّة الّتي تصدر الأحكام وتُؤوّل النصّ على مدى التّاريخ دعما من داخل الدّين وبالسّياسة. هذا ما يكشف عن مدى التّعقيد في الإسلام بوصفه حالة دراسة يُنظَر لها من جهة مدى القدرة على تقبّل التّنوير الّذي هو نتاج فلسفة وتصوّرات محمولة عن طريق دوالّ بشريّة ناصبت العِداء للإسلام والمُسلمين من خلال الحملات الاستعماريّة. فالقبول بالتّنوير يعني القبول، في نظر كثيرين، خاصّة أتباع المنظومة الفقهيّة، بالاستعمار. على هذا الأساس تُحاول الدّراسة الحاليّة تخطّي كلّ الإشكاليّات المُتعلّقة بالتّنوير والإسلام من داخلهما وبشكل أكثر من داخل الإسلام نظرا لما يتّسم به من تعقيد وخلط بين الوحي وأهدافه ومجالات التدخّل البشريّ بدافع حماية المنظومة الفقهيّة وما تدرّه من مكاسب أو بدافع تثبيت السياسة والمُلك. كما تُحاول الدّراسة البحث في شروط التّنوير من داخل الإسلام وقد حُدّدت هذه الشّروط بثلاثة مفاهيم كُبرى: العقل، الحريّة والذّات ممّا يستوجب البحث عن مفاهيم من داخل الدّين الإسلامي تكون هي الشّروط التّنويريّة عينها وهو ما يكفل التّأسيس نظريّا للتّنوير من داخل الإسلام، هذا فضلا عن أنّ المفاهيم مدار البحث يجب أن تكون ذات صبغة عمليّة يُمكن ترجمتها في الواقع من خلال أحكام وصيغ قانونيّة لضمان المُزاوجة بين البعد النظريّ والتّطبيقي في مشروع التّنوير.

إنّ مُصطلح الحريّة الفرديّة جامع بين المفاهيم الأساسيّة للتّنوير. فهو مُرتبط بـالذّات باعتبارها وحدة أُحاديّة التّركيب مُكتفية بما تختزله من عناصر، ومُرتبط بـالعقل باعتباره عنصر تمييز وتميّز ومُعطى تسييريّ للأفعال والسّلوكات، ومرتبط أيضا بـالحريّة باعتبارها حالة تتوق إليها الذّات لكونها أصلا تكوينيّا فيها. ثمّ إنّ مفهوم الحريّة الفرديّة يُؤسّس لمفهوم آخر هو الحريّة الجماعيّة الّتي كثيرا ما اقترنت بالتّنوير ولم تجد مدى تطبيقيّا يجعل منها مُفعّلة. فالتّفكير في الحريّة الفرديّة من منطلق تنويريّ يسمح بتوسيع أُفق التّنوير لينطلق من الفرديّ إلى الجماعيّ. ومن الضّروريّ التّنبيه إلى أنّ الحريّة الفرديّة ليست حاضرة في الإسلام بشكل علنيّ هذا ما يعني أنّ إظهار الضمنيّات في الخطاب القرآني بالأساس نظرا لما يكتسيه من سلطة مرجعيّة وأسبقيّة تاريخيّة يُعدّ رهانا لهذه الورقة البحثيّة. ففيم تتمثّل دلائل حضور الحريّة الفرديّة في الإسلام؟

تحضر الحريّة الفرديّة في الإسلام من خلال مجموعة من القضايا والحالات لعلّ أبرزها قضيّة المواريث الّتي ما انفكّت جدلا واسعا مُتجدّدا[1]. فالمواريث تُعدّ إطارا لتفاعل شروط التّنوير ومفاهيمه الكبرى، وكثيرا ما وقع إبعاد هذه القضيّة عن دائرة البشريّ وتصنيفها على أساس أنّها “حدّ من حدود الله” أي أنّها من اختصاص الله ولا دخل للإنسان فيها رغم أنّه المعنيّ بها ومدى تحقّقها والهدف منها، هذا ما جعل من المواريث تخرج عن مقولة الحريّة الفرديّة ممّا استتبعها تأخّر دور المقولة وتأخّر سؤال التّنوير في الإسلام رغم ما أُلّف وما صِيغ من تجارب إصلاحيّة. على هذا الأساس تسعى الورقة البحثيّة إلى:

  • تأكيد ارتباط التّنوير بالإسلام وتأصّله فيه رغم إنكار ذلك بحجّة الاختلاف بين جوهر الإسلام وجوهر التّنوير.
  • إيجاد مدخل للتّنوير في الإسلام مرتبط بالإنسان من خلال القرآن واستبعاد الأحكام الفقهيّة بعد الحفر في تاريخيّتها وضمن هاجس ألّا يُعطّل الدّين التّنوير فيكون التّأسيس النظريّ والإجرائي مُمكنا.
  • البحث في أسباب تأجيل سؤال التّنوير من خلال قضيّة المواريث الّتي انزاحت من مدار الحريّة البشريّة إلى دائرة الدّين وثبتت على هذه الحالة بسبب التدخّل الفقهيّ.

بناء على ما تقدّم تُحاول الورقة البحثيّة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المُتراوحة بين العامّ والخاصّ:

هل في الإسلام تنوير؟ وكيف تتحقّق شروط التّنوير (العقل، الحريّة والذّات) داخل مقولة الحريّة الفرديّة؟ كيف يُمكن التّأسيس للتّنوير من مدخل الحريّة الفرديّة ذلك أنّ احتضان الشّروط اللّازمة لا يعني إمكانيّة التّأسيس؟ لماذا تأجّل سؤال التّنوير في الإسلام رغم توفّر شروطه؟ وإلى أيّ مدى تكشف قضيّة المواريث عن أساسيّات الحريّة الفرديّة من جهة وأساسيّات التّنوير من جهة أخرى؟

إنّ مُصطلح الحريّة الفرديّة جامع بين المفاهيم الأساسيّة للتّنوير. فهو مُرتبط بـالذّات باعتبارها وحدة أُحاديّة التّركيب مُكتفية بما تختزله من عناصر، ومُرتبط بـالعقل باعتباره عنصر تمييز وتميّز ومُعطى تسييريّ للأفعال والسّلوكات، ومرتبط أيضا بـالحريّة باعتبارها حالة تتوق إليها الذّات لكونها أصلا تكوينيّا فيها.

1- علاقة الإسلام بالتّنوير: جدليَّة الاعتراف والإلغاء

ظهر التّنوير بوصفه منهجا جديدا للفعل في التّاريخ نتيجة للارتباط مع الآخر، تحديدا الفضاء الغربيّ باعتباره سياقا تاريخيّا واجتماعيّا وفكريّا. ولقد تعدّدت طُرق هذا الارتباط وأشكاله وتعدّدت طرق التلقّي للمنجز الغربي فتراوحت بين الانبهار والمُلاحظات الانطباعيّة وعمّت حالة من الشّوق إلى مُجاراة هذا المُنجز في المُؤلّفات.

أمّا النّقود الّتي وُجِّهت إلى الفضاء الغربيّ باعتباره في نظر المُسلمين فضاء تميُّز كانت في مُجملها للأخلاق[2]. وفي هذا الإطار حاول كثيرون ممّن اتّصلوا بالغرب بثّ مجموعة من التّجارب الإصلاحيّة في واقعهم المعيش، أي إدخال تعديلات على الفضاء المرجعيّ الّذي ينتمون إليه. لكنّ هذا الفضاء مُتأسّس على جملة من الشّروط التّاريخيّة والاجتماعيّة، لعلّ أبرزها وأبقاها على مرّ التّاريخ الدّين الإسلاميّ وفق الصّياغة الّتي اقترحها الفقهاء. فالإسلام هو رسالة إلى مجموعة بشريّة قصد تغيير نظام حياتهم كاستبدال العصبيّة القبليّة بالعصبيّة الدينيّة وتغيير منظومة الأحوال الشخصيّة وتدعيم الجانب الرّوحي للفئة المعنيّة بتلقّي الدّين، هذه هي الصياغة الأوليّة Primitif للدّين الإسلامي وتطوّرت إلى نماذج أخرى وصياغات جديدة مُنشدّة إلى وقع تأثير الحدث القرآنيّ باعتباره نموذجا مُتعاليا Transcendantal مُبهرا يتجاوز كلّ مُمكنات التّعبير المُتاحة عند الإنسان الجاهليّ. فهو يفوق الشّعر والخطابة وغيرها من أوعية الفكر وتمثّل العالم وحول شخصيّة الرّسول الّتي بُنيَت على مبدأ الاصطفاء وفق معايير منبوذة من السّياق الاجتماعيّ لفترة الدّعوة. ذلك أنّ مُحمّد بن عبد الله كان ضعيف حال وسند رغم انتمائه إلى عائلة قويّة فلم يُمارس التّجارة ولم يعمد إلى تجميع عناصر القوّة من مال وولد ممّا يُؤهّله إلى القوّة بالحكم سواء أ كان مُفردا أو بالتّقاسُم. فهذا الاختلاف هو الأصل في الاصطفاء وبالتّالي النبوّة الّتي بدأت حدثا فرديّا عن طريق تلقّي الوحي ثمّ استحالت حدثا جماعيّا بمُجرّد إذاعة الوحي الّذي وفّر السّند البشريّ المُعبّر عنه تاريخيّا في الأدبيّات الإسلاميّة بالصّحابة. ومن هذا المُنطلق تشكّل ما يُعرف برجال الدّين الّذين أسّسوا لمنظومة الأحكام الفقهيّة، وحتّى المُمارسة السّياسيّة سواء أكانت خِلافة أو مُلكا لم تخرج من النّاحية الأنماطيّة Typologie عن الصّورة الرّمزيّة للنبيّ أو لأحد أصحابه، ولا أدلّ على ذلك من تسمية الملك في الإسلام بأمير المُؤمنين. فهو الجامع بين سياسة النّاس في الدّين والدّنيا وله “صحابة” من الفقهاء ورِجال الدّين.

إنّ هذه الصّياغات المُتنوّعة والزّيادات في النّموذج الأوّلي تُبيّن أنّ كلّ شيء لا يخرج عن الدّين وعمّا أثبته الدّين في النصّ وفي المرويّات والعادات والسّلوكات، بالتّالي فإنّ الفضاء المرجعيّ العربيّ هو فضاء الدّين الإسلاميّ بامتياز، وهو أوّل مدار التقاء وحوار وخلاف مع كلّ فكر أو تجربة وافدة وكذلك الشّأن مع التّنوير. فالتّنوير لا يُمكن أن يتحاور أو يتخالف إلّا مع الإسلام الّذي هو في مرحلة اكتمال تأسيسيّ يتدخّل فيها أكثر من عنصر كالتّاريخ ونظام المُجتمع والأحكام الفقهيّة. وكلّ هذه العناصر تجتمع في وِعاء حاضن هو الإسلام الّذي لا يجب تبديله أو مُناقشته، ولعلّ ذلك ما عبّر عنه المُفكّر السّوري هاشم صالح بمصطلح “الانسداد التّاريخي” في قوله: “عن أيّ شيء ينتج الانسداد التّاريخيّ الّذي يمنع العرب وكلّ الشّعوب الإسلاميّة من الانطلاق الآن؟ عن التّناقض المُطلق بين النصّ والواقع: أقصد بين النصّ وكلّ التطوّرات العلميّة والسياسيّة والفلسفيّة الّتي جاءت بها الأزمنة الحديثة. فالالتزام بحرفيّة النصّ يُؤدّي بالمُسلم إمّا إلى إنكار مُنجزات الحداثة كلّها، بل الحِقد عليها وإعلان الحرب على العصر كما يفعل الظّواهري وبن لادن، وإمّا إلى إنكار النصّ نفسه والشّعور بعدئذ بالإحساس الرّهيب بالخطيئة والذّنب. وهكذا يقع المُسلم في تناقض قاتل لا مخرج منه، والحلّ لن يكون إلّا بالتّأويل المجازي للنصّ والاعتراف بالمشروطيّة التّاريخيّة للنصّ كما فعل المسيحيّون في أوروبا بعد التّنوير وتشكيل اللّاهوت اللّيبرالي في القرن التّاسع عشر”[3]. على هذا الأساس تتّضح معالم صورة العلاقة بين الإسلام والتّنوير وتراوحها بين الإلغاء والاعتراف.

