المقالاتفكر وفلسفة

استدامة الذاكرة؛ قراءة في العلائق الحرجة بين الزمان والمكان

توطئة:

تُعتبر دراسة الذاكرة موضوعًا رئيسًا في الحياة المعاصرة، وهي مفتاح الهويَّة الشخصيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة؛ في علاقتها العضويَّة بالزمان والمكان. لذلك، درس العلماء المفهوم من وجهات نظر مختلفة وضمن تخصُّصات مختلفة، بما فيها: الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والجغرافيا، والهندسة المعماريَّة، والتصميم الحضري، و”دراسات المكان” متعدِّدة التخصُّصات. وقد سبق أن فرَّغت يوم السبت 28 سبتمبر 2019، في أديس أبابا، إثيوبيا من كتابة مقالٍ بعنوان: “ذاكرة المكان: الدائرة التأويليَّة بين التصوّرات الزمانيَّة والظواهر المكانيَّة”، ونُشِرِ في 28 يونيو 2020، في مجلّة “التنويري” الفكريَّة، التي تصدر في الأردن. وكان القصد أن يكون جزءًا من سلسلة مقالات، أو عروض تستجلي قيمة المكان كحاضنٍ وفيٍّ للذاكرة، لأنَّ أماكن الذاكرة، أو مكان التذكُّر، وفقًا لبيير نورا، كما ورد في دراسته الموسومة “بين الذاكرة والتاريخ: مكان المذكرة”، الصادرة عام 1989، تُشير إلى تلك الأماكن، التي “تتبلور فيها الذاكرة وتفرز نفسها”. فالأماكن هي، التي تتكثَّف فيها مُمْسِكَات الذاكرة الجماعيَّة المنهكة ويتمُّ التعبير عنها، كما سنورد تفصيلًا لذلك في مقالٍ خاصّ عن العاصمة السودانيَّة، الخرطوم، وما حاق، ويحيق بها، من محوٍ مُتَعَمَّدٍ لكل محتوى هذه الذاكرة الجماعيَّة. ولكي يتمُّ اعتبارها كذلك، يجب أن تكون الخرطوم، أو غيرها من الأماكن، قابلة للتعريف بالمعاني الثلاثة للكلمة: المادِّيَّة والرمزيَّة والوظيفيَّة، وكلّها بدرجات مختلفة، ولكنَّها كانت موجودة دائمًا، وبما كان يجعلها موقعًا للذاكرة هو ما كان فيها تفاعل بين الذاكرة والتاريخ، والتفاعل بين كلا العاملين، ممَّا يسمح بواجب الإفراط، لا التفريط، في تحديدهما المتبادل. إذ إنَّ ذاكرة المكان هي عرض يعتمد على مفهوم الزمان والمكان والذاكرة، رغم أنَّ المكان له معانٍ مختلفة لأشخاص مختلفين. ويتشكَّل وجودنا وهويّتنا من خلال جغرافيَّة المكان، الذي ولدنا فيه، وأين كُنَّا نَعيش، لأنَّ المجتمعات، أو الجمعيَّات، التي ننشِئها في مكانٍ معيَّن تعطي معنى محدَّدًا لها في خيالنا. وتخلق ذكرياتنا وتجاربنا طبقات من المعنى، الذي لا يهمّنا إلا كأفرادٍ في هذه المجتمعات والجمعيَّات. لذلك، يستكشف هذا العرض معنى المكان وتأثيره على ذكرياتنا وخيالنا، والتأثير المقلق للنزوح، الذي أُخِذَ إليه الناسُ على حين غَرَّة، ورافقه عنفٌ غير مسبوق.

إنَّ ذاكرة المكان ترسم المشهد التذكاري المكتوب في العقل والقلب والجسد وتجربة الإنسان في عالم الواقع. وفي هذا المنحى، يقدِّم ديلان تريغ، في دراسته، بعنوان: “ذاكرة المكان: الظواهر الخارقة”، الصادرة في يناير 2012، تدخُّلًا حيويًّا وأصليًّا في المناقشات المعاصرة ضمن “دراسات المكان”، وهو مجال متعدِّد التخصُّصات عند تقاطع الفلسفة والجغرافيا والهندسة المعماريَّة والتصميم الحضري والدراسات البيئيَّة. من خلال سلسلة من التحقيقات الاستقصائيَّة الجريئة، يحلِّل تريغ الآثار في تمثيل الذاكرة العامَّة، بما في ذلك السياقات “الانتقاليَّة”، مثل المطارات ومحطَّات الراحة على الطرق السريعة؛ و”أطلال” كل من الذاكرة والمكان في مواقع؛ مثل، “أوشفيتز” بالنسبة لليهود. وأثناء تطوير هذه التحليلات الأصليَّة، ينخرط تريغ بطرق مدروسة ومبتكرة مع التقاليد الفلسفيَّة والأدبيَّة، من غاستون باشيلارد، إلى بيير نورا، وإتش بي لوفكرافت، وإلى مارتن هايدجر. ومن خلال بثّ حياة جديدة غريبة في الظواهر، يجادل تريغ بأنَّ القلق الغريب للغريب هو في صميم الجسد، الذي يتذكَّر، وبالتالي أنفسنا. والنتيجة هي إعادة تفكير مقنعة وجديدة في الذاكرة والمكان، والتي من شأنها أن تثير حوارات جديدة عبر مجال دراسات المكان. ويصف إدوارد س. كيسي، أستاذ الفلسفة المتميِّز في جامعة ستوني بروك والباحث الرائد في ظواهر المكان، دراسة “ذاكرة المكان بأنَّها “فريدة حقًا وإضافة مُؤشِّرة إلى أدب الظواهر، لأنَّها تملأ فجوة كبيرة، قدَّمها تريغ ببلاغة وقوَّة، كعملٍ أصلي رئيس في علم الظواهر.

في المنهج:

يناقش هذا المقال إمكانات اللوحات التذكاريَّة لتكون وسيلة لنقل ذكريات المدينة الجماعيَّة، التي يُفهَم أنَّها تشمل إحياء ذكرى الأحداث والأشخاص بدوافع مكانيَّة غير شخصيَّة. ونسعى لتحليل الشهادات الماديَّة المرفقة بالموقع لأبرز الظواهر التاريخيَّة والثقافيَّة في المكان. ويجري فحص الرموز التذكاريَّة ضمن الإطار السيميائي للفضاء العام، والتعامل معها كوحدات متعدِّدة الوسائط تنقل المعلومات ذات الصلة اجتماعيًّا وثقافيًّا، والتي يتمُّ ترميزها، شفهيًّا وبصريًّا. وتُشير نتائج الكثير من الدراسات إلى أنَّ الاستراتيجيَّة الرئيسة لنقل ذاكرة المكان الجماعيَّة تعتمد في المقام الأول على نموذج تجسيد البيانات التذكاريَّة المشترك، الذي يستخدم كلًا من الشفرة اللفظيَّة والعناصر الأيقونيَّة، والرمزيَّة غير اللفظيَّة. فقد تبيَّن أنَّ الطبيعة المكانيَّة لذاكرة الأحداث تتجلَّى بطرق مختلفة عندما يتمُّ تعيين المكان كموقع للذاكرة. وكما يشير ديلان تريغ، هناك فرق بين القدرة على تحديد دور ذاكرة مكان ما على المستوى الفردي ودور أماكن الذاكرة، التي تمثِّل تجربة جماعيَّة. والهدف هو استكشاف الطرق، التي يمكن بها للمساحات، التي تصبح مواقع للذاكرة أن تنشط ارتباطات مشابهة للذكريات، سواء في البيئات المخصَّصة لهذا الغرض، أو في الأماكن، التي وقعت فيها الأحداث، التي تمَّ الاحتفال بها. في حين أنَّ مصطلح “المكان” يعبِّر عن الرغبة في توجيه أنفسنا في بيئة ما، فإنَّ توغُّل “الموقع” يقطع تلك الرغبة، ممَّا يقودنا إلى وضعٍ هجين بين بعدين. وبهذه الطريقة، فإنَّ أنقاض الصدمة لا تسترد الوقت والخبرة من الإلغاء والتمزُّق، بل تساعدنا على هيكلة “التجربة غير المطالب بها” من خلال عكس محاولاتنا الخاصَّة لإعطاء وجودٍ لمكانٍ يرفض كل دليل على الوجود، ولا يمكننا، في هذه الحالة، الاستمرار في أن نكون كما كُنَّا من قبل.

إنَّ الأماكن، التي وقعت فيها أحداث رهيبة؛ كحال الخرطوم، وغيرها من مُدن السودان المنكوبة، وحتى لو تم إعادة تشكيلها عن طريق روتين جديد، وحتى لو تمَّ رؤيتها فقط من خلال الصور الفوتوغرافيَّة؛ كما في حال مدينة حلفا القديمة، التي غمرتها مياه “السدّ العالي”، تحتفظ بهالة أسطوريَّة موجعة، لا يمكن إعادة بنائها في سردٍ تقليدي. بدلًا من ذلك، كما يقول تريغ، يهتزُّ مكان الصدمة باللُّغة غير المباشرة، المحظورة من التفسير، الذي يزيح كل اليقين من الذات، أو الذاكرة، أو المكان. لهذا السبب، فإنَّ التدخُّلات الجماليَّة، التي يمكن أن نبني فيها الواقع المادِّي المندثر ببدائل رقميَّة افتراضيَّة، هي محاولات لإبراز الصدمة بمنطق تعويضي، يُلْزِمُ به ما هو متاح من وسائل إعادة تأسيس الذاكرة. وفي هذه الحال، يمكن للمرء أيضًا أن يتساءل عمَّا إذا كان عدم مادّيَّة المتاحف الرقميَّة قد يخفي ذكريات مزعجة من الموقع الفعلي؛ لمتحف السودان الوطني مثلًا، ويستبدلها بذكريات تديم فكرة البديل النفسي كقصَّة نجاح. ونظرًا لأنَّ المتاحف الرقميَّة تفتقر إلى المادِّيَّة، فإنَّ العواطف والذكريات، التي تستدعيها المواقع الماديَّة الملموسة غائبة، رغم أنَّ الصلة العينيَّة بها ما تزال تتراءى كمشاهد حيَّة. وما تزال هناك مسافة مريحة لإزعاج الروايات والأشياء والمساحات الرقميَّة بظلال الواقع المُكَثَّف في المخيال العام. وقد يصبح الزوّار مستهلكين عابرين في قطاع المتاحف الرقميَّة، الذي يركِّز على التجارب التجاريَّة والمسلِّيَّة، في فضاءٍ مفتوح لا تضبطه حدود السيادة، ولا قواعد مواضعاتها. وقد يكون التذكُّر مهمًّا بشكل خاصّ عندما يتمُّ تفكيك المباني الفعليَّة، أو تحويلها. فالمباني هي الأماكن، التي تحدث فيها الحياة الاجتماعيَّة، بكل تعقيداتها وذكرياتها وعلاقاتها، وبالتالي يرتبط إحساسنا بهويّتنا وقصص حياتنا بهذه الأماكن. وقد تكون المباني الفعليَّة وآثارها مهمَّة بشكلٍ خاصّ لأولئك الذين تعرَّضوا لإساءة استخدام المؤسَّسات، لأنَّ المباني تصبح دليلًا قد يدعم المصالحة، إذا صدقت المصارحة، وما توجبه العدالة الانتقاليَّة من تعويض.

