ولقد كرّمنا بني آدم
“نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”. هكذا كانت عقيدة أهل صدر الإسلام الذين تربوا على مفاهيم المدرسة النبوية المحمدية الصحيحة، كما ظهرت في حوار الصحابي ربعي بن عامر مع كسرى الفرس ومقولته الشهيرة له. فكيف لهذا الإعرابي- وإن كان من الأشراف- بهذه الحكمة والرؤية الكونية لصحيح عقيدة الإسلام التي تحمل في طياتها إيجازا غير مخل بل أقرب للشمول لحقيقة الإنسان والدنيا ولفكرة العبودية والسلطة والحرية والعدل؟
لقد جاءت الأديان جميعها هداية للبشرية من خلال تصحيح مفاهيم البشر الكبرى عن أنفسهم وعن معنى الحياة وكيفية فهم العلاقات بين البشر بعضهم ببعض وعلاقة الإنسان بنفسه وبكل ما حوله من أفكار وموجودات مادية ومعنوية. وعليه فيتم تأطير معارف البشر وتزويدهم بالخريطة المعرفية المؤسسة لرؤاهم الكونية التي تحدد زاوية رؤيتهم. فالمجتمع كما فسره رب العالمين هو مجتمع قائم على الإنسانية وهي المؤسسة لكل أصوله، وتقوم عليها قيم الحرية والعدالة والكرامة. وقد أكَّد الإسلام على أن المجتمعات إذ تتكون من أناس قبل أن يكونوا أفرادا، وأن تقوم على التعددية وقبول الآخر بالوقوف عند المشترك الإنساني ونبذ الخلاف، إذ أن مهمة الإنسان هي إعمار الأرض.
وما كان تكريم الإسلام للإنسان حسب رؤيته الكونية كما جاء في كتاب الله الكريم إذ قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)- سورة الإسراء:70. مستمداً من الإنسان لذاته، بل مستمد من خلافته لله على الأرض، وحمله لأمانة السماوات والأرض وفق إرادته: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة 30. (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) الأحزاب 72. فهنا تدلنا الآيات المحكمات على الصورة الذهنية الصحيحة لبني البشر كما حددها الله سبحانه وتعالى وكما يجب أن يتعامل معها بنو البشر مع غيرهم ومع أنفسهم. فلما لا وهو كما وصفه مولانا جلال الدين الرومي على أنه العالم الأكبر “إذن فأنت في الصورة العالم الأصغر وأنت في المعنى العالم الأكبر وفي الظاهر يكون ذلك الغصن أصلا للثمرة، لكن الفرع في الحقيقة من أجل الثمرة”، فلما خلق الله الأكوان جعل الإنسان فيها ليس فقط مستخلفا، بل مستهدفا، كما جاء ذكره على لسان أحد المتصوفة الكبار. سنائي الغزدوي، إذ قال: ” الإنسان إذن هو؛ أول الفكر وآخر العمل، هو المقصود من خلقة الكون ذلك المفتقر إلى المعونة والعون”.
وقد كان تكريم الله للإنسان ليس فقط بأن خلقه في أحسن تقويم، بل وبأن كرمه بنعمة العقل والقدرة على الاختيار واتخاذ القرار وهديناه النجدين، فقد يرتقي التفكير وإعمال العقل مكانة الفريضة كما كان طرح الأستاذ الكبير العقاد، في مؤلفه الشهير: ” التفكير فريضة إسلامية”، وأستحضر هنا قول للسفير محمد أمين جبر في كتابه “حول المرجعية القرآنية- تحديد المفاهيم” في قوله إن : هذا المخلوق المسؤول يوصف دون غيره من الخلائق بالكفر والظلم والطغيان والخسران والفجور والكنود، لأنه دون غيره أهل للإيمان والعدل والرجحان والعفاف. وقد يذكر بالضدين في الآية الواحدة، ويكون المعنى الموافق لسائر معاني الآيات أن الجمع بين النقيضين في القرآن ينصرف إلى وصفٍ واحد هو وصف الاستعداد الذي جعله أهلا للترقي إلى أحسن تقويم وأهلا للتدهور إلى أسفل سافلين.
ويؤكد القرآن الكريم على هذا المعنى في قوله: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) الإسراء 13. فقد كان قمة الإبداع الإلهي في تكريمه لعقل الإنسان ولحرية اختياره إذ لم يلزم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلا بالبلاغ المبين وإن اختاروا غير طريق الهداية فلست عليهم بمسيطر ولا حفيظا. وما قيام النبوة إلا على إقناع العقل البشري المسؤول بآيات الكون قد أنهى عصر سلطان الأحبار والقادة كما أنهى عصر الخوارق والمعجزات، فلا يعذر الإسلام إنسانا يعطل عقله ليطيع أصحاب السلطة بعد ما يقرب من 1430 عاما من الزمان بعد أن حرر الإسلام عقول البشر وأخرج العباد من عبادة العباد لعبادة رب العباد. وكيف وقد وعدنا الله بأن نشهد على أنفسنا بما ساقنا غيرنا إليه؟
ومن تكريم الله للإنسان أيضا أنه لم يجعل بينه وبين خالقه وسيطا أو وصيا، فلا يعلوه أحد من بني آدم فقط الله سبحانه وتعالى وفي هذا الشأن والمرتبة تقدير لا ريب فيه.
ومن هنا يتضح لنا مفهوم الجانب الآخر من النظرة الإنسانية، أصحاب الفكر الإقصائي ومنتهجي العنف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. هؤلاء ممن لديهم من القصور ما يجعلهم يأخذون بظاهر الآيات ولا يجيدون فهم الرؤية القرآنية المتكاملة الأركان وغير قادرين على التعامل مع الصورة الكاملة له فيلجأون إلى فهم مبتور للآيات ويخرجونها من سياقاتها ويبتعدون عن الهدف الأساسي من الهدى الإلهي فلم تأت النواهي والأوامر لتكريس روح الانتقام والعقاب. فالقوانين إنما وضعت للتقويم الإنساني. فيأخذون كل ما يؤيد انحطاط الذات الإنسانية وأنه كفور جهول جاحد لكي يطوعوه وفق رؤيتهم الأحادية لكي يفرضوا سلطانهم عليه بما يرونه الأصلح والأقوم. فيبيحون سيطرتهم على العقل ويبررون ربما العنف إذا كانت هناك ثمة مقاومة لما يرونه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
إذ أن السعي في سبيل الحياة لم يكن أبدا وفق الرؤية القرآنية ضلالا عن سبيل الآخرة، بل ربما هو قيمة مضافة للمسلمين في أن جزاءهم ليس فقط دنيويا بل لهم مثابة في الآخرة أيضا، بل أسس الإسلام لأن تكون الدنيا مزرعة الآخرة، بل وظل سعي الدنيا محمودا على أن لا يتملكها القلب. ولكن في المقابل، ذم هؤلاء الدنيا بل وأنكروا ما أحل الله لنا فيها من من زينة الدنيا وأباحوا قدسية حياة البشر بفهم المبتور للقرآن وتأويل آياته تأويلا خاصا، بمنطق: قاتلوا المشركين كافة.
فقد تطور بعض الجماعات صاحبة التأويل المتطرف بأن كانوا جماعات تحمل اسم جماعة المسلمين على أن من خارجها ليسوا بمسلمين، وبأن لهم موقفا حادا غير صحيح تجاه كل من هو آخر فوجب تغيرهم بالقوة. فالآخر هنا ليس فقط من غير مسلمين أم من هم أعداءهم بل كل من هو ليس عضوا في جماعتهم. وقد اعتمدت مصادر هؤلاء مرتبطة بفهم مغلوط للإسلام ويعتمد على مصادر إسلامية فسروها خطأ، أو مصادر أسموها إسلامية وهي من صياغة رموزهم.
وقد اعتمدت بعض هذه الجماعات على الجاهلية والحاكمية وفق تفسيرهم (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة: 50. فهؤلاء قد أبطلوا إعمال العقل والاجتهاد والتجديد وأسقطوا إسقاطا مخلا ما قد كان على واقعنا المعاش غاضين الطرف عن تغير الزمان والمكان والظرف آخذين بما أفتى به السابقون دون تريس أو حسن نظر للواقع بإهمال شديد لقيمة الاجتهاد والعقل. ليس خطأهم فقط في إبطال إعمال العقل، بل في فهمهم لمعنى الحياة وفق سياقاتها الصحيحة ونسوا أن الوصول إلى حسن جزاء الآخرة لا يأتي إلا من خلال مدى نجاحك في اجتياز اختبارات الدنيا، لذا فعلى بني البشر أن يحيوا الحياة كما كتب لهم أن يحيوها.
لماوتسي مقولة شهيرة، إذ قال يوما معبرا عن فلسفته العدمية : “إذا كنا عظماء بما فيه الكفاية حتى ننهي سيطرة الإله علينا، ألا نصبح نحن أنفسنا آلهة ببساطة” أتذكر بهذه المقولة موقف مدعي معرفة الحقيقة المطلقة وأصحاب طريق العنف في إرساء ما يرونه كلمة الله، فكلاهما قد أمات الإله-على حدّ تعبير نيتشة صاحب الفلسفة العدمية- فنيتشة رفض فكرة المطلق والمركز المتجاوز للمادة، أما أصحاب العنف المؤدلج فقد استعاروا دورا من أدوار الله وصبغوا الحياة بنظرة ظلامية لا تعكس حقيقتها وجوهرها كما وصفها القرآن الكريم فقد ظلموا أنفسهم إذ أعطوا لأنفسهم حقا ودورا ليس لهم لما رفضوا الآخر وكفروه وحكموا عليه حكما بالإعدام وقاموا بتنفيذه بأنفسهم على خلفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنكروا على أنفسهم إنسانيتهم وإنسانية من هم سواهم في أنهم مخلوقات حرة التفكير والاختيار، مكرمين لخلافتهم لله على أرضه، حيث اختبارهم الحقيقي لمفهوم الحياة وفيه فليتنافس المتنافسون.
*المصدر: التنويري.