ثمّ إنّ التّجاذب بين القبول بالتّنوير في الإسلام ورفضه ما انفكّ يُطرَحُ ضمن سياقات عديدة تُعَدُّ هي الأخرى ضربا من الاستمراريّة داخل الإطار المعرفيّ الأوّل لعلاقة الإسلام بالتّنوير. فمهما تبدّلت الطّروحات والجهات الّتي تُعلن عنها، فإنّها لم تخرج عمّا ارتسم في بداية التّفكير في سُؤال التّنوير، ولعلّ السّبب الأساسيّ الدّافع إلى تجدّد الطّرح على الدّوام هو تصنيف الفضاء الجغرافي والثّقافي الحاضن للإسلام بالتخلّف والرجعيّة وعدم مُواكبة موجات التقدّم والحداثة. وهذا التّصنيف نابع من الفضاء نفسه ويصدُر عن الفضاء المُجاور الّذي يُعدّ الإطار الحاضن للتّنوير. على هذا الأساس ظهرت الرّابطات الفكريّة والجمعيّات الثّقافيّة الّتي تنشط لإلحاق الفضاء الإسلامي بنظيره التّنويريّ في شكل عمل جماعيّ أو في شكل مُبادرات فرديّة تُجسّدها بعض الكتابات الدّاعية إلى فلسفة جديدة في التّعامل مع العالم وإلى تجربة محليّة قادرة على الارتباط بالإنسانيّة وتقليص الفجوة بين الفاعلين الحضاريّين. وعلى العموم فإنّ هذه المُبادرات على اختلافها: إمّا أن تصدر عن رفض للمنظومة التّقليديّة المُقيّدة بمجموعة من الاجتهادات البشريّة الّتي يُنظَر لها على أساس أنّها من مُقتضيات جوهر الدّين ولا اختلاف بينها وبين ما حمله النصّ الأصليّ بل لعلّ النصّ الأصليّ بلا قيمة وبلا مقروئيّة في حالة غيابها وفي هذا الإطار تُحاول هذه المُبادرات فرض أدوات جديدة في التّعامُل مع التّراث قصد ترسيخ دعائم التّنوير. ومن بين هذه الأدوات على سبيل المثال العقلانيّة النّقديّة الّتي “ترفض التّمذهب العقائديّ، من هنا يتعلّق الأمر بمسألة جوهريّة وهي: الفصل بين العقل الدّيني والعقل العلمي والفلسفي، وكشف مضامين قضايا يُثيرها الدّين في العلاقة بالوجود والإنسان. إنّ العقلانيّة النقديّة تُقدّم مفاتيح أساسيّة للمسألة الدينيّة تهمّ اليقين ومصادر المعرفة في ظلّ مُراجعة الأحكام وبالتّالي القدرة على تأسيس منظور مُنفتح للدّين يهمّ قضايا أساسيّة منها قضيّة أنطولوجيا الإنسان كمفهوم مركزي، وقضيّة القيم الأخلاقيّة ومنها الحريّة في العلاقة بالدّين، وقضيّة المجال الجمالي للخطاب الدّينيّ. وكلّ هذا في علاقة بالمُجتمع والرّهانات المدنيّة وضوابط العلاقة المُمكنة بين الدّين والسّياسة”[4]. وإمّا أن تصدُر عن مُحاولة للتّوفيق بين مُقتضيات الابستيميّة الحديثة ونظيرتها التّقليديّة وهو ما أدّى إلى ظهور ما يُعرَف بتجديد الخطاب الدّيني ولا بدّ من التّمييز المفاهيميّ في هذا المدار، ذلك أنّ قضيّة التّجديد بدأت أوّل الأمر داخل دائرة الدّين لتنتهيَ بأن تكون مطلبا يُنادي به أنصار الحداثة والتّنوير. وهذا يدلّ على أنّ العلاقة بين الإسلام والتّنوير الّتي مُلخّصها التّراوح بين الإلغاء والاعتراف قد أدّت إلى خلط مفاهيميّ قد يصل حدّ الخِلاف من داخل المُنطلقات نفسها خاصّة مسألة تجديد الفكر الدّينيّ.

ضمن سياق التّجديد ظهرت العديد من المُحاولات الّتي اتّسمت بالرّغبة في إذكاء صورة الإسلام وجعلها مُحايثة للفكر التّنويريّ حتّى أنّها اتّسمت عند مُتلقّيها بضرب من التّقديس الّذي يظهر في الخطاب الواصف المُشيدِ بالتميّز والتفرّد الّذي يصل بصاحبه إلى كتابة سيرة علم من الأعلام، يقول فهمي النجّار عن مُحاولة محمّد إقبال (1877-1938) التجديديّة: “… ومن هؤلاء الرّجال الأفذاذ الّذين جدّدوا الفكر الإسلاميّ، وأثاروا الحماسة في نُفوس المُسلمين لإعادة مجد الإسلام ثانية، الشّاعر والمُفكّر العظيم محمّد إقبال الّذي كرّس فكره وقلمه لإعادة بناء الفكر الدّيني في الإسلام، ولم يُقصد بالتّجديد، تجديد الإسلام لأنّ الإسلام دين كامل مصدره القرآن والسنّة ولا يقبلان تغييرا لحكم من أحكامه”[5].

أمّا عن تصوّر مُحمّد إقبال لمنهج التّجديد فهو يقول: “ولقد عمدتُ إلى بناء الفلسفة الدينيّة الإسلاميّة مُحافظا على روحها الأصليّة من ناحية، مُسترشدا بأحدث التطوّرات في مختلف ميادين المعرفة الإنسانيّة من ناحية أخرى”[6]. إنّ المُلاحَظ في هذا التصوّر أنّه يضع الفلسفة والفكر الإسلامي أمام مُحاولة لإعادة التّأسيس انطلاقا من الصّياغات الفكريّة للمناهج والأدوات الصّادرة عن المعرفة الإنسانيّة. ولئن بدت هذه الفكرة مُغرية وحاملة لمشروع، فإنّها مُهدّدة بالوقوع في الإسقاط المعرفي، ذلك أنّ الفلسفة والفكر الإسلامي تشكّلا ضمن سياقات تاريخيّة واجتماعيّة خاصّة ليست هي نفسها الّتي ظهرت في فضاءات ثقافيّة أخرى وما يبدو أنّه من المفاهيم المُشتركة ليس بالضّرورة أن يكون هو نفسه بين الفضاءين حتّى وإن سلّم الباحثُ بتعرّف العرب المُسلمين على الفلسفة اليونانيّة. فمجهودات التّرجمة كانت رغم أهميّتها عبارة عن اجتهادات فرديّة مُطالبَة بالالتزام بضوابط الدّين الموجودة في الفضاء المنقول إليه. فمذهب الشكّ عن الغزالي (ت505 هــ – 1111م) على سبيل المثال ليس هو نفسه عند ديكارت (1596-1650)   Descartes وإن بدا أنّ بين الفكرين تشابه، ذلك أنّ المُنطلقات ليست هي نفسها. وما دامت المُنطلقات مُختلفة فإنّ النّتائج أيضا ستكون مُختلفة وإن أوهمت بالتّشابه. لذلك يُتبيَّن بجلاء أنّ مسألة التّوفيق بين الإسلام ومُخرجات التّنوير، مسألة شكليّة لا تطال الجوهر من الأمور ولذلك بقيَ سؤال التّنوير مُعلّقا في الإسلام ولو نجح المنهج التّوفيقيّ لما بقيت الدّعوة إليه مطروحة إلى حدّ الآن.وكذلك الدّعوة إلى التّنوير الّتي ما انفكّت تتجدّد حسب الظّرفيّات والسّياقات، إذ أنّ واقع الحال يُثبتُ أنّ المُسلم مُنحصر في وجوده وأفعاله داخل منظومة قيميّة وأخلاقيّة وداخل أنطولوجيا مُحدّدة الأبعاد ومُرتبطة بتاريخ مُعيّن لم يتطوّر. وهي مُرتبطة أيضا بالنصّ الّذي يُثبت من جهة الفاعليّة في الوجود ويُعطّلها من جهة أخرى. ومردّ هذا الإشكال يصدر بالأساس عن آليّات القراءة ومناهجها، فهي قراءة ليست مُتاحة للجميع بحجّة النصّ كما يدّعي الّذين تولّوا القراءة وعمليّات التّفسير والتّأويل منذ ظهور النصّ وتحديدا بعد تشكّل مذهب الجماعة الفقهيّة الّتي تُعدّ المُؤسّسة الأولى الّتي تلعب دور الوساطة بين النصّ ومُتلقّيه بموجب دورها الإشرافيّ المُستند إلى صورة نموذجيّة تربط اللّاحق من الفُقهاء بالسّابقين من الصّحابة عن طريق الارتباط المعنويّ واستحضار صورة العالم الأوّل الّذي يُفسّر للنّاس أمور دينهم ودنُياهم ويُؤهّلهم إلى نمط حضور في الآخرة أقصاه الدّخول للجنّة.

فالدّعوة إلى التّنوير مُتجدّدة دائما في مُحاولة إلى الحدّ من الانفصام الّي يُعاني منه المُسلم، فهو مُتفوّق بتحمّله لرسالة تُصنّفه الأفضل مُقارنة بغيره بدليل قوله تعالى: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ”[7]ولقد اُختُلِف حول تأويل هذه الآية، فثمّة من يرى أنّ المقصودين بها هم أصحاب الرّسول الّذين هاجروا معه وأكّد على ذلك الحديث المرويّ عن ابن عبّاس: “حدّثنا أبو كريب قال، حدّثنا عمرو بن حمّاد قال، حدّثنا أسباط، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال في: ” كُنتم خير أمّة أخرجت للنّاس “، قال: هم الّذين خرجوا معه من مكّة.”[8] وثمّة من يعتبر أنّ الآية لا تعني حصر الأفضليّة في الزّمان الماضي “كُنتُم” وفي فئة بشريّة مُعيّنة دون سواها أي “أصحاب الرّسول”. فالدّعوة أو سمة الأفضليّة مُستمرّة في الزّمان بناء عمّا نُقل عن عمر بن الخطّاب بخصوص هذه الآية: “لو شاء الله لقال: ” أنتم “، فكناّ كلّنا، ولكن قال: ” كنتم ” في خاصّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمّة أخرجت للنّاس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.”[9]

بالتّالي فإنّ مسألة الأفضليّة ثابتة من حيث ارتباطها بالمُسلمين ومن حيث الدّعوة إلى التحلّي بالشّروط الدّافعة إليها. لكنّ الشّخصيّة المُسلمة رغم هذا الرّصيد الرّمزي الّذي يُكسبها التفوّق والثّقة في النّفس إلى حدّ التميّز عن باقي الأمم وما قدّمته من تجارب في الفعل الحضاري، تُعاني هذه الشخصيّة من التّراجع في الواقع العينيّ المُباشر ، ويُعدّ وجودها فعلا مُلطّخا بالأعباء، فهي في منزلة دُنيا مُقارنة بغيرها، وهي في السّياقات التّاريخيّة الحاليّة مُشبّهة بالعنف والإرهاب والتطرّف باسم الدّين ممّا يجعلها بعيدة كلّ البعد عن الإعمار والزّيادة الفاعلة في الكون وبعيدة كذلك عن القبول بالاختلاف والتعدّد وهما صفتان ثابتتان في تكوينيّة الإنسان والكون وثابتتان في النصّ التّأسيسيّ نفسه “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ”[10].