الدلالة الرمزيَّة:

إنَّ الناس يتذكَّرون ما لديهم من أماكن للسلام والراحة والشفاء والانشغال، أو حتَّى النضال، إذ يُعتبر كثيرها ذا دلالة رمزيَّة ذات معنى ضخم، ولكن أيضًا “أماكن غير مكانيَّة”، مثل المطارات، أو محطَّات الخدمة، التي ترمز ضمنيًّا فقط إلى حالتنا الانتقاليَّة. ومن خلال تصميمنا للأماكن، نشبعها بالحالة المزاجيَّة والمشاعر والأدوار وبطرق عديدة تُعَبِّر عن أنفسنا. وكما لوحظ هناك، فإنَّ الروايات الظاهريَّة للمكان تسلِّط الضوء على عدم إمكانيَّة الفصل بين المكان والذاتيَّة البشريَّة. على سبيل المثال، يناقش تريغ في كتابه “ذاكرة المكان”، الدور، الذي تلعبه البيئة الماديَّة في تشكيل وتعريف وتشكيل إحساسنا بالذات والعالم. وفي سياق التغيير هذا، يمكن أن يُشَكِّل نظام بناء مُعَيَّن الهيكل الجوهري لأكبر المدن، كعنصر متكامل لنهج الظواهر، التي تكشف عمليَّة التصميم الانعكاسي لمشهد البنية التحتيَّة المخفي بشكل متزايد وتضيء إمكانات هيكلة التجارب الجماعيَّة للمناظر الطبيعيَّة المحليَّة، حتى صار لكل مدينة مَعْلَم يميِّزها. وتتضمَّن عمليَّة التصميم لهذا المبنى العلم “التذكُّر الجماعي” لإلقاء الضوء على قوَّة الرموز كوسيلة خياليَّة لزيادة الوعي العامّ بالمكان. كما ينعكس في تفسيراته المتعدِّدة حقيقة أنَّ الذاكرة الجماعيَّة متنوِّعة وديناميكيَّة مثل تفاعلات كل فرد مع المكان.

وتتشابك ذكريات الماضي بشكل لا ينفصم مع التجربة الظاهريَّة المتجسِّدة، لأنَّ الذكريات الفرديَّة والجماعيَّة “تفاعليَّة بشكل جذري”، ومستمر، وسلس، ومتنوِّع، مثل التجارب الجماعيَّة لأولئك الذين يختبرون المناظر الطبيعيَّة بنشاط. وتنعكس الذاكرة الحضريَّة في أسماء المواقع الجغرافيَّة الحاليَّة، أو المنقرضة. كنتاج للوظائف الحضريَّة والهويَّة الإقليميَّة. بينما تتحرَّك أعمال بعض العلماء على طول خطوط الإحداثيَّات النظريَّة البحتة، ولا نجد تحليلًا متماسكًا لاستجابات السكَّان لتغيير أسماء المواقع الجغرافيَّة الحضريَّة في مدينة مَسَّها الضُرُّ كالخرطوم، وفق نهجهم العلمي على سياسات الاستمراريَّة والتغيير في أسماء المواقع الجغرافيَّة الحضريَّة. وكنتاج للوظائف الحضريَّة والهويَّة الإقليميَّة، كان ينبغي أن يكون هذا موضوع بحث من قبل تغيير هذه الأسماء، أو اقتلاع رموز المواقع ذاتها، مع كل ثورة وانقلاب يطيحان بجذور المعاني. فقد تطورت أسماء المواقع الجغرافيَّة الحضريَّة وخاصَّة مسألة أسماء الشوارع، كجزء من الثقافة الحضريَّة، التي عاينتها الكثير من الدراسات، التي أجراها المؤرِّخون، واللغويُّون، وعلماء الاجتماع، وكذلك الجغرافيُّون.

صنع المعنى:

تنشر معالم الذاكرة مزيجًا من الحجج الجدليَّة والعاطفيَّة والعاديَّة، فيما القصد ليس الحفاظ على الذكريات، أو حذفها، ولكن إعادة كتابتها، لتنبض بالحياة من جديد. وتعتبر بعض هذه الإعادة لمحفوظات الذاكرة ملامح تأسيس لسياسات ثقافيَّة واجتماعيَّة ذات جذور أنبتتها بذور هذه الذكريات في أماكن غرسها، وروتها لطائف الزمان وكثائفه بهَطلٍ هَتُونٍ من رقائق المعاملات وشفيف المعاني الإنسانيَّة. ومع ذلك، تتداخل الأماكن مع الاستراتيجيات السياسيَّة والحوارات الجدليَّة مما يفسح المجال للاستخدامات العاديَّة، التي تشكِّك في استقرار المعاني، على الرغم من عدم تقديم إجابات سياسيَّة لقضايا السلطة والهيمنة، التي عادةً ما تتبدَّى في جِماع ثقافة المجتمع، وفضاءات عيشه حيث تُصنع هذه المعاني. وإذا أردنا أن نُقدِّم تعريفًا مجازيًّا حول صنع المعنى، بأنَّه يختمر في العمليَّات والمعاملات المقصودة وغير المقصودة، التي تقع في المكان والزمان، لنقفز من التعريف مباشرة لاقتراح أنَّ الأماكن تعزِّز العمليَّات الاجتماعيَّة، التي تبني الذكريات الجماعيَّة، متبنين لفكرة أنَّ العلاقة بين الذاكرة والمكان ليست أحاديَّة الاتجاه. فهي باختصار، تبثُّ العمليَّة الاجتماعيَّة في المكان وهذا الأخير “يضرب” طوقًا من المعنى الحسِّي للوجود الإنساني. وقد يؤدِّي هذا البيان إلى استنتاج غريب، ولكنَّه واضح، مفاده أنَّ صنع المكان، على المدى الطويل، ضروري بمثل إعادة صياغة الذاكرة، وكأنَّما نهدف من خلال هذا الزعم إلى وضع إطار تحليلي يسلِّط الضوء على تفاصيل آليَّة صنع الحواس، التي تربط بين الذكريات والأماكن لصياغة المعنى.

إن منطلق الحديث عن السياسة والسياسات والاستراتيجيَّات في مقام هذا الموضوع، ينبع من حقيقة أنَّ سياسات الذاكرة تقع في قلب مطالبات العديد من الحركات المبادرات المحليَّة والعالميَّة من القاعدة إلى القمة، لأنَّ الذكريات تدور حول الحاضر والماضي. ويفيد الحفاظ على الماضي في التغلُّب على بعض ما شابه من عور التحريف والتخليط لتغدو بشائره سليمة لاستمرارها المنتج في الحاضر. وفي حين أنَّ إعادة بناء الذكريات تخدم احتياجات سياسيَّة أعلى من العدالة والاعتراف والمصالحة حول أخطاء الماضي، إلا أنَّها تؤثِّر على المساحة المشتركة والاستخدامات المتضامنة في الحاضر والمستقبل. والأهم من ذلك، يقول ستيفن هولشر وديريك إتش ألدرمان، في دراستهما بعنوان: “الذاكرة والمكان: جغرافيَّات العلاقة الحرجة”، في مجلّة “الجغرافيا الاجتماعيَّة والثقافيَّة”، الصادرة في 4 أغسطس 2004، إنَّ الاستخدامات العاديَّة لتشكيل الأماكن قد تتداخل مع بناء الذكريات، إذ تتضمَّن جميع الأحداث أماكن مادّيَّة يتمُّ تصميمها وبناؤها وإدارتها بشكل جماعي. وعلاوة على ذلك، فإنَّ فهم الروابط بين المكان والزمان، بين البناء الاجتماعي والثقافي والتصرُّف في الأشياء، محدود في العلوم الاجتماعيَّة. لذلك، عندما يبدأ الناس في تحدِّي المعاني الجماعيَّة والذكريات الراسخة وإعادة صياغتها بشكل مبدئي، يتمزَّق الفضاء الحضري بين المحو العنيف، أو المقاومة اليوميَّة، ولا أعتقد أنَّنا في السودان في حاجة لمن يذكِّرنا؛ بعد الخامس عشر من أبريل 2023، بكيف شكَّل هذا المحو العنيف استقرار أوضاعنا في حاضرة البلاد الأولى، أو ولاياتها الكبرى.

الفضاء الحضري:

لقد أوضح تقليد قديم في الدراسات الحضريَّة أنَّ إنتاج الفضاء الحضري ذو شقين: يعيد في أولهما المستخدمون باستمرار تشكيل ما تنتجه العمليَّة السياسيَّة المثيرة للجدل في البداية. ويستثمر الصراع حول ذكريات الصراع المدن بشكل متزايد من خلال تحديد المواقع، أو إعادة تشكيل الأماكن لإعادة بناء الأحداث الماضية، أو إعادة الإشارة إليها. وتبقى الحجَّة المركزيَّة الثانية في أنَّ العمليَّة المزدوجة للتذكُّر والنسيان تستثمر المساحة المتبقِّية لما يُشَكِّلُ أطر المعاملات، ويعطيها دِثار من المعاني الناقِلَة لقيمتها المعنويَّة. وهذه الحالة مثيرة للاهتمام لعدَّة أسباب؛ أولها، أنَّنا لا نتعامل مع التراث، أي المصنوعات اليدويَّة التقليديَّة، أو المباني المستثمرة ذات المعاني الثقافيَّة، ولكن مع الآثار الماديَّة لتاريخ جماعي متضارب صار مضطربًا لأقصى درجات الاضطراب، بل الصراع والاحتراب، الذي يحتاج تدارُك علاجه لأقصى درجات الحكمة الاجتماعيَّة الجماعيَّة. وللقيام بذلك، لا بدّ، ثانيًا، من إعادة بناء بعض المُثُل، التي توضح كيف يحافظ صنع المكان على معاني جديدة، ويرتبط بصنع المعنى في عمليَّة التذكُّر والنسيان، إذ لا يترجم التاريخ دائمًا إلى حواسّ مشتركة، بينما تترجم الأماكن إلى وشائج مشتركة. وتوفِّر هذه الصيغة التكامليَّة، ثالثًا، المعلومات، أو تحفِّز العواطف، أو تدمج الممارسات الشائعة في مجموعات مختلفة، وبدرجات ردّة فعل مختلفة.

وإذا تساءلنا: كيف نجمع بين الذكريات والأماكن؟ تجيب الاستنتاجات بحجَّة تبدو تقديريَّة، وهي أنَّ إعادة كتابة الذكريات هي عمليَّة مستمرّة، حيث لا يجب الحفاظ على كل شيء، أو حذفه، وإنما استبقاء ما يرسخ منه من معنى، أو يُشَكَّل استحضاره قيمة. وعلينا أن نُعِيد التذكير بأنَّ صناعة المكان لا تقدِّم إجابة سياسيَّة لبناء الذكريات، وإنَّما تتحوَّل بعض آثارها إلى قيمٍ ثقافيَّة تكتسب عمقها الاجتماعي مع مرور الوقت. ومثل الفضاء الثقافي بشكل عام، فالمكان هو مجرَّد آليَّة تعزِّز العمليَّات الاجتماعيَّة، وإن كانت قويَّة في سياق سياسي دون غيره، ووفقًا لِتَعمُّد السياسة في إضفاء طابع أيديولوجي على توظيفاتها للنشاط الثقافي. ومع ذلك، فإنَّ بعض مبادئ صناعة الأماكن؛ في المزيج بين الانفتاح ومرونة الأنشطة، تحافظ على أنساق صنع المعنى، التي تملأ الفجوات الناجمة عن الاضطرابات المتعمّدة للروايات التقليديَّة، وسرديَّات الأساطير الممنهجة. ويعطي انفتاح المكان سرعة “دوران” البناء الثقافي نحو إعادة ضبط الذكريات، أو تغيير المساحة، التي تحتوي تفاصيلها.

إعادة تأطير الذكريات:

حاول المؤرِّخون، وحتَّى علماء الهندسة المعماريَّة، استخراج الذكريات وشرح علاقتها بالفضاء المكاني والاجتماعي. خاصَّة في العقود القليلة الماضية. وقد تناول العديد من المؤلِّفين بناء الفضاء من خلال الذكريات، ومن خلال تبنِّي منظور بنائي اجتماعي واسع. بينما تتبنَّى العلوم الاجتماعيَّة وجهة نظر مستقطبة للفضاء والمكان، إمَّا بالنظر إلى الفضاء كحاوية، محرومة من كل معنى ثقافي، أو كمعلم ثقافي، محروم من كل معنى مكاني. ولا شكَّ أنَّ المخطِّطين الاقتصاديِّين يميلون إلى تبنِّي وجهة النظر الأولى. ويتعامل الجغرافيُّون الظاهريُّون، وباحثو ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، مع الأماكن، أو المنازل، أو الأحياء المفقودة كأشياء ثقافيَّة. وكل هؤلاء، خاصَّة من يماثلونهم في فلسطين، والعراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، والصومال، والسودان، وغيرهم، مدعوُّون لتقييم تجربة الاقتلاع من المنزل والمكان والبلاد، وعلاقة ذلك بتشكُّلات الذاكرة، وأثر محمولات ثقافة المكان على عمليَّات التأقلم في البيئات الجديدة.

والجدير بالذكر، أنَّ جميع الكائنات تشغل مساحات بالمعنى الموضعي؛ ويمكن أن تكون إمَّا قريبة، أو بعيدة، مشغولة أم لا، ولكنَّها مهمَّة جدًا في بعدها الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، تُصبح الأشياء أماكن من خلال العمليَّات الاجتماعيَّة والثقافيَّة، التي تدعم المعاني الجمعيَّة المؤتلفة وتستثمر الإجراءات المتضاربة في طبائع عيشها المشترك. كما هو الحال في مفهوم المناظر الطبيعيَّة والتراث، فإنَّ الماديَّة هي وسيلة للمعاني الاجتماعيَّة، ممَّا يسمح بدستورٍ مزدوج، مادِّي ومعنوي، أو وسيط بين الحالتين، أو في منزلة بين المنزلتين. وقد يَقترِبُ بِنَا هذا إلى البعد السياسي، لأنَّ هذه المعاني لا تتشكَّل بالإجماع أبدًا، وتتأثَّر بشدَّة بعلاقات القوَّة على التصرُّف والثقافة. ففي الآونة الأخيرة، لفت العلماء الانتباه إلى عدم وجود نهج موحَّد للفضاء العامّ في علم الاجتماع، وناشدوا من أجل إيجاد فهمٍ أكثر تماسكًا، مؤكِّدين على تداخل المكان في هذا الفضاء العام، ممَّا يُشيرُ إلى نهجٍ علائقيٍ يشمل كلًّا من عمليَّات التباعد والتوليف، والتخلُّص من الأشياء، التي تشكِّل علاقة مكانيَّة، وبناء معناها الاجتماعي والثقافي.

لهذا، ترتبط الأماكن والثقافات بآصرة ووشيجة وثيقة بينهما، لكن العلاقة بين الذاكرة والمكان ليست أُحاديَّة الاتِّجاه دائمًا، وهذا موضوعٌ غنيٌّ بالأفكار توصَّل إليه كل من المؤرِّخين والجغرافيّين معًا. وبالتالي، فإنَّ إعادة التصوير الجماعي للفضاء ليست شيئًا جديدًا في حدِّ ذاته. بدلًا من ذلك، فإنَّ الأماكن عبارة عن مجموعات من الأشياء، التي تساعد في تشكيل تمثيل الروايات العامَّة، ويمكن للمستخدمين بناء روايات مختلفة لتنشيط “النصّ”، الذي تتضمَّنه سرديَّات الأشياء. ويسمح اكتشاف البرامج النصيَّة وتنشيطها للمستخدمين بتغيير معنى الوقت بشكل جذري بمرور الوقت، كما كتب ذلك ماركو كريماسكي في دراسته، التي جاءت بعنوان: “المكان هو الذاكرة: إطار لصناعة الأماكن في حالة النصب التذكاريَّة لحقوق الإنسان في بوينس آيرس”، والتي نُشِرَت في مجلة “المدينة والثقافة والمجتمع”، المجلَّد 27، ديسمبر 2021، وقال فيها إنَّ هذه التغييرات نادرًا ما تكون نتائج هادئة لمشاريع رمزيَّة. ومع ذلك، فإنَّها غالبًا ما تنبع من عمليَّات غير بديهيَّة، حيث تفرض الإجراءات المثيرة للجدل مشاريع هيمنة بديلة. ففي الآونة الأخيرة، ندَّد الباحثون بـ”طفرة الذاكرة”، التي توازي النقد بتسليع الفضاء الحضري، وصعود أيديولوجيَّة برجوازيَّة حول استخدامات الفضاء العام. ولكن حتَّى هذا النجاح يمكن أن يؤدِّي في النهاية إلى “تدهور كلمة الذاكرة”، إذ يتساءلون، على وجه الخصوص، عمَّا إذا كان سوء الاستخدام والتأمُّل والتسويق المفرط يؤدِّي إلى فساد المعاني. ويشعر الباحثون بالقلق أيضًا من “التسييس المتزايد والهيمنة المكانيَّة للذاكرة الجماعيَّة”. وتتساءل الحسابات الاثنوغرافيَّة المتاحة عن الآثار الفارغة لعمليَّة التسليع، مشيرة إلى استنتاجات أكثر دقَّة.

التاريخ والذاكرة:

عندما يتعلَّق الأمر بحالات محدَّدة، لا يمكن التمييز بين الخطاب وعلاقات القوَّة، التي تؤطِّر الأماكن. ومع ذلك، فإنَّ تحديد الانقسامات التاريخيَّة بمساحات معيَّنة ليس نادرًا، وهو أمر بالغ الأهميَّة لموضوع الذكريات العالميَّة. على سبيل المثال، يستفيد التراث والحفظ له العلمي على السمات الضخمة للفضاء. ومنذ التمييز الأوَّل لموريس هالبواكس، في كتابه “الذاكرة الجماعيَّة”، الذي صدر عام 1980، بين التاريخ والذاكرة كنهجين متعارضين للماضي، يعترف المؤرِّخون بالمساهمة الحاسمة للأماكن الرمزيَّة في بناء الذكريات الجماعيَّة. وفي حين أنَّ التاريخ هو اختيار قائم على معايير عقلانيَّة واستطراديَّة، فإنَّ الذاكرة تبني على، وهي مشبعة بالتجربة المجتمعيَّة، التي تغذِّي الهويَّات الجماعيَّة. فمرَّة أخرى، تثير الذاكرة الخسارة، لا سيما فقدان “المجتمعات العضويَّة”، التي كان من المفترض أن تحافظ على الذاكرة وتعيش في استمراريَّة وثيقة مع ماضيها. إنَّ ترسيخ الذكريات في مكانها (أماكن الذكريات)، يوضح كيف تكافح المجموعات والحساسيَّات المختلفة لإيجاد طرق لتشكيل الذاكرة مكانيًّا: تعلِّق المجموعات المهيمنة والتابعة معاني متنافسة على مواقع مختلفة. العمليات التاريخيَّة للترميز المتعمَّد تعيد بناء الأماكن بدقَّة. على الرغم من أنَّنا هنا لا نتعامل مع الهندسة المعماريَّة والدور المحدَّد لـ”النصب التذكاري” المعماري للذكريات، تجدر الإشارة إلى أنَّه حتى المهندسين المعماريِّين ابتعدوا عن الآثار، وأعادوا تصوُّر الفضاء الحضري بدلًا من ذلك.

يؤدِّي هذا التفاعل إلى آليَّة تراكميَّة تُحَوِّل الحسّ والأماكن في وقت واحد، هو حاضنة الزمن الخاص، وتلفّها في النهاية في “معنى وروح” عالمي جديد. والواقع أنَّ مثل هذه العالميَّة تشكِّل ترتيبًا مؤقَّتًا ومتفاوضًا عليه نتيجة تحوُّل مستمرّ وليس عقيدة متماسكة. وأظهر المزيد والمزيد من الباحثين الاجتماعيِّين اهتمامًا متجدِّدًا ببناء الهويَّات المشتركة، مع التأكيد على أهميَّة المعاني والوكالات المتعدِّدة. فيما يعبِّر الزمان والمكان عن العلاقات، التي تؤدِّي إلى الفضاءات، بمعنى أنَّ الوقت يُرَسِّب الفضاء والذكريات، والحاضر يُعِيدُ كتابة الماضي، ويختار ما يجب الحفاظ عليه، وما يجب التخلُّص منه. وفي النهاية، يتلخَّص الأمر في علاقة رجعيَّة، أو فرصة الاستعادة؛ فالعلاقات بين الذكريات والفضاء تدعم بعضها البعض. وتثبت مراجعة الأدبيَّات في هذا المجال القبول الواسع للعلاقة بين الذكريات والأماكن. وفي الوقت نفسه، يؤدِّي التقلُّب النسبي في الماضي، أو الصراعات حول الذاكرة المنقسمة، إلى تجدُّد الاهتمام بالأماكن. ومع ذلك، فإنَّ مفهوم المكان لم يتمّ تصوّره بشكل كاف. وكان تداخل المكان والفضاء العامّ في صميم النظريَّة الحضريَّة النقديَّة لفترة من الوقت، واستجوب تيار حديث من الأبحاث عمليَّة إعادة القياس على مستوى العالم.

سياسات الذاكرة:

ويبدو أنَّ سياسات الذاكرة تقلِّل من شأن الطبيعة الجماعيَّة لعمليَّة صناعة المكان. بحكم التعريف، فإنَّ صناعة المواضع هي عمليَّة متعدِّدة وتخمينيَّة ومتفاوض عليها تُركِّز على المجتمع والإنتاج المشترك. ويقترح المنظِّرون الاقتراب من الإنتاج المشترك للأماكن الحضريَّة من خلال منظور صنع المعنى. فصنع الحواس هو عمليَّة تَكَيُّفٍ جماعيَّة تطمس الخطوط الفاصلة بين المشروع المهيمن والمقاومة السلبيَّة، وهي عمليَّة ترسيب لا تمحو الماضي تمامًا، ولكنَّها تضيئه باستمرار من خلال عدسة الحاضر. لذلك، فقد قيل إنَّه “عندما يتصرَّف الناس، فإنَّهم يتصرَّفون بشكل غير عشوائي، ويدخلون بقايا من الانتظام، ويخلقون قيودهم”. وذلك نظرًا للحاجة الأساسيَّة لجعل جميع التجارب ذات مغزى، إذ يكون صنع المعنى هو عنصر مركزي في كل تفاعل اجتماعي، وهو بطبيعته اجتماعي ومحلّي. وقد ركَّز علماء الذاكرة بشكل متزايد على الأماكن والمكانيَّة لعمليَّات التذكُّر والنسيان، ممَّا أدَّى إلى تعزيز التدقيق في كيفيَّة الجمع بين الماضي والحاضر والأماكن والتسييس، أو الأدلجة المتعمَّدة لمعاني الذكريات.

ففي كثير من الأحيان، يعيد العلماء بناء اقتران المعاني والأماكن وكيف تجذب الأماكن الذكريات وتعزِّزها في عمليَّة مثيرة للجدل تتميَّز بالصراعات وعدم التماثل، متجاهلين الخصائص المكانيَّة لهذه التصرُّفات، في حين أنَّ التباعد هو الرصاص، الذي يفتح فهما لإنتاج الفضاء. علاوة على ذلك، ينصبُّ التركيز دائمًا على علاقات القوَّة، ونادرًا ما تتضمَّن هذه الدراسات تكوين أماكن الذاكرة. لذلك، تتمُّ دراسة الأماكن والذكريات، ولكن أقل من مكانيتها ومساهمتها في إعادة توسيع نطاق الفضاء وعمليَّة الإقليميَّة. ويتم نسج التصرُّف المكاني والماديَّة والمعاني معًا من خلال العمليَّة الثقافيَّة لصنع المعنى. وفي العديد من الدراسات الرائعة للروايات والذكريات، نادرًا ما يتمُّ تعريف الفضاء والمكان والإقليم واستخدامها كمرادفات. إلى جانب ذلك، فإنَّ العلماء الذين يبحثون في عمليَّات الذاكرة المحليَّة أقل وعيًا بالآثار العمليَّة، ويقعون بسهولة في الفخ القياسي، ممَّا يؤدِّي إلى مناهج مجزَّأة ومتناقضة للمكان والفضاء.

ولا يستطيع أحد أن ينكر عدم تناسق الجهات الفاعلة في صناعة الحواس وأولويَّة علاقات القوَّة. ومع ذلك، فإنَّ السلطة لا تعني الهيمنة، بل تعني عمليَّة سياسيَّة عميقة حيث تتصادم المواقف غير المتماثلة. علاوة على ذلك، يصر صنع الحواس على أنَّ بناء المعاني المشتركة هو دائمًا عمليَّة غير مكتملة لأنَّه لا يمكن أن ينتج إلا عن الصراعات والاحتكاكات والمواجهات. وبالتالي، فإنَّ الحفاظ على الآثار وصناعة الأماكن هي عمليَّات سياسيَّة تستثمر الفضاء والمكان، وتخلق ذكريات معيَّنة، وتبني التمثيلات والمعاني. وهذا التحوُّل إلى صنع الحواس واعد في تركيزه على التَكَيُّف البَنَّاء والتدريجي بين عدد وافر من صانعي الحواس، لأنَّ الإطار المشترك هو بناء مشترك وينتج عن تفاعل الجهات الفاعلة. وقد تبدأ المشاريع المتعمَّدة، مثل النصب التذكاري، عمليَّة، لكنَّها لا تستطيع التحكُّم في استقبالها لدى المتلقِّي، لأنَّ الرغبة بدلًا من الإدراك توجِّه جميع أنشطة صنع المعنى، التي تنتج في النهاية عن مجموع التفاعلات المتكرِّرة. وعلى الرغم من أنَّها لا تعالج السؤال الأساس حول ما نُريد أن نتذكّره وننساه، إلا أنَّ الأماكن المشتركة تصبح نوعًا من التعويض الجماعي عن فقدان الماضي المشترك؛ الأماكن “تستقرّ” عمليَّة الصراع بين المطالبات السلبيَّة، ممَّا يسمح للناس بالتصالح مع الماضي والحاضر.

حواصل عامَّة:

لقد تناول هذا العرض التداخل المتبادل للمكان والذكريات، التي تؤثِّر على عددٍ قليل من الحالات المختلفة لتطوير إطار للتحليل المشترك. وجرى تحليل كيف تدعم ذاكرة المركبات بشكل غير مباشر النضال من أجل العدالة العالميَّة وكيف يتمُّ “تباعد” الأماكن في العمليَّة العلائقيَّة، التي تشكِّل الفضاء. ويسلّط المنظور المزدوج للمكان والزمان الضوء على دراسات الحالة المختلفة، التي تشمل العديد من السمات الأساسيَّة. وعلى وجه الخصوص، يمكن الاستثمار في الأماكن المشتركة، وفتح فهم ديناميكيًا للأماكن، حتى خارج مفهوم التراث والعمليَّة الخلافيَّة المميزة، أو الصراع الرمزي. علاوة على ذلك، وعلى عكس الآثار والمتاحف، فإنَّهم يعتمدون بشكل أقل على استراتيجيَّة تربويَّة وأكثر على تداخل الأنشطة العاديَّة، التي تؤدِّي حتمًا إلى التشكيك في سياسات الذكريات، ولكن أيضًا عمليَّة صنع المعنى اليومي. وقد يُشير المنطق المختلف لإعادة كتابة الذكريات والاستيلاء على الأماكن إلى تعارض واضح. وتظهر الأمثلة أنَّ الأنشطة اليوميَّة لا تتناقض مع سياسات الذاكرة. ويشير تذكير دي سيرتو بالمقاومة إلى أنَّ التهرُّب ممكن دائمًا، متوقِّعًا أنَّ عمليَّة التهرُّب أمرٌ بالغ الأهميَّة لجميع سياسات الذاكرة. على العكس من ذلك، يجب “وضع” الذكريات، ويحسن صنع المكان التعرُّف على الذكريات، بينما تحتاج الأماكن أيضًا إلى “متباعدة” لأنَّ الأماكن تعدل وتشكِّل مساحة على حدٍّ سواء المكان والتباعد، الذي يشرف على ممارسة صنع المعنى.

وعلى الرغم من شعبيّته، التي لا يمكن إنكارها، لا يزال مفهوم صناعة المكان، أو الفضاء العامّ، يعاني من نقص الوضوح ومؤشِّرات الأداء الصحيحة والبيانات القويَّة لإثبات فعاليته. وحتى يومنا هذا، لا يزال فهم ما يفعله صنع المكان بالفعل للناس صعبًا، أو هو في أحسن الفروض غامض ومشوش. وبالتالي، يجعلهم يرغبون في القيام به، مع مراعاة مساهمته بشكل منفصل عن العوامل السياقيَّة الأخرى، التي تُمثِّل تحدِّيًا عمليًّا وعلميًّا لا يمكن التغاضي عنه. ومن ثمّ، تبحث هذه المقالة التحليليَّة في تأثير صناعة الأماكن على التقييمات العاطفيَّة والمعرفيَّة، والتطابق الذاتي، والنوايا السلوكيَّة عبر بيئات مختلفة. وقد تُظهر النتائج لدراسات تجريبيَّة معمَّقة بينات أكثر تحقيقًا للغرض العلمي، لكنَّنا نُؤشِّر على أنَّ البيئات “المعزّزة” من خلال صناعة المواضع تولد استجابات أكثر إيجابيَّة بشكل ملحوظ، سواء كان ذلك من حيث العواطف، أو التصوُّرات، أو الهويَّة، أو السلوكيَّات المقصودة. ففي هذه العمليَّة، يمكن إلقاء الضوء على الآليَّات الأساسيَّة، التي يتمُّ من خلالها تحفيز النوايا السلوكيَّة من خلال صناعة المكان.

وتُشير الحاجة الملحَّة الملحوظة للحفاظ على الذاكرة الجماعيَّة والثقافيَّة في أيَّامنا هذه، التي تهجس بالخوف من فقدان جوانب مهمَّة من التراث، إلى أهمّيَّة تثقيف الشباب الذين سيصبحون صانعي السياسات في المستقبل في هذا المجال. وتظهر تحليلات ومسوحات أجريت من خلال المنظور الحالي للمجموعات الشبابيَّة حول تصنيف النصب التذكاريَّة والهياكل التذكاريَّة المبنيَّة، بالإضافة إلى الخلفيَّة الظاهريَّة للفضاء العامّ، وخلق المكان والذكريات، إلى ملاحظة نوعيَّة لفهم هذه المجموعات وحكمها على الموضوع. وقد بحثت هذه المقالة في مستوى المعرفة والاستجابة العاطفيَّة للتراث التذكاري داخل كل المجموعات، التي تتشارك الفضاء العامّ، باعتبار أنَّ الجميع مستهدفون بنقاش علاقة الذاكرة بالمكان. رغم أنَّه لم يتمّ التركيز بشكل استثنائي على تناول القضايا ذات الصلة بالعمر والجنس ومستوى الدراسة وخلفيَّات المستجيبين، الذين سبق وأن شملتهم العديد من الدراسات التحليليَّة، ممَّا يدلُّ على وجود اهتمام أوَّلي بالتراث التذكاري بين فئات الشباب وغيرهم. مع التركيز الإضافي على دورٍ نشطٍ محتملٍ في الحفاظ على التراث ووضعه في المستقبل، وفهم التراث التذكاري القيم، الذي يحتاج إلى تحسين.

استنتاجات:

في أعمال الذاكرة الديناميكيَّة، كما ورد في “دليل روتليدج للذاكرة والمكان”، الذي نُشِرَت طبعته الأولى عام 2020، ذُكِرَ أنَّ هناك مجال لقصص متعدِّدة، وإصدارات من الماضي وفهم المكان، وغالبًا ما تكون مقاومة للروايات السائدة، إذ قد تعيش الأماكن لفترة طويلة بعد تدميرها المادِّي، لأنَّها تبقى حيَّة في الذاكرة. وتقدِّم هذه القراءة نظرة ثاقبة للدور المهمّ والمتنوِّع، الذي تلعبه الذاكرة في فهمنا للعالم من حولنا، في مجموعة متنوِّعة من المساحات والأوقات، ومن خلال مجموعة متنوِّعة من العدسات التأثيريَّة والمهنيَّة. لذلك، فإنَّ هذا العرض يسدُّ بعض الفجوات النظريَّة الموجودة بين المفاهيم الفوقيَّة للذاكرة والمكان والهويَّة من خلال وضع عدسةٍ كاشفةٍ على الممارسات الموضوعة لإحياء الذكرى وتذكر المكان، وما آل إليه حتى في ظروف الحرب والصراع. ولذلك، فإنَّ أول استنتاج يمكن تبنّيه هو أنَّ الأماكن تعطِّل الروتين وتعيد ترتيب تسلسل الذكريات، وإنشاء آليَّة تفاعليَّة تعزِّز اعتماد ممارسات جديدة. فقد أجبر الجمع بين الزمان والمكان المسؤولين عن سلطة التصرُّف المكاني، وكذلك الترتيب البصري للمؤسَّسات، على الاعتراف بأنَّ الجرائم كانت في صميم النظام المستبد، التي تتعمَّد محو آثار سابقتها. وثانيًا، تحتفظ الأماكن بالذكريات حتى عندما تظلّ القضايا السياسيَّة من دون حل لأنَّها تعزِّز العمليَّات الاجتماعيَّة. وتدعم بعض مبادئ صناعة الأماكن؛ أو عمليَّة المزج والانفتاح والمرونة في الأنشطة، أنشطة صنع المعنى، التي تسدُّ الفجوات الناجمة عن الاضطرابات المتعمّدة للسرديَّات التقليديَّة. ويساعد خطّ سير الرحلة عبر القطع الفنيَّة الموجودة في الحديقة على تجميع المشاعر الفرديَّة معًا. وأخيرًا، فإنَّ انفتاح المكان يعطي “دورًا” لهذه العمليَّة نحو إعادة ضبط الذكريات وتغيير الإحساس بالمكان. وتستمرّ اللافتات الموجودة على رصيف الميادين في التشكيك في المنطق السليم والخطاب السياسي: فالموقع في وسط المدينة، ووضع اللافتات البيضاء في دائرة بارزة، والأهميَّة السياسيَّة لِنُصْبٍ وطنيٍ أمام القصر الرئاسي، كلّها في الواقع على نفس القدر من الأهميَّة. وتدعم هذه الاستنتاجات النقاش حول “عولمة الذاكرة”، مضيفة أنَّ التصرّفات المكانيَّة تلقي الضوء على التأثيرات المحليَّة لعمليَّة صنع المعنى. ومن ثمّ، فإنَّ الباحثين والصحفيِّين سيعيدون صياغة السياسة بشكل أفضل، مدركين أنَّ الاستخدامات العاديَّة هي الأدوات، التي تدعم “صرح الذكريات الهائل”. وتؤثِّر الطرق، التي تدور بها هذه العمليَّة على النتيجة، التي نأمل أن يساعد هذا الإطار التحليلي على فهم أفضل لمجموعات الحجج والأماكن العامَّة الأكثر ملاءمة للعيش المشترك.

 ________

* سفير سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.

الجمعة، 22 ديسمبر 2023

عمان، المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات