“نظامنا التعليمي أشبه بسترة كبيرة قديمة مريحة رثة». لقد طال أَمَدها، وتبدو غير قابلة للتدمير، لكنْ عندما تسحب منها خيطًا سائبًا، تبدأ السّترة بالكامل في الانحلال أنكاثًا” ديفيد شيفر (David Scheffer).
1- مقدمة
لم يكن التّعليم الإلكتروني طفرة عابرة فرضتها ظروف الأزمة التّاجيّة الخانقة، ولم يكن صرخة عابرة في ظلمة ليل ساكن. فالتّعليم الإلكتروني يعبّر عن تطوّر ذرويّ لمعطيات الثورة الصناعيّة الرابعة الجبّارة التي تجتاح معالم الحضارة الإنسانية المعاصرة. فمنذ زمن بعيد كان التّعليم الإلكتروني يتجذّر وينمو ويزدهر في عمق المؤسسات العلمية والمدرسيّة، وقد تجلّى تطوّره الحقيقيّ في نشوء الجامعات الإلكترونية والافتراضية، وفرض نفسه بقوة متجسّدا في المقرّرات الجامعية والمدرسيّة بصورة عامّة، وفق أصول ومناهج وفلسفات تربوية ضاربة الجذور. وقد تشكّل هذا التعليم في أقسام وفروع ومقرّرات جامعية مهيبة، وذلك في أروقة الجامعات والمدارس في مختلف أنحاء العالم. وكانت الجامعات تنحو إلى تعميم هذا التعليم الخلاق وتتّخذه علامة على درجة تطوّرها وتقدّمها، فانتقل التعليم داخل القاعات من السّبورة السوداء إلى السبورة الإلكترونية البيضاء، وأصبح استخدام الإنترنت ووسائل التّواصل الاجتماعي والهواتف اللّوحية المحمولة والمواقع الشخصية والتعليميّة جزءا لا يتجزّأ من الثقافة التربوية والتّعليمية في المدارس والمؤسّسات الجامعية. واعتدنا منذ فترة على مشاهدة أساتذة الجامعة والمعلّمين وهم يحملون الحواسيب جيئة وذهابا، ويستخدمونها في المحاضرات بشغف واهتمام وفعالية. ويدلّ هذا كلّه على أن التعليم الإلكتروني لم يكن صرخة عابرة في واد أصمّ، بل بات جزءاً صميمياً في مناهجنا وأسلوب حياتنا العلمية وعملنا الأكاديميّ، ويتجلّى تارة في حلّة إدارية مثل أقسام التعليم الإلكتروني في الجامعات والوزارات والمدارس، وتارة في حلّة علمية بوصفه مقرّرا يدرّس في الجامعات ويعمّم على الطلاب الذي كانوا وما زالوا، يطالبون دائما باستخدام أدوات هذا التّعليم في حياتهم العلمية والمعرفية.
ولو لم يكن الأمر على هذا النحو لما استطاع المجتمع الإنسانيّ أن يواجه أزمة الإغلاق المدرسيّ بهذا الزّخم الحضاري الذي انتقل بالمجتمع التربوي مباشرة إلى التعليم عن بعد، ولكان المجتمع التربوي يغطّ في سبات شتويّ عميق، حيث لا ضوء فيه ولا استنارة تومضها الشّاشات، ولا تواصل عبر الأثير ينبض بالحياة.
وما نريد قوله في هذا السّياق، هو أنّ المجتمع الإنساني كان على استعداد كبير لمواجهة هذا الإغلاق الرهيب، وكان على موعد مع هذه التّجربة النادرة في تاريخ التعليم في المجتمع الإنساني. فالعالم الذي نعيش فيه قبل كورونا كان قد استحضر نفسه وهيأ أدواته عبر الرمز والضّوء والإشارة والرقم الخوارزمي والومض الإلكتروني لهذه المواجهة وغيرها من الصّدمات المحتملة مع مستقبل غامض ومفخّخ بالمفاجآت الخفيّة على دروب الحضارة الإنسانية.
وليس من الصّدفة في شيء أنّ المجتمع العلمي الإنساني كان يتحضّر لمثل هذه المفاجآت، وقد شاهدنا عروضا مذهلة لمثل هذه المفاجآت غير المنتظرة في عالم الأدب والخيال العلمي. وقد تجسّد كثير منه في أعمال سينمائية وقصص رائدة يكون فيها الإنسان هو الغالب، وهو السّيد المطاع الذي ينتصر في نهايات آسرة بعد خراب ودمار كبيرين. فعلم المستقبليات كان دائما نشطا، والتوقّعات كانت دائما تتّصف بقوّة الحدس والذكاء، وما زالت هذه التوقعات تتمدّد في فضاء الخيال العلمي، وتترامى ضمن أبعاد الزمن الخاطف، ليكون الإنسان دائما على أهبة الاستعداد لمواجهة مصائر قد تكون مدمّرة ومهلكة في آن واحد.
وضمن هذه الدورة من الاستعداد للمواجهة الحضارية جاء التعليم الإلكتروني الرقمي عن بعد تعبيرا عن تجاوب تربويّ مع طفرات الثّورة الرّقمية. و هكذا كانت المدرسة وما زالت تنحو بقوّة إلى مفازات الثورة الرقمية والصناعية، لأنّ التعليم التّقليدي في عالم الذكاء الاصطناعي يعبّر عن حضارة بائدة رسمتها سنان الثورة الصّناعية الثانية التي تبخّرت في عالم النّسيان، وذابت شموع ضوئها، وتلاشت قدرتها على الحضور في الحياة المعاصرة. فالمدرسة اليوم تأخذ طابع تحضير إنسانيّ للثورة الصناعية الرّابعة التي تتدفّق بالإنجازات والمعجزات. وممّا لا شكّ فيه أن المدرسة مع كورونا، ومن دونها، ستتحوّل إلى قلعة رقمية تحركها الومضات والخوارزميات والذّكاء الاصطناعي. بل يمكن القول إنّ صورة المدرسة لن تكون على هذا النحو المتخلّف من التعليم الإلكتروني الذي تحكمه أبعاد الزمان والمكان، بل ستكون المكان الذي تحكمه الأبعاد الخماسية التي يضاف إليها عنصرا الزمان والشعور الإنساني. ومستوى تطوّر المدرسة سيكون بمعيار قدرتها على ممارسة التعليم الثلاثي الأبعاد المعزّز بالواقع الافتراضي، حيث يجول الطالب في أرجاء الزمان والمكان والحركة والشّعور الإنساني بحرية تخترق الماضي والحاضر والمستقبل.
ومثل هذا التحوّل في بنية المدرسة وفي وظائفها غالبا ما يرمز إليه في الأدبيات السّوسيولوجية المعاصرة بمفاهيم من قبيل: “موت المدرسة” و”موت الجامعة” أو مثل: “ما بعد المدرسة” أو “ما بعد الجامعة”. وليس بغريب علينا اليوم أنّ المدرسة تواجه فعلا موتها البطيء على إيقاعات الثورة الصناعية الرابعة. وقد كشف كورونا الغطاء عن الغموض في هذه المفاهيم؛ إذ بدأت مؤشّرات الموت تظهر بوضوح في كثير من الظواهر الاجتماعية التي لم تعد خافية على أحد.
وتستند هذه الرؤية إلى تغير طبيعة المجتمعات واحتياجاتها؛ فقد تناسب نظام التعليم التقليدي الذي نشأ في القرن التاسع عشر مع طبيعة عمل المصانع والمعامل وأنظمة الإنتاج الصناعي الرأسمالي. ومع التطور يتّضح اليوم أن تطور الرقمية والأتمتة القائمة على التطوّر الهائل في الذكاء الاصطناعي استطاع أن يتجاوز معطيات الثورة الصناعية الثالثة، وأن هذا التطور يتطلب نظاما تعليميا يقوم على الذكاء الاصطناعي، ويتوافق في الآن الواحد مع احتياجات الطلاب ومتطلبات عيشهم في مجتمع الروبوتات. وسيؤدي الذكاء الاصطناعي دورًا بارزًا في تطوير الأنظمة التعليمية في مختلف أنحاء العالم (الحكومة الرقمية، 2020).
فالمدرسة كانت ومازالت تعيش حالة ثوريّة رقمية صامتة، ولكنْ مستمرّة بكل المعايير والمقاييس، ويجري التنبّؤ بأنّ المدرسة غير الرقمية، أو تلك التي لا تستطيع أن تطوّر نفسها رقميا في المستقبل ستفقد وجودها وحضورها، وتختفي من الوجود تحت بريق الومضات الإلكترونية التي لن تبقي للتّقليد رسما ولا أثرا.
وقد سبق لعالم المستقبليات البرفسور كلايتون كريستنسن[1] من جامعة هارفاد وصاحب نظرية الابتكار المُزعزع أو الفوضى الخلاقة، أنْ توقع إفلاس 50% من الجامعات والكليات الأمريكية في المُستقبل القريب كنتيجة طبيعية للتقدّم الحادث في مجال الرقمية والتقانة. وجاءت جائحة كورونا لتؤكد مصداقية هذه النبوءة، إذ بدأت كثير من الجامعات تشرف على الإفلاس والوصول إلى حافة الانهيار بسبب تراجع عوائدها واستثماراتها. وفي ظل هذا الواقع الجديد الآخذ في التشكل، “يُتوقَع أن تنجح المؤسسات التي تجمع بين الذكاء الاصطناعي والجانب الاجتماعي في صيغةٍ جديدة تُلائِم التعلم في القرن الحادي والعشرين” (الحكومة الرقمية، 2020).
وقد سبق كلايتون كثيرل من المفكرين في الإعلان عن موت وشيك للمؤسسات التعليمية في ظل التطورات الحضارية الحادثة. إنّ نظريات موت المدرسة وموت الجامعة كانت يقظة قبل ثلاثة عقود من الزمن، وكثير من المفكّرين المعروفين كانوا قد قدّموا كثيرا من الدراسات التي تنبئ بموت المدرسة الكلاسيكية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى آفلين توفلر في كتابيه “الموجة الثالثة” و”صدمة المستقبل” (توفلر، 1990). وهناك نظرية آلان توران (Alain Touraine) في موت الجامعات (Death or change of the universities) (Touraine, 1973)، ونظرية نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) في موت الجامعات الأمريكية (The Death of American Universities) (Chomsky, 2021). ويتّضح، بالاطلاع على هذه النظريات، أنّ الموت يعني التّغيير الجوهري في وظائف المؤسسات التعليمية ومناهجها تحت وقع الثورات الرقمية والتطورات الحادثة في معترك الفضاء الصّناعي الرّابع.
وعلى هذا النّحو جاء كورونا التاجي في نسخته الكوفيدية التاسعة عشرة ضربة مهماز قوية لدفع التعليم إلى مشارفه المستقبلية، على النّحو الذي كان يصبو إليه، كما جاء كورونا ليسرع عملية الانتقال إلى الموجة الرابعة من الثورة الصناعية، ولينبّه الإنسانية إلى ضرورة تجاوز سلبيّات التعليم التقليدي، والانتقال بالتعليم كليةً إلى أرقى مستوياته الافتراضية في عصر الثورة الصناعية الرابعة.
وهنا يجب علينا أن نقول إن التعليم التقليديّ السّائد في المدارس والمؤسسات التعليمية قد فقد دوره في معترك الحضارة الصناعية الرابعة، وأصبح يشكّل عائقا كبيرا على دروب التطور الحضاري، لأن الحضارة الجديدة تحتاج إلى نمط آخر من التعليم يتناسب ودرجة التطوّر الهائل في الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي.
والسؤال الرئيسي الذي يتبادر إلى الأذهان في مقدمة هذه الدراسة هو: كيف سيكون حال التعليم، ولاسيما التعليم العالي والجامعي فيما بعد كورونا؟ هل سيكون التعليم إلكترونيا عن بعد؟ هل سيكون نوعا من التعليم المدمج بين التعليم الإلكتروني والتعليم التقليدي؟ كيف سيكون حال المناهج ومستوى تأهيل المعلّم والوسائل والفلسفات والوظائف الأساسيّة لهذا التّعليم؟
وهنا يجب علينا أن ننطلق من بداهة حضارية لمّحنا إليها؛ وهي أن التّعليم القادم كان قبل كورونا، وسيكون بعدها افتراضيا رقميا، يعتمد على الذكاء الاصطناعي. ويعود السّبب في ذلك إلى طبيعة التطور الحادث في فضاء الثورة الصناعية الرابعة، وما تنطوي عليه من تغيير شامل في أنماط الوجود والحياة. وسننطلق من مسلّمة أخرى مفادها أنّ كورونا سرّع في عملية التطوّر المستقبلي للتعليم الإلكتروني، وشكّل ضربة مهماز قوية زعزعت التّعليم التّقليدي وأربكت روّاده، وهيأته لنقلة جديدة نحو التعليم الإلكتروني بصيغتيه البعدية والحضورية، ودفعت الإنسانية إلى نمط آخر من التعليم القائم على الثورة الرقمية الهائلة في زمن الثورة الصناعية الرابعة التي ترتسم على صورة الذّكاء الاجتماعي والاصطناعي الخارق.
2- هل سيكون التعليم إلكترونيا فيما بعد كورونا؟:
يجب منذ البداية أن نذكر القارئ بأن مفهومنا عن التعليم الإلكتروني يتضمن الإشارة إليه بوصفه منظومة متكاملة من العناصر التي تتمثل في فلسفة التعليم والمحتوى والأهداف والسيرورة والخبرات والوسائل التكنولوجية والخبرات التعليمية، التي تنصهر في بوتقة واحدة، لتنتج هذا النمط من التعليم الذي يواكب معطيات الموجة الرّابعة للثورة الرقمية المتجدّدة. ونلفت الانتباه إلى أنّ التعليم الإلكتروني يمكن أن يكون حضوريّا أو عن بعد. والجانب الحضوريّ فيه يتمثل في توظيف التقانات الذكية المتقدمة في مجال التعليم، ومن ثم التواصل مع مختلف أوجه الخبرات الإنسانية عبر الشبكات والسحب الرقمية. وقد يشمل التعليم الإلكتروني الطريقتين، وهو ما يسمّى بالطريقة الإدماجية (حيث يتمّ التعليم عن قرب وعن بعد إلكترونيا). فعلى سبيل المثال، يمكن للطلاب في القاعة الواحدة أن يتواصلوا مع قاعات دراسية في الدول الأخرى، حيث يتم التّفاعل بينهم وبين زملائهم في الصين والهند مثلا. وقد تتيح الأجهزة الذكية عبر ما يسمّى التعليم المعزّز بالواقع الافتراضي أن ينقل الطلاب جميعا في رحلة إلى اليابان أو في رحلة في جزئيّات الجسم البشري. وهذا يعني أن التّعليم الإلكتروني لا يمتاز بالقدرة التواصلية عن بعد فحسب، بل باستخدام أكثر تقنيات الذّكاء الاصطناعي تقدّما في مجال العلم والتعليم. والحديث في هذا يطول ويحتاج إلى كتب وفصول، لذا سنوجّه اهتمامنا إلى مستقبل التّعليم والتعليم العالي في ظل كورونا. وسنحاول الإجابة عن الأسئلة المحدّدة التي طرحناها في بداية هذه الدراسة ، وأبرزها: هل سيتحول التعليم إلكترونيا فيما بعد كورونا؟ وكيف يبدو هذا التّعليم؟ وما هي ملامحه؟ ما مصير التعليم عن بُعد بعدَ الأزمة، هل سيبقى تقليديا أم يغاير استراتيجياته التقليدية؟
3- حوار إشكالي بين أنصار التعليم عن بعد والتعليم التقليدي:
يجري اليوم، كما هو معلوم، حوار إشكاليّ حادّ شائك بين أنصار تجربة التعليم عن بعد، وأنصار التعليم التقليدي وجها لوجه. ونعتقد أن جلّ الآراء السلبية التي وجّهت ضد التعليم الإلكتروني عن بعد ناجمة عن تجربة سلبية لهذا التعليم الذي ميّزناه بأنّه كان تعليما عن بعد في حالة الطوارئ، وليس تعليما نموذجيا عن بعد، وهو التعليم الذي يعتمد استراتيجية فلسفية تقنية رقمية معقّدة في مسار العملية التربوية. إنّ الحكم السلبيّ على التعليم الإلكتروني من خلال تجربة التعليم عن بعد في الحالات الطارئة هو أمر غير موضوعيّ، لأنّ ما نشاهده اليوم ، هو انتقال فوري غير منظّم إلى التعليم عن بعد، حكمته مفاجآت تتمثّل في السّرعة والارتجال والخوف وعنصر المفاجأة، وهو بذلك يفتقر إلى الشّروط الموضوعية للتّعليم النّموذجي عن بعد الذي يرتكز على منظومة منهجيّة وفكرية وفلسفيّة ومهنيّة إلكترونيّة عالية المستوى. وقد ذكرنا في مسارات سابقة أنّ التّحضير لفصل دراسي من التعليم الإلكتروني عن بعد يحتاج إلى ستة أو سبعة أشهر من الجهد العلمي والتربوي، وهذا يعني أن ما يجري اليوم هو أمر مختلف تماما عن التّعليم النّموذجي للتّعليم الإلكتروني عن بعد. ويمكن القول في هذا السياق: إن تقييم فعالية التعليم الإلكتروني عبر الإنترنت غير مناسب في هذا الوقت، وأعتقد أن السبب هو أننا لم نعاين حتى اليوم التعليم الإلكتروني الحقيقي أو النّموذجي.
لقد أدّت التطورات السريعة في تكنولوجيا التعليم إلى تحسين جودة التعليم عبر الإنترنت بشكل كبير. ومن ثم أسهمت حالة الطوارئ في تعزيز هذا التّوجّه، وأدّت إلى توليد أشكال جديدة من التعلم عن بعد. ومع ذلك، فقد بيّنت الأزمة الحالية أنّ اللّجوء إلى التّعليم عن بعد جاء كوسيلة لإدارة الأزمة وليس كجهاز منظومي حيوي لمواجهتها. وكشفت هذه الأزمة فشل صانعي السّياسات التربوية وإخفاق المؤسّسات التعليمية في التحضير لمثل هذه الأزمات والكوارث، على مستوى بناء القدرات وتهيئة الموارد اللازمة لتطوير مهارات المعلمين والطلاّب الرقميّة بصورة فعّالة ومنصفة.
وهناك كثير من الخبراء الذين يعتقدون أنّ استجابة الجامعات والمؤسّسات التّعليمية الجامعيّة بالانتقال إلى التعليم عن بعد بشكله البسيط بداية أدّت جوهريا إلى تطوير الكفاءات الرقمية والمهارات الإلكترونية بدرجة كبيرة. وعلى هذا النّحو فإنّ ما بدأ كاستجابة قصيرة الأجل للأزمة، من المرجّح أن يصبح تحولا رقميًا دائمًا في مجال التعليم العالي (Ledeman, 2020). ويبدو لنا واضحا أنّ المؤسسات الجامعية تتّجه إلى اعتماد التعلم المدمج كمنهج عامّ في المستقبل القريب والبعيد، حيث يتمّ اعتماد التعليم الإلكتروني النموذجيّ والتعليم التقليديّ ضمن حلقات متناوبة بين النّمطين في الفصل الدراسيّ. وهذا هو النّمط الذي اعتمدته الإمارات وقطر في الفصل الأوّل من العام الدراسي، وهو النموذج الذي تعتمده كثير من البلدان في أنحاء متفرقة من العالم. فمن المرجّح أن تسرّع أزمة كورونا هذا التّحوّل وتعمق هذه التجربة الحيّة لنمطين تعليميّين ممكنين في آن واحد. أمّا بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس وقادة الحرم الجامعيّ، فنعتقد أنّ هذا سيتطلب مزيدًا من الاهتمام على مستوى المؤسسة لكلّ من أساسيات التدريس الجيّد والتعلم، إضافة إلى مزيد من الإعداد للتدريس عن بعد(Ledeman, 2020).
ويستند بعض الخبراء في هذا المستوى إلى نظرية “البجعة السوداء” للقول بأن التعليم عن بعد سيصبح أمرا عاديا ومألوفا. وتستند هذه النظرية إلى فكرة مفادها أنه “بمجرد أن تطور الكليات الجامعية قدرتها على التعليم عن بعد إلكترونيا وتعتاد عليه، فإنه لن يكون هناك مبرر يدفعها للتخلّي عن هذا النمط من التعليم (Ledeman, 2020). وتلك هي الفكرة التي يتبنّاها دوغ ليدرمان، إذ يعتقد أنّ التبنّي والتجريب في حالات الطوارئ سيسرّع من تبنّي التعلم الإلكتروني عبر الإنترنت وغيره من أشكال التعلم المدعوم بالتكنولوجيا (Ledeman, 2020).
ويمكن القول في هذا السياق، والقول للباحثة حنان عنقاوي: “إن أزمة كورونا عجّلت بالنقلة الحضارية التي تنبّأ بها العلماء في أبحاثهم منذ عدد من السنين، وكان هذا الانتقال الكلّي للتعليم نحو الإلكتروني متوقّعا أن يتمّ في عام 2050 أو 2060، ومن ثمّ فإنّ حدوثه في عام 2020 شكّل صدمة إيجابية”(عنقاوي، 2020).
يرى المفكر الأمريكي جيمس إن برادلي، كبير مسؤولي المعلومات في شركة Trinity بجامعة تكساس “أن تجربة التعليم عن بعد في ظلّ الجائحة، التي أجبرت مئات الألوف من الأساتذة والطلاب والمعلمين على الخوض في تجربة الفضاء التربوي الإلكتروني لأوّل مرة، ستؤدي إلى تغيير جوهري في المشهد التعليمي الجامعي على المدى الطويل. ومع الزمن فإنّ أعضاء الهيئة التدريسية سيدمنون على هذا النمط الجديد من التعليم عن بعد، وستختفي مقاومتهم الأوّلية له، بل سيذهبون إلى الانتصار له لاحقا بعد التعرّف على ميزاته الإيجابية” ( Bradley, 2021).
ويتوقع جايمس أن تغيّر الأزمة الراهنة مشهد التعليم كاملاً، إذ يقول: “أظهر قطاع التعليم أنه من القطاعات القليلة القادرة على التكيف مع التحولات التي فرضها كورونا، وذلك باستخدام التقنيات الحديثة، لذا، فالعودة إلى التعليم التقليدي لن تكون خطوة مقنعة مستقبلاً في ظل توافر القدرة على نقل المحتوى التعليمي إلى الطلبة عن بعد من دون إلزامهم بالقدوم إلى المدرسة. كذلك، فرضت الأزمة على ذوي الطّلبة أن يؤدوا أدواراً أكثر فاعلية في مجمل العملية التعليميّة، وستظلّ تأثيرات مثل هذا التحوّل ماثلة في المستقبل” (عودة، 2020).
ومن الصّعوبة بمكان، بعد أن عرفنا فوائد التّعليم الرقمي وقدرته على استيعاب عدد هائل من الطلاّب الجامعيين، وبعد تمكّن الأستاذ الجامعي من التّفاعل مع عدد كبير من الطلاب، أن نتخلّى عن هذه التجربة الخلاقة. “وأتوقع أن المستقبل لن يكون حول الانتقال وكيف يتم، لأن الواقع أثبت أن الانتقال ليس صعبا في ظل توفر بنية تحتية من نظام إلكتروني تقني وطالب مؤهل للفكر الإلكتروني وأستاذ لديه أدوات معرفة بالتعامل الإلكتروني، وإنما سيكون حول واقع تفاصيل الحياة اليومية في ظل تعليم إلكتروني لا يتطلب من الشخص أن ينتقل من بيته حتى يتعلم وسيصبح لديه وقت أكبر لممارسة أمور أخرى”(عنقاوي، 2020). فالتجربة التربوية مع كورونا كانت ” (بروفة) للتحول الرقمي الكلي، يجعلنا نقتنع بأنه لابد من تغيير جذري لمفهوم التعليم وإعادة النظر في التعليم بطريقته التقليدية، بعد أن أجبرتنا أزمة كورونا على التحول للمستقبل ونعيش فيه” (عنقاوي، 2020).
يقول دوغ ليدرمان (Lederman Doug) في هذا السياق “هناك دائمًا فرصة مفادها أن بعض أعضاء هيئة التدريس الذين قاوموا استخدام التكنولوجيا لتسهيل التدريس سيكونون أكثر ميلًا إلى تبني ممارساتهم التعليمية الجديدة بمرور الوقت” (Lederman, 2020 ). وسيكون احتمال نجاح هذه التجربة الأوّلية في التعليم عن بعد كبيرا، إذا استطاعت الكليات والجامعات العمل بقوّة على تدريب أعضاء هيئة التدريس وتأهيلهم رقميّا على استخدام التكنولوجيا التعليمية المتاحة وتوظيفها بفعالية في دروسهم ونشاطاتهم التربويّة. وسيكون من المهمّ للمؤسّسات التّعليمية والجامعيّة أن تشجّع الطلاب على المشاركة والتفاعل وتكوين الخبرات الجديدة في مجال التّعلّم الإلكتروني عن بعد. “وعندما يتمكن أعضاء هيئة التدريس من تنحية غرورهم الأكاديمي والاهتمام بملاحظات الطلاب السلبية لتحسين ممارسات التدريس عن بُعد، فسيؤدي ذلك إلى تطوير التعليم عن بعد بصفته النموذجية والاستفادة منه بطريقة مثالية، ولاسيّما عندما يستجيب أعضاء الهيئة التدريسية لأنهم سيتعلمون أفضل السبل لتلبية احتياجات التعلم لطلابهم” (Lederman, 2020).
وستحتاج المؤسسات الجامعية – إلى جانب تعديل أعضاء هيئة التدريس لأسلوبهم في التدريس- إلى وضع خطط واضحة واستراتيجيات متينة حول كيفية تعزيز التّعليم الرقميّ في الفضاء الافتراضي للطلاب والمدرسين. وسيكون من المهمّ أيضا للمؤسّسات الجامعيّة تقييم استراتيجيات التدريس عن بُعد بعناية في جميع المستويات بعد انحسار الأزمة. وستحتاج المؤسّسات إلى استخدام ملاحظات الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والاستفادة منها في تطوير خطط الطوارئ وتنمية مهارات الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية للمشاركة في التعلم والتعليم عن بُعد في أفضل صوره الإلكترونية، وسيكون من المهم أيضًا للمؤسسات والجامعات تحديث الخطط التربوية فصليا وسنويًا، ومناقشة كيفية تحسين هذه الخطط بناءً على الأبحاث المتاحة حول أفضل السبل لاستخدام التكنولوجيا للتأثير بشكل إيجابي على تعلّم الطلاب (Lederman, 2020).
4- المناهج المستقبلية فيما بعد كورونا:
ما زال كورونا المستجد المتجدّد يضرب العالم بقوّة في موجته الثالثة، ويسجّل أعلى درجات الشلل الاقتصادي في شتاء أوروبا وأمريكا اللتين تواجهان حالة من الرعب والهلع العامّ في ظل الإغلاق المتكرّر، وما زال أغلب الطلاّب في مختلف أنحاء العالم سجناء العالم الافتراضي درءا للخطر وتفاديا لموجات الفيروس المستجدّ. وقد أصبحت الإنسانية مجبرة على التّعايش معه، والحذر من خطورته وانتشاره.” وتعد السنة الجامعية الجديدة 2020/ 2021 سنة حرجة في أغلب دول العالم، ولاسيما تلك التي ما تزال تسير على هدي التعليم ” (الصباغ، 2020).
ولا مراء في أنّ كورونا الذي فرض حالة الانتقال إلى التعلم عن بعد سيؤثر على الطريقة التي تعيد بها الجامعات تشكيل أنظمتها التعليمية، فلقد طوّرت الجامعات حلولًا تعليمية جديدة يمكن أن تجلب الابتكارات التي تشتد الحاجة إليها، والتي يمكن أن تغذّي الاتّجاه المستقبلي للجامعات في جميع أنحاء العالم.
سننطلق من البداهة التي أشرنا إليها منذ قليل؛ وهي أنّ التغيير في المناهج والفلسفات التربوية سيكون حتميا مع كورونا أو من دونها. وهذا الموضوع كان الشّغل الشاغل لعلماء المستقبليات قبل الصدمة الكورونية، فالجامعات والمؤسّسات التعليمية على أبواب عصر جديد، وهي تمرّ بمرحلة تحوّل كبيرة لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلا من قبل. وبغضّ النّظر عن وضعية الانتقال السّريع إلى التعليم عبر الإنترنت تحت تأثير كورونا، ستشهد الجامعات أيضًا تغييرات في أساليب التّدريس ومناهجه وسلوكيات التّعلم للطلاب.
فالتعليم العالي يشكل المنطقة الأكثر تفاعلا مع الثورة الصناعية الرابعة بأبعادها المختلفة، إذ يتوجّب على التعليم أن يحتضن معطيات هذه الثورة الأكثر تقدما، وأن يتفاعل معها بجدليّات إنتاجها، وأن يتجاوب مع معطياتها التقنية. فالتعليم العالي ليس مجرد مكان يحتضن الثورة الصناعية ويتأثّر بها، بل هو نتاج لهذه الثورة في سياق التّفاعل والانفعال. كما أنّ التّعليم العالي يساهم في إنتاجها ويتجاوب عمليا مع معطياتها الرقمية الهائلة. فكلّ التّغيرات التي تحدثها الثورة الصناعية الرّابعة ستجد صداها في التعليم العالي، وهو يشكّل، في نهاية المطاف، الحاضن الطبيعي للثّورات الرقمية والعلمية المستجدة والمستمرة. ويُعدّ التفاعل مع شبكة الإنترنت السّمة المميزة لهذا التّفاعل العميق والشامل مع الحضارة الرقمية الجديدة. ومن يراقب عن كثب سيجد أنّ التعليم العالي -وأشدّد على التعليم في البلدان المتقدّمة- قد انغمس بشكل كبير في الثورة الصناعية الثالثة، وقد بدأ رحلته في احتضان وتوظيف معطيات الثورة الصناعية الرابعة. والوعود القادمة كبيرة، حيث سيتحوّل التعليم العالي إلى بوتقة تنصهر فيها معطيات الثّورة التكنولوجية العاصفة بكل أبعادها المعرفية (وطفة، 2020).
وقد أدركنا اليوم الفعالية التي تمّ فيها توظيف الإنترنت والتعليم عن بعد في التعليم العالي خلال الأزمة، وشاهدنا إلى أيّ حدّ تمّ استخدام المنصّات التعليمية وتوظيف التّطبيقات الإلكترونية على أوسع نطاق. والمستقبل يبشرّنا بالكثير من التطوّرات الهائلة في هذا الميدان، ولاسيّما مع طفرات الثّورة الصناعيّة بحمولاتها الإلكترونية والرقميّة. ويمكن، في هذا السّياق، الإشارة إلى عملية توظيف الأجهزة الإلكترونية القابلة للارتداء في عمليّة التعلّم والتّعليم في الجامعات والمؤسّسات العلمية ضمن نطاق ما يسمّى بإنترنت الأشياء، فملابس الطلاب ستتحوّل، في القريب العاجل، إلى وسائل تربوية علمية، تمكن الطلاّب من الاندماج كلّيا في عالم افتراضي يبتلع الأحياء والأموات على حدّ سواء. فالتعليم والتدريب سيعتمدان قريبا جدّا على أجهزة يمكن ارتداؤها، وهذا يشكل طفرة جديدة في مجال جدلية العلاقة بين الثورة الصناعية الرّابعة والتعليم العالي. وهذا الجدل الخلاّق سيؤدّي إلى ثورة حقيقة في عالم التربية والتعليم، وهي ثورة ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية القديم أو الحديث (Xing and Tshilidzi, 2017).
ويمكن الإشارة في هذا السّياق، إلى التّوظيف المهول لوسائط محاكاة الواقع الافتراضي، الذي أحدث فعليّا ثورة جبّارة في ميدان التعلّم والتّعليم في مختلف مستوياته واتجاهاته. وتوظّف هذه المنظومة الرقمية الجديدة في تحليل النّظم المادّية والفيزيائيّة في العالم الحقيقيّ بطرق تفوق إمكانات التخيّل من حيث السّرعة والقدرة على تفكيك الظّواهر والأشياء. وعلى سبيل المثال، يمكن اليوم للتلميذ أن يرتحل داخل الشّعيرات الدمويّة للجسد، عبر ما يسمى بالنانو تكنولوجي في العالم الافتراضي، ويمكنه أيضا أن يزور قيعان البحار، وأن يتجوّل بين النّجوم، وأن يتوغّل في العصور القديمة، ويتعرّف عليها بحيوية العالم ثلاثي الأبعاد والحضور في الواقع الافتراضي المعزّز.
ومثل هذه المناهج الجديدة ليست ضربا من الخيال، إذ تحوّلت إلى تطبيقات حيّة وإلى وقائع تربويّة وعلميّة، ومنها ما يحدث من معجزات افتراضية في الصين أثناء كورونا، فالأخبار اليوميّة تؤكّد حصول هذه المدهشات في العالم الافتراضي الذي ينزع إلى أن يكون اليوم حقيقة ساطعة. لقد كشفت صحيفة (ديلي ميل) البريطانية عن صور مدهشة لمتنزه الواقع الافتراضي المعروف باسم “وادي الشرق للعلوم والخيال” الذي تمّ بناؤه في جنوب غرب الصين، وهو أحد أهم المعالم الخيالية السياحيّة في العالم، إذ يمكن لزوّار هذا الوادي عيش تجارب خيالية مثل السّفر إلى المستقبل، وخوض معركة مع الديناصورات والتنانين التي عاشت في العصور السّحيقة، أو الطيران عبر الفضاء، أو العيش مع الكائنات الفضائية، وذلك في تجارب افتراضية ممكنة. وهذه التّجربة الإنسانية الفريدة تسلط الضوء على ما ينتظر المجتمع الإنساني في المستقبل من عجائب ومدهشات تتعلق بالتعليم الافتراضي وتعطي صورة مبتكرة عما سيكون عليه شكل الحياة في المستقبل (وطفة، 2020).
ومن أبرز معطيات الثورة الصناعية الرّابعة في التعليم توظيف منهج تحليل العناصر المحددة [Finite Elements Analysis (FEA) ][2] ويعدّ هذا المنهج التحليلي (FEA) تقنية متعدّدة الاستخدامات تمّت ممارستها في العديد من المجالات الهندسيّة مثل تحليل المباني والهندسات المعقّدة. ويتمّ استخدام هذه المنهجيّة الحديثة بمساعدة برامج الواقع الافتراضي عبر أجهزة الكمبيوتر. وباعتماد هذه المنهجية، الجديدة يمكن للطلاب فهم القضايا المعقدة وإدراك المفاهيم الأساسيّة بشكل سريع جدّا، وبمنتهى السّهولة، كما يُمكّن المهندسين من إجراء النمذجة المعقّدة، وتفسير النتائج بسهولة. ومع تقدّم بعض التقانات القابلة للارتداء وتوظيفها ضمن إطار الواقع المعزّز يمكن تطوير إحساس المستخدم وتفاعله مع العالم المادّي عبر المختبرات المتخصّصة في توليد الواقع الافتراضي (Xing and Tshilidzi, 2017).
5- زراعة المواهب الإبداعية:
تشكل زراعة المواهب الإبداعية إحدى الطّفرات الكبيرة في مجال المناهج في التّعليم العالي. فالمستقبل الجامعيّ يؤكّد أهمّيّة بناء المواهب الإبداعيّة المبتكرة لإيجاد نخبة من العلماء والتقنيين المبدعين. لذا، ومن أجل هذه الغاية، يجب تدريب هؤلاء العلماء في بيئة متعدّدة التّخصّصات تشمل العلوم الإنسانيّة والتّطبيقيّة على حدّ سواء، من أجل تنمية الوعي الشّمولي لهؤلاء العلماء في مختلف جوانب المعرفة وتجلّياتها الإنسانية والعلميّة. وهذا النّوع من التّعليم المتعدّد الاتّجاهات والتّخصّصات يمثل مشروعا حيويّا في التّعليم الصّناعي الرّابع على نحو شموليّ يتجاوز فيه المتعلّم جزئيات التّعليم، لينتقل إلى إدراك شامل لكلّياته. ويلحّ هذا المنهج على السّمة الشّمولية التّكامليّة للمعرفة العلمية، حيث يتمحور هدف التّعليم على تحقّق التّكامل بين مكوّنات المعرفة ووظائفها في نظام معرفيّ واحد يتّسم بطابع الشّمول والتّكامل في مختلف الميادين المعرفيّة. وهنا يأتي دور البيئات الافتراضيّة والمناهج الإلكترونية التي تمكّن المتعلّم من الإحاطة الشمولية التكاملية بعناصر المعرفة المختلفة للقضايا المعرفية (Xing and Tshilidzi, 2017).
في مثل هذا النّمط من التّعليم يمكن استخدام عملية التّدريس والتّقييم بشكل مباشر لتطوير القدرات التّحليلية وقدرات حلّ المشكلات المتعلّقة بالمسائل الرياضية. ويمكن أن تتحقّق عمليّة التّفاعل بين المدرسين والطلاّب من خلال تبادل التصوّرات والآراء حول فعالية المعارف والمعلومات المراد تأصيلها. وهذا يسمح أيضا بتقييم وتعزيز فهم المشكلات والمفاهيم المحدّدة من خلال تمثيلات الرّسوم البيانية عبر الإنترنت وأسئلة الاختبارات المتعدّدة الفورية التي تسمح للطلاب بمراجعة نتائجهم على الفور. ومن هنا يجب على الجامعات تبنّي هذه التقانات الجديدة وأنماط التدريس المرتبطة بها بدلاً من محاربتها، حيث تحتاج أنظمة التعليم العالي إلى استكشاف الكيفيّات التي يمكن من خلالها تحويل بيئة التّعليم والتعلم إلى بيئة فعّالة لتحقيق التفاعل الخلاّق بين الطلاّب والمدرّسين والعاملين في المجال الأكاديميّ (وطفة، 2020).
يصف آلفين توفلر مستقبل الحياة المستقبلية القادمة، أي مرحلة ما بعد التّصنيع، بأنّ الإنسان سينصرف فيها إلى معالجة الأفكار، ويتزايد بالتالي أداء الماكينات للمهامّ الروتينية. إنّ تكنولوجيا الغد لا تحتاج إلى ملايين الرّجال سطحيّي التّعليم المستعدّين للعمل المتساوق في أعمال لا نهائية التّكرار، ولا تتطلب رجالا يتلقون الأوامر دون طرفة عين (…) بل تتطلب رجالا قادرين على إصدار أحكام حاسمة، رجالا يستطيعون أن يشقوا طريقهم وسط البيئات الجديدة، ويستطيعون أن يحددوا موقع العلاقات الجديدة في الواقع سريع التغير، إنها تتطلب رجالا من ذلك النوع الذي وصفه س.ب. سنو بأنّهم يحملون المستقبل في عظامهم (توفلر، 1990، 423). ويبنى على ذلك أن الهدف الأول للتعليم ينبغي أن يكون رفع قدرة التكيف لدى الفرد، أي تحقيق السرعة والاقتصاد في القوى التي يستطيع بها أن يتكيف مع التغير المستمر(توفلر، 1990، 424).
وضمن هذه التّصورات يصعب علينا اليوم أن ندرك أنّ التعليم الإلكتروني سيكون جوهريا حيويا مصيريا في مختلف مستويات التعليم حضوريّا أو عن بعد. وهنا يجب الإشارة إلى أن التعليم الإلكتروني يقوم على مبدأ افتراضيّ بعيد المدى، بمعنى أنّه في داخل المنهج يضعنا في عالم افتراضيّ يقارب الحقيقة: يستطيع هذا التّعليم نقلنا إلى العصور القديمة وإلى المستقبل المفترض، ليكون تعليما يتجاوز حدود الزّمان والمكان في كلّ المجالات الحيويّة. وعلى هذا النّحو يصبح التعليم عن بعد مجرّد موجة في بحر متلاطم الأمواج. فالتّعليم المعزّز بالواقع الافتراضي لا يكتفي بنقل المتعلم إلى المعلومة ونقل المعلومة إلى المتعلّم، بل هو كفيل بنقل الواقع الخارجيّ كلّية إلى المتعلّم في أيّ مكان وزمان. وعلى هذا النّحو أيضا لن يكون التّعليم عن بعد، بالصيغة التي نعرفها، إلا مجرّد نقطة في عالم التّفاعل بين المتعلّم ومكوّنات المعرفة. ومن هنا نقول بأنّ التعليم يسير نحو مستقبل مُشبع بطفرات الواقع الافتراضيّ والافتراض الواقعيّ، وأنّ التعليم عن بعد ليس إلا طيفا من أطياف هذه التطوّرات الهائلة في ميدان التريبة والتعليم والحياة. فالواقع التربويّ ينبئنا بولادة فروع تخصّصية إلكترونية مثل: تكنولوجيا النانو، الذكاء الاصطناعي، الشبكات العصبية، والتقنية الحيوية (سعد، 2018).
وقد حقّق التعليم الإلكتروني أنشطة تعليمية متميزة من خلال ما يسمّى مختبر العلوم المفتوح Open Science Laboratory في بعض الجامعات الأمريكية، حيث يستطيع الطلاب جمع بيانات حقيقية من الآلات والأدوات التي يجري التحكم فيها عن بعد، ومن بينها مطياف أشعة جاما، وتليسكوب بمقياس 0.43 متر في مايوركا بإسبانيا. ويستطيع الطلاب استكشاف بيانات حقيقية باستخدام أدوات محاكاة، كالمجهر الافتراضي، حيث يُمَكِّنهم من مشاهدة صور عالية الاستبانة (الكثافة النقطية) بدلًا من عيّنات حقيقيّة. وفي هذا يقول أحد الباحثين: «يستطيع الطلاب التقريب وضبط التركيز والتحكم في موضع العينة التي يفحصونها، مثلما يفعلون مع الأدوات الحقيقية تمامًا” (ولدروب، 2013).
ويمضي باولو بليكستاين مدير مختبر تقنيات تطوير التعليم بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا إلى أبعد من ذلك مع جيل جديد من مقرّرات المختبرات الرقمية. وأحد هذه المقررات يستخدم آلات يجري التّحكّم فيها عن بُعْد بمختبر أحياء مركزيّ، وهو مشروع يطوّره بالتّعاون مع إنجمار ريدل كروز، الباحث في الهندسة الحيويّة بجامعة ستانفورد. يقول بليكستاين: «الفكرة هي غرفة تحوي 10 آلاف طبق بتري، عرض أحدها بضعة مليمترات، وروبوت يعمل كطابعة نافثة للحبر، ثم يقول الطّالب للروبوت: «اذهب إلى طبقي، وأضف كذا من القطرات»، بحيث تكون هناك كاميرا تراقب ما يحدث” (ولدروب، 2013). وفي هذا السياق يقول مايكل شاتز – فيزيائي بمعهد تكنولوجيا جورجيا بأتلانتا إنّ المختبرات التقليديّة قد تكون مُنْبَتَّة الصلة بالواقع.. فـ«الطلاب يتصورون أن المختبر ليس إلا غرفة متخصصة مليئة بمعدات متخصصة، ثم يخرجون من المختبر إلى العالم الحقيقي، حيث لا ينطبق عليه شيء مما تعلموه”(ولدروب، 2013). ولهذا السبب، ألَّف شاتز مقررًا جامعيًا متاحًا عبر الإنترنت بعنوان: «الفيزياء التمهيدية مع المختبر»، وهو مكرّس بالكامل لمبادئ علوم الحركة. وهو من أوّل مقررات الإنترنت المفتوحة المكثفة التي تدمج التعلم بالممارسة العملية المباشرة بشكل تام. ويعتمد هذا المقرر على حقيقة مفادها أنّ كل طالب في هذه الأيام يستخدم هاتفًا ذكيًّا مزودًا بكاميرا. يقول شاتز: «بدأنا المقرر بأن نطلب من كل طالب التقاط فيديو لأي شيء في بيئته يتحرك في اتجاه ثابت بسرعة ثابتة». (المختبرات اللاحقة تتضمن أنواعًا أكثر من الحركة المعقّدة، كحركة كرة السلة القوسية نحو طوق السلة). ثم “يحلل الطلاب فيديوهاتهم باستخدام برمجيات مفتوحة المصدر، تستخلص موضع الجسم بمرور الوقت، ثم يصوغون نظرية لتفسير بياناتهم، وبناء نماذج لوضعها موضع التنفيذ. وفي النهاية، يقومون بشرح نتائجهم ونموذجهم في تقرير مخبري مصور، مدته 5 دقائق، يتمّ تحميله على موقع «يوتيوب»؛ لكي يناقشه طلاب آخرون، وينقدونه عبر الإنترنت” (ولدروب، 2013).
ويعترف شاتز بأنه ليس واضحًا كيف سيستفيد آلاف الطلاب من هذا البرنامج، ولكنْ إذا ثبتت فعالية هذا النّهج في مساعدة الطلاب على إتقان المادة، فإن شاتز وزملاءه يأملون أن يكون نموذجًا لكلّ مقررات العلوم على الإنترنت.
وتستكشف الجامعة المفتوحة أيضًا الاستخدامات التعليميّة للأجهزة المحمولة. ففي 2008، أطلقت الجامعة خدمة iSpot، التي يستطيع بها الأفراد الذين يتجولون في المناطق المفتوحة رفع صور رقمية لنباتات وطيور وحشرات وفطريات وأحياء أخرى، بجانب أفضل تخمين لهم لماهية هذه الكائنات. هذا البرنامج المستخدَم في بعض مقررات الأحياء بالجامعة ـومتاح لغير الطلاب ـ يستقطب أكثر من 30 ألف مشارك في المملكة المتحدة وجنوب أفريقيا. وكلّ صورة يتمّ تحميلها على الإنترنت تشعل مناقشات حيويّة حول هويّة الكائن، ومدى أهمّية وجوده لسلامة المنظومة البيئية، ومنها تعليقات من علماء يستخدمون بيانات iSpot في دراساتهم الخاصّة. يقول شاربلز: «إنها أصبحت طريقة لممارسة العلوم العملية بالأماكن المفتوحة، لكنْ بطريقة جماعية تعاونية. وفي الواقع، يصبح المشاركون علماء بيولوجيا تحت التمرين” (ولدروب، 2013).
6- المنافسة الأكاديمية: الشركات الإلكترونية ضد الجامعات
مع اجتياح التكنولوجيا الرقمية للفضاء الأكاديمي وهيمنة التّعليم الإلكتروني عن بعد في ظلّ الجائحة بدأت الشّركات الرقميّة الكبرى تقتحم مجال التّعليم الجامعيّ وتكتسح فضاءاته العلمية والإلكترونية. وهذا ما يراه سكوت غالاوي في مقابلة له مع مجلة نيويورك تايمز، إذ يتوقّع أن تنافس شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل وفيسبوك وآبل وميكروسوفت الجامعات المرموقة في تقديمها لبرامج دراسية متقدّمة عبر الفضاء الإلكتروني وشهادات علمية موثّقة ومعتمدة عالميا، وستعمل هذه الشركات على زيادة عدد الطلاب المنتسبين، وتمكينهم من الحصول على تعليم عالي الجودة عن بعد عبر الإنترنت. وفي الحدود الدنيا ستعقد هذه المؤسّسات الإلكترونية شراكة مع الجامعات، وستعمل على مساعدتها في مجال تقديم برامج علمية متطوّرة عالية الجودة عبر الإنترنت. وسيكون هذا التّعليم أقلّ كلفة للمستهلك. وقد بدأ ذلك بالحدوث فعلا حيث عُقدت شراكة مثلا بين غوغل وإم أي تي وأخرى بين آبل وستانفورد وغيرها (عويدات، 2020). وبهذا، وبدل أن تقبل هذه الجامعات ألف طالب في السنة مثلا، تستطيع أن تقبل عشرات الآلاف حول العالم. وبينما كان يتمّ قبول اثنين من كل عشرة طلاّب يقدّمون طلبات لهذا الجامعات، ستصبح نسبة القبول في هذه الجامعات أكبر بكثير (عويدات، 2020).
ورغم أن الكلفة ستكون أقلّ على الطلاب، فإنّ ازدياد أعدادهم سيعوّض هذه الجامعات. وبهذا ستفقد الجامعات الأقل حظّا جاذبيّتها وربّما تغلق تماما. ويقول غالاوي: “إن أكبر ماركة جاذبة هنا ليست هي الشركات مثل أبل أو مايكروسوفت بل هي الجامعات مثل أوكسفورد وستانفورد وإم آي تي، لأنّ خرّيجي هذه الجامعات، كما تشير الدّراسات، يحصل أغلبهم على وظائف أفضل ورواتب أفضل”(عويدات، 2020). هذه الجامعات ستتمكّن بذلك من مضاعفة أعداد طلابها دون التّضحية بالجودة بسبب شراكتها مع شركات التكنولوجيا. أمّا عن طبيعة الطلاّب أنفسهم، فأقسام القبول في الجامعات المرموقة معروفة بقدرتها على غربلة طلبات القبول وتدقيقها لاختيار أفضل الطلاب (عويدات، 2020).
وقد بيّنت كثير من الدراسات والبحوث الجارية أنّ المؤسّسات الجامعية ستشهد حالة متوتّرة من التّشارك والتّنافس مع المؤسّسات التكنولوجية الكبرى المتخصّصة في مجال الإلكترونيات التعليمية والتّواصل عن بعد عن طريق المنصّات والشّبكات. فهذه الشّركات تمتلك أفضل المنصّات التّكنولوجية وأخطر التقنيات الحديثة التي ما زالت طيّ السّرّية والكتمان، والتي تشهد تطوّرا غير مسبوق بين الشركات العالمية. والمؤسّسات الجامعية ستكون الخاسر الأكبر في وضعية المشاركة أو التّنافس، وهي بين خيارين أحلاهما مرّ. ويضاف إلى ذلك توقّد منافسة جديدة بين الجامعات على استقطاب الطلاب من عالم مفتوح في كلّ أنحاء العالم؛ لأن التعليم الإلكتروني الجديد يقوم على مبدأ تحطيم حدود الزمان والمكان، إذ يعتمد على المهارات والإنجاز، ويخترق الجدران التّقليدية للتّعليم الجامعيّ التقليدي في دورتيه الزّمكانية.
فالمنافسة ستكون شرسة بين الجامعات في العالم، في حال الاعتماد الكامل على التّعليم عن بُعد، وهو أمر مفروغ منه. وهذا يؤدّي إلى إلغاء شروط الإقامة والسّكن في البلدان المقصودة للدّراسة التي تشكّل مقرّا رسميّا للجامعات المرغوبة والمطلوبة للطلاّب القادمين من أطراف العالم. وهذا يعني بالضّرورة أن الجامعات ستواجه كثيرا من التحديات التي تتعلق بالإيرادات والتّوظيف والاستثمار، إذ يجد الطلاّب مع التعليم الإلكتروني عن بعد “فرصاً مُيسرة إلى حدٍ ما للحصول على قبول من الجامعات، بحيث لا تعدّ تكاليف الإقامة والسفر عائقاً للدراسة في تلك الجامعات”( قناوي، 2020،241 ). وسيكون ” أمام الطلاب الذين يدرسون في جامعات داخل بلدانهم نفس الخيارات للتعلم عن بُعد في جامعات مرموقة عالمياً وخارج بلدانهم، ودون اعتبار تكاليف السّفر والإقامة، كما لو كان الحال باشتراط الإقامة في مكان الدراسة. وهذا سيقلّل من عدد الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات الخاصة المحلية بشكل ملحوظ، ولا سيّما إذا قامت الجامعات العالمية بتخفيض رسوم الدراسة فيها تبعاً لانخفاض تكاليف المرافق وبعض النّفقات التشغيلية في موازناتها” ( قناوي، 2020، 241).
7- خاتمة:
يقول ديفيد شيفر، أستاذ علم النفس التعليمي في جامعة ويسكونسِن–ماديسون: “إن نسيج النظام التعليمي يعاد غزلُه الآن مجددًا، وبنتائج لا يستطيع أحد التنبّؤ بها.. وذلك ما يجعل هذه اللحظة مثيرة. إننا في موقف نستطيع أن نبدأ فيه التّفكير في التعليم بطريقة جديدة تمامًا” (ولدروب، 2020).
ونحن لا نعرف حتى اليوم متى ينتهي زمن الفيروس الذي ما زال يتجدد ويتطور ويتمدّد في كل حين. ونحن اليوم على مشارف الفصل الثاني من العام الدراسي 2020/2021، وما زال الإغلاق على أشدّه في أغلب بلدان العالم. وبالرّغم من اكتشاف اللقاحات، ما يزال الجدل الإيديولوجي والطبي يدور حول فعاليتها وغاياتها الأيديولوجية. ومع ذلك كلّه فإنّه يحدونا الأمل بنهاية ممكنة وقريبة لهذا الفيروس الذي هدم كيان الحياة الاقتصادية في العالم، وأدخله في حالة من الرّكود الاقتصادي المؤلم، والكساد المالي المحزن. فالعالم يئنّ بسبب ذلك الدّاء، ويناضل من أجل الاستمرار في الوجود ومكافحة تداعياته.
وتفرض هذه التّجربة المؤلمة والصّعبة على المجتمعات الإنسانية أن تعدّ العدّة، وتوفّر الطاقات والإمكانات المتاحة لضمان مستقبل آمن للأطفال والطلاب والنّاشئة في مجال التربية والتعليم. وفي الوقت الذي تتكيّف فيه الأنظمة التعليمية مع كارثة الإغلاق، يجب عليها أن تتهيّأ أيضا لإدارة المستقبل، ولاسيّما عندما تسنح الفرصة للمدارس والجامعات بإعادة فتح أبوابها، والانطلاق من جديد نحو عالم أفضل. وهذا كلّه يتطلّب اجتراح المبادرات العلميّة الذكية في مواجهة الأزمات والتغلّب على أشدّ التحدّيات والأزمات. ولا بدّ للمؤسّسات التعليمية من أن تتبنّى الابتكارات العلمية والإلكترونية الجديدة، وأن تعمل على استكشاف الحلول الإبداعية لمختلف المشكلات التي يمكن أن تواجه سير العملية التربوية في مستقبل الأيام. وعليها أيضا العمل المستمرّ لتطوير إمكاناتها وزيادة فعالياتها الإبداعيّة في مجال تبنّي التكنولوجيا الحديثة الذكية المتطورة في الفضاء الإلكتروني، من أجل مستقبل آمن قوامه الصّمود في وجه الأزمات ومواجهة التحديات (البنك الدولي، 2020، 8).
فالتجربة التي نعيشها اليوم كانت وما زالت تجربة صعبة يلفها التعقيد الكبير، وتحكمها تضاريس الخوف ونقص التجربة في ميدان الاستعداد للكوارث. ومع ذلك يمكن القول: في كل غصة فرصة، وسيعلمنا التاريخ أن مصيبة كورونا لا تخلو من إيجابيات التحريض على الفعل والنشاط والإبداع البشري في مختلف المجالات، ولاسيما في مجالات الصحة والتعليم. وكما قيل سابقا إن هذه التجربة ما هي في نهاية الأمر غير تجربة قصيرة من أجل التّحضير لما هو أعظم وأخطر وأشدّ وقعا في المستقبل القريب أو البعيد. فالعالم الذي نعيش فيه والزمن القادم محمّل بالمفاجآت الصّعبة والكوارث المحتملة بيئيّا وعسكريّا وجرثوميا. ومن هنا كان كورونا وسيكون إنذارا مبكّرا على الدروب المحفوفة بالخطر والمسارات المفخّخة بالمفاجآت الكثيرة في دورة التطوّر الإنساني.
فالإغلاق المدرسيّ الشّامل والحصار الصّاعق الذي صدم أكثر من 400 مليون طالب جامعي على سطح الكوكب يشكّل لحظة تاريخيّة فاصلة في مجال تطوّر التعليم الجامعي في جميع أنحاء العالم. وأبرزت هذه الصّدمة الوبائية الحاجة الكبرى إلى تطوير التّرسانة الرّقمية وتكنولوجيا التعليم في مختلف مؤسّسات التعليم العالي، كما أبرزت الأهمية القصوى لبناء الخبرات والكفاءات الرقمية لدى المجتمع التعليمي للتغلّب على هذه الأزمة بداية، ومن ثمّ الدخول في عصر جديد يتخاصب مع معطيات الثورة الصناعية الرابعة في مجاليْ التدريس والتعلم في عالم رقميّ، ليكون على أهبة الاستعداد لمواجهة التحديات المستقبلية.
ومع أن معظم المؤسسات التعليمية لم تستثمر تقليديًا في التعليم الرقمي عبر الإنترنت باعتباره جانبًا أساسيًا من تجربة المتعلم، فإنّ المدّ بدأ يتغيّر منذ بضع سنوات مع التزام الجامعات الكبرى ببناء خبرات أكاديمية رقمية بالكامل. ومما لا شكّ فيه أنّ الأزمة الحالية ستؤدّي إلى تسريع هذا الاتجاه وسنشهد لاحقا فترة من التجارب الصّعبة للجامعات ومؤسسات التعليم في ميدان التعليم الإلكتروني عن بعد في جميع أنحاء العالم، على غرار ما شهدناه خلال أزمة عام 2000 التي أجبرت المؤسسات على تحديث بنيتها التحتية التقنية (Lederman, 2020).
إن تطوّر التعليم عن بعد من هيئته القائمة على النّقل إلى صورته الإلكترونية النموذجيّة لا يمكن أن يحدث إلاّ في سياق تكنولوجي واجتماعيّ واقتصاديّ محدّد، ويعدّ هذا الانتقال من الصّورة البسيطة إلى الصورة النموذجية تحدّيًا كبيرًا يواجه الأنظمة التعليمية في مختلف أنحاء العالم. وهذا يعني أيضا أنّ الانتقال من نموذج التعلم التقليديّ إلى نموذج التعلم الإلكتروني عن بعد ليس مهمّة بسيطة بل هي مهمّة معقّدة تنطوي على ممارسات استراتيجية فعالة. وفي هذا السياق، قامت بعض الجامعات في ظل الأزمة بمحاولات جادّة للانتقال بالتعليم من صورته التقليدية إلى هيئته الإلكترونية، فأدخلت منظومة من التّغييرات التدريجيّة، وركّزت على نهج التّعلم المدمج، وعزّزت فرص التّفاعل الحقيقية بين الطلاب والمعلمين عبر الإنترنت، ووظّفت عددا من المنهجيات والتقانات المتجدّدة. وقد أدركت الجامعات الرائدة عالميًا أخيرًا ضرورة الاستعداد للمستقبل، وبدأت تدرس كيفيّة تقديم التعليم والتّدريب العالي من خلال الإنترنت، مع النّظر إلى جدوى الاستثمار في الواقع الافتراضي والواقع المعزّز وإتاحته للطلاب في جميع أنحاء العالم (ديهان، 2020). ومع أهمّية هذه المبادرات، فإنّ معظم الجامعات لم تبدأ بعد أي عملية للتكيّف مع التعلّم عن بعد بصورته النموذجيّة (Lederman, 2020). ومما يؤسف له أن عددا كبيرا من الجامعات ولاسيما في البلدان الفقيرة ليس لديها بنية تحتية أو موارد كبيرة لتأصيل هذا التعليم القائم على أرقى إنجازات الثورة في ميدان الإلكترونيات والبرمجيات الرقمية المتقدمة في مجال التعلم عن بعد (Lederman, 2020).
وبعد هذا كلّه يمكن القول إنّ هناك جامعات متقدّمة تقوم بالتعلّم النّموذجي عن بعد في أفضل المستويات، وعندما تضع الجامعات خططًا أكثر قوّة للتأهّب للكوارث في المستقبل، فإنّها ستكون قادرة على تحسين قدراتها وإمكاناتها الرقمية، وصولا إلى تحقيق أرقى مستويات هذا التعليم في حلّته المتطوّرة على صورة التّعليم المعزّز بالواقع الافتراضي والنانو تكنولوجي.
مراجع الدراسة
– Bradley , James N. (2021) Strategic Transformative Technology Executive, In linkedin , Accessed on 22/1/2021. James N. Bradley on LinkedIn: #pandemic #newpossibilities #models | 27 comments.
– Chomsky , Noam (2021). The Death of American Universities , Jacobin, 3/3/2014, Accessed on 18/1/2021. https://www.jacobinmag.com/2014/03/the-death-of-american-universities/
– Lederman , Doug (2020). Will Shift to Remote Teaching Be Boon or Bane for Online Learning? Because of COVID-19, March 18, 2020. https://www. insidehighered. com/digital-learning/article/2020/03/18/most-teaching-going-remote-will-help-or-hurt-online-learning. Accessed on 23/12/2020.
– Lederman, Doug (2020). Will Shift to Remote Teaching Be Boon or Bane for Online Learning? Because of COVID-19, March 18, 2020. https://www. insidehighered. com/digital-learning/article/2020/03/18/most-teaching-going-remote-will-help-or-hurt-online-learning. Accessed on
– Lederman, Doug (2020). Will Shift to Remote Teaching Be Boon or Bane for Online Learning? Because of COVID-19, March 18, 2020. https://www. insidehighered. com/digital-learning/article/2020/03/18/most-teaching-going-remote-will-help-or-hurt-online-learning. Accessed on 23/12/2020.
– Touraine , Alain(1973). Death or change of the universities? Prospects, Vol. III, No. 4, Winter 1973.
– Xing , Bo and Marwala , Tshilidzi ( 2017). Implications of the Fourth Industrial Age for Higher Education, SCIENCE AND TECHNOLOGY , V o l u m e 7 3 , 2 0 1 7. Electronic copy available at: https://ssrn.com/abstract=3225331
– البنك الدولي (2020). جائحة كورونا: صدمات التعليم والاستجابة على صعيد السياسات، تقرير مايو، واشنطن، 2020.
– الحكومة الرقمية (2020). تقرير، كيف يبدو مستقبل التعليم في عصر ما بعد كورونا؟ الحكومة الرقمية، 25 أكتوبر 2020. https://digitalgov.sa/?p=3461 شوهد في 12/12/2020.
– الصباغ، فؤاد (2020). التعليم العالي عن بعد زمن كورونا: الإيجابيات والسلبيات، القدس العربي19 – سبتمبر – 2020. http://bitly. ws/aMGu شوهد في 11/12/2020.
– توفلر، آلفين (1990). صدمة المستقبل أو المتغيرات في عالم الغد، ترجمة محمد علي ناصيف، نهضة مصر، القاهرة 1990.
– ديهان، باتريك (2020) جائحة كوفيد-19 تعزز فرص تحصيل التعليم العالي عن بعد التعليم والتدريب العالي من خلال الإنترنت، مؤسسة دبي للمستقبل، 21سبتمبر، 2020. https://mostaqbal. ae/covid-19-pandemic-enhances-access-to-higher-education-via-distance-learning/ شوهد في 14/12/2020.
– سعد، فواز (2018). الجامعات والثورة الصناعية الرابعة، صحيفة مكة، 7 يونيو، 2018. https://twitter.com/makkahnp/status/1004988977600966657
– عنقاوي، حنان عبدالله (2020). التعليم الرقمي.. الصدمة الإيجابية، 30 أبريل 2020، عكاظ، https://www.okaz.com.sa/articles/people-voice/2021937
– عودة، سليمان (2020). الأستاذ “كورونا” يعيد صياغة مستقبل التعليم، أولاكم، 24/4/2020، http://bitly.ws/aMAe. شوهد 11/12/2020.
– عويدات، نادية (2020). التعليم الجامعي في زمن كورونا: فرص جديدة، ناس نيوز، 2020.06.01. https://www.nasnews.com/view.php?cat=32057 شوهد في 13/12/2020.
– قناوي، شاكر عبد العظيم محمد (2020). جائحة كورونا والتعليم عن بعد: ملامح الأزمة وآثارها بين الواقع والمستقبل، والتحديات والفرص، المجلة الدولية للبحوث في العلوم التربوية، المجلد 3 العدد 4 – 2020. صص 225-260.
– وطفة، علي أسعد (2020). مستقبل التعليم العالي الخليجي في ضوء الثورة الصناعية الرابعة: قراءة نقدية في إشكالية الصيرورة والمصير، الكويت: مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية، 2020.
– ولدروب، ميتشيل (2013). التعليم عبر الإنترنت: المختبر الافتراضي، Nature، 28 أغسطس 2013. https://arabicedition.nature.com/journal/2013/08/499268a شوهد في 13/12/2020.
[1] – كلايتون كريستنسن (Clayton M . Christensen): أحد أبرز الشخصيات الملهمة في العالم بمجال الابتكار والتنمية الاقتصادية، وأستاذ إدارة الأعمال في كلية هارفارد للأعمال. ويعتبر من أكثر المفكرين تأثيرا في مجال الأعمال حول العالم وهو مبتكر مصطلح الابتكار المزعزع (Disruptive Innovation) في عالم الأعمال.
[2] – منهج تحليل العناصر المحددة (FEA) هو محاكاة لأيّ ظاهرة فيزيائية معينة باستخدام التقنية العددية التي تسمّى طريقة العناصر المحددة (FEM). يستخدمه المهندسون لتقليل عدد النماذج الأولية والتجارب المادية وتحسين المكونات في مرحلة التصميم لتطوير منتجات أفضل وأسرع.
*المصدر: التنويري.