الانتظام العربي العام: مشكلة الدين والدولة والمجتمع
عقدت الرابطة العربية للتربويين التنويريين، يوم السبت الموافق 4 بونيو/حزيران 2022، وعبر تقنية الاتصال عن بعد، ندوة حواريّة لمناقشة كتاب (الانتظام العربي العام: مشكلة الدين والدولة والمجتمع) بمشاركة مؤلفه الدّكتور وجيه قانصو، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة، وأدار الندوة الأستاذ عبدالله الجبور، الباحث في الاجتماع السياسي والمدير التنفيذي لمركز المواطنة.
ورحَّب مدير الندوة، الأستاذ عبدالله الجبور، بالحضور وبضيف الندوة الدّكتور وجيه قانصو، لافتًا إلى أنّ الكتاب الذي صدر عن دار الفارابي، ليس مهمًّا فقط للأكاديميّين والباحثين، بل يمكن أن يكون مرجعًا للمؤسّسات التربويَّة التي تعمل على تطوير نسق التفكير والاطّلاع على الفكر العربي، وهو مهمّ أيضًا لمؤسّسات المجتمع المدني التي تشتغل برامجها وأنشطتها على قضايا تتعلّق بالمجتمع المدني وتطوير الانتظام السياسي والثقافة السياسيَّة بشكلٍ عام.
وأضاف: أنّ هذه الندوة تهدف إلى التعرّف على كتاب (الانتظام العربي العام: مشكلة الدين والدولة والمجتمع) بشكلٍ عام، وأهميّته، وأيضًا بشكلٍ خاص، معرفة الدوافع التي جعلت مؤلّفه يشرع بإعداده وإصداره، موضحًا أنَّه يمكن تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أبواب وخاتمة؛ إذ يقدّم الباب الأوَّل قراءة منهجيَّة موجزة لنظمٍ سابقة على المجال السياسي العربي وممهّدة لظهوره، فيما يعالج الباب الثاني مراحل تأسيس المجال العربي العام في أزمته المبكِّرة، ويبحث الباب الثالث مشكلة الدولة العربية الحديثة والمعاصرة وموجاتها الدينيَّة وجدل علاقتها بالفرد والمجتمع.
افتتح الدكتور وجيه قانصو مداخلته، منطلقًا من الهاجس الذي كان يحرّكه عند كتابة الكتاب، وهو مسار إحباطات متتالية دفعته إلى التساؤل؛ لماذا لا ينتظم الواقع العربي العام؟ ولماذا نعاني من خيبة أمل مستمرّة؟ لماذا يخفق المجتمع في أن يولّد منظومته السياسيّة؟ والسؤال الكبير حول الثورات العربيَّة التي كان من المتوقّع أن تحدث تقدّمًا إلى الأمام، فيما لم تأتِ نتائجها بحجم توقّعاتها، أو على الأقل بحجم مطالبها وآمالها؟ وهنا تولّد السؤال القديم الجديد: أين المشكلة؟ ما الذي يجعل الواقع العربي يدخل دائما في دائرة من الفشل المستمرّ والسقوط؟
ولفت الدكتور قانصو، أنّنا تعوّدنا في مقاربتنا لهذه المشكلة، إمّا أم نلوم الحكّام أو الأشخاص، أو سوء الأداء، أي أنّنا نشخصن المشكلة ولا ننظر إلى ما هو أعمق، وعندما نقدّم بدائل، نقدّمها بصيغ إيديولوجيَّة تندرج كلّها في إطار لاهوت سياسي أكثر ممّا تندرج في إطار قراءة الواقع والتعرّف إلى مشكلاته ومآزقه العميقة. لذلك يلعب المنهج دورًا كبيرًا في تصويب وجهة النظر وفي تصويب النتائج التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، من هنا اعتمدت عنوان الانتظام العربي عوضًا عن أن أنطلق من مشكلة الدولة أو مشكلة المجتمع أو مشكلة الدين، إنما مشكلة الانتظام أي الأرضيَّة ومجمل القواعد والمبادئ التي ينتظم بها مجتمع ما، وتتولّد من خلال قواعد هذا الانتظام مؤسّسات وهياكل سياسيَّة، سمّها دولة أو سلطة، إنّما نحن لا نتحدّث عن النظام ولا نعمل على نقد النظام أو أي نظام سياسي، إذ لا يكفي أن ننتقد الشخصيّة الحاكمة، إنّما لا بد من النظر في قواعد النظام؛ أي المبادئ ومنظومة القيم والالتزامات ومجمل العناصر المحدّدة لأي نشاط سياسي ولأي فعلٍ سلطوي إن صحّ التعبير، فالانتظام هو العمليَّة التي يحصل بها النظام، فنحن هنا نتحدّث عن شيء متحرّك لا ثابت أو جوهراتي، أي عمليَّة تحقّق النظام. إذن بدل الاستمرار في انتقاد سلطة معيّنة والبحث عن بدائل معيّنة جامدة دون سياقها التاريخي، لا بد من النظر في ما هي القابليّات التي يرتكز عليها الواقع، بحيث تسمح لهذا الواقع أن يتبنّى هذه المنظومة أو أن يحقّقها، وهي عمليّة قراءة تتجاوز الرصد الحسّي المباشر العيني إلى نوعٍ من التحليل العقلي أو المعرفي أو المفاهيمي أو العلمي بوصفها مفاهيم كامنة.
وأضاف مؤلّف الكتاب: في قراءة المشهد اعتمدتُ مبادئ أساسيَّة هي: المبدأ الأول والذي أعتبره فتحًا في مفهوم السياسة، هو أنّ السياسة كائن صناعي، هي نشاط ابتكار وفعل خلق، وبالتالي ليست حقيقة غيبيّة بل هي شيء ننتجه ويملك قابليّة التطوير والتعديل باستمرار. المبدأ الثاني هو الأبعاد الثلاثة للسلطة وهي؛ السلطة المباشرة أي السلطة التي تخوّل الفرد (أ) من أن يمارس سلطة على الفرد (ب)، والنوع الثاني هو السلطة الخفيّة ويسميها البعض سلطة (المنع والصدّ) وهي السلطة التي يحملها الفرد (أ) وتمنع الفرد (ب) من دخول المجال السياسي، أمّا البعد الثالث فهو السلطة الكامنة، وهي السلطة التي لا تقتصر على من يملكها فقط، إنما هي التي تجعل من يأتمر بها يقبلها ويتبنّاها، أي أنّ هذه السلطة تكون جزءًا من معتقده، وحتى نقرأ السلطة لا يكفي أن نقرأ السلطة المباشرة ونقدّم البدائل بالشكل اللاهوتي أو الجوهراتي، إنّما هي قراءة في مرتكزات هذا الواقع من حيث قواعد اللعبة التي توضع في السياسة ومن حيث السلطة الكامنة التي هي جزء من حقيقة المجتمع.
وقال: لعلّ الكتاب اشتغل على تشخيص المشكلة، وتشخيص مسار تشكّل السلطة لا بكونها حقيقة كاملة بذاتها، بل تشكّلها داخل دائرة نظام عام في المجتمع، آخذًا في الاعتبار وجود ثلاثة عناصر أساسيّة شكّلت الجدال فيما بينها، هي: السلطة والمجتمع والدين. في البحث عن أصل المشكلة، ارتكزت على أنّ الراهن هو ثمرة من ثمار الماضي، وكنتُ أبحث عن لحظةٍ تاريخيّة يمكن أن تكون بداية أو انطلاقة اقراءة وتشخيص مشكلة الحاضر، لفهم طبيعة رسوخ الماضي في الحاضر واتخذاه شكلا معيّنًا من نظام علاقات، من مشروعيّة سياسيَّة، من مبادئ وقيم معيّنة، وتوصّلت إلى أنّ اللحظة التأسيسيّة التي ما تزال ذات تردّدات قويّة وحضور أساسي لمشكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع والدين هي لحظة التجربة النبويَّة. أخذت أبحث في الشروط والوضغيّات والسياقات التي أنتجت هذا الواقع، أو جعلته ممكنا، حتى نفهم لمذا سار واقعنا باتّجاه ترتيب معيّن ولم يذهب باتّجاه ترتيب آخر؟ لمذا أخذ شكل سلطة معيّنة ولم يأخذ شكل سلطة أخرى؟ شروط الإمكان تجعلنا نفهم ما الذي يجعل نظامًا سياسيًّا معيّنًا في واقعنا ممكنّا، وما الذي يجعل نظامًا آخر غير ممكن.
وأكّد الدكتور وجيه قانصو، أنّ اللحظة التأسيسية الأولى هي اللحظة التجريبية الأولى النبويّة، واعتمدت هنا القراءة عوضا أن تكون- وهو عادة ما نقرأه في السيرة- ما هي الإجراءات السياسيّة التي اعتمدها النبي ليحقّق دعوته الدينيّة؟ أـي ندرس الدعوة ليس في سياقها السياسي فقط، إنما في سياق مراحلها ومراحل الوعي وطبيعته والممارسات السياسيّة التي اعتمدها النبي لتنجح من خلالها الدعوة، القراءة هنا أخذت منحى معاكس، وهي قراءة الدعوة من منظور سياسي، أي الدلالة السياسيَّة لدعوة الدين، أي ما أحدثته الدعوة الدينيّة من تحوّل في البيئة العربيّة بمكوّناتها المتعدّدة، وهذه القراءة لا تجعلنا نفهم الدين من منظور قيمي أخلاقي وعظي تقوي، إنما نقرأ الدعوة من منظور دلالتها السياسيّة أو الإمكانيّات التي وفرتها للمجتمع في أن يتحوّل من مجتمع قبلي مشتّت إلى مجتمع آخر. هناك عنصران أساسيّان: الأول هو تحويل البيئة العربيَّة من بيئة مشتّتة قائمة على قبائل كانت أعراف لديمومة السلم، لكنّها لم تتطوّر لتأخذ وضعيّة سياسيّة أو اجتماعيَّة. جاء الإسلام ووضع إطارًا أعلى من إطار القبيلة دون أن يفكّكها، وأنشأ إطارًا ذا طبيعة كليّة عامّة، فهذه الطبيعة تقوم على فكرة التوحيد، أي أنّ فكرة التوحيد لم تأتِ لتكون فقط فكرة تقويّة أخلاقيّة دعويّة إنّما هي لها دور اجتماعي وسياسي في البيئة العربيَّة، فسنحت بالمجال لتكوّن تضامنات وأطر علاقات أكثر اتّساعًا. الأمر الآخر أنّه أنشأ مركزيّة حوّلت الواقع العربي من واقع مشتّت إلى مركزيّة بمكوّن عربي، هذه المركزيّة كانت ضروريّة لخلق كيان سياسي. العنصر الآخر المهم هو مفهوم الأمّة الذي أنشأ رابطة وتضامنًا وساعًا بمثابة إطار ضمّ داخله كل الأطر الجزئيّة.
وأضاف: أنّ هذه المرتكزات الدينيَّة التي تعتمد على النص أنشأت تحوّلًا هائلًا، لكننا لا نستطيع أن نقول إن الإسلام أنشأ دولة، بل إنّه أوجد قابليّة لإنشاء دولة، لأن الإسلام هو الإطار الحضاري الذي مكّن البيئة العربيَّة من إنشاء دولتها وانتظامها السياسي، وهذا الانتظام يأخذ ألأشكالًا متعدّدة وسياقات متعدّدة، وبالتالي فالنص لم يأتِ ليقدّم نموذج نظام سياسي، إنّما جاء ليؤطّر واقعًا ويخلق بداخله عناصر تفاعل وديناميّة معيّنة. هذه الديناميّة ولّدت أشكالًا سياسيّة وأطر سياسيّة متعدّدة، ومن هنا فإن إحدى مشكلاتنا هي فهم النصوص الدينيّة والتعامل معها بصفتها نصوصًا تتكلّم عن تقديم نموذج جاهز لا اجتهاد فيه ولا تحول ولا تغيّر فيه، وصار أقرب ما يكون إلى نموذج طوباوي، والطوباويّة تؤدّي إلى كوارث في قضايا الفكر والفهم الديني.
وقال مؤلّف الكتاب: إنّ المجال السياسي يتكوّن عندما تنشأ شبكة من المصالح خارج الإطار الديني، واقتصاد خارج الإطار الديني لا يقوم على قاعدة تقويّة، وعندما تنشأ عناصر التنافس بين القوى الاجتماعيَّة، وقد بدأ نشوء مجال سياسي أو سياسة تقوم على شبكة مصالح منذ زمن معاوية، لكن ما حصل إنّنا لم نفسّر السلطة على أساس مجتمعي أو ديني، بل على أساس غيبي قدري أي أنّها من الله، وبالتالي على الإنسان أن يؤمن بالقضاء والقدر، بالتالي انفصلت السياسة والسلطة ليس فقط عن المجتمع بل عن الدين أيضا، أمّا موقف الفقيه بشكل عام فقد اعتبر أنّ إمكانيّة العودة إلى الخلافة أمر غير ممكن، فلا بد من التعامل مع سلطة الأمر الواقع، لأنَّ البديل هو الفوضى والتشتّت، لكن ظلّ إقرارها ليس بصفتها سلطة شرعيَّة تقوم على قاعدة الدين، إنّما بصفتها سلطة الأمر الواقع التي لا يمكن الاستغناء عنها، وما حدث في المجال السياسي أنّ المجتمع انفصل عن السلطة، وبالتالي بقي نظامه خارج مجال السلطة وخارج الانتظام العام، لهذا كان المجتمع يلجأ إلى الشريعة وهذا يفسِّر تضخّم أحكام الشريعة التفصيليّة، لأنّ الفقيه اضطرّ أن ينظّم المجتمع ، لكن المشكلة أنّها كانت لا تقوم على قاعدة كليّة إنّما على قاعدة المكلّف الفرد.
وفي تفسير الوضع السياسي المعاصر، بيّن الدكتور قانصو، أنَّ الدولة العربيّة المعاصرة هي حصيلة إرث فقهي، بنية تقليديّة للمجتمع، ووعي معيّن لمفهوم السلطة والسياسة استقرّ على هيئة معيّنة، بالإضافة إلى مكوّنات دخلت من الخارج مثل الحداثة والاستعمار، لكن حتى عندما دخلت الحداثة إلى الدولة العربيّة لم تتمّ عمليّة قراءة الحداثة وفهم أبعادها، وجرى الاكتفاء بتحديد الموقف العملي منها. صحيح أنّ العهد الإصلاحي أخذ موقفًا إيجابيًّا من الحداثة ومن الكثير من قيم الليبراليّة ومفاهيم العقلنة، إنّما القدرة على تشخيص هذه المفاهيم أو الكشف عن أصولها الفلسفيّة لم يكن أمرًا ممكنًا بل قاصرًا، وما حصل أنّ المسافة بين الدولة والمجتمع زادت مع الدولة العربيّة المعاصرة، بحكم أنّ دولة ما بعد الاستعمار اقتبست من الحداثة ما يزيد من قوّتها وبطشها واستبدادها، وظلّت البيروقراطيّة زبائنيّة، والاقتصاد ريعيًّا، وغياب الاقتصاد المنتج منع انبثاق مفهوم الفرديّة، وعدم انبثاق الفرد أدّى إلى أن المجتمع لم يستطع أن يقوم على قاعدة عقد اجتماعي بين أفراده، وبالتالي منع انتقال المجتمعات العربيّة من طور العلاقات العضويّة إلى طور المجتمعات المدنيّة، من طور الهويّة الدينيّة إلى أن يكون الدين جزءًا من مكوّنه مع بقاء قاعدة العقد الاجتماعي هي الأساس والتي تقوم على التوافق بين أفراد المجتمع.
وختم الدكتور وجيه قانصو، مؤكّدًا، أنَّ الكتاب يحاول أن يقول إنّ هناك جملة مفاهيم ترسّخت وجاءت من التقليد لم يتمّ إعادة إنتاجها أو إعادة التفكير في حججها ومنطقها، وكل ما جاء من الخارج إمّا جاء بطريقة الفرض أو بطريقةٍ إيديولوجيّة شعاراتيّة، أو بطريقة الرفض المطلق ولم يتمّ تفحّص المفاهيم التي يتمّ تلقّيها. لم يكن هناك أي تأسيس مفاهيمي أو عدّة مفاهيميّة أو طاقة تنظيريّة تؤسِّس لواقع يختلف عن هذا الواقع الذي نعيشه، لذلك كنّا نرى خلال الثورات رغبة عند الناس لتأسيس واقع أفضل لكن مع غياب شروط إمكانيّة تغيير الواقع وجدنا أنّها كانت تسير في مسارٍ دائري، أي تتحوّل إلى حركات احتجاج أكثر من أن تصير حركات تغيير حقيقي.
شهدت الندوة التي حضرها عددٌ من المهتمّين والفاعلين في مجال التنوير الديني، نقاشًا موسّعاً، أجاب فيه الدكتور وجيه قانصو، على أسئلة الحضور المتعلّقة بمضامين الكتاب ومحاوره، علمًا أنّ الندوات ستتواصل بشكلٍ دوري، ويمكن للمهتمِّين متابعة منصّاتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي نعلن من خلالها عن مواعيد الندوات، ونتيح المشاركة فيها.
*المصدر: التنويري.