المقالاتفكر وفلسفة

الحبّ بين غصَّات القلوب والعطاءات اللامتناهية

تقديم:

منذ بداية فعل التفكير الإنساني كانت ثيمة الحب حاضرة بشكل جوهري في الإجابة على سؤال ما الغاية من الوجود وما الغاية من الخلق في الأصل؟

 ربما نجد أن الوجود الأول كانت غايته الحب، لذلك خلق الكون والموجودات ككل، وبالعودة إلى نصوص بوذا التي جمعها حواريوه، وإلى فلسفته الأخلاقية التي جاءت في قالب صوفي محض ضمن التصوف الفلسفي، كانت النيرفانا كمرحلة خلاص النفس الإنسانية من انفعالات وشهوات الجسد لا تتحقق في الأخير إلا بالحب، نجد كذلك في الفكر اليوناني أن مقولة الحب ظلت حاضرة في كتابات هيزيود حول آلهة الحب، والشيء نفسه نجده كذلك في شعر هوميورس، مرورا إلى اللحظة السقراطية التي توجت بمأدبة اجتمعت فيها شخصيات وازنة لمناقشة تيمة الحب دونها أفلاطون على شكل محاورة عنونها بالمأدبة. غير أن هذه الثيمة لم يستأنف الحديث حولها لحدود اللحظة، مع ما صرنا نسمع بالحب السائل أو في هشاشة الروابط العاطفية مع زيجموند باومان. كان الدافع من كتابة هذه الأسطر هو محاولة الخروج بأطروحة مفادها أن ثيمة الفعل لا يمكن الحسم فيها إيجابا أو سلبا، نظرا لحرباءتيها _ نسبة للتغير الذي تحدثه الحرباء لذاتها _ إنها ثيمة حركية لا سكونية، لذلك سيكون هذا المقال بلا خلاصة وبلا موقف، وبلا مخرجات ذاتية.

  • الحب كرمز وجوهر للعطاء:

أورد المتصوف الفلسفي أوشو في بداية صفحات كتابه ” التسامح”: أن العطاء هو إحساس نابع من عمق الذات”[1] مؤكدا أن الفعل هو انجذاب، إنه انجذاب لشخص معين، ومنه تصير النفس قادرة على الانجذاب لباقي الموجودات لا بدافع منفعة أو غاية ذات البعد الاقتصادي بل لأجل تحويل طاقة الحب من القوة كاستعداد مبثوث لدى الانسان إلى الفعل كتجلي لهذا الحب، يصير مصدر هذا العطاء اللامشروط والذي يخضع لأية شرائط وضغوطات، هو الحب، بل هو طاقة الحب عينها، هذه الطاقة قد تتحول إلى عطاء[2].

يمكن تحليل هذا الطرح داخل قالب الإنسانية، هذه النزعة التي لازمت طوال الفلسفة المعاصرة في إعادة رد الاعتبار للذات الإنسانية  بل من الانتقال من الانسان كمفهوم كلي يوجد فقط في الأذهان إلى هذا الفرد أو الشخص الذي يوجد في الأعيان، فموت الاله كفرضية نيتشوية قد تجعلنا أكثر حميمية مع ذواتنا أكثر من أي وقت مضى، أما استرجاع ذواتنا من مملكة السماء إلى مملكة الذات قد تكون سانحة لنا بالتخلص من الاغتراب الذي طرحه فيورباخ، لكن هذه العودة لا يمكن أن تكون بلا شرائط، هناك شرط وحيد أن نعانق ذواتنا وأرواحنا؛ هو شرط الحب l’amour الذي بإمكانه أن يكون منبعا صلبا للعطاء اللامتناهي. لكن ما الحب؟

نجد في محاورة المأدبة التي أفردها أفلاطون لتيمة الحب، أن الحب رب عظيم قادر، وهو موضع إعجاب الأرباب والناس[3] … إن الحب بزعم محاوري سقراط كان قبل غيره من الآلهة.

إن الحب هو من جعل الآلهة تدخل آخيل[4] دار النعيم جزاء لشجاعته وإخلاصه في صداقته، ولأجل هذا يمكن أن يصير الحب أقدم فعل وجودي كان في الوجود، إنه أقدم الأرباب كما أشرنا، “بل هو أفضلهم وأقدرهم على منح الفضيلة والسعادة لبني الإنسان، أحيانا وأمواتا”[5] .

وفي سياق ربوبية الحب وتأليهه في الفكر الاغريقي، يكون الحب هو أحق الأرباب بالعبادة، إنه بهذا يكون ذي صفة الصدق، فهو أصدق الأرباب للبشر، أن هذا الحب هو قوة، طاقة روحية -مونادا- بتعبير ليبنتز، لكن هذه الطاقة تتحرر بشكل مستمر، تفيض بنورها وشراراتها لتلمس باقي الموجودات الجزئية، إنها تلمس الإنسان كعالم صغير، فيتحول بدوره إلى كائن معطاء. عطاء بلا شرط، عطاء كوني وكلي لا جزئي، هذا العطار يتساوق وطبيعة الحب اللامتناهي، أقصد لا تناهي الحب داخل النسق الفلسفي اليوناني طبعا.

كان لبرتراند راسل حوار مع واضع سؤال وجه إليه: ” لماذا اخترت الجحيم؟”، هذا السؤال جاء بعدما كان راسل قد صرح فيما مضى أنه فعلا يود اختيار الجحيم على النعيم إن كانا طبعا، فهذه الفكرة تبقى فقط مجرد فرضية ز جاء رد راسل على الشاكلة التالية : ” لأتجنب رؤية القديسين، ولا شك فالنعيم سيكون مملوء بمثل هذه الأجساد العثة وبالقديسين الأغبياء… أو أتخيل نفسي محاطا إلى الابد، بتلك الأجساد التي ما عرفت الحب يوما، التي ما عرفت معنى الصداقة”[6]

تبقى هذه النماذج أعلاه النظرة الخيرة والسليمة لفعل الحب ولقوته اللامتناهية، بل لقدرته على جعل المستحل ممكنا، فهو إله أشرف وأصدق، إنه هو الاجدر كي يعبد. إن الحب هو مصدر العطاء الوحيد، بلا عطاء بدون توفر هذا الفعل المحض عند أوشو، بل إن راسل اختار الجحيم لأجل ملاقاة من يؤمنون بالحب، رفض القديسين لأن مقولة الحب لا تدخل في تصانيفهم. لكن لماذا تم الهجوم على الأطروحة في الفلسفة العدمية بشدة، سنقدم طرح الفيلسوف الألماني نيتشه الذي لم يسلم الحب من ضربة قاضية بمطرقته.

  • الحب كدرس أول في مؤسسة الأنانية:

ما يصادفنا في قراءة المتن النيتشوي هو أن صياغته الفلسفية لتيمة الحب جاءت عنيفة، لحد لا يطاق، ربما لكون هذا الطرح كان كردة فعل على تجربة نيتشه الفاشلة مع لوي سالومي، فهذا الحب الذي علق به نيتشه لم يكن سوى حب أحادي _حب من طرف واحد فقط_.

إنه بهذا قام بتقويض كل نظرة مثالية سامية للحب، غنه مجرد شكل من أشكال الدوافع النفسية الوضيعة، إنه الضعف عينه، ما يجعل الإنسان يحاول التقرب لهكذا فعل شريف، ليس هو سموه، بل ضعف الانسان نفسه، إنه الخوف من الضياع الفردي، إنه محاولة لمشاركة القلق الوجودي مع الاخر،

يورد نيتشه بشكل مقتضب عنوانا لهذه التيمة، في كتابه العلم المرح، عنوان من خلال مفاهيمه يتضح للقارئ أنه قد شيء هذا المسمى حبا، جاء في الفصل 14 من الكتاب عنوان:” أشياء يسميها الناس حبا” نجد أن المطرقة قد تحدت كل المفاهيم الرومانسية المجاورة المثيرة للحب بل تم تقويضها بما  هي أعراض لهذا الحب، الذي هو في أخر المطاف يبقى مجرد شيئا عنده.

إن الحب عنده ما هو إلا الأنانية في أكثر صورها السذاجة. يقول نيتشه:” جشع وحب: أية أحاسيس، متضاربة، لا توحي إلينا بها كل من هاتين اللفظتين ومع ذلك يمكن أن تكون نفس النزوة، وقد سمّيت مُضَاعَفَةٌ، تارة بشكل كاذب من وجهة نظر الشباع، حيث عرفت هذه النزوة لديهم بعض الارتواء سابقا، وحيث يخشون في المستقبل عما يملكون، وطورا من وجهة نظر غير الراضين العطشى، حيث يعظمون النزوة، باعتبارها مفيدة. أليس حبنا للقريب نزوة لاكتساب ملكية جديدة؟”[7]

يقر صاحبنا أن غريزة الامتلاك وحب الاستحواذ الذي يكون الإنسان مفطور عليه بالجبلة هو من يقودنا لهذا الفعل، إنه عبارة قوة غريزية ناتجة عن احتياجنا البيولوجي والثقافي لا غير.

إننا نخلص من هذا القول القاتم، إلى أنه لا عطاء عند نيتشه، لا سمو للحب عند الرجل، بل إن الخسة والدنو هو ما يحيط به.

  • فكرة الحب العقلي: في معرفة الذهن لله :

يعترف سبينوزا بأن كل َمن يخلطون بني الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية عاجزون عن بلوغ هذه المرتبة من الفهم. فهو يتحدث هنا، في موضع واحد، عن ضرورة النظر إلى الله بمعزل عن صفات البشر، وفي الوقت ذاته عن كون الحب الإلهي أنفس ما لدى البشر.

ويتجلى السعي وراء هذا الحب المتميز في معرفة الذهن لله، وعلاقة الذهن البشري بالذهن الإلهي. ومن أقرب النصوص إلى إيضاح معنى التعبير «معرفة الذهن لله» عند اسپينوزا، النص الآتي: “إن كمال الذهن ليس إلا معرفة الله وصفاته والأفعال التي تتلو من ضرورة طبيعته”.

وهكذا يتحدث اسبينوزا في أول النص عن معرفة العقل لله، أي إن المقصود بمعرفة الذهن لله هنا هو معرفة كل ما يستطيع الذهن أن يصل إليه عن النظام الضروري للطبيعة، وضمنها معرفته لنفسه. أما العلاقة بين الذهن البشري والعقل الإلهي فيوضحها قول اسپينوزا: «… إن الذهن َّ البشري جزء من العقل الإلهي اللامتناهي؛ وعلى ذلك فعندما نقول: إن الذهن البشري ٍ يدرك هذا الشيء أو ذاك، فإنا نؤكد بذلك أن الله لديه هذه الفكرة أو تلك، لا بما هو متناه، ِّ بل بما هو يتبدى من خلال طبيعة الذهن البشري، أو من حيث هو يكون ماهية الذهن البشري …».وبعبارة أخرى: فعندما يفكر الإنسان، فمن الممكن القول أيضا إن الذي يفكر هو الله، من حيث إنه يتمثل من خلال الذهن البشري، وبذلك لا يكون الفكر الإلهي إلا صفة الفكر التي هي موجودة بالفعل في النظام الضروري للأشياء،، وبذلك لا تكون العلاقة بين الذهن البشري والعقل الإلهي علاقة بين حقيقتين. أما إذا فهمت عبارة «التفكري الإلهي» بالمعنى المألوف المغاير لهذا؛ أي بمعنى وجود كائن مشخص يفكر بالفعل، فإن ذاك يكون ولا شك ً تشبيه بالإنسان على نحو يأبها تفكري اسپينوزا في اتجاهه الحقيقي، ولا جدال في أن هذا نفور لسبينوزا من كل تشبيه للآلهة بالبشر أما إذا فهمت عبارة «الله يفكر» على أنها تعبير عن صفة الفكر الشاملة الموجودة في الكون، لقد وصف اسپينوزا الحب الإلهي «بأنه حب عقلي لله intellectualise Dei Amor «. ولفظ العقلي له هنا أهمية أساسية، وإن كان كثريًا ما يُغفل. فمن الممكن القول بوجه عام إن تعبري الحب العقلي فيه نوع من التناقض في الألفاظ؛ لأن الحب بمعناه المألوف انفعالي، ولأن العقل، بمعناه الدقيق، يمارس فاعليته في المعرفة لا في الحب؛ وعلى ذلك فالتعبير وحده كفيل بأن ينقلنا إلى مجال جديد كل الجدة، مغاير للمجال المألوف الذي ُ يتحدث فيه الناس عن الحب. ومن المؤكد، كما قلنا من قبل، أن تعبير “الحب الإلهي لو فُهم بأي معنى صوفي أو انفعالي لكان فيه تشبيه الله بالإنسان على النحو الذي لا يكف اسپينوزا عن تحذيرنا منه. ولكي يؤكد اسپينوزا هذه التفرقة قال: “ليس لله انفعالات، كما أنه لا يتأثر بعواطف اللذة ولا الألم قط.” والنتيجة الهامة التي يستخلصها من هذه القضية هي: “إذا شئنا الدقة؛ فالواجب أن نقول: إن ً الله لا يحب ولا يكره أحدا.” ولكنه في القضية 18 من الباب الخامس يقول: “لا أحد يمكنه أن يكره الله[8]. ثم يقول في القضية التي تليها أي القضية 19 من الباب الخامس “من يحب الله لا يسعى إلى أن يبادله الله الحب. ففي القضية الأولى يؤكد اسبينوزا استحالة انطباق الحب، بالمعنى الانفعالي، على الله.  وإذا كان سيعود فيما بعد فيتحدث عن نوع من الحب الإلهي للإنسان، فإن هذا الحب ينبغي أن يُفهم بمعنًى غير المعنى الانفعالي الذي يتحدث عنه في هذه القضية. ومع ذلك فهو في هذه المجموعة من النصوص يجعل علاقة الحب بين الله والإنسان ” تماثلية”، اسپينوزا ً فيقول إنه إذا كان الله، بالمعنى الدقيق، لا يحب أحدا ولا يكرهه، فمن الواجب أن يظل ً حب الإنسان لله قائما، حتى مع استحالة كونه متبادلا.

وبهذا يكون الحب حسب بيندكت سبينوزا هو الحب الذي يكرسه الانسان باعتباره حالا متناهيا تجاه الله الجوهر اللامتناهي، إنه حب أحادي، غير متبادل، وهو واجب، ويكون الإنسان فيه ملزما على أن يجعل حبه هذا قائما، وليس حبا ناتج عن انفعالات، إنه حب فعال وبذلك يكون هذا هو الحب الحق.

 خاتمة :

رغم ما يقال في موضوعة الحب وما يصاغ من قصص مأساوية وتراجيدية، ومن قصص توجت بنهايات مميتة لا يقدر العدو أن يفعلها، تبقى الأقوال حولها مجد رؤى ومواقف لا برهان فيها، كونها _أي مقولة الحب_ لا تخضع لأي منطق، إنها عبارة عن شعور مستبطن داخل كل إنسان.

أختم هذا القول بمقطع لجبران في الأجنحة المتكسرة عبر فيه عن حب صباه الأزلي، الذي لم ينساه البتة لحبيبته الأولى سلمى، يقول فيه ما يلي: ” واليوم، وقد مرت الأعوام المظلمة طامسة بأقدامها رسوم تلك الأيام، لم يبق لي من ذلك الحلم الجميل سوى تذكارات موجعة ترفرف كالأجنحة غير المنظورة حول رأسي مثيرة تنهدات الأسى في أعماق صدري، مستقطرة دموع اليأس والأسف من أجفاني. وسلمى؛ سلمى الجميلة العذبة قد ذهبت إلى ما وراء الشفق الأزرق، ولم يبق من آثارها في هذا العالم سوى غصات أليمة في قلبي، وقبر رخامي منتصب في ظلال أشجار السرو. فذلك القبر وهذا القلب هما كل ما بقي ليحدث الوجود عن سلمى كرامة… أما غضات هذا القلب وأوجاعه فهي التي تتكلم وهي التي تنسكب الآن مع قطرات الحبر السوداء معلنة للنور أشباح تلك المأساة التي مثلها الحب والجمال والموت.

فيا أصدقاء شبيبتي المنتشرين في بيروت إذا مررتم بتلك المقبرة القريبة من غابة الصنوبر فادخلوها صامتين، وسيروا ببطء كيلا تزعج أقدامكم رفات الراقدين تحت أطباق الثرى، وقفوا متهيبين بجانب قبر سلمى وحيوا عني التراب الذي ضم جثمانها. ثم اذكروني بتنهدة قائلين في نفوسكم: ههنا دفنت آمال ذلك الفتى الذي نفته صروف الدهر إلى ما وراء البحار”[9]


[1] أوشو، التسامح، ص 13.

[2] مرجع سابق، ص 13.

[3] أفلاطون، محاورة المأدبة، مؤسسة هنداوي، ص110.

[4] آخيل أو آخيليس هو أحد الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا الإغريقية.

[5] مرجع سابق، ص 112

[6] أوشو، التسامح، ص 14.

[7]  نيتشه، العلم المرح، ترجمة وتقديم حسان بورقية – محمد الناجي، افريقيا الشرق، ص 62.

[8] باروخ اسبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، ص 313

[9] جبران خليل جبران، الأجنحة المتكسرة، مؤسسة هنداوي، ص 10.
_________
*البوبكري نور الدين: طالب بسلك الماستر- الفلسفة – كلية الآداب ضهر المهراز- فاس. المغرب.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات