الثقافة والإعلام المرئي.. رؤية مقاربة
نجاح كاظم
الحالة الأولى
كنت أتابع في سبتمبر 2012 حلقات مسلسل “تاريخ العالم” الست على شاشة تلفزيون “بي بي سي” البريطاني، ورغم إلمامي بالموضوع، إلا أن البرنامج قدم معلومات مثيرة ومفاهيم مدهشة، ناهيك عن الجديد في طريقة عرض الأحداث وأسلوب الإخراج، ليطرح البرنامج في نهاية المطاف للمتلقي أفكاراً جديدة لقراءة معاصرة للتاريخ.
الحالة الثانية
لم ارَ في زيارتي الأخيرة للعراق، خلال تجوالي في شارع السعدون ببغداد أي دار سينما أو مسرح إلا المسرح القومي كبناية قائمة من دون فاعلية تذكر، كما علمت فيما بعد. هذا الشارع على ما أتذكره في صباي كان مليئاً بدور العرض السينمائية. وفي حديثي مع عدد من الشباب في بلد عربي آخر، اعتبر الفن أو الأدب مسألة ترف لا تقدّم شيئاً للحالة الروحانية، وتساءل أحدهم: ما هي أهمية الثقافة حتى نهتم بها؟ وعند سؤالهم عن أهمية المؤسسات الثقافية جاء الجواب صاعقاً: ماذا تعني بالمؤسسات الثقافية؟ وكنت أعني مراكز الفنون المتنوعة ودور النشر والمسارح والمتاحف والغاليريهات وغيرها، كما اراها في بلدانٍ أخرى.
تعكس الحالة الثانية التصحر الكامل في المنظومة الثقافية في بلادنا، بل إن هناك أمية معرفية وخواء ثقافي. ولعل من يفكر ببعد واحد مدعيا امتلاكه “الشرعية الدينية” لا يؤمن بشيء اسمه ثقافة، وإن آمنوا بذلك فجوابهم المعمم والمختزل لكل فعاليات الإبداع بـ”حرام” … هنا ينتهي الموضوع. ولا يجوز النقاش فيه.
إنساننا من دون إبداع أو معرفة او ثقافة عامة يصبح غائباً عن حياة الفعل ورقماً من الأرقام الجامدة، وتتجسد هذه الحالة الفقيرة في جانب آخر من الأدلجة الثقافية التي تمارسها الأنظمة الاستبدادية، وكلنا نأمل تغيير تلك الصفحة مع الربيع العربي وألا تستبدل الأنظمة السابقة بهويات طائفية.
وينعكس الفقر الثقافي في بلداننا جلياً على حالة الإعلام المرئي، حيث يتوجّب على الإعلام أن يكون متقدّماً بخطوة واحدة على الأقل عن المجتمع ويكشف الأمور السلبية وطريقة معالجتها حتى تكون أداة توضيح تكون قادرة على توعية المشاهدين بأمور كثيرة. وحققت الفضائيات العربية قدراً لا بأس به من الإيجابيات حيث قربت، عملياً، بين الأنحاء المتناثرة في العالم العربي وسوء الفهم الناجم في الماضي بسبب اختلاف اللغات واللهجات، واخترقت، بشكل معقول، حاجز ما يسمى بالرقابة الرسمية، لكنها سرعان ما تحولت إلى وسيلة مفضوحة للتحريض وتأجيج الفتن وشحن المشاهدين بالطائفية والمذهبية ورفع شعار “حي على الجهاد” فيما تغض النظر في الوقت ذاته عن موبقات وإجرام وطائفية أنظمة أخرى، لتكمل خريطة أمّة ذات منظومة مشتتة متشرذمة وقبلية وصحراوية متوغلة في التثقيف والمعرفة.
لم تتمكن الأقنية التلفزيونية العربية من عكس وتقييم الإبداع، حتى في أبسط صوره، كما هو الحال في أقنية تلفزيونية على مدار المعمورة، أقنية تضع المتلقي في صدارة أولوياتها، فالأقنية العربية لم تعكس حتى الثقافة الهامشية منها، لذا ظل المتلقي العربي بعيداً تماماً عن أي مشهد ثقافي، الأمر الذي أدى بالتالي إلى انحسار اهتمام الغالبية العظمى من العرب بالثقافة مهما كان نوعها.
منظومتنا الإعلامية غير قائمة على مقومات أساسية.. أي بنية المجتمع ومؤسساته، وتطور العلوم ومعارفها، كذلك دور العقل وإفرازاته وأهمية مراكز “الثنك تانك” في الثقافة والإعلام، لرفد الثقافة عموما وقنوات الإعلام المرئي خصوصاً بالإبداع المطلوب، والارتقاء به إلى درجة سامية كتوظيف عملي للآية القرآنية: الله بديع السماوات والأرض” وليست قائمة على قول البشر “كل بدعة ضلالة”. فعمل قناة دسكفري على سبيل المثال بالتعاون مع المؤسسات العلمية لإنتاج برامجها العلمية، وبرامج عالم الحيوان بالتنسيق مع المتخصصين في هذا المجال.
وفي عصر التكنولوجيا والمعلومات هناك دور هائل لقنوات الإعلام المرئي مع الميديا الاجتماعية، ما يقودني إلى الحالة الأولى، فبرنامج “تاريخ العالم” كان إنتاجاً بالتعاون بين تلفزيون “بي بي سي” والجامعة المفتوحة في طرح رؤى ومقاربة جديدة، بل فاعلة ومتناغمة مع عصر اليوم لموضوع التاريخ.