ينطوي مسرح الحياة الإنسانية على مشاهد تتجاوز حدود التصور بغرابتها، وتفوق إمكانيات الخيال بمفارقاتها. ومع ذلك فإن هذه المفارقات تندرج في حدود الواقعي الممكن، وتأخذ مساحتها الحقيقية في دائرة الأحداث التاريخية. ولا ريب في ذلك فأساطير الواقع تتجاوز حدود الأساطير التي نسجها الخيال، ولطالما حوّل الإنسان شطحات خياله إلى واقع ووقائع تشهدها الحياة الإنسانية، وتعيشها عبر إنجازات علمية تفوق حدود الوهم وومضات الخيال.
وفي هذه الدائرة من مشاهد المفارقات الصعبة يقع موضوع الأطفال المتوحشين، وهم هؤلاء الأطفال الذين رمتهم أقدارهم إلى الحياة في البراري والغابات، فوجدوا أنفسهم في أحضان الحيوانات البرية والوحوش الكاسرة التي أغدقت عليهم من الحب والرعاية ما كان يمنحهم القدرة على الحياة والأمل في مواجهة مواجهة أقدارهم .
لقد وجد الأطفال الضائعون في الحيوانات البرية ما عوضهم عن حنان الأم ورعاية الأسرة، وتلقوا على أيدي هذه الكائنات كل التدريبات والمهارات الضرورية لاستمرارية الحياة. ولكن ما يدهش في هذا العالم الوحشي أن هؤلاء الأطفال قد فقدوا خصوصيتهم الإنسانية، وأصبحوا مع الوحوش، التي عُنيت بهم، من طبيعة واحدة سواء بسواء. وعندما اقتضى قدر الله لهم أن يعودوا إلى حظيرة المجتمع الإنساني فقدوا كل إمكانيات التكيّف وشدّهم الحنين إلى حياتهم البرية فبذلوا كل ما في الإمكان للهروب والعودة إلى سيرتهم الأولى.
في هذه المقالة سنبحث في حقيقة الأطفال المتوحشين وسنسرد أهم الأحداث التي دوّنت حول حياتهم وتجاربهم. وسنقدم إجابات علمية حول أسئلة وجودية محيّرة يطرحها الناس الذين يترددون في تصديق ما يصعب تصديقه. ومن هذه الأسئلة الكبرى يطالعنا السؤال المركزي حول مصداقية وجود مثل هؤلاء الأطفال في واقع الأمر، وحول مصداقية الأدلة التي تبرهن على هذه الحقيقية. في هذه المقالة سنستعرض حالات أطفال متوحشين تقريبا عثر عليهم في كثير من أرجاء العالم منذ بداية من القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين، حيث سجلت آخر حالة في عام 1963، وقد بلغت هذه الحالات أكثر من خمسين حالة.
ومع أهمية الوثائق والمعطيات التي نجدها حول أطفال التوحش فإنه يمكن التركيز على حالات أربعة لأطفال خضعوا بشكل علمي منظم للدراسة والبحث العلمي هي: حالات آمالا وكامالا وقاسبار وفيكتور، وقد شكلت هذه الحالات الأربعة منطلق التوجهات العلمية التي اعُتمدت لدحض الأطروحة التي ترى في حقائق الأطفال المتوحشين مجرد أوهام سيكولوجية نسجتها مخيّلات هؤلاء الذين يبحثون عن عوامل الإدهاش والإثارة فيقدمون الواقع في صيغة أسطورية مبالغ في أحداثها.
في حقيقة التوحش الإنساني:
تفيض الأساطير والحكايات القديمة بصور لكائنات إنسانية متوحشة وتنطوي هذه الأساطير على تلميحات وتصريحات لعلاقات وشيجة بين الأطفال وبين كائنات ووحوش مفترسة مرعبة. ففي القصص التي رواها المؤرخ العظيم هيرودوت Herodotes يحدثنا عن كائنات إنسانية متوحشة عاشت وتربّت في رعاية حيوانات برّية متوحشة. لقد عاش تيرو Thyro وتربّى بين العجول والأبقار، وكان زوس Zeus قد رضع من ثدي العنزة امالثي Amalthée وتربّى في أحضانها، وكان ريمولوس Remus ورومولوس Romulus قد عاشا وربيا كل منهما في أحضان أمهات ذئاب.
ونجد مثل هذه القصص في الأدب الفارسي الذي يموج بحكايات خرافية عن أطفال عاشوا وتربّوا في أحضان الدببة والذئاب. وهذا ما نجده أيضا في الأساطير اليابانية عن القردة الحاضنة للإنسان. كما نجد مثل هذه القصص في الأسطورة الهولندية لعروس البحر التي قذفت بها الأمواج على شاطئ ادام Edam في القرن الخامس عشر. وهذا كله يعبر عن هواجس إنسانية وخيالات مغرقة في القدم حول طبيعة العلاقة الممكنة بين الإنسان والكائنات البريّة. وإذا كانت الأسطورة تشحذ إمكانيات الخيال فتأتي الصورة في أكثر تجليات الجمال إبداعا وسحرا، فإن الواقع أحيانا قد يفوق ما يكتنزه الخيال من جمال ومن قدرة على الإدهاش. وهذا ما نجده في الاكتشافات الواقعية لطبيعة العلاقة بين الأطفال المتوحشين والحيوانات البرية.
لقد استحوذت حالة الأطفال المتوحشين اهتمام كثير من المفكرين والفلاسفة والعلماء في مختلف الميادين فبدؤوا بحثهم المتواصل في جوانب هذه القضية وفي تضاريسها. وهنا نجد جهودا مميزة تعود إلى برنار كونور Bernard Connor بوصفه مؤرخا، وبوفون Buffen بوصفه عالم طبيعة، وكوندياك Condiac بوصفه فيلسوفا، حيث أولى هؤلاء المفكرون قضية الأطفال الذين قذفت بهم الأقدار إلى الحياة في الغابات والكهوف والمغاور اهتماما كبيرا.
وفي هذا الميدان تكاثفت الشواهد التاريخية على وجود أطفال متوحشين عاشوا في البراري واستمروا في الحياة في دائرة شروط غير إنسانية. لقد عثر على الطفل الملقب بـ هيس L’enfant de Hesse عام 1344، ويروى أن الذئاب كانت قد هيأت له حفرة فرشتها بأوراق الأشجار كما كانت تحيط به أثناء الليل لوقايته من البرد. هذا الطفل كما هو واضح عاش بعيدا عن الوسط الإنساني في عناية الذئاب وحمايتها، وكان هذا الطفل يسير على أربع أقدام على طريقة الذئاب إلى درجة أنه أصبح من الضروري ربط جسمه بقطع من الخشب قصد إلزامه بالوقوف على قدميه مع الحفاظ على توازنه.
وحالة هيس تتشابه كثيرا مع حالة الطفل الذي عثر عليه في غابات منطقة ليتوانيا Lithuanie الذي كان يعيش مع الدببة. ولم يكن حسب قول دي كندياك يبدي أية علامة تدل على أن يمتلك أية إمكانيات عقلية بشرية، إذ كان يمشي على رجليه ويديه، ولم يكن يتكلم أية لغة، والأصوات التي كان يصدرها تختلف كليا عن أصوات الإنسان.
ومن أكثر القصص غرابة وأهمية أيضا في هذا المجال قصة الطفل الدب الذي لقب بـ جوفينوس أورسينوس ليتوانوسJuvenis Ursinus Lithuanus الذي اكتشفه الصيادون في منطقة ليتوانيا Lithuania عام 1661. وعندما ألقي القبض عليه كان هذا الطفل يدافع عن نفسه بالزمجرة والخدش والعض، وكان يقبل بشراهة على أكل الكرنب choux والعشب واللحم النيئ، وقد مزق الثياب التي حاول الصيادون أن يلبسوه إياها يوم القبض عليه، ولم يستطع حسبما يرويه فالمون دي بونار Valmont de Bonnare في معجمه عن التاريخ الطبيعي، إظهار أية علامة تدل على تكيف حقيقي.
ومن هذه الغرائب قصة الطفل الأيرلندي الخروف جوفينوس أوفنوس هربنوس Juvenus Ovinus Herbernus الذي قبض عليه 1672، هذا الطفل كان يجد متعة مماثلة في تناول العشب والتبن، كما أنه لم يكن يتأثر ببرد الليل. لقد كان هذا المتوحش الايرلندي، كما يصفه الطبيب نيكولا تولب Nicolas Tulp، مسطح الجبين، مستطيل القفا، عريض الحلقوم ثخين اللسان، غائر البطن”.
وفي عام 1719 عثر على طفلة كرانمبرج Kranemburg بولاية ترانزيسلانا Puella Transislana وهي في الشهر السادس عشر من عمرها وسط الغابات المجاورة لـ زفول Zwolle في مقاطعة اوفيرسيل Overyssel بهولندا، وكانت الطفلة ترتدي كساء من القش وقد أظهرت لاحقا اهتماما بعملية التواصل مع الغير رغم شراهتها في تناول الأعشاب والأوراق، ولم تستطع هذه الطفلة تعلّم الكلام ولكنها تعلمت غزل الصوف ومارسته حتى وفاتها.
وفي عام 1724 عثر على المتوحش بيتر هاميلن Peter Hameln سنة 1724، وقد شاهده الملاحون، قبيل القبض سائرا في الاتجاه المعاكس لتيار الوادي، وكان هائما يحمل على جسمه بقايا قميص، ويتغذى بالنباتات وقشور الأشجار. وعند ألقي القبض عليه حاول بعضهم حمله على تناول الخبز، غير أنه امتنع عن ذلك مفضلا تناول لحاء عصا صغيرة من الخشب الأخضر. وكان هذا الطفل المتشرد المدهش يكره الحجز، وتمكن، عدة مرات، من الهرب، وقد اقتيد إلى جورج الأول في بلاط إنكلترا. أن بيتر Peter هذا الذي قدر له أن يعيش 68 سنة في المجتمع الإنساني كان يبدو حساسا، بشكل خاص، للإيقاعات الموسيقية، كما تعلم شيئا فشيئا أن يتحمل الملابس، وأبدى قدرة على ممارسة شيء من التقليد ولكنه لم يتعلم الكلام أبدا.
ومن بدائع الاكتشاف في هذا الميدان العثور على فتاة ريفية برية في إحدى ليالي سبتمبر في بولونيا في منطقة شالون سورمارن Chalon-sur-marne. وشوهدت الفتاة وهي قابعة فوق شجرة تفاح، حيث وثبت عند الاقتراب منها وتمكنت من الفرار، ثم جرت محاصرتها في غابة مجاورة وبعد عملية مطاردة تم القبض عليها عندما نزلت من فوق الشجرة لتشرب من سطل ماء على غرار ما تفعله الخيل. وقد كانت ترتدي خرقا وجلود حيوانات، أظافرها كالمخالب سوداء اللون وبيدها هراوة. أن هذه الفتاة التي سميت فيما بعد الآنسة لوبلان Leblanc كانت تحسن السباحة والعدو، وتتغذى بالطيور والضفادع وتتلذذ بشرب دم الأرانب كلما أمكنها ذلك، ولطالما اعترفت بأنها كانت تجد صعوبة في مقاومة ميلها المرضي إلى شرب الدم.
تعلمت لوبلان لاحقا الكلام عند راهبات منطقة شالون سورمارن Chalon-sur-marne وهو المكان الذي أودعت فيه، حيث جاءت ملكة بولونيا لرؤيتها، كما جاء أيضا دوق أورليان Duc d’Orleans أثر نقلها إلى مقر الكاثوليكيات الجديدات. وأخيرا رغبت لوبلان في أن تصبح راهبة في دير بمنطقة شايو Chaillot ولم يمنعها من ذلك إلا حالتها الصحية التي كانت متردية إلى حد كبير.
وفي الهند تتواتر قصص الأطفال المتوحشين ففي عام 1843 تمّ العثور على طفل بري في منطقة هوزنبور Husanpur في يد الرجا Rajah سنة 1843. وتم العثور أيضا على طفلين متوحشين في منطقة سلطانبور Sultampur عام 1848، حيث توفي ” المتوحش” الأول سنة 1856، أما الثاني فقد فرّ إلى الغاب ولم يعثر له على أثر. وقد أظهرت غالبية هؤلاء المتوحشين الذين كانوا يمشون على أربع، حتى عند إرجاعهم من جديد إلى المجتمع الإنساني، وكانوا لا يستطيعون تحمل أي لباس، كما أبدوا ميلا لأكل اللحم النيئ دون سواه.
وفي حين كان بعضهم يلعق الماء، كان البعض الأخر يشارك الكلاب أكلها للجثث. وبعضهم استطاع أن يتعلم حيث تعلم أحدهم أن يتناول الخبز، وتعلم آخر أن يرعى الأنعام، وتعلم متوحش آخر- كان يهوى التدخين – كيف يشعل غليونا بنفسه.
وفي أوروبا أيضا اكتشفت حالتان في منطقة أوفرديك Overdyke تتعلق أولاهما بطفل خنزير يدعى كليمانس Clemens، كان يبدي ميلا خاصاً لتناول الخضراوات حيث تم أبعاده لمدة طويلة عن حقول الخس المثيرة. أما الحالة الثانية فتخص طفلا ذئبا، كان شديد البراعة في تسلق الأشجار وتقليد زقزقات العصافير واقتناص بيضها وفراخها من أعشاشها إبقاء على حياته، وقد اعتاد ذلك إلى درجة أن أي أحد لم يفلح في حمله على أن يقلع عنها.
وترجعنا حالة هذا الطفل الذئب إلى قصة الطفل الهندي الذئب أيضا الذي أظهر لمكتشفيه، عندما أمسكوه سنة 1872 قرب منطقة مينبوري Munepuri، أنه قادر على شحذ أسنانه بواسطة العظام، وهو استعداد يبدو أنه مكتسب لديه، كما كان يرفض أن يلامس جسمه أي لباس يستر عورته.
وفي نفس الفترة عثر في الهند على أربعة حالات لأشخاص ذئاب آخرين: أولاها حالة فتاة منطقة جالبايثوري Jalpaisuri التي اكتشفها أحد المبشرين عام 1892، وثانيها حالة طفل باتزينبور Batzinpur الذي عثر عليه السميندر شينغ Seminder Shing سنة 1893 بالقرب من داليسنقاري Dalsingari وكان شديد الميل إلى أكل الضفادع. وتتمثل الحالة الثالثة في طفل جديد اكتشف سنة 1895 بمنطقة سلطان بور Sultanpur وقيل عنه أنه أصبح شرطيا فيما بعد. أم الحالة الأخيرة فتتمثل في طفل منطقة شاجاهمبور Shajahampur المكتشف سنة 1898 والذي بقي في ظلماته رغم احتكاكه بالبشر طيلة أربعة عشر سنة. وقد تم الإعلام عن هذه الحالات بعد ظهور طفلة جوستيدال Justedal وقبل ذيوع خبر الطفل القرد Babouin بأفريقيا الجنوبية، الذي يزعم أن فرق الشرطة الخيالة هي التي عثرت عليه.
وفي عام 1920 أيضا تم اكتشاف أول طفل فهد في الهند. كما اكتشف سنة 1927 الطفل الذئب لمنطقة مايوانا Maiwana، ثم الطفل الذئب لمنطقة جانسي Jhansi، وأخيرا اكتشف طفل فهد آخر في منطقة كاشار Cachar. أما طفل منطقة جانسي فقد أنقذه ضابط بريطاني من منطقة قواليور Gwalior كما تطوع طبيب ضابط بالجيش، الدكتور أنطيا Antia لتربيته حيث تمكن على الأقل من جعله قادرا على أن يقف على رجليه. وأما طفل كاشاري كما يروي ذلك زينك Zingg – الذي تعرف هو الأخر على القصة نقلا عن سكان كاشاري فقد اختطفته فهدة على مرأى من أمه، وهي في الحقل تحصد الأرز، وكانت هذه الفهدة قد قتل صغارها قبل أيام فلم تتوقف منذ ذلك الحين عن الطواف حول قرية ديهونجي Dihungi. وقد عثر على هذا الطفل بعد مضي ثلاث سنوات وهو شبه أعمى، تصلب جلده في مستوى الركبتين واليدين، كما كان شديد اللهفة إلى تناول اللحم النيئ واقتناص الدواجن وكان يعض ويزمجر كلما تمّ الاقتراب منه. وأثر التعرف عليه استرجعته أسرته حيث تمكن، فيما بعد من الوقوف على رجليه. وقد اكتشف هوتن Houton طفل ذئب جديد عام 1939. وظهر طفل غزال بصحراء سوريا 1946.
آمالا وكامالا: أطفال الذئاب
في أكتوبر 1920، وبينما كان سينج في رحلة تبشيريه أخبره أحد الفلاحين في قرية قوداموري بوجود أناس مدهشون داخل الغابة. ومن أجل معاينة هذا الأمر قدم سينج إلى المكان المزعوم متخفيا عند الغروب ومن مرصده استطاع أن يلمح ثلاثة ذئاب وجروين وكائنتين إنسانيين ” غريبي الخلقة “، يمشيان على أربع، وهما يندفعان من حجر إلى آخر مع الذئاب. وقد تبين أن هذين الكائنين كانتا طفلتين متوحشتين، وكانت إحداهما اصغر من الثانية بدرجة كبيرة.وكانتا عند خروجهما من المغارة يتصرفن كالذئاب تماما. حيث تقومان بإخراج راسيهما بحذر شديد أولا ثم تنطلقان وثبا إلى الخارج بسرعة مذهلة. ولما حاول أحد مرافقي سينج إطلاق النار عليهما منعه سينج حيث لاحظ سينج أن مرافقيه قد اصيبوا بحالة ذعر شديد وهذا ما دفعه إلى تشكيل فريق جديد من المتطوعين أكثر جرأة وثباتا. وعندما عاد سينج إلى المكان من جديد بنتاريخ 17 أكتوبر بصحبة فريقه الجديد شاهد اثنين من الذئاب الذكور المسنة تفرّ بعيدا عن المكان، أما الذئبة فقد بقيت تدافع عن مدخل الجحر عن جرويها وعن الطفلتين البشريتين آمالا وكامالا حتى قتلت تحت وابل من السهام. وبعد موت الذئبة شاهد سينج داخل الجحر ذئبان وطفلان وقد التصق كل منهما بالآخر، وعندما أحسوا بوجود سينج وجماعته تقوس الذئبان في موقف دفاعي، في حين كانتا الطفلتان أكثر تهديدا وأكثر عدوانية وبعد القبض عليهما عهد بهما إلى أحد القرويين للعناية بهما. وعلى أثر ذهاب سينج، أصيب هؤلاء القرويون بالخوف والهلع ففروا من القرية. ولما عاد سينج وجد الفتاتين في حبسهما مهملتين مهددتين بالموت جوعا وعطشاً. وبعد إكراههما على شرب الحليب ومعالجتهما لبضع أيام حُملتا على عربة يجرها ثور إلى مأوى الأيتام بميدنابور الذي يديره سينج.
لقد أطلق على الطفلة الصغرى ” آمالا ” وكان عمرها سنة ونصف، وأطلق على الطفلة الكبرى ” كامالا ” وعمرها ثمانية سنوات ونصف، وهي طفلة عريضة المنكبين، طويلة اليدين، مستقيمة الظهر. وقد تصلبت عندهما بشرة الكفين والمرفقين والركبتين وأسفل القدمين، وكان لساناهما يتدليان بين شفتين قرمزيتين غليظتين ومهدبتين، وكانتا تلهثان كالذئاب تماما وتفتحان فكيهما بطريقة تثير الخوف أحيانا. كانت الطفلتان تبديان مخاوف مرضية من الضوء وتعجزان عن الرؤيا في النهار، بينما كانتا تحسنان المشاهدة في الليل، وكانتا تقضيان يومهما في الظل تستلقيان ساكنتين إزاء حائط، وفي الليل كنت تعويان بحزن وبصورة متكررة، وكانت دائما تعبران عن رغبتها بالفرار. كانت فترة نوم الطفلتين قصيرة لا تتجاوز أربع ساعات لكل أربع وعشرين ساعة، وفي التنقل من مكان لآخر كانتا تعتمدان المرفقين والرضفتين عند قطع المسافات القصيرة ببطء وباستعمال اليدين والقدمين عند التحول إلى أماكن ابعد وعند العدو سريعا .
كانتا تلعقان وتتناولان الغذاء منحنيتين بوجهيهما إلى الأمام كالذئاب تماما، وكان ميلهما إلى أكل اللحوم لا يقاوم حيث كانت تطاردان الدجاج وتنبشان عن الجيف أو الأحشاء. وكانت توليان كثيرا من الاهتمام إلى صغار الكلاب والقطط. غير مباليتين بالأطفال، عدوانيتين إزاء السيدة سينج مقوستي الظهر في حالة استنفار عندما يقع الاقتراب منهما، معبرتين عن عدائهما وحذرهما بحركة رأسية سريعة نحو الأمام والى الوراء. وقد ماتت أمالا يوم 21 سبتمبر 1921 نتيجة إصابتها بالتهاب في الكلى وما سيدعو إلى الاستغراب أيضا أن كامالا ستموت أيضا هي الأخرى بالداء نفسه بعد ثمانية سنوات أي في عام 1929.
وقد وصف السيد سينج والطبيب صار باد يكاري أحوال التطور النفسي لكاملا على مدى السنوات الثمانية التي قضتها بملجأ الأيتام في ميدنابور. وبعد أقامة كامالا في الملجأ مدة عشرة اشهر تعلمت أن تمد يدها طلبا للغذاء، و بعد مضي ست عشر شهر استقامت على ركبتيها واستطاعت أن تمشي بعض الخطوات على نحو إنساني , ومن ثم استطاعت أن تقف على قدميها لأول مرة معتمدة على ذاتها دونما حاجة إلى سند، كما أنها أصبحت بعد خمسة سنوات قادرة على المشي – رغم أن أسلوبها في الجري بقى ذئبيا –ومن سنة إلى أخرى أصبح سلوكا كامالا اكثر مرونة وتنوعا وانسجاما.
ومع الزمن بدأت السلوكيات الذئبية تختفي تدريجيا لصالح سلوكيات اجتماعية وثقافية محددة مثل استخدام الكأس في الشرب، واصطياد الغربان التي كانت تلتهم الحبوب المخصصة للدواجن، وعادات الاغتسال والاستحمام كما كانت تجمع البيض من المدجنة، وتقوم بالعديد من الخدمات البسيطة .
وبدأت طباع كامالا تشهد تحولات نوعية مع تواتر الزمن. لقد تأثرت كثيرا بموت آمالا لقد بكت لأول مرة وامتنعت طيلة يومين عن تناول أي شراب أو غذاء، كما مكثت ستة أيام هامدة في ركن ثم ظلت فيما بعد تبحث بشكل واضح ولمدة عشرة أيام عن رفيقتها تتلمس أدنى رائحة قد تكون خلفتها.
وفي العام الثالث من إقامتها في الملجأ أصبحت تتقبل قطع البسكويت التي تقدمها لها السيدة سينج، وتقترب منها عندما تقوم هذه بتوزيع الحليب، وكانت زوجة سينج تستخدم التسميد لتليين بشرة كامالا المتحجرة ومن أجل ترويض مفاصلها وذلك على غرار ما كان يفعله ايتار بصورة عفوية. وفي أحد الأيام أمسكت ” كامالا ” بيد مربيتها ملتمسة منها أن تقوم بتدليكها. وفي نفس الشهر اقتربت من جديين وجلست حذوها ثم ضمتها إليها وكلمتها كلاما غامضا. وبعد ثلاث سنوات أصبحت تخاف الظلمة وتحاول الاقتراب من الآخرين ليلا. كما أنها بدأت تقلق وتخاف عندما تبتعد عنها السيدة “سينج” فتظهر في وضعية تدعو إلى الشفقة، وكانت تقفز فرحا عند عودتها وتسرع للقائها. وفي السنة الخامسة من إقامتها في الملجأ أصبح حسها الذوقي اكثر رهافة، وكذا الشأن بالنسبة لحياتها الانفعالية والوجدانية بوجه عام. وفي السنة السابعة بدأت تأنف أكل الجيف أو الاقتراب منها، وبدأت تتحاشى الكلاب وتبكي عندما يذهب بقية الأطفال إلى السوق دونما اصطحابها ويضيق صبرها أثناء الانتظار الطويل لأخذ دورها في المعلب على الأرجوحة، كما بدأت تتأثر لعبارات الثناء وتظهر أنفة وحياء برفضها الخروج من المبيت قبل ارتداء فستانها.
لقد تنامت قدرات كامالا العقلية ببطء وتحررت هذه القدرات من غموضها. وفي البداية استطاعت كامالا أن تنطق كلمتين الأولى هي ” ما ” بمعنى ” أمي ” مشيرة بذلك إلى السيدة ” سينج والثانية هي كلمة “وبهو ” للتعبير عن الجوع والعطش. وبعد عامين تعلمت أن تقول نعم ولا وتعلمت أن تهزّ رأسها وهي تقول نعم. وفي السنة الثالثة تعلمت أن تطلق على الأرز كلمة ” بها ” وتطلبه بالاسم نفسه. كما أصبحت ولأول مرة تقوم بفعل إداري قائلة ” أريد”. وقد تمكنت ” كامالا في نهاية السنة الثالثة من إقامتها أن تتعرف على أدواتها الشخصية صحنها وكأسها من القيام بشبه محادثة، وقد وصلت مفرداتها إلى ثلاثين كلمة، وبدأت تفهم جيدا التعليمات الشفهية وتلجأ إلى الإشارات عندما تعوزها الكلمات. وفي أواخر حياتها أي في نوفمبر 1929 استطاعت بالاعتماد على زادها اللغوي الذي بلغ خمسين مفردة أن تخاطب الأطباء الذين كانوا يعالجونها حيث كانت تعرف أسماءهم جيدا. وخلال هذه التجربة يمكن القول أنه لا يوجد شيء يدل على أنها كانت غبية بالوراثة. إن سوء حالتها الصحية والعقلية لم يكن إلا نتيجة لغياب الرعاية العائلية المفترضة تماما في المرحلة الأولى من حياتها. كما أن ” سيفادون ” كان يذكر عند تعرضه لـ ” قصة كامالا ” بأنه يمكن الفصل بين المسائل العضوية والمسائل النفسية ” مستنتجا من ذلك أن ” الإنسان يتميز عن الحيوان بأنه يولد قبل الأوان. فشخصيته تتكون بعد الولادة داخل سلسلة من الأرحام الثقافية التي لا تقل أهمية بالنسبة لنموه عن رحم الأم، فالعلاقات والانفعالات التي تتكون بينه وبين أمه خلال السنتين الأوليين هي التي تمنحه مختلف خصائصه وسماته النفسية كما أن تعلم اللغة في الوقت المناسب هو الذي يحدد كامل حياته العقلية. تأسيسا على ذلك يمكن القول: إن طفلا ما عاديا عند الولادة يمكن أن يصبح غبيا بالفعل إذا ما كانت ظروف تربيته غير ملائمة. أن هذا المفهوم جوهري ذلك أن الشخصية لا تتطور إلا بقدر ما يقدمه المحيط كقيمة تربوية، من إسهامات ثقافية مواتية وفي الوقت المناسب.
فيكتور طفل الإيفرون البري:
تعد ربما قصة فيكتور، طفل الإيفيرون البري، من أكثر قصص الأطفال المتوحشين أهمية وإثارة في دنيا التوحش. عثر على هذا الطفل في منطقة تارن Tarnفي غابات ” لاكون ” Lacaune عام في عام 1797 وكان عمره آنذاك تسعة سنوات تقريبا وبعد أن قبض عليه للمرة الأولى تمكّن من الفرار وعاد إلى الغابة ليبقى فيها حرا مدة خمسة عشر شهرا. وفي منتصف شهر يوليو/تموز من 1798 أمسك به صيادون مرة ثانية بعد أن شاهدوه فوق شجرة، ثم أودعوه عند أرملة بأقرب قرية إليهم حيث تطوعت هذه المرأة لحراسته والعناية به. ثم تمكن من الفرار ثانية بعد حبسه مدة أسبوع، حيث قضى اشهر الشتاء الطويلة وهذا ما يشهد به تقرير مفوض الحكومة دي فيرو في يوم 9 يناير/ كانون الثاني من عام 1800. ثم ألقي القبض عليه من جديد داخل حديقة شخص يدعى فيدال Vidal وبعد ذلك أودع بملجأ سانت افريك ثم أصبح موضوعا لأول دراسة يقوم بها عالم الطبيعيات بوناتير Bonnaterre حيث كان طول فيكتور متر وستة وثلاثون سنتيمترا، وكان يعاني من نتوء في ركبته اليمنى، ينجذب إلى اللهب والنار، ولم يستطع أن يتعرف على صورته في المرآة حيث كان يبحث خلفها عن الشخص الذي يفترض أنه يقف وراءها، وكان ينام بشكل منتظم مع شروق الشمس وغروبها، ولم تنقطع محاولاته لاستعادة حريته
تلقفت الصحافة الفرنسية هذا الحدث، وحظي باهتمام الحكومة وأمر بنقل الطفل إلى باريس لدراسة حالته، وقدم بينال اشهر الأطباء النفسانيين في ذلك الوقت تقريرا يذهب فيه إلى أن هذا المتوحش لم يفقد قدراته العقلية بسبب عيشه في الغابة وهذا يعني أن تخلفه العقلي هو تخلف وراثي بالدرجة الأولى .
وأثار الطفل اهتمام الطبيب الفرنسي إيتار Itard مدير مركز الصم والبكم بسان جاك الذي كان مولعا بقراءة كتابات جون لوك وكوندياك. وعلى خلاف ما يراه بينال اعتقد إيتار بأن التخلف العقلي الذي يعاني منه فيكتور، يعود إلى طبيعة الحياة التي عاشها في الغابة وهو ليس فطريا بأي حال من الأحوال. وهذا يعني أن منشأ التخلف العقلي والذهني الملاحظ عند فيكتور هو تخلف ثقافي تربوي وليس من طبيعة بيولوجية. وقد عهد إلى الطبيب إيتار بدراسة الطفل وتقديم تقاريره العلمية حول وضعيته.
أبدى فيكتور مظاهر عصبية جدا عندما وصل إلى سان جاك في باريس، وكان يغطي عينية بيديه الاثنتين وكان يسعى دائما إلى الهرب. وكان يعاني من حالة هيجان حركي. وكان الثلج يثيره فيتمرغ فيه ويشعر بعد ذلك بالراحة. وكان يشعر بالراحة عندما يتأمل سطح الماء الهادئ في الحوض، وكان أيضا يشعر بالسعادة لرؤية القمر الساطع ليلا فبتأمله بإعجاب وهدوء. ولم يبد فيكتور اهتماما بألعاب الأطفال حيث كان يلقي بالألعاب التي تعطى له في النار. ومن السمات التي عرف بها أنه انعدام حساسيته الجلدية حيث كان يأخذ الجمر بيده في أغلب الأحيان رغم نعومه بشرته. ومع أن فيكتور لم يُعر صوت طلقات المسدس التي تدوي وراءه أي اهتمام كان يلتفت باهتمام لصوت جوزة تكسر. كان فيكتور يشمئز من النوم في الفراش وكان يشعر بالسرور عندما يهطل المطر البارد على جسمه .
كان فيكتور نباتيا يتغذى بثمار البلوط والعساقل وكان ينفر بشدة من الحلويات والتوابل والكحول والخمر ومن مختلف علامات الحضارة وكان حبه للطبيعة بما فيها لا يوصف فهو يندفع نحو الماء النقي والزوابع والعواصف التي تبشر بقدوم المطر.
كان فيكتور مشتت الانتباه متوترا دائما لا يستطيع التركيز ولا يستقر على حال. وكان في المستوى البصري لا يميز بين الشيء الحقيقي وصورته، وكان لا يعطي اهتماما للأصوات التي يصدرها الناس من موسيقا وانفجارات في حين أنه كان ينتبه إلى صوت تقشير حبات الجوز والقسطل. وفي مستوى الشم كان يستمتع بتنشق كل ما يحيط به من أغصان وأوراق وأحجار وأتربة. وفي مستوى المهارات لم يكن فيكتور قادرا على فتح الأبواب، وكان يفتقر كليا إلى اللغة وحنجرته لا تصدر إلا صوتا بنبرة واحدة لا تقاسيم فيها.
وقد أخذ إيتار على عاتقه أن يدرب الطفل ويعلمه ويرتقي به. وفي إطار مذكرتين أعدهما إيتار(أحدهما بتاريخ 1801 والأخرى بتاريخ 1806) يصف إيتار التطورات التي شهدتها حالة فيكتور. لقد بدا فيكتور يفقد مظاهر التوحش مع بداية السنة الأولى من تعلمه كما يذكر في التقرير الأول. وخلال السنوات الستة اللاحقة استطاع فيكتور أن يلبس ثيابه بنفسه وأن يتجنب توسيخ أمتعته ومكان نومه، كما أصبح قادرا على أن يعد المائدة ويمد صحنه طلبا للطعام ويذهب لجلب الماء من أجل الشرب إذا ما كنت الجرة فارغة. وكان يصرف الزوار المزعجين دالا إياهم على طريق الخروج، ويطلب من الفضوليين الطيبين أن يحملوه على عربة يدوية صغيرة، ويحمل مشطا إلى الطبيب عندما يشوش هذا الأخير شعره عمدا ويهيئ كل صباح لوازم الزينة لمربيته. فأصبح يميز بين الحار والبارد تحت تأثير الحمامات الساخنة، كما بدأ يشعر بالراحة. ثم كان يتلذذ بتناول البطاطا المسلوقة جيداً.
وبدأ فيكتور يبدي مظاهر الفرح عند انسياب الماء على يديه، أو عندما يطفو صحن في حوض، وعندما يتراقص ضوء على السقف أو الجدران، وتظهر عليه الرغبة في الفرار من جديد كلما شاهد مناظر ريفية بالقرب منه وذلك رغم الصداقة التي يكنها لمربيته ولإيتارد كان يبدي امتعاضا من الدروس الطويلة التي يلقنه إياها إيتار. وكانت الاهتمامات العقلية لديه محدودة. وشهدت حالته نموا في مستوى الانتباه فأصبحت عيناه تتابع حركات الأشياء وما يحدث في دائرة محيطه، وأصبح يهتم للكلمات والأصوات التي يصدرها البشر، وكانت الأحرف الصوتية هي التي تثير اهتمامه ولا سيما الحرف “و” (o) الذي كان يحمله على الالتفات. وقد تمكن شيئاً فشيئا من نطق جميع الأحرف الصوتية أو أحرف العلة، باستثناء الحرف”U”، كما تمكن من لفظ ثلاثة أحرف صامته ومنها الحرف “ل” وهو الحرف الأول في كلمته الأولى “الحليب” أي Lait في الفرنسية وهي الكلمة التي نطقها فيكتور عند مشاهدته للطعام. واستمر إيتار في تعليم تلميذة اللغة عن طريق الألعاب والأشكال الهندسية.
وفي التقرير الثاني الذي أعده إيتار عام 1806 يؤكد حدوث تطورات جديدة. فعلى الرغم من مرور ستة سنوات بقي نشاط فيكتور الذهني واللغوي محدودا. ويسجل إيتارد أن فيكتور من صنع حامل أقلام وسيكون ذلك بمثابة اختراع قياسا إلى مستواه العقلي. ومع ذلك كان يقضي أغلب أوقاته في أداء أعمال مملة وروتينية مثل قطع الخشب باستعمال منشار حيث كان يشعر بسرور كبير عند انشطار قطعة الخشب وسقوط جزء منها على الأرض. وكان يجد لذة كبيرة عندما كان يقوم بخدمة الآخرين ولا سيما تهيئة مائدة الطعام.
في يوم وفاة زوج مربيته وأثناء إعداد المائدة وضع فيكتور كما اعتاد صحن المتوفى على الطاولة في المكان المحدد له فأجهشت مربيته بالبكاء، وعندها شعر فيكتور بالخطأ فرفع الصحن وهو يشعر بالحزن، ولم يكرر فيكتور وضع الصحن في المرات اللاحقة.
يصف إيتار بطريقة مؤثرة التجربة الطويلة لعملية تربية فيكتور ودمجه في الحياة الاجتماعية وينبه إلى أهم التغيرات التي طرأت على جوانب الحياة الوجدانية عند فيكتور. وفي دائرة هذا الوصف يلحد إيتار أن فيكتور وبعد ثلاثة سنين من إقامته في المركز كان يميل إلى الهروب ويسعى للإقامة في الغابة بين الأشجار.
كان إيتار يجد صعوبة في منعه عن العدو وانطلاق كلما أراد أن يصطحبه إلى تناول العشاء. وكان أشد ما يؤلمه حرمانه من الفسحة التي يتمتع بها. كان فيكتور يحاول الهرب وقد نجح في ذلك ولكنه كان يشعر بالندم ويعود إلى مربيه وكان يشعر عند رؤية مربيته بالخجل الممزوج بالفرح. لقد كان مهتما بإرضاء من هم حوله. كما كان حريصا أيضا على أن يفهم ويعرف. وشهدت حالته الوجدانية تطورا ملحوظا حيث كان يضحك عندما يهنئه إيتار ويشعر بالحزن عندما يلومه ويعنفه. وكان يتأثر بالعقاب المعنوي والرمزي أكثر من تأثره بالعقاب المادي، وكان يظهر أسفه وإذعانه عندما يكون عقاب مشروعا بنظره. وعلى خلاف ذلك يبدي تمردا عندما يشعر بالظلم.
وتدريجيا بدأت وظائف فيكتور العقلية تشهد تطورا ملحوظا تحت تأثير المنهجية التربوية التي اعتمدها إيتار في تربيته. وتجب الإشارة هنا أن إيتار كان لا يتردد أحيانا في اللجوء إلى الشدة والعنف في تربية فيكتور. ففي إحدى المرات لاحظ إيتار أن فيكتور يصاب بهلع شديد عند انحنائه من فوق مرتفع فأخذه بين يديه وجعله يتدلى في الفضاء عبر نافذة في الطابق الرابع، وعندها شعر فيكتور بالخوف الشديد فاصفر وجهه وبكى للمرة الأولى في حياته.
كان إيتار في عمله التربوي متأثرا بكوندياك وكان يولي تربية الحواس أهمية كبيرة. ولذلك فإنه استطاع أن يساعد في تنمية أحاسيس تلميذه الذي تعلم التمييز بأطراف أصابعه بين البارد والساخن وبين أشياء مختلفة مثل البلوط والجوز والحجارة، كما تعلم أيضا التمييز بين رنين الجرس والقرع على الطبول، كما تعلم التمييز بين الصوت الذي يحدث عند النقر على الخشب أو الحديد وأخيراً بين الحروف المنطوقة. لقد أصبح فيكتور لاحقا قادرا على قراءة بعض الكلمات المكتوبة واستعمالها في أداء بعض الأعمال.
ومن الطرافة بمكان أن فيكتور كان يعاني من إشكالية شمول المفاهيم. فكلمة ” الكتاب ” لم تكن تعنى له في البداية سوى كتاب سيده المفضل، بمعنى أنها كانت تدل على شيء واحد ملموس. ولكن هذا التعميم أخذ مداه لاحقا فأصبحت كلمة كتاب – وعلى غرار ما يحدث للأطفال الصغار جداً – تشير إلى أشياء كثيرة متجانسة فكان يسمى الصحيفة والكراس والسجل كتابا، وعلى الرغم من هذه الصعوبات استطاع عبر جهود كبيرة وتمارين مستمرة أن يحقق نوعا من التوازن بين الكلمات ومدلولاتها واستطاع في النهاية استعمال ملائم للكلمات وفقا لمعطيات تشابهها واختلافها.
ومع أهمية الجهود الكبرى التي بذلها إيتار بقي فيكتور أبكما إلى حد كبير ومع ذلك استمر إيتار بتعليمه الكتابة تدريجيا حيث كان يطالبه بمتابعة الأشكال المتعرجة للكلمات باستعمال قلم عصا. وبعد التدريب استطاع فيكتور أن يتجاوز حالة التخلف الذهني فأصبح يدرك معنى الكلمات ويعيد كتابتها ذهنيا دون أن يستعين في ذلك بمثل معين أو بعملية النقل. وبدأ في نهاية المطاف يستعمل الكتابة للتعبير عن رغباته وأمانيه ومشكلاته.
وعندما بلغ فيكتور الثامنة عشرة من عمره في 1806 أودعه إيتار في رعاية سيدة فرنسية في باريس حيث ترتب على فيكتور أن يعيش في داخل بناية فرعيه تابعة لمركز الصم والبكم وعاش فيكتور حتى في العقد الرابع من عمرة أي سنة 1828
لقد أثارت قصة فيكتور جدلا علميا واسع النطاق بين المفكرين والعلماء والباحثين حول الطبيعة الإنسانية. لقد برهن إيتارد في تربيته لفيكتور سقوط الأفكار والنظريات التي تقول بأن الإنسان هو جوهر مغلق مطلق قائم بذاته. وكانت هذه الفكرة سائدة في القرن التاسع عشر ومفادها: أن الإنسان يولد وهو مجهز طبيعيا لمجابهة الحياة والتكيف مع متطلباتها.
وقد أثارت قصة حققه إيتارد أيضا ردود فعل هائلة في المستوى العلمي فكان اسكيرول Esquirol وهو معاصر لايتار يحمل أفكارا زائفة عن الطبيعة الإنسانية حيث كان يرى أن طفل الأيفيرون لا يعدو أن يكون سوى طفل غبي متشرد مهجور من أبوين غير عاديين. وتتابعت السخافات العلمية التي تبناها كل من ديلازيوف Delasiaveوبورنفيل Bourneville حيث كتب الأول يقول ” إن متوحش إيتار ” كان ما يجب أن يكونه بحسب طبيعته ” وقد حظي هذا الرأي بتأييد واسع من قبل بورنفيل. ومع ذلك ولاحقا حظيت تجربة إيتار باهتمامهما واعترفا عند فحص مشروع إيتار التربوي المخصص لفيكتور بأنه كان يمكنه أن يعطي نتائج أفضل لو توفرت له شروط تربوية أخرى مثل المنافسة بين الأطفال والحياة الجمعية. وفي هذا الخصوص يعترف بورونفيل بأن أحد الأسباب التي جعلت نتائج إتيار محدودة تربويا تتمثل في وضعية تلميذه الذي كان متقدماً في السن. ويشير بورنفيل وهو محق في ذلك إلى أن العادات القديمة المتعلقة بحرية البراري تعد من العوائق التي تحول دون النتائج المرحة للعملية التربوية. وهذا يعني أنه في حالة فيكتور كان الأمر يتجاوز حدود معالجة التخلف الذهني إلى إلغاء تأثير العادات المكتسبة أثناء حياة التوحش.
كانت الانتقادات التي وجهت إلى إيتار تضايقه وتحاصره ولكنها لم تستطع أن تثنيه عن جهوده وعن قناعاته الفكرية. وبدوره كان ايتار يتحدث باحتقار عن هؤلاء الذين أهملوا الاهتمام بالطفل عام 1806 وهم الذين أصدروا أحكاما نهائية حول إمكانية تربية فيكتور. ومن مآثر إيتار في تجربته هذه أنه كان يرفض أن يسجن نفسه في دائرة التصورات اليديولووجية المغلقة. وكان في كل مناسبة يذكر بأهمية النتائج التي حققها ولا سيما النمو الحسي الذي تحقق لفيكتور أثناء تربيته وكان أيضا يذكّر بما حققه فيكتور في مستوى نمائه المعرفي وممارسته السليمة للوظائف العقلية الكبرى حيث استطاع أن يصل إلى درجة الوعي بحقيقة الرمز والدلالة والإشارة، ويبين لنا في المستوى الأخلاقي كيف تشكلت إرادته الطيبة ونمت بصيرته الأخلاقية بما تتضمن عليه من مشاعر الخجل والندم والعرفان .
لقد سجلت تجربة وأعمال إيتارد في تربية فيكتور نفسها كواحدة من أعظم التجارب وأكثرها أهمية في تاريخ الفكر التربوي القديم والمعاصر. وقد قدر لهذه التجربة أن تحدث تحولات عميقة في بينة التصورات والمفاهيم العلمية حول التربية والطبيعة الإنسانية.
أطفال شوهتم العزلة:
تشهد الحياة الاجتماعية وجود حالات لأطفال فرض عليهم العيش في عزلة تامة عن محيطهم الاجتماعي عن طريفق السجن والحبس والإهمال. ويمكننا أن نشير هنا إلى حالة الطفل ايفز شينو Yves Cheneau الذي عثر عليه في عام 1963 بمدينة سان – بريفان Saint-Brevin بمنطقة اللوار- الأطلسية Loire-Atlantique، مهجورا في مخبأ سجنته فيه أم شريرة طيلة ثمانية عشر شهرا. وقد روى منقذه أنه بعد خروجه من الملجأ بقي مدة طويلة حتى يتعود على مشاهدة النور من جديد وكانت حالته مأساوية إلى حد أنه لم يستطع التمييز بين الأشياء التي تحيط به. وقد وصف الصحفي الفرنسي المعروف ديديي لورو Didier Leroux حالة هذا الطفل – الذي شاهده بمستشفى نانت- قائلا: “لقد كانت عيناه الكبيرتان تنظران ببلاهة ودهشة وبلادة إلى الكائنات والأشياء فهو لا يتكلم ولم وقد فقد القدرة على الكلام إلى الأبد .
حالة آنا:
وتعد حالة الطفلة آنا Anna من الحالات التراجيدية لوضعية العزلة. فآنا هي بنت غير شرعية ولدت في 6 مارس/ آذار 1932، وتمّ العثور عليها فبراير /شباط 1938، حبيسة في الطابق الثاني للمنزل الذي تعيش فيه، وكان عمرها حين العثور عليها خمسة سنوات وتسعة أشهر. حظي آنا في بداية عهدها لرعاية حاضنة بدار للتربية الجماعية حيث اعتبرها آنذاك جميع المهتمين بها، طفلة جميلة وعادية. وعندما عجزت الأم عن تسديد نفقات إقامتها أخرجتها قبل تبلغ نهاية السنة الأولى من عمرها، وحبستها في غرفة دون عناية طبية محرومة من التغذية الكافية ونور الشمس. واستمرت حالة الحبس هذه أربع سنوات حيث بقيت الطفلة ممدة بلا حراك فوق سرير حقير. وبالنتيجة فإن هذه الوضعية التراجيدية وعلى مدى سنوات أربع أوجدت في آنا الأعراض نفسها التي غالبا ما نجدها لدى الأطفال المتوحشين. فقد كانت عاجزة عن الانتصاب على رجليها – لشدة نحولها – كما كانت عاجزة عن إرسال أي صوت وغير مبالية باللعب التي تقدم إليها، تعتريها حالة من الذهول المرضي، وتظهر عندها اضطرابات حسية عديدة – مما أدى إلى الاعتقاد بأنها صماء وعمياء وبكماء – كما كانت لا تضحك ولا تبكي أبدا. ومنذ الفترات الأولى من استئناف تربيتها بعد العثور عليها من جديد لوحظ أنها كانت تبدى تفضيلا لبعض الأغذية والألوان، كما أنها بدأت تشارك مربيتها في اللعب وجها لوجه. ولم يظهر الفحص الفيزيولوجي لـ Anna أي قصور عند آنا. وسرعان ما بدأت تضحك ضحكا مدويا ثم انتصبت على قدميها مع المساندة. وفي نهاية سنة من هذه التربية الجديدة أصبحت قادرة على النزول على الدرج- عن طريق الجلوس على كل درجة بصورة متوالية – واستعمال يديها عند تناول الطعام والشرب بواسطة كأس، وتناول الطعام بواسطة ملعقة، كما أصبحت قادرة على أن تخطو بضع خطوات. وبعد مضي ستة عشر شهرا تعودت على العناية بنظافتها، وتجاوبت مع التوجيهات الشفوية لمربيتها. ومع أنه يصعب أبدا تعويض ما ضاع من الزمن في تربيتها غير أنها أثبتت حضور ذكاء وقدرة على الاستمرار في الحياة .
ومن الحالات المشابهة لحالة ِآنا يمكن الإشارة إلى حالة إديث ريلي Edith Riley التي سجنت طيلة عدة سنوات في أحد المستودعات، وكان تأثير العزلة التي تعرضت لها أقل حدة من حالة آنا، وبالمقارنة مع آنا يتضح أنها أقل ذكاء وهي في الثانية عشرة من عمرها. وبعد مضي أربعة وعشرين شهرا على تربيتها من جديد ارتقت إلى درجة الذكاء المتوسط.
ففي حالة آنا كما في حالة إديث لم يكن التخلف الذهني الأولي الفطري، مدعاة للرفض والسجن كما يذهب شتراوس. فحالات القصور النفسي والتخلف العقلي لدى الأطفال ” المتوحشين” ليست إلا نتيجة لعيشهم خارج المجتمع ولا شيء أكثر من ذلك. وعلى هذا الأساس يدحض الرأي القائل بأن التخلف العقلي الفطري للأطفال سبب في أصل إهمالهم. وينهض الرأي المخالف والمعاكس لهذا الرأي وهو أن الأبعاد والإهمال يوجد في أصل التخلف العقلي. وهذا ما يراه أرنولد جيزيل حيث يؤكد بأن القدرة على البقاء في ظروف خطيرة هي حجة على أن الحالة سوية. فحسب رأيه يجب أن نقبل أن غبيا أو أحمقا لا يلبث أن يموت في ظروف أيام قليلة إذا ما وجد بعيدا عن محيط إنساني. أن بصيرة الأطفال المتوحشين – وهي نوع من القدرة العقلية الخاصة والاستعداد الذهني – ساعدتهم على الاستفادة من تجاربهم السابقة كما ساعدتهم في المحافظة على وجود هم وحياتهم. إذ لم بكن من الممكن لفيكتور أن يستمر في الوجود من غير جهاز عصبي مخي سليم يمكن فيكتور من التنقل في الغابة طيلة سنوات عديدة دون مساعدة. وهنا يبين جيزيل Gesell أن كمالا فقد أبدت – مثل فيكتور – رغبة في التعلم وبذلت مجهودا من أجل الوصول إلى وضعية الراشد.
وهنا يمكن التمييز مبدئيا بين التأخر العقلي الناجم عن العضوية الداخلية وبين التأخر العقلي الذي تقرره عوامل تربوية، وهذا الأخير لا يقل عن الأول من حيث خطورته واستمرارية تأثيراته، غير أنه أكثر قابلية للعلاج النفسي. فالتعلم اللاحق لا يمكن أن يعوض المراحل الحرجة السابقة ولا يمكن اختراق الزمن التربوي، وهذا يعني أن التشريط الاجتماعي والتربوي لا يعطي ثماره ونتائجه إلى في حينه وفي الفترات الحرجة للتعلم، فهناك عمر للكلام محدد يتعلم فيه الطفل الكلام، وهناك عمر للمشي، كما أن هناك عمرا للقراءة أو تعلم الجبر أو اللاتينية وعندما يمرّ الطفل في هذه الفترات الحرجة دون أن يتعلم ما يناسبها فإنه يصعب عليه التعلم في مراحل لاحقة.
ومن المفارقة بمكان أن ما يتعلمه الإنسان في مرحلة ما قد يصبح معوّقا لعمليات تعلم من طبيعة أخرى. وهذا ما يؤكده جيزيل، حيث يرى، فيما يتعلق بالأطفال الذئاب، أنه كان يتوجب على هؤلاء الأطفال نسيان ما كانوا قد تعلموه في البراري الموحشة، ومحو آثار السلوك الذي تعلموه الذي تجذّر في أعماقهم لكي يستطيعوا متابعة التعلم وفقا لنمط جديد من الحياة والثقافة.
قاسبار
في الساعة الخامسة من يوم 26 مايو/ أيار عام 1828 شاهد أحد المواطنين في مدينة نورمبرج Nuemberg في ساحة أونشليت Unchlitt، وهو جالس أما منزله شابا مثيرا للدهشة وهو يترنح ويتعثر في مشيته تائها تماماً. كان هذا الشاب يرتدي ثيابا غريبة ملفتة للنظر حيث يضع على رأسه قبعة من الجلد ويرتدي سترة باهتة اللون وقميصا سميكا وسروالا رمادي اللون صنع من قماش خشن. وكان هذا الشاب يحمل في جيبه منديل صغير رسمت عليه الأحرف الأولى من اسمه ويحمل أيضا رقة تتضمن صلوات كاثوليكية، وكتيبات ومسبحة وكيسا من غبار الذهب. وكان كان يحمل في يده رسالة موجهة إلى ” رئيس فرقة الخيالة الرابعة من الفيلق السادس لمدينة نورمبيرج. وكانت الرسالة تقول بالحرف الواحد ما يلي: “إن هذا الولد يرغب في أن يكون في خدمة الملك، لقد أودعته أمه عندي فلم أتركه يخرج أبدا وقد علمته القراءة والكتابة ثم اصطحبته ليلا إلى نورمبرج. وكان الشاب يحمل ورقة أخرى كتبتها كما يبدو أمه تقول فيها: ” هذا الطفل معمد واسمه قاسبار. لقد ولد في 30 أبريل 1812 ولذا يرجى اصطحابه نورمبيرج عند بلوغه السابعة عشر من عمره، حيث كان أبوه – المتوفى فارسا – إنني بنت مسكينة مغلوبة على أمرها”.
وبعد وصول قاسبار إلى المدينة أودعه العسكريون في الإسطبل حيث نام على التبن المكدس فيه. وقد كان من الصعب إيقاظه في الساعة الثامنة مساء لاقتياده إلى مقر الشرطة. وفي مقر الشرطة كتب قاسبار اسمه بريشة: قاسبار هاوزر.
كان قاسبار وهو رجل كامل يتصرف تصرف طفل لا يزيد عمره العقلي عن ثلاثة سنوات. كان يجهل كل شيء عن استعمال يديه باستثناء مسك الأشياء باستعمال الإبهام والخنصر، وكان ينام مع غروب الشمس ويستيقظ عند الفجر، يقضي كامل اليوم جالسا على الأرض ممدد الساقين وكان أثناء ذلك يلعب مع الأطفال. وعندما يمشي كان يترنح على ساقين مرتعشتين ويسير وكـأنه تائه تماما.
وكان قاسبار يظهر تقززا حقيقياً من اللحم ويرفض تناوله، ويرفض تناول الجعة التي كانت تسبب له تصبب العرق والصداع والحمى والآلام. كان قلما يبكي يصيح، وكان يخاف من كل شيء ومن لا شيء. وكان يسر لصحبة الخيول البيضاء ويرهب الخيول السوداء. وكان يتسلى بكتابة الحروف الهجائية والعدّ حتى العشرة وملء صفحات بتوقيعه. فهو عديم اللغة تقريبا، بحيث لا يتلفظ إلا بمزيج صوتي معقد، وبجملة حفظها في لهجة محلية في اللغة الألمانية أريد أن أكون محاربا مثلما كان أبـــي.
وقد كتب عنه فويرباخ ووصفه بأنه كان أشبه بسكان أحد الكواكب وأنه وصل إلى الكرة الأرضية بطريقة بفقع معجزة. في 18 يوليو / تموز 1828 غادر قاسبار مكان حجزه عند الشرطة إلى منزل الأستاذ دومير Daumer الذي أخذ كان يعامله بعطف وحنان. كان قاسبار قصير في سمنة، ذو عينين زرقتهما فاتحة وبشرة ناعمة وبيضاء، ويدين رشيقتين. وكان يحمل في وجهه آثار بعض الجروح الحديثة وأخرى أكثر عمقا في الساعد الأيمن. كان قاسبار يشرب كميات وفيرة من الماء. وقضى أسابيع الأول يتعلم على يد دومير كيف يصعد الدرج وكيف يتناول. وبعد فترة من الزمن أصبح قاسبار قادراً على أن يرفع بيديه ما ثقله 12 كلغ. وداخل البرج الذي يقيم فيه كان قاسبار يقدم طعامه إلى خيول منحوتة من الخشب أو الجبس وكان يزينها بأكاليل يصنعها من الورق ثم يعيدها إلى نفس الصندوق في المساء بنظام وترتيب إلى درجة الهوس المفرط. وبدأ تدريجيا تحت توجيه دومير يتخلى عن اللعب ويتجه إلى الرسم، وشوهد وهو يحاول استنساخ صور منطبعة على الحجارة مئات المرات، مما جعله يتدرج نحو النقل الأمين لها. كما أحس بنشوة هائلة عند ركوب الخيل. وتدريحيا أصبحت خطواته ثابتة أكثر فأكثر وفي نفس الوقت تأكدت عواطفه، واكتشف عند دومير لذة النوم على فراش مريح، رغم أنه كان يخاف الجديد الذي يسبب له أحيانا شللا تشنجيا، كما بقي محتفظاً بأنواع غريبة من الخوف المرضي الفوبيا. مثل الخوف المرضي من بعض الألوان، من الأسود دائماً ومن الأخضر أيضا – وكذلك الأمر بالنسبة للون الأصفر باستثناء الذهبي اللماع في القطع النقدية. كما كان يتقزز من جميع الروائح عدا رائحة الخبز والانيسون والكمون. وكان يشكو من الشعور بالإهمال رغم اتصافه بالانقياد المطلق. كما كان يميل إلى ارتداء لباس البنات الذي هو أجمل في نظره. وبعد فترة زمنية أبدى موافقته على فكرة الزواج وتواجده مع رفيقة يوكل إليها دور ربة البيت دون أن يكون عنده إزاءها أي شعور بالحب فحسب. دومير لم تكن لقاسبار، في البدء، إمكانية التقدير الصحيح للمسافات، كما كان يفتقر إلى القدرة على التقويم الحقيقي للمنظور انه لم يكن يتحمل ضوء الشمس، في حين أنه كان يبصر بسهولة أثناء الليل أن جهله لحقيقة انعكاس الصورة في المرآة، يجعله، في حالة تواجده أمامها، يحاول أن يكتشف إذا ما كان هناك فعلا شخص وراءها وكان يخلط في كلامه بين الحلم والواقع .
ورغم سمعه المرهف فإن دقات الساعة ورنين جرسها لم تثر انتباهه طيلة أيام. أنه يقف قريبا من الطبل عند مشاهدته لاستعراض عسكري، يثيره الجمهور، يرى أنه على العكس من ذلك يبقي مشدوها بالموسيقي التي يستمع إليها وهو يشاهد من نافذته حركات ودوران الخيول الخشبية .
لقد كان من الضروري أن تقدم له تربية عقلية من الأساس أو بالأحرى، أن تعاد من جديد. فقد تعلم قاسبار الكلام منذ إن استقر عند دومير بدأ بالأفعال المصدرية والوحدات المعنوية لا بالكلمات كما كان يتحدث عن نفسه باستعمال ضمير الغائب، ولم يكتسب على استعمال ” الأنا ” إلا ببطء شديد، ولم يكن يدرك صيغ النداء ولا صيغ الربط ولا صيغ الأمر. أما لغته فقد كانت تتخللها كلمات متعددة المعاني بشكل غريب – فكلمة بيرق جبل على سبيل المثال، تدل عنده على كل ما هو مرتفع. يسود هذه اللغة التقطع انعدام الترابط النحوي داخلها ولانتظامها حسب قانون التجاور لا غير، وسيتبدل كل شيء خلال ثلاث سنوات، ذلك أن قاسبار اصبح يتلقي كل صباح في المدينة درسا في الحساب من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الثانية عشرة .
كما اصبح يفرض عليه تعلم اللغة اللاتينية في المعهد. وفي سنة 1831، قضي بضعة أسابيع عند فوير باخ الذي كان يأسف للطابع الصوري للتعليم الذي كان يتلقاه شخص في مثل هذه الوضيعة الفردية. وعلى كل فإن نشوة التعلم لم تدم طويلا، بالنسبة لهذا الشاب، ذلك لان قاسبار كان عديم الإرادة بشكل واضح، كما انه كان عديم الحيوية والمزاح.
من هو قاسبار؟ من أين أتى؟ ذلكم هو السؤال المرير الذي يطرح نفسه. فذاكرة قاسبار تكاد تكون خالية من أية ذكريات إنه إنسان تبددت فيه كل معالم الماضي. إنه يشعر وكأنه ” جاء إلى العالم فجأة واكتشف الناس على حين غرة في في نورمبرج. وقبل وصوله إلى هذه المدينة كان يشعر بأنه كان في حفرة سحيقة أو في قفص مهجور يعيش على الماء وفتات الخبز. في مخبأه هذا كان لديه حصانان من الخشب. في كل يوم يأتي مربيه ويعلمه رسم بعض الأشكال والحروف والأرقام. هذا الكائن المربي يطلق عليه قاسبار اسم الآن وهو رجل مجهول غامض لا يعرفه أحد في المدينة. ومن الأرجح أنه قد تعرض للقتل لأسباب تتعلق بقاسبار نفسه.
أما قاسبار فكان أيضا هو عرضة للاعتداء لأسباب مجهولة، لقد وجد في أحد الأيام مجروحا ومصابا إلى حدّ الموت وهو يردد مرارا كلمة واحدة الرجل وقد بقي في حالة غيبوبة وهذيان مدة ثمان وأربعين ساعة بسبب جرح كبير في جبينه م يشف منه إلا بعد مضي اثنين وعشرين يوما. وفي عام 1833 تعرض قاسبار للاعتداء مرة ثانية في حديقة انسباخ. ومات بعد يومين متأثرا بجراحه نتيجة إصابته بطعنة خنجر، وقد أقيم، فيما بعد، بالمكان الذي سقط فيه، نصب من الحجارة نقشت عليه العبارة التالية: ” هنا قتيل مجهول من طرف مجهول “.
نتائج عامة حول خصائص وسمات الأطفال المتوحشين:
أن الحاجة هي الأصل المشترك لكل وجود بيولوجي بالنسبة لكل الأنواع، هذه الحاجة التي يجعلها سارتر منطلق المغامرة الإنسانية والتي بدونها ينعدم كل تحرك تاريخي، هذا ما نص عليه في كتابه نقد العقل الجدلي. أن الشيء الذي يكون متواريا في ظروف الوفرة يبرز بشدة في عالم الندرة القصوى، حيث يصبح الإنسان مجرد فم وبطن فلا نستغرب أن نرى كيف أن “الإنسان المتوحش” يبدى بعد مرور فترة العداء، التي يكون فيها حذرا، اهتماما خاصا بالأشخاص الذين يسهرون على تغذيته.
ومهما يكن فقد سجل جميع المؤلفين، في شيء من الاستغراب، اللامبالاة الجنسية لدى الإنسان المتوحش، حيث أظهر أغلب هؤلاء المتوحشين تقززا أمام الإغراءات الجنسية، كما أبدى ” قسبار المسكين” برودة جنسية قصوى. اما بيتر Peter فقد أدرك سن الشيخوخة دون أن تظهر عنده رغبة جنسية واضحة. ولم يبد كل من فيكتور والمراهقة كمالا والطفل كرونستادت Kronstadt بعد ثلاث سنوات من الحياة الاجتماعية، إلا بعض الدوافع الجنسية المبهمة. ولا فائدة من الإشارة إلى أن الشعور بالحياء لدى بعضهم قد ظهر تدريجيا بشكل متناسب مع درجة تكيفهم. وهكذا كان الأمر بالنسبة لقاسبار هوزر، الذي لم يكن يشعر بالحرج عندما يخلع ثيابه قبيل الاستحمام، والذي تميز، فيما بعد بخجل وتعفف شديدين، وهذا ما لوحظ أيضا عند ايزابيلا هذه الصغيرة البرايزلية لـ سبيكس Spix ومارتيوس Martius التي أشار إلى حالتها انسلم فون فورباخ Anoelm Von Feurbach حيث عاشت عارية مدة سنوات طويلة ثم أصبح من الضروري، فيما بعد اقناعها وهي في حالة اضطراب وبشيء من التهديد، بالتعري ثانية حتى يتمكن رسام مونيخي من رسمها.
ومن الملاحظات الهامة التي تسجل نفسها في هذا المجال الصعوبات البصرية الكبيرة التي يجدها هؤلاء المتوحشين الذين اعتادوا الحياة في الظل عندما يوضعون في ضوء النهار. من ذلك مثلا ما حدث لـ قسبار الذي كان يخاف ويرتعد من مشهد طبيعي في عزّ الصيف. وقد اعترف فيما بعد أنه كان يخاف من الحضور المبهر للأشياء وتلونها وتشابكها، وعلى النقيض من هذا تماما، فقد كان قاسبار يتجول، بكل ثبات، في أحلك الليالي، كما كان يتسلى بمشاهدة مرافقيه وهم يتحسسون طريقهم.
وفي مقابل هذا، كان قاسبار، مثل فيكتور طفل الإيفرون، يجد صعوبة في تمييز المسطح عن الناتئ، والرسوم على الورق عن المنحوتات في الصخور. وباختصار فقد كان يجد صعوبة في التمييز بين صور الأجسام والأجسام في ذاتها. أن هذه المشاهدة الليلية السهلة كانت مميزة بالخصوص لبعض أطفال مثل أمالا وكامالا.
لقد كانت حدّة البصر تتضافر مع قدرات حسية سمعية ممتازة، كما تتضافر أيضا مع قدرات حسية شمية دقيقة، الأمر الذي نجده عنده جان دولييج Jean de Liege وهو الذي يقال عنه أنه كان يتعرف على حرسه عن بعد عن طريق الشم، كما نجد هذا الأمر لدى الأغلبية الكبرى من متوحشي الغابات الذين كانوا يتحسسون كل الأشياء بواسطة حاسة الشم شأنهم في هذا شأن الكلبيات Canides والسنوريات Felides.
ولابد من التسليم بأن البشر ليسوا بشرا خارج الوسط الاجتماعي، ذلك أن خصوصيات البشر التي تتعلق بالابتسام والضحك لا مكان لها على وجوه الأطفال البريين. فبعض الانفعالات البدائية مثل اللهفة والحزن والغضب كانت وحدها تهز بعض هؤلاء المتوحشين، وكانوا يجدون سعادة كبيرة في تواصلهم مع الحيوانات، وهذا ما أبداه بكليمنس Clemens عند تعلقه بالفيلة، وهذا ما لوحظ عند قاسبار الذي لا يكترث لأي شيء آخر عند ملاطفته للخيول.
وقد برهنت هذه التجارب أن الاستعدادات الإنسانية الكامنة لا تتحقق في حالة انعدام الإثارة التي يحدثها المحيط تمام كما هو الحال بالنسبة للنبات والأشجار عند غياب التراب والماء والنور. وقد أتاحت هذه الاكتشافات للأطفال المتوحشين إبراز تأثيرات المجتمع في الفرد. وقد برهنت هذه التجارب الطبيعية عن حجج واضحة ودامغة، على أن ” التربية والثقافة هي التي تجعل منا بشرا.
المعطيات التربوية والنفسية لقضية الأطفال المتوحشين .
لقد أفرزت قضية الأطفال المتوحشين نتائج مذهلة في المستويات التربوية والسيكولوجية. ولا توجد مبالغة في القول بأن الاكتشافات التي تحققت في هذا المستوى قد أحدثت ثورة حقيقية في منظومات الأفكار النفسية والتربوية حول الطبيعة الإنسانية. وتحت تأثير هذه التجارب بدأت الفكرة التي تقول بوجود طبيعة إنسانية محددة ومغلقة تفقد أهميتها العلمية تدريجيا في مجال التربية وعلم النفس وذلك في ظل الاكتشافات العلمية التي تتعلق بالأطفال المتوحشين. وينمو اليوم اتجاه مخالف يشدد على أن الإنسان يمتلك تاريخا منفتحا وليس طبيعة محددة وجامدة. وهذا يعني أن الخصائص الإنسانية تتشكل في الإنسان بموجب الظروف الثقافية والاجتماعية التي تحيط به. وهذا يقتضي أن الطبيعة الإنسانية حالة تتصف بطابع المرونة وأنها تأخذ اتجاهات هلامية غير محددة، وبالتالي فإن تبلورها في صورة ما وفي وضعية محددة مرهون بمجموعة التجارب والخبرات التي يمر بها الإنسان عبر دائرتي الزمان والمكان. وباختصار الإنسان ليس بذي طبيعة ثابتة بل هو ذات تاريخية مرهونة بعوامل وجودها. ونجد صدى هذه الرؤية في المدرسة السلوكية التي تنفي مع واطسن Watson ونافيل Naville وراثة الخاصيات الذهنية والقدرات العقيلة. فالإنسان يكون عند ولادته – كما يرى والون -Wallon أضعف الكائنات الحية جميعها وهنا يكمن شرط تطوره اللاحق. وهذا ما يؤكده لاكاش Lagache بقوله: ” إن الفكرة القائلة بوجود غرائز تنمو لذاتها، لا تطابق أي واقع إنساني“. لقد فقدت فكرة الغريزة ذاتها أهميتها الكبيرة التي تمتعت بها في مجال علم النفس بصورة عامة. فالتعلم بتقنياته وفعالياته الهائلة يبرهن على أهمية الوسط ودور المحيط في تنمية الطبيعة الكائنة في الإنسان في اتجاهات مختلفة ومتباينة
إذا كان سلوك الحيوان يعود في مختلف تجلياته إلى طبيعة متأصلة فيه، فإن سلوك الإنسان وعلى خلاف ذلك يبرهن عن وضعية مختلفة حيث يتحدد السلوك الإنساني بخلفيات الظروف والخبرات والوسط الاجتماعي الذي يحيط بالإنسان. لقد بينت التجارب التاريخية للحياة الإنسانية بأن الأطفال الذين يعيشون لأسباب ما خارج الوسط الاجتماعي في الغابات والبراري يفقدون خصائصهم الإنسانية وهذا يعني غياب تأثير الطبيعة الإنسانية المفترضة التي تجعل الإنسان إنسانا على حد تعبير كانت Kant. وهذا ما تؤكده ماريان سميث: فالطفل لا يمكنه أن يكون ” إنسانا” إذا ما حرم من الحياة الاجتماعية كما أنه يسقط في غياهب توحش لا تنظمه أية غريزة.
إن الأطفال الذين حرموا من الحياة في الوسط الاجتماعي وهم الأطفال الذين نسميهم “متوحشين” عاشوا وضعية وحشية محزنة فقدوا معها مختلف السمات والخصائص الإنسانية التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان. وهذا يعني أن السلوك الإنساني لا يدين إلى الوراثة النوعية التي نجدها عند الحيوان. أن منظومة الحاجات والوظائف البيولوجية التي تفرض نفسها في النمط الجيني Genotype للإنسان عند الولادة، تجعل الإنسان شبيها بأي كائن حي آخر غير إنساني، وتتيح له إمكانيات مفتوحة لا حدود لها في أن يكون على منوال ما تفرضه الظروف دون أن يتحد جوهره كفرد من النوع البشري أو الإنساني، وهذا يعني أن الإنسان يمكنه أن يكون في دائرة تطوره مشابها لأي كائن غير إنساني أو مختلفا عنه. وهنا يمكن القول أن جوهر الإنسان يكمن في أنه لا يمتلك طبيعة محددة ونهائية .
وإذا كان الإنسان لا يمتلك في ذاته على جوهر محدد فإن غياب هذا الجوهر وغياب هذه التحديدات الخاصة به تعطيه إمكانيات هائلة لا حدود لها وهذا يعني أن الإنسان في أصله جوهر قابل للتشكل في أية صيغة يفرضها وسطه، وهنا تكمن أسرار عظمته وقوته. فالإنسان بهذا المعنى لا يخضع لنظام جيني مغلق ولا يرتهن بطبيعة مغلقة جامدة إنه كيان منفتح قابل للتكيف وفق معايير الوجود المنفتح الخلاق .
ومن هذه الزاوية نجد تعدد النماذج الاجتماعية والثقافية تحت تأثير المحيط الثقافي والاجتماعي الذي يوجد فيه الناس. فالإنسان في الأصل كينونة مرنة شفافة بل هي أشبه ما تكون ببخار شفاف يتكاثف ويتحدد تحت تأثير وسط اجتماعي وثقافي محدد. فالإنسان في أصله أي في مستوى استعداداته الأولى لا يتجاوز حدود كثافة سحابة صغيرة قابلة للتكاثف. وباختصار، يمكننا أن نعزي تراجع الفكرة القائلة بوجود طبيعة إنسانية مطلقة نهائية أو مغلقة، إلى ظروف تاريخية ومتغيرات ثقافية واجتماعية جديدة ومتجددة. ويعود تراجع هذه الفكرة أيضا إلى اكتشافات علمية هامة في ميدان التربية وعلم النفس والأنتروبولوجيا والعلوم الاجتماعية بصورة عامة.
ويلاحظ في هذا السياق أن الطبيعة الإنسانية تأخذ طابع إشكالية سيكولوجية ونفسية بالدرجة الأولى. وإذا كانت الوراثة البيولوجية ظاهرة واضحة وضوح الشمس، فإنه لا شيء أكثر قابلية للطعن من القول بالوراثة السيكولوجية أو النفسية. فالسمات والخصائص النفسية والوجدانية لا يمكنها أن تنتقل عن طريق الخلايا التناسيّلة أو الجينيّة. فالصفات الفيزيولوجية والخصائص الفيزيائية للإنسان تصدر عن بنيته الجينيّة والوراثية Heredity، أما السمات والخصائص الثقافية والوجدانية والسيكولوجية فإنها تتحدد بيئيا عبر الوسط الاجتماعي والثقافي بما ينطوي عليه هذا الوسط من خبرات وتجارب ومعطيات. وهذا يعني أن السمات والخصائص النفسية تأتي عن طريق الإرث الثقافي Heritage. وبين الوراثة والإرث توجد وشائج علاقة تتصف بطابع العمق والشمول فكل منهما يتحدد بالآخر ويحدده: فقامة الطفل ووزنه، على سبيل المثال، يتوقفان على الاستعدادات الوراثية، إلا إنهما يتوقفان أيضا على الظروف الحياتية والثقافية التي يوفرها مستوى الحضارة ونمطها. فيكفي أن يحصل نقص في التغذية والإنارة والحرارة – بل والعطف أيضا – حتى يضطرب النموذج المثالي للنمو بشكل خطير، وتصبح صعوبات الفصل بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي في المجال النفسي مجرد استحالات خالصة. فالحياة البيولوجية تتحدد بشروط فيزيائية خارجية تسمح لها بالوجود وبالمحافظات على البقاء، كما أن للحياة النفسية لدى الإنسان شروط اجتماعية تسمح لها بالانبجاس والدوام. وعلى خلاف ما نجده في المستوى الإنساني فإن سلوك الحيوان يتحدد بالغرائز والميول البيولوجية والجسدية وهذا ما يتضاءل تدريجيا كلما انتقلنا في سلم الحيوانات من أدناها إلى أرقاها أي من الإنسان إلى الحيوان. وهذا يعني في نهاية المطاف أن مفهوم الوراثة النفسية بالنسبة للإنسان لا يمكنه أنه يكون أبدا على صورة الانتقال الجيني للأفكار والأحاسيس والرغبات التي تبقى رهينة لفعاليات الوسط ومعطياته بالدرجة الأولى .
جدول بحالات التوحش وفقا لتاريخ الاكتشاف وعمر الأطفال المكتشفين | ||||
1. | تعين الحالــــة | تاريخ الاكتشاف | العمر عند الاكتشاف | المدخلات الأولى لبعض الحالات المسجلة |
2. | – الطفل الذئب لمنطقة ” هاس” | 1344 | 7 سنوات | كاميراريوس 1602 روسو 1754 |
3. | – الطفل الذئب لمنطقة واتيرافي | 1344 | 12 سنة | فرن شريبر 1755 |
4. | – الطفل الذئب الأول لمنطقة لوتياني | 1661 | 12 سنة | ليني 1858 |
5. | – الطفل الخروف لايرلندا | 1672 | 16 سنة | تولب 1672 |
6. | – الطفل العجل لمنطقة بامبارق | حوالي 1680 | 16 سنة | كاميراريوس 1602 |
7. | – الطفل الذئب لمنطقة بلوتياني | 1694 | 10 سنة | كونديباك 1746 روسو 1754 |
8. | – الطفل الثالث لمنطقة لوتياني | 12 سنة | كونور 1690 | |
9. | – طفلة كرانا نبوغ “بهولندا” | 1717 | 18 سنة | ليني 1788 |
10. | – طفلا البيريني– | 1719 | روسو 1754 ليني 1758 | |
11. | متوحش ” بيتر لمنطقة هانوفر” | 1724 | 13 سنة | روسو 1754 ليني 1758 |
12. | – طفلة منطقة ” سوني بشامبانيا” | 1731 | 10 سنوات | لويس راسين 1747 لاكوندامين 1755 ليني 1788 |
13. | – جون منطقة الياج | 21 سنة | ديقبي 1644 ليني 1758 | |
14. | – طومكو منطقة زيبس المجر | 1767 | فاقنار 1794 | |
15. | – الطفلة الدبة لمنطقة كاربفن | 1767 | 18 سنة | بوناتير 1800 |
16. | – فيكتور الطفل المتوحش لمنطقة الافيرون | 1799 | 11 سنة | ايتار 1801 |
17. | – قاسبارهاوزر لمنطقة نورمبارق | 1828 | 17 سنة | فون فويرباخ 1832 |
18. | – الطفلة – الخنزيرة لمنطقة سالزبورق | – | 22 سنة | هورن 1831 |
19. | – طفل منطقة هوزنبور | 1843 | سليمان 1858 | |
20. | – الطفل الأول لمنطقة سلطانابوق | 1843 | سليمان 1858 | |
21. | – الطفل الثاني لسلطان بور | 1843 | سليمان 1858 | |
22. | – طفل شابورا | 1849 | سليمان 1858 | |
23. | – الطفل الأول للكنو | سليمان 1858 | ||
24. | – طفل بانكييور | سليمان 1858 | ||
25. | – طفل القبطان ايقرتون | سليمان 1858 | ||
26. | – كليمانس الطفل – الخنزير لاوفردايك | ايلور 1863 | ||
27. | – الطفل – الذئب لاوفردايك | تايلور 1863 | ||
28. | – ديناسا نيشار لساكندرا | 1872 | 6 سنوات | بال 1880 |
29. | – الطفل الثاني لساكمدار | 1874 | 10 سنوات | بال 1880 |
30. | – طفل شاجاهنبور – حوالي | 1875 | 6 سنوات | بال 1880 |
31. | – طفل لوكنو الثاني | 1876 | بال 1880 | |
32. | – طفلة جالبيا يقوي | 1875 | 8 سنوات | مجلة جمعية الانتروبولوجية |
33. | – طفل باتزيبور | 1893 | 14 سنة | فريزر 1929 |
34. | – الطفل الذئب لكروستد | 23 سنة | روبر 1885 | |
35. | – دجاجة الثلوج لجوستيدال | 12سنة | لورو 1895 | |
36. | – طفل سلطان بور | 1895 | 4 سنوات | روس 1895 |
37. | – لوكا الطفل القردح لأفريقيا الجنوبية | 1904 | فولي 1940 | |
38. | – الطفل – الفهد الهندي | 1920 | دوميزون 1953 | |
39. | – آمالا ميدنابور | 1920 | 2 سنوات | سكوايرز 1927 |
40. | – كمالا ميدنابور | 1920 | 8 سنوات | سكوايرز 1927 |
41. | – الطفل – الفهد الأول | ستيوارت بيكر 1920 | ||
42. | – طفل مايونا | الرائد افريل 1927 | ||
43. | – الطفل جهانسي | 1933 | زينك 1940 | |
44. | – طفل – ذئب هندي | هوتن 1939 | ||
45. | – طفل كازامانس في الثلاثينات | 16سنة | دوميزون | |
46. | – أسيسيادي ليبيريا في الثلاثينات | دوميزون 1953 | ||
47. | – الطفل – الفهد الثاني | 8 سنوات | زينك 1940 | |
48. | أنا بنسلفانيا | 1938 | 6 سنوات | دافيس 1940 |
49. | ايديت أوهايو | 1940 | ماكسفيلد 1940 | |
50. | الطفل – الغزال من سوريا | 1946 | 12 سنة | دوميزون 1953 |
51. | رامو طفل نيودلهي | 1954 | 12 سنة | وكالة فرانس بريبس 1954 |
52. | – الطفل- الغزال لموريطانيا | 22-9-1960 | أوجر – افريل 1963 | |
53. | الطفل – القرن لطهران | 1961 | 14 سنة | وكالة فرانس بريس 28 سبتمبر 1961. |
خاتمة ورؤية نقدية :
كثير من القصص التي أوردناها عن الأطفال المتوحشين الذين عثر عليهم في أصقاع الدنيا تتجاوز حدود التصديق. وكثيرة هي التساؤلات الحائرة التي تطرح نفسها في هذا السياق. فهل يجب علينا أن نصدق هذه الروايات التي يصعب تصديقها؟ أم أنه يجب علينا أن نأخذها على محمل الجد؟ فالمصداقية في هذا السياق تطرح نفسها والموقف النقدي من هذه القضية يأخذ طابعا منهجيا مشروعا. إذ أنه قد يكون من التعسف قبول كل شيء كما يكون أيضا رفض كل شيء يقع في دائرة الاعتباط والتعسف أيضا.
ومن أجل الخوض في عمق رؤية نقدية لإشكالية المصداقية يتوجب علينا أن نستعرض بعض الآراء والمواقف التي يتخذها بعض المفكرين والباحثين إزاء هذه القضية. فهناك في دائرة الموقف من هذه القضية بعض المشككين والرافضين وهناك أيضا كثير من هؤلاء الذين يأخذون هذه القضية برؤية واقعية يتقبلون وبمصداقية لا تقبل الجدل.
بعض المفكرين يرى أن الأحداث المروية حول أطفال التوحش غير واقعية إطلاقا. وهم يتساءلون باستغراب عن الكيفية التي يمكن فيها لطفل وليد أن يكون قادرا على الاستمرار في الوجود دون عون إنساني، فالمسألة تبدو لهم خارج إمكانية التصديق. وهناك بعض المفكرين الذين يرفضون الحد الأول أي إمكانية الاستمرار دون عون إنساني ولكنهم من جهة ثانية يعترفون بأنه يمكن لبعض الأطفال الذين فقدوا ذويهم في مرحلة ما من أعمارهم العيش منعزلين وأن يحافظوا على وجودهم واستمرارهم بزادهم الثقافي البسيط الذي اكتسبوه في أحضان ذويهم وثقافتهم الأولى.
فالأطفال الرضع الذين فقدوا ذويهم لأسباب مجهولة أمثال أمالا Amala قد تلقوا مساعدة كاملة من الحيوانات. أما الأفراد الذين تاهوا وفقدوا ذويهم خلال السنوات الأولى من أعمارهم فقد تعرضوا لأمرين: يتمثل أحدهما في توقف نمو ملكاتهم العقلية والذهنية، أما الثاني فيتمثل في نسيان جميع ما تعلموه شأنهم في هذا شأن ذلك البحار الذي ترك داخل جزيرة مهجورة، ففقد القدرة على الكلام. وإذا كان بعض الأطفال المتوحشين الذين تبنتّهم الحيوانات، قد تمكنوا فعلا من البقاء أثناء طفولتهم المبكرة، فإنه ليس مستبعدا أن يكون بعض الأطفال الذين تربوا في أحضان أسرهم لمدة كافية أكثر قدرة على الاستمرار في الوجود والحياة أثناء عزلتهم. ومهما يكن فإنه لا يمكن استبعاد الحالات التي جعلت الطفل يفقد عندئذ كل ما اكتسبه ويتراجع في سلوكه إلى مستويات دنيا.
وهذا الأمر لا يخرج عن دائرة التفسير العلمي الذي بموجبه يكون اكتساب العادات- حركية كانت أم ذهنية – مرهونا بعمليات التكرار والممارسة حتى يتم اكتساب هذه العادات بصورة نهائية. وتقرر هذه القاعدة العلمية أيضا ذلك أن كل مكتسب يتلاشى ويتبخر إذا لم ترسخه التجربة المتجددة. وترى ماريان سميث أن الجرح الذي يصيب وجدان كل طفل يتيه فجأة ويجد نفسه خارج دائرة المجتمع يمكن أن يعتمد في تفسير انهيار الذهن ودماره. بعض الباحثين يقف من حكايات التوحش موقفا انتقائيا حيث يعتقدون أن كثيرا من الحالات مشكوك بصحتها وبالمقابل هناك كثير من الحالات التي لا يمكن للمرء أن يفقد ثقته فيها لأسباب تتعلق بالتوثيق الذي حظيت به والقناعات التي تفرضها. وفي هذا الاتجاه يصنف موقف جيزيل الذي يشك في أن تكون هذه الروايات مقنعة دوما، ويوجه شكه هذا إلى الحالات التي تغيب فيها الأعراض المرضية للأطفال: بعض الروايات لا تشير إلى حالة التفكك والأعراض الخاصة بالذهان والهذيان.
لقد وقع الاعتراض الكبير على الفكرة القائلة بإمكانية بقاء الأطفال لمدة طويلة بمعزل عن المجتمع الإنساني دون أن يموتوا جوعا أو بردا. ولذلك يفترض دينيس أن هؤلاء الأطفال لم يبقوا في عزلتهم إلا فترة قصيرة جدا.
وفي معرض مناقشة مصداقية حالات التوحش نجد اليوم أن الناس يميلون عادة إلى التشكيك في ما هو قديم وبعيد عنا، في حين أن الإعلام المعاصر يبسط أمامنا يوميا، دون أن نفاجأ، وقائع تفوق الخيال وتتجاوز حدود التصور. فكيف يمكننا أن نوجه كل هذا الارتياب والشك في مصداقية حالات التوحش هذه التي شوهدت ووثقت ونقبل بمصداقية بعض الخوارق الطبيعية التي غالبا ما تكون أشد غرابة وجنونا؟ ففي الصحف والتلفزيون ووسائل الإعلام تطالعنا أخبار وأحداث تفوق حدود التصديق ولكننا نقبلها ونصدقها بسهولة ومثال ذلك الخبر الذي نشرته الصحافة الباريسية يوم في ديسمبر 1962 الذي يقول بأن طفلا صغيرا سقط من الطابق العاشر لعمارة أي من ارتفاع 25 خمسة وعشرين مترا ولم يصب إلا بكسر بسيط في الذراع .
إن سقوط مثل هذا الطفل ونجاته على نحو إعجازي لا يضع الطبيعة الإنسانية موضع تساؤل أو تأمل أو إعادة نظر. ومع ذلك فنحن نكاد لا نصدق المعطيات العلمية الذي تفرضه ثلاثين أو أربعين حالة من حالات توحش الأطفال الذين عاشوا عزلة مطلقة. ومع ذلك يمكن القول بأن تكذيب حدوث هذه الحالات أمر مبالغ فيه. فالحياة الوحشية هي إحدى نماذج الحياة الممكنة والواقعية والمحتملة جدا. ومن هنا يمكن القول بأن الرفض الكلي لجميع هذه الحالات أمر يفارق المنطق ويجانب الحقيقية إلى حدّ كبير .
وعندما نأخذ الافتراض الذي يقول بأن هؤلاء الأطفال المتوحشين عاشوا مهجورين لفترة قصيرة من الزمن فكيف نفسر تيّبس الجلد وثخانته عند المرفقين والركبتين لدى طفلتي ميدنابور؟ وكيف نعلل الميل الشديد إلى تناول اللحم النيئ والأحشاء عند كل الأطفال الذئاب الذين تم اكتشافهم؟ وكيف نفهم ميل النباتيين منهم إلى تناول النباتات دون غيرها ولا سيما عند الطفل الذي اهتم به إيتار؟ وهذا الافتراض يصطدم أيضا بشهادات عديدة منها على سبيل المثال شهادات السكان الذين لمحوا الطفل الإفيروني، عاريا في الغابة ومنطلقا فيها، وذلك قبل أن يمسك به لمدة طويلة من الزمن.
ومما لا شك فيه أنه من حقنا ومن واجبنا أن نتساءل حول مصداقية الأوصاف التي نقلتها إلينا الكتابات المتعلقة بالأطفال المتوحشين وخاصة إذا كانت صادرة عن أشخاص غير معروفين في المستوى العلمي والأكاديمي. إن كثيرا من الحالات التي وصفت لا تستوفي مقتضيات الحالات الممكنة والحقيقية وكثير من الحكايات لا يصمد أمام الاختبار الموضوعي.
ولكن ومهما يكن الأمر فإن هناك حالات حقيقية من حالات التوحش لا تقبل الشك والطعن وهي حالات ولا يشك فيها إلا بقدر ما يشك في حقائق علم التاريخ الأخرى. ومن دواعي هذه المصداقية الجهود التي بذلها علماء ومفكرون عرفوا في ميادين اختصاصاتهم وفي ميادين الإبداع العلمي والفكري. وهنا يشار إلى المفكر الفرنسي المعروف جان إيتارJean Itard، الذي شغل منصب رئيس الأطباء في مأوى الصم الكائن في سان جاك، وفون فويرباخ، رئيس محكمة الاستئناف بأنسباخ Asbach، و ج. أ. ل سينغ A. L. Singh I. A. L. مدير مأوى اليتامى في ميدنابور، وهم بوصفهم علماء ورجال دين وقضاء انصرفوا إلى البحث عن حقيقة التوحش لأسباب قد تكون مختلفة ولكنها تمثل في نهاية الأمر فروضا متجانسة. وهم عبر دراساتهم للتوحش يقدمون أوصافا عن الإنسان المتوحش تتميز بطابع الدقة والتجانس إلى درجة يختفي معها كل غموض. ون المهم الإشارة في هذا السياق أن أحدا من هؤلاء المفكرين الثلاثة لم يقرأ للآخر: فـ سينغ لم يقرأ لا لـ جان ايتار ولا لـ انسيلم فون فوير باخ الذي كان هو بدوره يجهل، على الأرجح، كتابات العالم الفرنسي إيتار. وهؤلاء الثلاثة لم يكونوا على اطلاع بمؤلفات ليني، إلا أنهم وجدوا جميعا اكتشفوا الخصائص والسمات التي حددها ليني للتوحش في كتابه المعروف للنظام الطبيعي Systema natural.
والنتائج التي يصل إليها أغلب الباحثين في مجال التوحش يؤكدون الصعوبات التي يعانيها المتوحش عند محاولة الانتصاب على قدميه. وهنا تشكل حالة فيكتور طفل الإيفرون الذي تروى لنا أوصافه، في كل مرة بطرق قابلة لشتى التأويلات، من ذلك أنه كان يميل دائما إلى ” الخب أو الركض” حيث يصفه نوقايرول Nougairolle مدير مأوى سانت افريك Saint- Afrique وهو في حالة هروب بأنه كان يجري على أربع عندما يشعر أن هناك من يوشك أن يقبض عليه أثناء مطاردته في يوم من الأيام وسط أحد الحقول.
ومن التناقضات التي تسجلها هذه الحالات أن فيكتور “طفل الإيفيرون” لم يستطع أن يتكلم وبقي أبكما وعلى خلاف ذلك استطاعت كامالا أن تتكلم وأن تزيد في مفرداتها مع الزمن.
ويشير هؤلاء الكتاب جميعا إلى ضعف الغريزة الجنسية لدى المتوحشين وإلى تميز حواسهم بخصائص مرتبطة منطقيا بمغامراتهم الفردية. فبوناتير Bonnawerre وفون فويرباخ Van Feurbach يجمع بينهما الاستغراب من ان فيكتور وقاسبار يعجز كل منهما عن التعرف على صورته في المرآة. وأمام هذه المجموعة من الأدلة المتشابهة التي أثبتها رجال مشهود لهم علميا ومعرفيا رغم انعدام ما يربط بينهم في دائرتي الزمان والمكان، يصبح الشك في مصداقية التوحش الطفولي اعتباطا لا معنى له.
لقد افترض لفي شتراوس أن أكثرية هؤلاء الأطفال كانوا غير عاديين لأسباب وراثية ومن هذا المنطلق يفترض بأن وضعيتهم غير السويّة هي التي إحدى الأسباب الأساسية لأهمالهم. ومع أهمية الأفكار التي يقدمها شتراوس فإنه حالات الأطفال المتوحشين لا تشكل قضية مركزية في أعماله حيث يتعرض بصورة سريعة لمثل هذه القضية.
يوجه ميرلوبونتي Merleau Ponty نقدا ضمنيا لرأي لفي شتراوس في التخلف العقلي عند الأطفال. ويبين أنه ليس في مقدورنا أن نستنتج فعلا وجود تأخر ذهني فطري تأسيسا على ظاهرة البُكم وغياب اللغة عند الأطفال. يقول مبرلوبونتي: ” توجد فترة حرجة في نمو الأطفال يكون فيها الطفل حساسا إزاء اللغة وقادرا على تعلم الكلام. فقد أمكن إظهار كيف أن الطفل الذي لا يوجد في وسط يمارس فيه الكلام سيعاني بالضرورة من البُكم وهو لن يتكلم أبدا بشكل مماثل لأولئك الذين اكتسبوا اللغة في الفترة المذكورة. هذا هو حال الأطفال الذين نسميهم متوحشين، وهم الذين تربوا ونشؤوا تحت رعاية الحيوانات، أو كانوا بعيدين عن الكائنات الناطقة. فهؤلاء الأطفال لم يتعلموا الكلام أصلا، وحتى إذا ما افترضنا حدوث هذا التعلم، فإن ذلك لن يكون بنفس الدرجة من الإتقان التي هي لدى الأشخاص العاديين. ذلك أنه توجد بين اكتساب اللغة وإدماج الطفل في الوسط العائلي علاقة متينة، وهذا يعني أن الأطفال الذين فصلوا فجأة ولمدة طويلة عن أمهاتهم سيعانون من ظاهرة العطالة اللغوية.
وفي الحقيقة فإن كلمة “ماما” ليست فقط هي أول ما ينطق به الطفل، بل أن اللغة كلها هي، إذا صح التعبير، أموميّة نسبة إلى الأم واكتساب اللغة عند الطفل يخضع لنمط علاقته بالأم الذي يفرض عليه أداء سلسلة من الأدوار والسلوكات والإشارات اللغوية.
مراجع الدراسة :
عبد الكريم المراق، توفيق الشريف، عبد الكريم العبيدي، لطفي العربي، الأطفال المتوحشون ومشكلة الطبيعة الإنسانية، المجلة التونسية للعلوم التربوية، عدد13، سنة11، يناير كانون الثاني، 1985، صص 151-158.
عبد الكريم المراق، توفيق الشريف، عبد الكريم العبيدي، لطفي العربي، الأطفال المتوحشون التأليفات الخرافية والعلاقات التاريخية، المجلة التونسية للعلوم التربوية، عدد16، سنة12، يناير /كانون الثاني، 1987، صص 75-110.
عبد الكريم المراق، توفيق الشريف، عبد الكريم العبيدي، لطفي العربي، الأطفال المتوحشون أنواع التوحش الثلاثة، المجلة التونسية للعلوم التربوية، عدد 15، سنة12،، 1986، صص 89-107.
– H. LANE, L’Enfant sauvage de l’Aveyron , Payot, 1979
– L. MALSON, Les Enfants sauvages , Union générale d’édition, Paris, 1964
– P.-F. MOREAU, «De l’état de nature», in Revue philosophique , no 3, 1978
ITARD JEAN-MARC-GASPARD (1774-1838)
ITARD JEAN-MARC-GASPARD De l’éducation d’un homme sauvage. theses de doctorat en médecine Paris , 1803.
*المصدر: التنويري.