على هذا الأساس يتّضح أنّ التّنوير حاجة ضروريّة للحدّ من حالة الانفصام سابقة الذّكر. ومن مُنطلق الحاجة نفسها برزت الدّعوة إلى تجديد الخطاب الدّينيّ من داخل الدّين وبطلب من دُعاة التّنوير على حدّ السّواء لأنّ الهدف هو الإنسان وطريقة حضوره في العالم، وحتّى داخل الفكر الغربيّ يُنزّلُ الإنسانيّة إجرائيّا ويُوصف في أغلب الأحيان بأنّه حلّ ضروريّ لاوم لزوم ما يعترض الإنسان من إحراجات. فهو “الحلّ لأنّه إنسانيّ بطبعه وليس نظريّة ثابتة… ليس دوجما (دوغما) لا تتغيّر ولا تابو لا يُمكن المساس به. ليس التّنوير وصفة سحريّة نُطبّقها وهو ليس تعويذة نقرأها فتنفتح الأبواب المُوصدة وتنجلي النّوائب والمصائب. إنّ التّنوير عمليّة مُتواصلة من تشغيل العقل وترشيد الفكر وإحلال المنطق محلّ الخرافات. يضع التّنوير نتائج ما يصل إليه موضع الفحص والاختبار والتّمحيص ويسمح بطرح البدائل إذا فشل ويُراعي الظّروف والمُتغيّرات”[11].

إنّ التّنوير عمليّة مُتواصلة من تشغيل العقل وترشيد الفكر وإحلال المنطق محلّ الخرافات. يضع التّنوير نتائج ما يصل إليه موضع الفحص والاختبار والتّمحيص ويسمح بطرح البدائل إذا فشل ويُراعي الظّروف والمُتغيّرات”.

2- الحريّة الفرديّة والإسلام:

إنّ التطرّق إلى مفهوم الحريّة الفرديّة في علاقة بالإسلام لا يُمكن أن يتمّ في معزل عن الصّياغات النظريّة لمفهوم الحريّة. وهذه الصّياغات تتفاعل في إطار أنساق ورُؤى وتصوُّرات ضمن الفضاء الإسلاميّ. وممّا يبرّر هذا المنحى المنهجي في التّعامل مع المفهوم أنّ الحرية الفرديّة تُعتبر مرحلة مُتأخّرة من الحرياّت العامّة.

تُعدّ مسألة الحريّة في الإسلام من المسائل الّتي كثيرا ما طُرحت ووقع تناولها بالبحث والنّقاش. وليست المسألة على قدر كبير من الجدّة والحداثة، ذلك أنّ مفهوم الحريّة مثّل مفهوما من المفاهيم المفاتيح الّذي يقدّم لمجموعة أخرى من القضايا في الفكر الإسلاميّ. بهذا المعنى تكتسي المُجادلات الكلاميّة الأولى الّتي شرّع لها جمهور من المتكلّمين انقسموا فرقا طرحت مسألة حريّة الإنسان في علاقة بالتّسيير والتّخيير وخلق الأفعال والإرادة الإنسانيّة ضمن وعاء معرفيّ تشكّل حول ثنائيّة القضاء والقدر. وهي ثنائيّة من الدّرجة الأولى التي لا تقبل التّأجيل أو تبطل بتحمّل فرد لها أو تصحّ بالجماعة. فهي ركن من أركان الإيمان ولا تنفصل عن غيرها من الأركان بل تتفاعل معها لتشكيل الحقل المعرفيّ والشعوريّ للإيمان وبالتّالي صورة المؤمن. ثمّ إنّ هذه الثّنائية قائمة من الناحية المفهوميّة أي التّعليم عليها وارد بصحيح العبارة في النصّ القرآنيّ وهي من أبرز دوافع التطرّق إلى مسألة الحريّة. وتوجد في كتب المتكلّمين ومناهجهم صياغات نظريّة عديدة للحريّة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ مفهوم الحريّة لم يتوقّف عند صياغة نظريّة واحدة منذ بداية التّفكير في المفهوم ذلك أنّ من المفكّرين كعبد الله العروي من يعتبر أنّ الحريّة حالة اجتماعيّة يعيشها الأفراد في المُجتمعات الإسلاميّة دون أن تتوفّر لديهم مرجعيّة نظريّة مؤسّسة للمفهوم. فهو ينفي أن يكون للحريّة أسس في التّراث وإنّما هي حالة مُكتسبة وقد بيّن هذه الأطروحة في                       قوله: “فتجربة المجتمع الإسلاميّ في مجال حریّة الفرد أوسع بكثیر ممّا یُشیر إليه نظام الدّولة الإسلاميّ”[12].

طُرحت الحريّة في الفضاء الإسلامي من منطلق وجهات نظر مختلفة لعلّ أبرزها الحريّة بوصفها ضربا من الخلاص الأسمى من عبوديّة الإنسان محدود الطّاقة والجُهد والمتمظهرة في الفضاء الخارجيّ في جملة من الفروض والواجبات إلى عبودية الله خالق الكون بصفة عامّة والإنسان بصفة خاصّة أي التحوّل من الارتباط بالمحدود العينيّ إلى اللّامحدود الحسيّ الّذي يُدرك عن طريق القلب والعقل لتكون الحريّة بُعدا من أبعاد الإيمان على شكل مجموعة من الالتزامات الجُوانيّة الّتي مدارها النفس البشريّة. والملاحَظ في هذا المفهوم الّذي يعتبر الحريّة مرحلة انتقاليّة أو هي تلك الحركة التخلُّصيّة تقاطعا كبيرا مع مفهوم التّوحيد، أي عبادة إله واحد أحد لا شريك له ولا بديل له. وقد يخلط البعض بين المفهومين لشدّة التّقارب بينهما، ولفكّ الارتباط وتجنّب الخلط تجدر الإشارة إلى أنّ الحريّة في المفهوم الإسلاميّ هي فعل الخلاص بمعنى الحركة الّتي تُؤدّي إلى حالة الثّبات وهي التّوحيد. وقد ورد هذا المفهوم عند كثير من المفكّرين الإسلاميين بدرجات متفاوتة من الوضوح إذ اعتبر محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) أنّ “الحرية هي السّلامة من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشّريعة والأخلاق الفاضلة”[13] والملاحظ في هذا التعريف كثرة تواتر الكلمات من جذر (س.ل.م) اللّغوي وهو الجذر نفسه الّذي تُشتق منه كلمة “إسلام” فالحريّة هنا هي تلك الحركة الّتي تجعل الفرد في حِلٍّ من الارتباط بالآخر وفق مُحدّدين أساسيّين هما: الشّريعة والأخلاق مما يجعل الفرد/ الإنسان في خانة الإسلام. وحتى التعريف الذي أورده يوسف القرضاوي في قوله: “نظرا إلى هذه الأهميّة البالغة للحريّة، عُرِفت في الإسلام بطريقة إيجابيّة وسلبيّة. ويتمّ إعلان هذا التّعريف الجامع بكلمة الشّهادة: “لا إله إلّا الله” فالجزء الأوّل “لا إله” تعريف سلبي للحريّة، والجزء الثّاني “إلّا الله” تعريف إيجابي للحريّة، فإذا أقرّ العبد بصدق قلبه بــــــ  “لا إله” فهو يُنكر جميع أقسام العبوديّة الباطلة الّتي تُضلّه عن طريق الحريّة، ولذا قال سيّدنا علي لابنه: “لا تكُن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّا”[14]، يُلاحظ أنّ الحريّة في المُتصوّر الإسلاميّ  ليست حالة تُطلب في ذاتها بقدر ما هي  أداة لإثبات مُقوّمات الدّين الإسلاميّ سواء أكان الأمر في بعد العبادات أو المُعاملات.

ومن بين ما يُمكن ملاحظته في الفضاء الإسلامي أنّ مفهوم الحريّة ليس هو “الحرية الشرعيّة”، بل المفهوم الذي تشكّل في الغرب في دوائر الفلسفة وعلوم الإنسان والثّورة على النُّظم التّقليديّة وهو ما أفرز مجموعة من السرديّات حول الحريّة. فثمّة من يعتبرها أصلا للتّشريع إلى نظام اقتصادي جديد كما أشار إلى ذلك آدام سميث (1723-1790) Adam Smith في قولته الشّهيرة “دعه يعمل، دعه يمرّ” وثمّة من اعتبرها أصلا من أصول التطوّر والتقدّم لبناء إنسان جديد حتّى أنّ التطوّر والتقدّم لا يتحقّقان إلاّ إذا توفّر شرط الحريّة وهو ما عبّر عنه جون ستيوارت ميل (1806-1873) Jhon Stuart Mill بالقول ” إنّ تسلّط العادة هو العائق الّذي يقف في كلّ مكان بوجه التطوّر الإنساني، لأنّها عداوة  لا تنتهي لذلك التوجّه نحو استهداف شيء أفضل من التّقليد ، يُسمّى وفقا للظروف، روح الحريّة أو روح التقدّم أو التطوّر. إنّ روح التطوّر ليست دائما هي روح الحريّة لأنّها قد تهدف إلى فرض التطوّرات على النّاس غير الراغبين فيها، وروح الحريّة، على قدر تعلُّق الأمر برفضها لمثل هذه المحاولات قد تتحالف على نطاق محلّي مُؤقّت، مع أعداء التطوّر، ولكنّ المصدر الأزلي والثّابت للتطوّر هو الحرية”[15].  ولم يتخلّص الفكر البشريّ على مرّ تقلّباته من اعتبار الحريّة جوهرا من الجواهر لاقترانها بأنطولوجيا الفرد العائد من رُكام العبوديّة والنّظام الإقطاعيّ والصّاعد إلى إدارة شؤونه وسواء أَوقع التّنصيص بصريح العبارة على الحرية أم لم يقع ذلك فهي مكوّن أساسيّ لكلّ تصوّر في علاقة بالإنسان ولا أدلّ على ذلك من اقترانها الصّريح والضّمنيّ بالتّنوير وفلسفته، فـــــــ”التّنوير رغبة في أن تكون الشُّؤون الإنسانيّة مقودة بالعقل بدلا من انصياعها للعقيدة والخُرافة والنبوءة، وأنّ التّنوير هو الإيمان بقوّة العقل البشريّ على أن يُغيّر المجتمع وأن يُحرّر الفرد من قيود العادات والسّلطات الاعتباطيّة ويستند كلّ هذا إلى رُؤية عالميّة يُدعّمها العلم وليس الدّين أو التّقاليد”[16]. ولقد تبنّت الأنظمة السياسيّة في البلدان الإسلاميّة هذا المفهوم وضمّنته في تشريعاتها ودساتيرها مُفصّلة القول في الحريّة وأشكالها وأبعادها وأصنافها مما خلّف ردود فعل تبنّاها مناصرو مفهوم الحريّة الشرعيّة إذ اعتبرها البعض ضربا من الزندقة وأنّها “من وضع الزّنادقة لأنّها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدین وحقوق الإنسانیّة رأسا”[17]. بناءً على ما تقدّم يتّضح أنّ الحريّة في الفضاء الإسلاميّ لم تعرف تطويرا من داخل النصّ بقدر ما بقيت أداة لإثبات الدّين وتدعيم الشّريعة، وأنّ المفهوم المُعتمد هو ناتج عن الفلسفات الغربيّة وليس عن عمليّات تطوير داخليّة وهو ما لم يسمح بالقبول بالمفهوم العام ولا بالصِّيَغ الجديدة منه وعلى رأسها الحريّات الفرديّة.

إنّ الملاحَظ في الصّيغة المفهومية للحريّة في الفضاء الإسلاميّ هي النّسخة الصّادرة عن الفلسفات الحديثة ولقد ضُمّنت في الدّساتير والقوانين التي تُنظّم الممارسة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في بلدان الفضاء الإسلاميّ تضمينا أساسه التّفصيل والتّنويع في أشكال الحريّة وما يضمنها. ولقد تراجع المفهوم الإسلاميّ للحريّة في الاعتماد نظرا لطبيعة النُّظم السياسيّة المُتّبعة والّتي بُنِيَت على ما يُعرَف بقيم الدّيمقراطيّة والدّولة الحديثة. فتراجع الاعتماد على المفهوم الإسلاميّ وبالتّالي تراجع البحث فيه والعمل على تطويره راجع للسّلطة الّتي تحكم بلدان الفضاء الإسلاميّ وهو ما أدّى إلى شكلين من الفعل البشريّ في علاقة بالحريّة والإسلام: إمّا اعتبار الإسلام مُعطى ثقافيّا تكوينيّا كغيره من المُعطيات الأخرى الّتي تُمثّل ثقافة من ثقافات مجموعة بشريّة وفي المقابل تعميم تجربة من الاقتباس عنوانها التّنويع في الحريّات وهو ما حدث في تونس بعد التقدّم بمشروع قانون يُوفّر أرضيّة تشريعيّة للحريّات الفرديّة باعتبارها جيلا من أجيال نظريّة الحريّة العامّة وإمّا إقصاء كلّ فكر جديد واعتباره دخيلا وجعل الإسلام المُحدّد الأوّل والأخير لضروب الممارسة المُمكنة. وفي الحالتين بقيَ الإسلام خاليا من مساءلات نقديّة حول مدى قدرته على استيعاب التطوّرات الجديدة والتحديّات الموضوعة على عاتق الذّات الإنسانيّة وخاصّة مسألة حريّتها. وقد ينحو البعض نحو إثبات وجود أصناف من الحريّات في الإسلام من خلال القرآن والسنّة. ورغم أهميّة هذه المحاولات في الحفر داخل مُكوّن جوهريّ في أنطولوجيا الذّات المُسلمة فإنّها سرعان ما تقف عند عرض نماذج من الحريّة كحرية الاعتقاد، والفكر… ممّا يُؤدّي إلى تأسيس نظرة تجزيئيّة مقطعيّة هدفها وجود ملامح من مقتضيات الفكر الحديث في الإسلام لإثبات إعجاز نصوصه أو شموليّة دعوته وإطلاقيّتها في الزّمان والمكان. ولمّا كانت هذه المحاولات منقوصة إذ أنّها عاجزة عن البرهنة على سبيل المثال على وجود نماذج من الحريّة في القرآن كحريّة الصّحافة، ولمّا كانت هذه المُحاولات سِجاليّة ومُنخرطة في ما يُعرف بأسلمة المعرفة[18]، فإنّ هذا البحث أخذ على عاتقه محاولة البحث في الشّروط المُمكنة لصياغة براديغم الحريّة من وجهة نظر إسلاميّة من خلال القرآن بالأساس تفاديا للخلل المنهجيّ الّذي تُعاني منه المنظومة الفقهيّة التقليديّة إذ أنّها تعتمد بشكل مُكثّف في صياغة المواقف والأحكام  على نصوص الحديث النبويّ وهو اعتماد يبلغ درجة تقديم الحديث على القرآن. ففيم تتمثّل الشروط النظرية للحرية في الإسلام؟

يُوجد في القرآن دلائل واضحة تُفيد توفّره على الشروط العامّة للحريّة، وأوّل ما يستدعي الانتباه “التّكريم والتّسخير” اللّذان جاءا في الآية نفسها والسّياق نفسه. يقول تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” [19]. في هذه الآية يتّضح أنّ الإنسان مُكرّم أي في مرتبة عُليا من المسؤوليّة والمكانة والإرادة، وهو يفوق من حيث القُدرات والمُؤهّلات وإمكانيّات الفعل غيره من الكائنات وهو ما يجعله وصيّا على الكون وقادرا على جعله تحت سيطرته وفي خدمته، هذا هو المقصود بالتّسخير. وهذا في حدّ ذاته دليل على الحريّة لكنّ دلالته على الإرادة والقدرة على تحمّل المسؤوليّة أقوى ولذلك يُعدّ التّكريم والتّسخير مبدأين أساسيّين لتصوّر الحريّة فالإسلام ذلك أنّ الإنسان المسؤول القادر مُؤهّل ليكون حرّا بالقوّة والفعل بالتّعبير الأرسطي.

ثمّ إنّ هذين الشرطين يدخلان في علاقة أخرى مع شرط “أولويّة العقل” إذ يقول تعالى: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ  ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”[20] ففي هذه الآية يتّضح بجلاء أنّ العقل حاضر بقوّة وهو يحظى بمكانة عالية في التّعاملات، إذ أنّ المُحاججة الّتي أساسها توظيف القُدرات والمؤهّلات العقليّة في تكليف النبيّ وهو ما يقتضي ضمنيّا تسليما بأنّ المعنيّ بالرّسالة والتّبليغ صاحب عقل وقادر على الاختيار وتقرير مصيره وأنّه لا ضغط على حريّته ولا تقييد وهو ما يتقاطع مع شرط “منع الإكراه” بوصفه التّعبير الأقصى عن نفي الحريّة وهو ما يُعبّر عنه قوله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”[21]. ومن غير المُمكن أن يُقرّ القرآن بعدم جواز الإكراه خاصّة في الدّين الّذي يُعدّ مرجعيّة للأفعال والتصوّرات دون الإقرار بالاختلاف  واعتباره من أساسيّات تكوينيّة الإنسان وهذا ما جاء بصريح العبارة في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”[22]  فالدّعوة هنا مُوجّهة إلى “النّاس” بالألف واللّام الاستغراقية أي كلّ النّاس دون استثناء والغاية منها تقريريّة أساسها توضيح أنّ مبدأ الاختلاف ثابت في أصل الإنسان وما دام الاختلاف قائما فالحريّة قائمة وجوبا ذلك أنّ إلغاء الاختلاف يعني إلغاء كل ممارسة حرّة.

يُظهر القرآن مجموعة من الشّروط الّتي على أساسها تُبنى الحريّة عموما وهو ما يسمح باستيعاب نماذج عديدة منها، لكنّ السؤال الذي يُطرح هو حول مدى توفّر القرآن على شروط الحريّة الفرديّة فهل أعطى القرآن مكانة للفرد على أساسها تتحدَّد حريّته أم أنّه اكتفى بالصّيغة الجماعيّة في الدّعوة وفي التّحرير وفي بناء المجتمع؟

إنّ الحريّة الفرديّة مدارها الفرد بالأساس. ونظرا لكونها مسألة تعبير عن الرّغبات وطريقة في إيتاء الأفعال تختلف من شخص إلى آخر داخل المُحيط نفسه وقد تصل إلى خرق ما لم يتعاهد عليه المجتمع كالعلاقات بين الأفراد في إطار منظومة الزّواج (العلاقات المثليّة الجنسيّة على سبيل المثال من الحريّات الفرديّة). ولئن اتّسمت الحريّة الجماعيّة بإمكانيّة التّطويق والحدّ، فإنّ هذه الإمكانيّة في حالة الفرديّة تُعدّ نفيا لها وتغليبا لرغبات جانب على حساب الآخر. والمعلوم أنّه في كلّ الصّياغات النظريّة لمفهوم الحريّة تُوجد تحديدات وتقييدات، فالحريّة لا تُبنى على الإطلاق أبدا لذلك تمّ ربطها بمفهوم المسؤوليّة باعتباره تجميعا لعناصر الأخلاق والقيمة والالتزام بالتّشريع المعمول به والمُساواة الّتي هي عامل يجعل من الاختلاف بعيدا من أن يكون سببا للصّراع ومُبرّرا للخلاف. لذلك وجب الانتباه إلى أنّ مسألة الرّفض للحريّة الفرديّة في المجتمعات الإسلاميّة أمر طبيعيّ باعتبار أنّ الصّياغة النظريّة الّتي جاءت فيه لا تستجيب لطبيعة التّكوين الثّقافي للمجتمع الّذي يغلب فيه حضور الدّين وعلى أساس الدّين تتحدّد العلاقات المُمكنة بين الأفراد والعلاقة مع العالم. على هذا الأساس وجب البحث في صيغة إسلاميّة للحريّة الفرديّة مع مراعاة أنّ مسألة التّحديد في كل مظهر من مظاهر الحريّة أمر عادي بل إنّه شرط ضروريّ لأنّه لا سبيل إلى الحديث عن حريّة إلاّ ضمن سياق المجتمع وللمؤسّسات العلائقيّة باعتبار أنّ الحريّة ضرب من التّعاقد على الحقّ والواجب وضرب من امتلاك الفضاء والذّات داخل أبعاد مُعيّنة وهي حالة ذهنيّة تتغذّى من النّقد.

لقد حدّد الإسلام من خلال القرآن الشّروط العامّة لمُتَصَوّر الحريّة ومن هذه الشّروط ما يقبل النّقل إلى دائرة الفرديّ وما يُؤكّد على أنّ فكرة الجماعة في الإسلام ليست الحالة الغالبة على تراتبيّة المُجتمع الإسلاميّ.  فالاختلاف وهو أحد هذه الشّروط ليس مُنحصرا في دائرة الجماعة فقط على أساس المقارنة بين فئة وأُخرى بل هو يقبل التّقسيم والتّوزيع الدّاخلي ضمن المجموعة الواحدة إلى درجة أنّه يبعث على التّساؤل عن مبرّرات الاجتماع. ومسألة العقل في المُجادلة بالحسنى والإقناع لا يُمكن أن تكون مُرتبطة إلاّ بالفرد ذلك أنّ العقل مُحدّد للفرد مرتبط به ولا يُمكن أن يدلّ على الجماعة. وممّا يُبرهن على إمكانيّة بناء حريّة فرديّة بعد استجلاء مظاهر مقولة الفرد أنّ القرآن رسم تصوّرا حول العالم وقسَّمه إلى قسمين دنيويّ وأخرويّ والفعل في الدّنيا يكون بالاستخلاف والإعمار والحفاظ على ضوابط الحسن والخير والصّلاح والتحلّي بالصّفات اللّازمة للنّجاح في الاختبار الّذي هو الإيمان ثمّ انعكاساته في الفعل والسّلوك أي أنّ في  الاختبار عقلا، وهذا العقل يختار باعتبار أنّ الحقّ بيّن والباطل بيّن أو ثنائيّة الحلال والحرام الفقهيّة، فالاختبار فرديّ واختيار صيغته والطّريق التي يمشي فيها فرديّ والجزاء أيضا فرديّ. على هذا الأساس فإنّ الحريّة الفرديّة حاضرة باعتبار حضور مقولة الفرد وإرادته في الإسلام شأنها شأن الحريّة الجماعيّة أو الأجيال الأولى من الحريّة أما عن مسألة التّقييد والضّبط فهي شرط من شروط الحديث عن الحريّة بصفة عامّة. وفي القرآن تعدّ قضيّة المواريث الفضاء المُناسب لطرح مقولة الفرد والحريّة الفرديّة الّتي تجتمع في داخلها الشروط اللّازمة للتّنوير فهي تتمحور حول ذات بعينها تراعي أكثر خصوصيّاتها دقّة واختلافا وهي تُبنى على الإرادة والتّمييز العقليّ والتصرّف الحرّ فالتّنوير يجب أن يكون من مدخل الحريّة الفرديّة الّتي هي حاضرة في الإسلام وفي مسألة المواريث على وجه الخصوص.

الحريّة لا تُبنى على الإطلاق أبدا لذلك تمّ ربطها بمفهوم المسؤوليّة باعتباره تجميعا لعناصر الأخلاق والقيمة والالتزام بالتّشريع المعمول به والمُساواة الّتي هي عامل يجعل من الاختلاف بعيدا من أن يكون سببا للصّراع ومُبرّرا للخلاف.

3- قضيّة المواريث مثالا تطبيقيّا:

يُعدّ كسب المال والتصرّف فيه وتملكّه أو التّفويت فيه شأنا بشريّا بامتياز يخضع إلى ما تُمليه النّفس البشريّة على صاحبها سواء عن طريق الأهواء أو العقل، ممّا جعل من المال والتّعامل به ضربا من الحريّة الشخصيّة الّتي لا يُمكن أن يتدخّل فيها أيّ طرف. ولقد ارتبط لفظ “مال” بالإسلام وذُكِر في القرآن الكريم في سياقات عديدة[23]، وما فُرِض من قواعد في التّعامل مع المال لا يعدو أن يكون تدخُّلا توجيهيّا ليست الغاية منه المال في حدّ ذاته بل النّفس البشريّة الّتي تتعلّق كثيرا بالمال. إنّ الزّكاة على سبيل المثال هي إخراج نصيب مُعيّن حسب نوع المال وحسب مقداره في وقت مُعيّن من السّنة مرّة واحدة والغاية منها اجتماعيّة بالأساس لتخفيف حِدّة الفوارق داخل المُؤسّسة الاجتماعيّة وإحلال ضرب من التّوازن وحماية لصاحب المال من التجبّر والتسلّط على الأضعف حالا ودفعا لضعيف الحال كي يجتنب التعرّض إلى صاحب المال بالسّرقة أو الافتكاك عنوة. فالزّكاة وهي رُكن من أركان الإسلام هدفها النّفس البشريّة قبل المال. وقد بيّن الإسلام أنّ طريقة تحصيل المال لا يجب أن تكون على حساب الآخرين فنهى عن أكل مال اليتيم، وربط الإسلام بين أركان الإيمان والمال في قوله تعالى: ” لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون”[24] وهذا الرّبط ليس اعتباطيّا إذ أنّ الإيمان فعل قلبيّ بامتياز مجاله الباطن ثُمّ ينعكس في أفعال الفرد وسلوكاته في العالم الخارجيّ، وكذلك تعلُّق المرء بالمال وهو المُعبّر عنه في الآية على ” وآتى المال على حبّه” أي رغم الحبّ الشّديد للمال والتمنّع عن التّفويت فيه والتعلّل بصعوبة التّحصيل وضيق الحال، وأنّ جمعه يتطلّب جهدا وعناءً. معنى ذلك الارتباط ألّا يُخالط الإيمان شُعورا آخر قد يُفسده فلا يجعل منه خالصا. ولم يتوقّف حديث الإسلام عن التطرّق إلى مسألة المال عند حياة الفرد بل مرّ ليتطرّق إلى المال ومآله بعد وفاة المالك وهو ما يُعرف بمسألة المواريث. وفي هذه المسألة تتقلّص حسب كثيرين، خاصّة الأصوليّين، درجة الحريّة باعتبار أنّ صيغة التّوريث ومنوالها ثابتان بالنصّ لا يجب النّظر فيها وكلّ زيادة أو تأويل للآيات المُحكمة يُعدّ خرقا للنصّ وخُروجا عن الدّين وتأويلا يُراد به باطل. أي أنّ مسألة المواريث في هذا السّياق ليست مجالاً للحديث لا عن الحريّة الفرديّة أو الجماعيّة. لكنّ السّؤال الّذي يُطرح:

كيف يُعدّ المال على امتداد السّياقات الأُخرى شأنا بشريّا ومجالا لتطبيق الحريّة ومُمارستها وحتّى تدخّل الدّين ليس هدفه المال بل الإنسان صاحب المال في حين يُعدّ في سياق المواريث شأنا إلهيّا لا دخل للبشر فيه رغم أنّ موضوعه ومجاله الإنسان وخريطة العلاقات الاجتماعيّة الّتي رسمها على امتداد حياته؟

لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال اعتبار مال المواريث والمال عامّة بعيدين عن الحريّة في التصرّف. وذلك لأسباب عديدة:

* أولا: النصّ كلّه مُتكامل ولا يجب أن يحمل تناقضات فيه وتناقضات في قراءة الرّائي للنصّ.

*ثانيا: لم ترتبط الغاية بالمال في الآيات الّتي ذُكِر فيها المال بل بالإنسان.

*ثالثا: الفرق بين القراءة في النصّ مُباشرة والقراءة عن النصّ.

*رابعا: مسألة القسمة والأنصبة الّتي تظهر في النصّ على أنّها مُحدَّدة ليست حاملة لغاية في نفسها.

*خامسا: التدخّل الفقهيّ أوجد علم المواريث وحاول إخفاء مجموعة من التّناقضات الحسابيّة في توزيع المواريث واعتبار المواريث من علوم الفرائض وقد نبّه إلى هذه المسألة ابن خلدون (ت 808 هــ / 1406م) إذ يقول: “احتجّ أهل الفرائض بناء على أنّ المُراد بالفرائض فروض الوراثة. والّذي يُظهر أنّ هذا المحمل بعيد، وأنّ المُراد بالفرائض إنّما هي الفرائض التكليفيّة في العبادات والعادات والمواريث وغيرها، وبهذا المعنى يصحّ فيها النّصفيّة والثّلثيّة. وأمّا فروض الوراثة فهي أقلّ من ذلك كلّه بالنّسبة إلى علم الشّريعة كلّها. ويُعين هذا المُراد أن حمل لفظ الفرائض على هذا الفنّ المخصوص، أو تخصيصه بفنون الوراثة، إنّما هو اصطلاح ناشئ للفقهاء عند حدوث الفنون والاصطلاحات، ولم يكن صدر الإسلام يُطلق على هذا إلّا على عمومه مُشتقّا من الفرض الّذي هو لغة التّقدير أو القطع. وما كان المُراد به في إطلاقه إلّا جميع الفروض كما قلنا، وهي حقيقته الشرعيّة. فلا ينبغي أن يُحمَل إلّا على ما كان يُحمل في عصرهم، فهو أَليَقُ من بمرادهم منه”[25]. والغاية من قوله إبراز مدى عمق التدخّل الفقهيّ في قضيّة المواريث.

على هذا الأساس تُحاول هذه الورقة البحثيّة انتزاع مسألة المواريث من سياقها الفقهيّ، إذ ليست الغاية بيان الأنصبة والتّقنيات المُعتمدة في التّوريث والشّروط اللّازمة لذلك، بل الغاية بيان ارتباط المواريث بالشّأن البشريّ دون سواه وأن أوهمت مجموعة من القراءات أنّها من الأمور الإلهيّة. ثمّ إنّ فكّ الارتباط هذا هدفه النّظر إلى المواريث في سياق الجدل حول الحريّات والتّنوير ومدى تخزين الإسلام في نُصوصه لشروط العمليّة التنويريّة. وبالفعل مثّلت المواريث مدار جدل واسع حول الحريّات بعد تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمُساواة الصّادر عن رئاسة الجمهوريّة التّونسيّة (تونس جوان2018) لكنّ هذا الجدل لم يصل إلى تقديم تصوّر نظريّ يجعل من تونس في نظامها التّشريعي تتّخذ منحى تنويريّا بل كان مُجرّد سجال وحجّة بحجّة. فكيف تكون قضيّة المواريث مثالا واضحا عن تضمّن الإسلام للحريّة الفرديّة وبالتّالي لمجموعة الشّروط المُمكنة للحديث عن التّنوير؟

لم يرتبط المال في الإسلام إلّا بالإنسان تحديداً الفرد بوصفه حالة خاصّة من العقل والقرار والشّعور والإرادة، ذلك أنّ المال مِلك خاصّ يختلف في القيمة والمقادير وأسلوب التّحصيل من فرد إلى آخر. أمّا الإسلام فتدخّل لتحسين طريقة الكسب وللحدّ من أسباب التّحصيل الّتي لا تتوافق مع نظام المُجتمع الإسلاميّ ونظام العلاقات التي تسيّره. والأمر نفسه في المواريث ذلك أنّ الإسلام ربط المال الموروث بالإنسان، وفي هذا الرّبط أظهر مجموعة من الشّروط الّتي ليس المُراد من تحقيقها وتنفيذها كي تتمّ عمليّة توريث المال بقدر ما كان الإنسان. وهذا يتقاطع مع فكرة أنّ الهدف من الوحي هو الإنسان، فلو كان الهدف من الوحي ما هو إلهيّ لاُنتفت كلّ المُسوّغات العقليّة الّتي تُوجب الوحي وتوجب الرّسالة والتّبليغ. فلِمَ يحتاج الله إلى بيان دينه لغاية الدين في حدّ ذاته والحال أن هذا الدين مكتمل بيّن عنده؟

إذا تمّ التّسليم بأنّ الهدف هو الدّين فذلك يعني اعتباطيّة فعل الاستخلاف وفعل النبوّة، لكنّ الأدلّة من القرآن تُؤكّد أنّ الهدف الأوّل من الوحي وما جاء به وبالمِحمل الّذي يُلخّص الدّعوة وهو القرآن في هذه الحالة هو الإنسان. ولقد مثّلت مسألة غائيّة الوحي مجال بحث في الفكر الإنسانيّ لعلّ أبرزها ما خلص إليه شلايرماخر (1768-1834) Schleiermacher[26]. ولمّا كانت الحريّة أساسا من أُسس التّكليف وسمة تميّز الإنسان، وهي أعلق به، فإنّ الإسلام جعل لها مجالات للتحقّق وهذه المجالات هي الّتي يجب النّظر إليها اليوم بوصفها فضاءات للحديث عن التّنوير في الإسلام وجعله مُشاركا في النّقاشات الإنسانيّة الكُبرى وحَرِيّا بمواكبة رهانات الزمن. والحريّة تظهر بشكل أساسيّ في قضيّة المواريث تحديدا الحريّة الفرديّة. وقضيّة المواريث تختزل الشّروط النظريّة اللّازمة لكلّ عمليّة تنويريّة أساسا: الذّات والعقل والحريّة.

تُظهر مسألة المواريث في مختلف أبعادها من شروط التّوريث ومقاديره والمعنيّين به أنّ الحريّة الفرديّة تُعتبر جزءا مهمّا لنجاح عمليّة التّوريث بل إنّها شرطها الأساسيّ. ولعلّ أبرز ما يشدّ انتباه المُطّلع على هذه القضيّة، آلية الوصيّة بمعنى أن يُوصي الفرد بماله لأفراد آخرين من بعده وهو في ذلك حرّ وصاحب إرادة حتّى بعد وفاته وانتقاله إلى عالم الغيب. ولقد وردت الوصيّة في القرآن بوصفها عمليّة أساسيّة في التّوريث ودليلا على حريّة الفرد في قوله تعالى في مواضع مختلفة من سورة البقرة:

” كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ”[27] .

“فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”[28].

 فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”[29].

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “[30].

وهذه الآيات تُبيّن الوصيّة وشُروطها وليس الهدف من التّعرض إلى هذه الآيات إلّا بيان الارتباط الوثيق بين حريّة الذّات الّتي تُترجمها الوصيّة والمواريث الّتي تُعدّ أوضح مثال على سبيل التّقرير لا التضمين أو الاقتضاء على أنّ الحريّة الفرديّة حاضرة في الإسلام وعلى أنّها فضاء لتحقّق شُروط التّنوير واجتماعها. لكنّ وضعيّة الوصيّة في الإسلام ليست ثابتة وهي محلّ جدل، إذ عُدَّت عند البعض أصلا في التّوريث مثلما ذهب إليه محمّد أركون في عبارة يجلوها قوله: “إنّ أهميّة هذه الآيات (الآية 180 و181 و182 و240 من سورة البقرة) تكمن في أنّها تعترف بشكل صريح بحقّ كلّ مؤمن ليس فقط في حريّة التّوريث لمن يشاء وإنّما بواجب التّوريث عن طريق ترك وصيّة بأملاكه للأبوين والأقارب والزّوجات أي لكلّ من لهم الحقّ في ورثته والّذين يستطيع توريثهم بإرادته الصّريحة أو حرمانهم من التّوريث ولكنّ المُشكلة هو أنّ الآيات قد أُبطلت أو نُسخت من قبل الآيتين 11 و12 من سورة النّساء ، بمعنى آخر فإنّ المُشرّعين من البشر قد سمحوا لأنفسهم بالتّلاعب بالآيات القرآنيّة من أجل تشكيل علم للمواريث يتناسب مع الإكراهات والقيود الاجتماعيّة الاقتصاديّة الخاصّة بالمجتمعات الّتي اشتغل فيها الفقهاء الأوائل، وهكذا يمكننا أن نتوصّل إلى الحقيقة التّالية وهي أنّ المصدر الأساسيّ للفقه ليس القرآن بقدر ما هو التّفسير، نقصد بذلك أنّ الفقهاء قد قرأوا القرآن وفسّروه بطريقة معيّنة واتّخذوا بعدئذ قراراتهم وقد استخدموا في تفسيرهم المعارف اللغويّة والإخباريّة السّائدة في عصرهم وكلّ هذه الأدبيّات تتطلّب اليوم مراجعة وإعادة قراءة على ضوء التّاريخ النّقديّ الحديث”[31]. وعند البعض الآخر عُدَّت الوصيّة المبدأ اللّاغي في التّوريث بسبب نسخ الآيات التي كانت تعتبرها عامل الحسم في مسار المال ومآلاته. فهل يعني ذلك زوال الحريّة من المواريث وانتقال المسألة من الشّأن الإنسانيّ إلى الشأن الإلهيّ الذي يُترجمه الفرض؟ 

لقد اعتبر الفقهاء أنّ آيات الوصية نُسِخت بالآيتين 11 و12 من سورة النّساء[32] حيث جاء على لسان ابن عبّاس (ت 68 هــ / 687 م): “كان المال للولد وكانت الوصيّة للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحبّ فجعل للذّكر مثل حظّ الأنثيين وجعل للأبوين لكلّ واحد منهما السّدس وجعل للمرأة الثّمن والرّبع وللزّوج الشّطر والرّبع”[33]. وليست آيات الوصيّة الوحيدة التي عُرفت على امتداد تاريخ تلقّي القرآن النّسخ وكثيرا ما عمل الفقهاء على تتبّع الآيات المنسوخة حتّى صارت المسألة أقرب إلى التّباهي من تحقيقها للهدف المرجوّ منها وأنّ شرط العالم لا يتحقّق إلّا بها إذ يقول أحمد بن حنبل (ت 241 هــ / 855 م): “من لم يعرف الصّحيح والسّقيم من الحديث والنّاسخ والمنسوخ من القرآن لم يكن عالما”[34]. وفي وجه من الوجوه بخصوص مسألة الوصيّة يعتبر البعض أنّها لم تُلغَ لكنّها غير مطلقة ووقع الإبقاء عليها لا بوصفها مجالا للاختيار وإنّما مجالا للجبر وتوجيه الرّأي، فهي لم تعد من نصيب المُنحدرين من نسل صاحب المال “عن أبي أمامة الباهليّ: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في خطبته عام حجّة الوداع: إنّ الله تبارك وتعالى قد أعطى لذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارث”[35] بل أُحيلت مضامينها إلى ذوي القُربى. وهنا يتزايد السّؤال عن مدى حظّ قضيّة المواريث من الحريّة ومدى ارتباط المال بالإنسان ومدى توفّر شروط التّنوير. ومن الطّبيعيّ أن يقع إبطال النّظر في الوصيّة بسبب النّسخ ولكنّ ذلك يدفع إلى أسئلة جوهريّة: ما هي دلائل النّسخ في آيات الوصيّة؟ وكيف يخرج القرآن عن النّهج الّذي وضعه لعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالعالم وعلاقة الإنسان باللّه؟ أليس التّكليف وتحميل المسؤوليّة دليلين على الحريّة والإرادة؟ ما قيمة المال في التّقدير الإلهيّ وهو الاختراع البشريّ والدّليل الواضح على الملكيّة؟ هل المال للبشر أم للّه؟

لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال نفي استمراريّة المقصد التّحرري من النصّ القرآنيّ لأنّه غالبٌ، وحتّى ضروب التّقييد لا تكون بهذا الشّكل أي نفي الوصيّة. والدّليل من داخل النصّ في سورة النّساء “من بعد وصيّة أو دين” وهذا يعني أنّ الوصيّة أداة فعّالة في التّوريث مازالت ذات قيمة في تقدير الأمور وتحويل مسارات التّوريث. ولمّا ارتبط المال بالسّياسة وبناء القوّة والتحوّل من مجرّد الملكيّة إلى الملوكيّة فإنّ الأداة هي علم شرعيّ يُبيّن قسمة المواريث ومآلات المال ويُخرج القضيّة من مدار الحريّات إلى مدار الفروض والعبادات الّتي تُطبّق في شكل مناويل مُعيّنة، معنى ذلك أنّ إخراج الوصيّة من التّوريث هو نفي للذّات والرّغبة والعقل والشّعور والإرادة والاختيار والاختلاف والحريّة. وهو ليس إلاّ من مُخرجات النّظام الفقهيّ الّذي عمل تحت غطاء السّياسة والدّولة وهو ما وضّحه محمّد أركون.

تُظهر مسألة المواريث في مختلف أبعادها من شروط التّوريث ومقاديره والمعنيّين به أنّ الحريّة الفرديّة تُعتبر جزءا مهمّا لنجاح عمليّة التّوريث بل إنّها شرطها الأساسيّ. ولعلّ أبرز ما يشدّ انتباه المُطّلع على هذه القضيّة، آلية الوصيّة بمعنى أن يُوصي الفرد بماله لأفراد آخرين من بعده وهو في ذلك حرّ وصاحب إرادة حتّى بعد وفاته وانتقاله إلى عالم الغيب.

ولسائل أن يسأل: كيف تكون الوصيّة من ضوابط التّوريث في حين تُوجد مقادير للمال المتروك تُوزّع على أقارب صاحب المال بعد وفاته وهي مفروضة؟ هل يعني ذلك أنّ الوصيّة لاغية ومنسوخة بآيات/ ملفوظات تُشاركها السّياق والمدى النصيّ لتوضيح اللَّبس بالارتباط؟ هل يعني ذلك في وجه من الأوجه تناقض النصّ داخليّا؟ هل يدعو ذلك إلى الحديث عن أنّ الحريّة الفرديّة لاغية في هذا الإطار المرجعيّ؟ والسّؤال الأهمّ كيف تُحافظ الوصيّة على منزلتها، والأقساط على منزلتها دون الإخلال بانسجام النصّ ودون الإخلال بحريّة الفرد المقصود بالنصّ والّذي يستغلّ النصّ نفسه لبناء فعل حضاريّ يستطيع الإجابة عن أسئلة الإنسانيّة الكُبرى كالتّنوير؟ 

ممّا لا شكّ فيه أنّ فرضيّة عموم الحريّة مع مراعاة التّقييد اللّازم لحفظ هامش حريّة الفرد الآخر الشّريك، موجود في القرآن ولا يُمكن إغفاله. وفي حالة المواريث لا تقتصر الحريّة الفرديّة من حيث درجة الحضور ونوعها على مسألة الوصيّة الّتي تلعب دور الآليّة، وهي تحتلّ درجة اللّسان النّاطق بمآلات المال وشروط التّفويض. وقد زعم الكثيرون أنّ الوصيّة حاضرة قائمة بذاتها وهي شرط أساسيّ في التّوريث بل هي في مرتبة الأصل المُؤدّي إلى تمام الفعل، في حين ذهب البعض الآخر إلى إنكار الوصيّة واعتبارها منسوخة، أي أنّ مداها الفعّال بَطُلَ بظهور آيات أخرى تحدّ منها ومن دورها بوصفها سلطة في القرار لصاحب المال ممّا جعل سلطة القرار تترك دائرة الفرديّ والإنسانيّ لتصبح من صميم الإرادة الإلهيّة وذلك يعني اختصاص الله بأمور المواريث. وهذا لا يُمكن أن يكون باعتبار أنّ المال على امتداد القرآن من شؤون البشر ويحتلّ موضعا مُهمّا، فهو عامل اختبار للإيمان الّذي يُعدّ شرط ممارسة الفعل الدّيني. وعلى هذا الأساس وكما حصل في سياقات الحديث عن المال كلّها إذ كان هذا المال شرطا في اختبار مدى الإيمان والتّقوى وكلّ ما هو محبوب فعله دينيّا، فإنّ مسألة المواريث بتضييقاتها وعلى أساس التّسليم بأنّ الوصيّة متروكة تعدّ من صميم الاختصاص البشريّ الخاضع للاختبار الإلهي.

يبرز التّضييق في حالة دحض فكرة استمراريّة الوصيّة في التّوريث من خلال تحديد أنصبة مُقدّرة لأهل صاحب المال.  ولا بدّ من تصحيح الفهم وذلك ببيان أسباب ورود هذه الأنصبة. إنّها ترتبط بمجموعة من الأفراد الّذين يُعبّرون عن مفهوم “الأسرة” أي بيت صاحب المال. فإلزام هذا الأخير بترك ماله لهم دون سواهم يتنزّل ضمن تصحيح نظام العلاقات الاجتماعيّة خاصّة وأنّ هذا النّظام في الجاهليّة كان مبنيّا على التّرحال والبداوة وعدم الاستقرار، وحتّى في المُدن لم تغب فكرة القبيلة بل هي نواة المجتمع وهي المدينة. ولقد وُظِّف المال في الحرب وفي انتزاع الحكم. فكان الرّجل يتزوّج بأكثر من طريقة ولأكثر من سبب وبأكثر من امرأة لتكوين نواة سيادة من خلال الذريّة مدعومة بالمال للتّسليح وجلب التّابعين وبسط النّفوذ. ونظرا لأنّ النّظام الاجتماعي راسخ من قبل ظهور الدّين ولا يتماشى معه لأنّ هذا النّظام نفسه يُشجّع على اغتصاب الحريّات أقرّ القرآن شكلا معياريّا للأسرة وحاول تشتيت المال كعامل قوة من خلال هذه الوحدات الدّنيا داخل ما يُعرَف بالأسرة. فالغاية ليست المال بقدر ما هي إرساء كون علائقيّ جديد لتثبيت الحريّة الفرديّة بعد أن كانت غائبة ولا أدلّ على ذلك من الإبقاء على قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” الجاهليّة[36] باعتبارها تخدم طرح الإصلاح الاجتماعيّ الجديد وتجعله مُمكنا والأساس في هذه القاعدة ليس المُساواة بما هي توزيع مُعيّن لمقدار معيّن بين الذّكر والأنثى على أساس القيمة العينيّة للمتروك بالتّساوي، بل الأساس هو الاعتراف بأنّ الأنثى/ المرأة صاحبة كيان حرّ وسلطة قرار وصاحبة عقل تستطيع التصرّف في المال وفي إدارته على الوجه الأكمل. وقد أثبتت الدّراسات الحاليّة تفوّق المرأة على الرّجل في المجال الاقتصادي والتصرف في المال. فالمُماثلة هي الأساس بمعنى المُساواة على أساس القيمة المعنويّة لكلّ طرف. وهذا يعني أنّ الحريّة الفرديّة حاضرة بامتياز وبجلاء وليست خفيّة، إذ يكفي البحث لغويّا في دلالات العبارة اللغويّة/ الأداة “مثل” للوصول إلى فكرة المُماثلة “مثل: كلمة تسوية. يُقال: هذا مثله ومَثله كما يقال شبهه وشبهه بمعنى، قال ابن بري: الفرق بين المماثلة والمساواة أنّ المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتّفقين ؛ لأنّ التّساوي هو التّكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص ، وأمّا المُماثلة فلا تكون إلّا في المتّفقين، تقول : نحوه كنحوه وفقهه كفقهه ولونه كلونه وطعمه كطعمه ، فإذا قيل : هو مثله على الإطلاق فمعناه أنّه يسدّ مسدّه”[37]. يكفي الاعتراف بالفرد موجودا حاملا لعقل وقادر على الاختيار ومتملّكا لزمام ذاته ويتحرّك ضمن مجال حيويّ هو الأسرة دائماً من فرد في أسرة الأب إلى فرد في أسرة الزّوج هذه هي الاستمراريّة الدّائمة للحضور ضمن النّظام الاجتماعيّ الجديد الّذي أقرّه القرآن. وقد يتبادر إلى الذّهن غياب المُساواة العينيّة بين الأفراد، ويُمكن تبرير ذلك بأنّ المُماثلة في قاعدة “للذكر مثل حظ الأنثيين” والتّأكيد على نمط مُعيّن من الانتظام الاجتماعيّ وهو الأسرة والّذي يظهر من خلال الأفراد الوارثين المذكورين في القرآن دليلان واضحان على الحريّة الفرديّة الّتي تبدأ بالاعتراف. ويُمكن تبرير ذلك بمسألة التّفاوت في الإنفاق ونظام توزيع الأدوار الّذي يتميّز بحضور أكثر للرّجل خارج بيت الأسرة. ويمكن تبرير ذلك أيضا من خلال أنّ الأنصبة ما دامت طريقا إلى الإصلاح هي خطوة أولى إلى التدرّج في التّمليك وفي هذا الإطار يمكن الاستئناس بتصوّر الطّاهر الحدّاد (1899-1935) الّذي يقول بأنّ نصيب المرأة من الميراث في القرآن هو نصيب “تدرّج به الإسلام حتّى لا يبلغ الكمال بالمرأة بسرعة خطرة”[38]. وعلى هذا الأساس يبدو أنّه لا فرق بين نسخ آيات الوصيّة والتدرّج في التّمليك ما دام كلاهما في سبيل الاعتراف بالفرد وبحريّته.

تُشير مسألة المواريث في الإسلام إلى أنّه يتوفّر على الشّروط التّأسيسيّة لمنوال تصوّريّ حول الحريّة الفرديّة الّتي يُعدّ بيان شروطها والتّفكير في إنشاء خطابٍ حولها ضربا من التّفكير في النّفس التنويريّ في الدّين. لا سيما وأنّ التّنوير ضربٌ من التّغيير الدّائم وطرح لنموذج اللّاقيد، لكنّ الإسلام عرف ضربين من الخطاب: الخطاب الأصليّ أي النصّ كما ورد وكما خلُص ليكون كُلاّ متكاملا في الشّكل والمضمون والضّرب الثّاني هو النصّ في قراءات المُفسّرين والفقهاء.  ولمّا كان النصّ لا يصل النّاس إلّا عن طريق نبيّ يُبلّغ، فإنّ الفقهاء استمدّوا سُلطتهم من الاقتران بالصّحابة الّذين هم في ارتباط مع النبيّ ممّا أعطى لأقوالهم مشروعيّة تفوق مشروعيّة النصّ الأصليّ المُحتاج للبيان والتّوضيح وهو ما صنع منظومة أحكام تسعى لصناعة الزّاهد أو ما يُسمّيه لويس دومون (1911-1998) Louis Dumont بــــ ” الفرد خارج العالم” الّذي يكتفي بذاته وينقطع عن العالم لأنّ أفكاره وأفعاله تقترن مُباشرة بالغيب والزّمانين الماضي والمستقبل. فالماضي يحمل أصالة الفعل الخالص لوجه الله والموعظة من قصص الأوّلين، والمُستقبل وجب أن يسير إلى المثاليّة المُطلقة والنّمط الواحد ضمن توسيع حدود المجموعة الّذين يخلقون نسقا مُعيّنا من التّفكير ويفرضونه على البقيّة. والمطلوب هو “فرد داخل العالم” سمته حريّة الأنا والاختلاف. وفي هذا الإطار يقول دومون: “يكفي الزّاهد نفسه بنفسه، ولا ينشغل إلّا بنفسه، يُشبه فكره فكر الفرد الحديث مع اختلاف جوهري مع ذلك: نحن نعيش في العالم الاجتماعيّ،وهو يعيش خارجه، لذلك أطلقت على الزّاهد الهنديّ “فردا خارج العالم” ونحن، بالمُقارنة، “أفراد داخل العالم”، أفراد دنيويّون في حين أنّه فرد خارج الدّنيا… ما هو جوهريّ بالنّسبة إلينا هو الهوّة الّتي تفصل الزّاهد عن العالم الاجتماعيّ والإنسان في العالم. إنّ طريق التحرّر مفتوحة فقط لكلّ من يترك العالم والابتعاد إزاء العالم الاجتماعيّ هو شرط التطوّر الرّوحي الفردي”[39]. ثمّ إنّ “الفرد خارج العالم” هو ليس الزّاهد الهنديّ فحسب، فالزّهد مقولة مُرتبطة بالأديان وضعيّة كانت أو سماويّة، هو الّذي يُواكب المُتغيّرات ويتحكّم في الواقع المُسند إليه بالتّكليف. فما فائدة الزّهد في ظلّ التّكليف؟ وأيّ معنى للنّمط الواحد الطّامح إلى العاصمة الّذي يقتل الاختلاف ولا يسمح بتطوير الذّات؟ وأين الفرد الواحد في مسألة الزّهد الّذي يُعدّ النّمط المحبّذ في النّظرة الفقهيّة للإنسان والعالم: ذلك الإنسان الّذي يجب أن يستغلّ فسحة الاجتهاد ويُصدّق بأنّ ما يُقدّمه القرآن والسنّة بيان للعبادات والأركان الكُبرى للدّين الّتي لا تتعارض مع جوهر التنوير؟

لقد بيّنت مسألة المواريث أنّ الحريّة حاضرة في القرآن والإسلام وهي مُرتبطة بالذّات الّتي تختار وتعقل وتحكم العقل في كلّ الأمور. وهو عقل مطلوب بمعنى الحالة الّتي تُدرك بالمسارات والتحوّلات، هذا ما يجعل من قضيّة المواريث مجال للتّفكير في التّنوير من داخل منحى تطبيقيّ إجرائيّ وليس نظريّا ويُمكن استغلال التصوّرات في مشاريع قوانين تُدخلها مؤسّسة الدّولة في سيرورتها وفي دورها، وتكون قابلة للتّنقيح ومحافظة على الطابع الآنيّ والزمانيّ في الاعتماد لا سيما وأنّها من صميم الاجتماع البشريّ، وتنطلق من الفرد واحدا وصولا إلى الفرد مُتعدّدا داخل محيطه الّذي فيه يعيش ويُفعّل ذاته.

خلاصة

– كشف البحث عن أنّ الإسلام قادر على استيعاب أسئلة جديدة وقضايا حديثة من منطلق السّمة التطوريّة للإنسانيّة الّتي تُوجب التّنوير بوصفه شرطا لمواصلة الخوض في العالم، لكنّ هذه القدرة مُكبّلة بمنظومة أحكام فقهيّة جاءت لتُفسّر وتُبيّن النصّ بحكم الحاجة إلى توضيح معالم الدّين.

–  الكثير من المفاهيم الكبرى الّتي قدّمتها فلسفة التّنوير تُوجد في القرآن، لكنّ الإشكاليّة تنبع من غياب الدوالّ وهذا من الأمور الطبيعية، ذلك أنّ القرآن بُنيَ على مُحاولات دائمة للقراءة من منطلق الحاجة للتّفسير.

– قضيّة المواريث مجال للتّفكير في التّنوير ذلك أنّها تتوفّر على الشّروط الأساسيّة للحديث عن الحريّة الفرديّة الّتي تُشكّل في سياق الجدل الحالي مسألة من مسائل التّنوير وفضاء نظريّا لتفاعل الشّروط العامّة له.

–  توفّر قضيّة المواريث جمعا بين البُعدين النّظري والتّطبيقيّ ممّا يسمح بتنزيل مُخرجات الفكر التّنويريّ في سياق الاجتماع البشريّ.

 الكثير من المفاهيم الكبرى الّتي قدّمتها فلسفة التّنوير تُوجد في القرآن، لكنّ الإشكاليّة تنبع من غياب الدوالّ وهذا من الأمور الطبيعية، ذلك أنّ القرآن بُنيَ على مُحاولات دائمة للقراءة من منطلق الحاجة للتّفسير.

قائمة المصادر والمراجع

  • النصّ التّأسيسيّ:
  • القرآن الكريم.
  • المصادر:
  • بن خلدون، عبد الرّحمان، المقدمة، ج2، تحقيق عبد الله محمود الدّرويش، سوريا، دار يعرب للدّراسات والنّشر، 2004.
  • بن عاشور، محمّد الطّاهر، التّحرير والتّنوير، ج2، ط1، تونس، الدّار التّونسيّة للنّشر، د.ت.
  • البغدادي، عبد القاهر، النّاسخ والمنسوخ، تحقيق حلمي كامل عبد الهادي، ط1، عمان، دار العدوي، 2008.
  • التّرمذي، أبو عيسى، سنن التّرمذي (الجامع الكبير)، ج3، تحقيق بشّار عوّاد، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1996.
  • الطّبري، محمّد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج7، تحقيق محمود محمّد شاكر، ط2، القاهرة، مكتبة ابن تيمية، د.ت.
  • النّاصري، أحمد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج9، ط1، الدّار البيضاء، دار الكتاب، 1956.
  • المراجع:
  • أركون، محمّد، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلاميّ، ترجمة هاشم صالح، ط1، بيروت، دار السّاقي، 1991.
  • إقبال، محمّد، تجديد الفكر الدّيني في الإسلام، ترجمة محمّد يوسف عدس، الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2011.
  • أوترام، رونيدا، التّنوير، ترجمة ماجد موريس إبراهيم، ط1، بيروت، دار الفارابي، 2008.
  • بن عاشور، محمّد الطّاهر، (1934)، أثر الدّعوة المُحمّديّة في الحريّة والمُساواة، مجلّة الهداية الإسلاميّة، المجلّد6، جزء 9-10.
  • حاج حمد، محمّد أبو القاسم، منهجيّة القرآن المعرفيّة: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، ط1، بيروت، دار الهادي، 2003.
  • الحدّاد،الطّاهر، امرأتنا في الشّريعة والمجتمع، تقديم محمّد الحدّاد، الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2010.
  • الخمسي، عبد اللّطيف، المسألة الدينيّة وفكرة الحداثة: جدل الفكر العقلاني والتّنوير السّياسي، مقال، ضمن مجلّة الأزمنة الحديثة، عدد6 و7، المغرب، 2013.
  • دومون، لويس، مقالات في الفردانيّة: منظور أنثروبولوجي للأيديولوجيّة الحديثة، ترجمة بدر الدّين عردوكي، ط1، بيروت، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، 2006.
  • الرّحماني، خالد سيف الله، الحريّة وتطبيقها في الفقه الإسلامي، ط1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2018.
  • شلايرماخر، فريديريش، عن الدّين: خطابات لمُحتقريه من المُثقّفين، ترجمة أسامة الشّحماني، ط1، بيروت، دار التّنوير للطباعة والنشر،
  • صالح، هاشم، الانسداد التّاريخي: لماذا فشل مشروع التّنوير في العالم العربيّ؟، ط1، بيروت، دار السّاقي، 2007.
  • الطّهطاوي، رفاعة رافع، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ط2، مصر، مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثّقافة، 2012.
  • العروي، عبد الله، مفهوم الحريّة، ط5، الدّار البيضاء، المركز الثّقافي العربي، 2012.
  • علي، جواد، المُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط1، ج5، بيروت، دار السّاقي، 2001.
  • ميل، جون ستيوارت، عن الحريّة، ترجمة هيثم كامل الزبيدي، ط1، د.ت.
  • النجّار، فهمي، الشّاعر والمُفكّر الإسلامي محمّد إقبال، ط1، الملكة العربيّة السعوديّة، العبيكان للنّشر، 2011.
  • المعاجم:
  • بن منظور، محمّد بن مكرم، لسان العرب، ج 14، بيروت، دار صادر، 1997.
  • عبد الباقي، محمّد فؤاد، المُعجم المُفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ط1، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصريّة، 1945.

 [1]دار مُؤخّرا في تونس جدل بعد صدور تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمُساواة بتكليف من رئاسة الجمهوريّة التّونسيّة (2018). لقد أعلن هذا التّقرير عن جملة من الإصلاحات في منظومة الحريّات ومن أعمّ القرارات المُساواة بين الجنسين في الميراث، عقب ذلك جملة من الرّدود الدينيّة الرّافضة لتغيير منظومة المواريث باعتبارها حدّا من حدود الله ونظرا لأنّ آيات المواريث قطعيّة الثّبوت والدّلالة لا يجوز تأويلها. ومن أبرز الرّدود ما صدر عن جامعة الزّيتونة في مناسبات مُختلفة: بيان 17 أوت 2017، بيان 28 أوت 2018، بيان 20 ديسمبر 2018.

[2] على سبيل المثال رحلة رفاعة رافع الطّهطاوي (1801-1873) إلى باريس الّتي نقل فيها جملة المُلاحظات عن صورة الغرب مُجسّمة في العاصمة الفرنسيّة وعادات أهلها ومجالات تفوّقهم. وفي رحلته هذه بقي الطّهطاوي مُنشدّا في نقده إلى الفضاء الّذي ينتمي إليه وإلى أبرز سماته وهي الإسلام وتعاليمه وأحكامه ممّا أثّر على مُلاحظاته ونسبة الموضوعيّة فيها فكانت انطباعيّة ذاتيّة تتعامل مع الآخر بمنطق الغنيمة والفائدة في أقصى تجليّاتها وقد صرّح بذلك في إطار عرض منهجه في التقصّي والنّقل ضمن مقدّمة كتابه “في تخليص الإبريز..” إذ يقول: “وقد أُشهد سبحانه وتعالى على ألّا أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحقّ، وأن أُفشي ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوائدها، على حسب ما يقتضيه الحال، ومن المعلوم أنّي لا أستحسن إلّا ما لم يُخالف نصّ الشّريعة المُحمديّة” (ص11) على هذا الأساس كان الطّهطاوي يسرد ما يراه مقبولا في الفضاء الّذي ينتمي إليه وما يُقرّه هذا الفضاء من تعاليم دينيّة لِيغيب عن كتابه المُلاحظة النّقديّة والمفاهيم الكبرى الّتي وفقها بُنيت الحضارة الغربيّة كالحريّة والعقل وتملّك أمور الذّات. فالعمل على أهميّته يُعدّ سردا لمظاهر وسلوكات الآخر الغربيّ وليس في هذا السّرد محاولة لبناء نفس من الأفكار المُتلقّاة عن الآخر إذ يقول الطّهطاوي في معرض نقد بعض العادات الفرنسيّة المُتعلّقة بصورة المرأة: “ومن خصالهم الرّديئة: قلّة عفاف كثير من نسائهم وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة بمثل المُصاحبة والملاعبة والمُسايرة… كيف والزّنا عندهم من العيوب والرّذائل لا من الذّنوب الأوائل فكأنّ نساءهنّ مصداق قول بعض الحُكماء: لا تغتر بامرأة ولا تثق بمال وإن كثر”.

يُنظرُ في: رفاعة رافع، الطّهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ط2، مصر، مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثّقافة، 2012، ص88.

[3] هاشم، صالح، الانسداد التّاريخي: لماذا فشل مشروع التّنوير في العالم العربيّ؟، ط1، بيروت، دار السّاقي، 2007، ص14-15.

 [4] عبد اللّطيف، الخمسي، المسألة الدينيّة وفكرة الحداثة: جدل الفكر العقلاني والتّنوير السّياسي، مقال، ضمن مجلّة الأزمنة الحديثة، عدد6 و7، المغرب، 2013، ص91-92.

[5] فهمي، النجّار، الشّاعر والمُفكّر الإسلامي محمّد إقبال، ط1، الملكة العربيّة السعوديّة، العبيكان للنّشر، 2001، ص212.

[6] محمّد، إقبال، تجديد الفكر الدّيني في الإسلام، ترجمة محمّد يوسف عدس، الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2011، ص10.

 [7]آل عمران، 3، الآية 110.

[8]  محمّد بن جرير، الطّبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج7، تحقيق محمود محمّد شاكر، ط2، القاهرة، مكتبة ابن تيمية، د.ت، ص101.

[9]  المصدر نفسه.

 [10]الرّوم، 30، الآية 22.

[11]  رونيدا، أوترام، التـــــــــــــّنــــــــــويــــــــــــــر، ترجمة ماجد موريس إبراهيم، ط1، بيروت، دار الفارابي، 2008، ص52.

[12]  عبد الله، العروي، مفهوم الحريّة، ط5، الدّار البيضاء، المركز الثّقافي العربي، 2012، ص 15.

[13]  محمّد الطّاهر، بن عاشور، أثر الدّعوة المُحمّديّة في الحريّة والمُساواة، مجلّة الهداية الإسلاميّة، المجلّد6، جزء 9-10، 1934، ص578.

[14]  خالد سيف الله، الرّحماني، الحريّة وتطبيقها في الفقه الإسلامي، ط1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2018، ص 89.

[15]  جون ستيوارت، ميل، عن الحريّة، ترجمة هيثم كامل الزبيدي، ط1، د.ت، ص 84-85.

[16]  رونيدا، أوترام، مرجع سابق، ص59.

[17]  أحمد، النّاصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج9، ط1، الدّار البيضاء، دار الكتاب، 1956، ص 114-115.

[18] يُعرّف محمّد أبو القاسم حاج حمد (1941 – 2004) أسلمة المعرفة بقوله: “أسلمة المعرفة تعني فكّ الارتباط بين الإنجاز العلميّ الحضاريّ البشريّ والإحالات الفلسفيّة الوضعيّة بأشكالها المختلفة، وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن ناظم منهجيّ ومعرفي دينيّ غير وضعيّ. فأسلمة المعرفة تعني أسلمة العلم التطبيقيّ والقواعد العلميّة أيضا وذلك بفهم التّماثل بين قوانين العلوم الطبيعيّة وقوانين الوجود المُركّبة على أساس القيم الدينيّة نفسها”.

يُنظر في: محمّد أبو القاسم، حاج حمد، منهجيّة القرآن المعرفيّة: أسلمة فلسفة العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، ط1، بيروت، دار الهادي، 2003، ص31.

[19]  الإسراء، 17، الآية 70.

[20]  النّحل، 16، الآية 125.

[21]  البقرة، 2، الآية 256.

[22]  الحجرات، 49، الآية 13.

[23]  تردّدت في القرآن الكريم عبارتي “مال” و”أموال” ستّا وثمانين مرّة حسب: محمّد فؤاد، عبد الباقي، المُعجم المُفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ط1، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصريّة، 1945، ص 682-683.

[24]  البقرة، 2، الآية 177.

[25]  بن خلدون، عبد الرّحمان، المقدمة، ج2، تحقيق عبد الله محمود الدّرويش، سوريا، دار يعرب للدّراسات والنّشر، 2004، ص 198.

[26] يُنظر في: فريديريش، شلايرماخر، عن الدّين: خطابات لمُحتقريه من المُثقّفين، ترجمة أسامة الشّحباني، ط1، بيروت، دار التّنوير للطباعة والنشر، 2017، ص 70.

[27]  البقرة، 2، الآية 180.

[28]  البقرة، 2، الآية 181.

[29]  البقرة، 2، الآية 182.

[30]  البقرة، 2، الآية 240.

[31]  محمّد، أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلاميّ، ترجمة هاشم صالح، ط1، بيروت، دار السّاقي، 1991، ص66-68.

[32]  قال تعالى : ” يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

[33]   محمّد الطّاهر، بن عاشور، التّحرير والتّنوير، ج2، ط1، تونس، الدّار التّونسيّة للنّشر، د.ت، ص 150.

[34]  عبد القاهر، البغدادي، النّاسخ والمنسوخ، تحقيق حلمي كامل عبد الهادي، ط1، عمان، دار العدوي، 2008، ص 34.

[35]  أبو عيسى، التّرمذي، سنن التّرمذي (الجامع الكبير)، ج3، تحقيق بشّار عوّاد، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1996، ص220-221.

[36]  يقول المُؤرّخ جواد علي (1907-1987): ” وفي فقه الجاهليّة أحكام كثيرة، وضعها مشرّعون مُحترمون عند قومهم، وجرت عندهم مجرى القوانين. وقد نصّ أهل الأخبار عليها، كما نصّوا على أسماء قائليها. وقد ذكروا بين تلك الأحكام أحكامًا أقرّها وثبّتها الإسلام. من ذلك حكم “ذي المجاسد اليشكري” وهو “عامر بن جشم بن غنم بن حبيب” في توريث البنات. فقد كانت العرب مصفّقة على توريث البنين دون البنات، فورّث ذو المجاسد، وهو الّذي قرّر أن للذّكر مثل حظ الأنثيين. وقد وافق حكمه حكم الإسلام”. (جواد، علي، المُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط1، ج5، بيروت، دار السّاقي، 2001، ص80(

[37]   محمّد بن مكرم، بن منظور،  لسان العرب، ج 14، بيروت، دار صادر، 1997، ص 18.

[38]  الطّاهر، الحدّاد، امرأتنا في الشّريعة والمجتمع، تقديم محمّد الحدّاد، الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2010، ص15.

[39]  لويس، دومون، مقالات في الفردانيّة: منظور أنثروبولوجي للأيديولوجيّة الحديثة، ترجمة بدر الدّين عردوكي، ط1، بيروت، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، 2006، ص42-43.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات