لماذا اختار أمين الزاوي عنوان الخلاّن عوضًا عن الإخوان في روايته؟
الرواية الجزائرية
الروائي أمين الزاوي قلم حُرٌّ به يجدّد الحرف ويحاول كسر كل ما هو تابو عكس الأقلام التي تخشى البوح في الوقت الذي تطعن في رفاق الإبداع وتكاد أن تنعتهم بالصغار والمراهقين، فالروائي أمين الزاوي اختار نهجا خاصا به في الكتابة وسرد الواقع وعلاجه بطريقة نقديَّة لاذعة لكنها ضمن الحقائق التي يرفض البعض الكشف عنها فهل يمكن أن نصف أدب الزاوي بأدب الاختلاف، فهو بكل بساطة لا يؤمن بالمجاملات والمدح المبالغ فيه، عكس الذين ساروا على نهج من سبقوهم من أدباء البلاط الذي يجعلون من قلمهم وسيلة للاسترزاق، ما جعله موضع انتقادات وتوجيه أصابع الاتهام إليه، لأنه جعل من المذهب التنويري سبيلا لتحرير العقل البشري.
انطلاقا من فكرة أن الكراهيَّة هي نتاج غياب ثقافة المواطنة، فرواية الخلان لأمين الزاوي تجدِّد الحديث عن العلاقة بين الأنا والآخر وهل بإمكان إحداث التعايش بينهما، بعيدا عن كل ما يسبب القطيعة بين الفكر والفكر المخالف، فلكل كاتب أسلوبه في الكتابة وهو حُرٌّ في اختيار الزاوية التي يتناول منها فكرته ويحللها، شريطة أن يلتزم بأدب الكتابة والأمانة الأدبيَّة، فكل ما يقوله كاتب ما التاريخ يحسبه عليه، مهما كانت إيديولوجيَّة الكتاب والمؤرخين وعقيدتهم الذين ضمَّ الزاوي اسماءهم في روايته، “الخلان” فالزاوي كناقد معروف عنه بتحرّره الفكري وهذه حالة النقاد الحياديّين الذين ينتقدون الفكرة لا الأشخاص، ويتوجهون إلى من ينتقدون أفكارهم بعقلانيَّة، ولذا نجده يبتعد عن كل ما له علاقة بالنرجسيَّة، وهو ما يلمسه القارئ في كتاباته عكس الذين يلهثون وراء الأضواء اللامعة وعدسات الكاميرا، الباحثين عن الزعامة وتجاهلوا أن الزعامة اعتبار وقدوة وليست امتيازا، أولئك الذين يبحثون عمّن يمدحهم ويثني عليهم ويكتب عنهم بالبنط العريض في الصحف. إنَّ الذين أفنوا حياتهم في الدفاع عن قضيَّة الشعوب والإنسانيَّة، كانت الكتابة عندهم رسالة والرسالة أمانة يجب تبليغها قبل أن تتلفها العواصف وتغيّبها، فأمين الزاوي يؤمن بحريَّة التعبير والتعدُّد الفكري والثقافي.
إن مفهوم “الخلاّن” el-khillan يفتح الباب على مصراعيه للتأويل والتفكيك بحريَّة فهي تدعو إلى ارتباط الأنا بالآخر ونبذ الانقساميَّة، هي دعوة لجمع الشتات العربي/ الجزائري، وهي كما قال دعوة للتعايش والتسامح في وطن يسع الجميع ويتَّسع للجميع بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم ولغاتهم، وهو الجزائر، الرواية حسبه تستعرض أحداثًا وقعت قبل الثورة التحريريَّة والتفاف رجال أحرار حول القضيَّة الجزائريَّة، رجال تصدُّوا للاستعمار من أجل تحرير الشعوب ورفع الظلم ومحاربة الرق والعبوديَّة والإقطاع من هؤلاء الأب دوفال وهو شخصيَّة دينيَّة لكنَّه ينتمي إلى الاتجاه التنويري المناهض للاستغلال والظلم، ولعلَّ أمين الزاوي كان متأثِّرا بالمستشرقين التنويريين، في نفس الوقت أظهر عدائيته لكل ما هو فاشي ( نازي) مقدّما في ذلك شخصيَّة غابرييل لامبير، المسيحي المتطرِّف، أراد أمين الزاوي أن يبني ازدواجيَّة الرؤية المسيحيَّة داخل المجتمع الجزائري، ومقارنتها بأسماء يهوديَّة مثل أفولاي رشدي مسلم، فلا شك أن الثلاثة هم أبطال الرواية انطلاقا من لقائهم في ثكنة عسكريَّة بوهران، وعاشوا كالخلان أو الإخوة.
والخلان كمفهوم يقودنا إلى الحديث عن إخوان الصفاء وخلان الوفاء، الفرق بين الخلان الذي تحدث عنهم أمين الزاوي هو أنهم يختلفون في فلسفتهم ورؤيتهم وحتى في “يوتوبياهم ” لواقع الشعوب وللحياة، حتى لو كان يجمعهم قاسم مشترك وهو مناهضتهم للاستعمار، إلا أنَّ إخوان الصفاء يجتمعون على فلسفة واحدة ومنهج واحد وعقيدة واحدة، وهنا نتساءل إن كانت فلسفة أمين الزاوي مبنيَّة على فلسفة إخوان الصفاء وهل هو متأثِّر بهم، ما جعله يختار “الخلان” عنوان لروايته، هل هو اعتراف ضمني بالإخوان الخلان؟ لا أحد له الحق طبعا في أن يشك في عقيدة الزاوي، فهو مسلم لكنَّه ذا منهج تنويري يفكِّك المسائل من زاوية عقلانيَّة وموضوعيَّة مبنيَّة على الواقع، يحاول تجديد الفكر وتطهيره إن صحَّ القول، وليس كل تنويري مجدِّد ملحدٌ بالضرورة، إذا قلنا أنَّ لقاء الثلاثة في وهران كما قال الزاوي جمعتهم سلطة دينيَّة، ولذا أطلق عليهم الزاوي اسم الخلان.
الملاحظ أن أمين الزاوي آثر اسم “الخلان” على اسم “الإخوان”، الأوَّل (الخلان) هو مفهوم عقائدي والثاني (الإخوان) مفهوم سياسي ابتكرته الجماعات الإسلاميَّة في مصر قبل أن تستورده الجماعات الإسلاميَّة في الجزائر بقيادة الشيخ محفوظ نحناح، لاسيما وأنَّ الجماعات الإسلاميَّة، تبنَّت ذات يوم الخطاب المسلَّح سواء في مصر أو السودان أو تونس وحتى الجزائر، ثمَّ أن الزاوي من خلال كتاباته يبدو أنَّه أحاديُّ اللون، فهو يفضّل لونا واحدا في التعبير عن آرائه، ولذا هو ينبذ ما يعرف بــ”الوسطيَّة ” في الفكر والمواقف، لدرجة أنه يرى في الوسطيَّة على أنها توأم التلفيقيَّة، وهي أخت الانتهازيَّة الناعمة، بل ذرّ الرماد في عيون العامة البسيطة، وهي في نظره أيضا التوجُّس الكبير من قول الحقيقة وهي اغتيال للقناعة الفكريَّة وهي آلة جهنميَّة لإنتاج ثقافة الخنوع الذي يلبس لبوس الاحترام الزائف والمنافق حيال السياسي والفقيه والمثقف، بل هي عبارة عن حرب باردة ضد النقاش الجاد وضدّ صراع الأفكار المثمر .وليست حربا على التطرُّف، هكذا يتلاعب أمين الزاوي بالمفاهيم والمصطلحات ويوظِّفها توظيفًا يتناسب مع كل ظرف وفي المكان والزمان.
في كل الأحوال ففكر أمين الزاوي حسب النقاد هو ردّ فعل على العماء الفكري الذي طبع المجتمع العربي سياسيا واجتماعيا وثقافيا، أمام انهزام الأنظمة العربيَّة أمام الفكر الاستعماري الأوروبي، والملاحظ ايضا أن أمين الزاوي يستمدُّ فكره من كتب التاريخ والاجتماع وبخاصة الكتب التي رسمت المشهد الجزائري منذ الحرب العالميَّة الثانية الى عشيَّة الثورة الجزائريَّة وبعد الإستقلال وبداية الصراع بين النظام والتيَّار الإسلامي، كان المجتمع الجزائري خليطًا من الديانات والقوميات واللغات والثقافات وكذلك الطائفيَّة وبالأخص في منطقة وهران وهو الذي ركَّز على هذه المدينة في روايته، لما تتميَّز به من خصوصيات، فهي التي احتلَّها الإسبان لمدة 300 سنة ( 1492- 1792)، تأثر بها الجميع حتى الشعراء، لأن القضيَّة كانت قضيَّة قوميَّة إسلاميَّة، فكانت مرآة للرأي العام على حدِّ قول المؤرخ توفيق المدني الذي أرخ لحرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا.
يرفض أمين الزاوي توظيف الدّين في كل عمل،سواء كان روائيا أو تاريخيا، كما يرفض توظيف الدين في السياسة ونجده في ردّه على محاوريه يدعو الشباب إلى قراءة التاريخ عن طريق الرواية في مشهده الحقيقي، المشهد المتنوِّع والمُعَقَّد من تاريخ الثورة الجزائريَّة، كما يفرّق أمين الزاوي بين التدين والدين، ويرى الدين مسألة فرديَّة أي أن الإنسان يظل إنسانا مهما اعتنق ديانة ما وفضلها على ديانة أخرى أو حتى إن كان لا دينيا، ولذا هو يدعو إلى أنسنة الدّين وأنسنة الإنسان وأنسنة الحياة، طالما الإنسان تربطه مع المحيط كما يقول هو، مع الفضاء الذي يعيش فيه، قيمة المواطنة التي يعرفها، ويضيف أنَّ ما يشغله أكثر هو فلسفة المواطنة وهو مطالب بأن يدافع عنها، وهو ما دفعه إلى الاعتراف بأنَّ الوطن قبل الدين، المواطنة قبل العبادة، ويطرح الزاوي سؤال لماذا؟ وكان جوابه أن الوطن هو الذي يجمع الديانات كلها، ويجمع المعتقدات واللا معتقدات كلها، هكذا يقول الزاوي، طبعا لا يمكن الوقوف معه أو ضدّه، فلكل قناعته الشخصيَّة، نحن مطالبون باحترامها طالما نسعى إلى تحقيق التعايش مع الآخر حتى لو كان مخالفًا، لكن نتَّفق مع الأغلبيَّة بأنَّ حبّ الوطن من الإيمان، ولذا لا يمكن لأيّ كان، أكان كاتبا أو ناقدا أو سياسيا أو رجل دين أن يطعن في قناعات الآخر، أو يكفّره ويتّهمه بالإلحاد أو بالزندقة طالما الأمر يتعلق بحريَّة الرأي والمعتقد والموقف كذلك.
أمين الزاوي على خطى خلدون النقيب في مسألة المواطنة
يقول أمين الزاوي: “حينما تكون لنا ثقافة المواطنة فإنّنا نحمي ديننا ونحمي دين الآخر، حينما لا تكون لدينا ثقافة المواطنة فإننا ننتج ثقافة الكراهية، أنا لي ديني وأنت لك دينك، فنبدأ بالتنابذ والخصام”، الرواية حسب صاحبها إذن تدافع عن قضيَّة أساسيَّة وهي قضيَّة الوطن قبل كل شيء، الوطن هو فضاء للجميع، وهو الذي يحمينا جميعاً على اختلاف الألوان العقائديَّة واللغويَّة إلى غير ذلك، ولعلنا هنا نقف مع آراء كبار علماء السياسة والاجتماع واتفاقهم على أن تنظيم العدالة الاجتماعيَّة داخل نطاق دولة وطنيَّة متوقف على ضمان ثلاثة حقوق وهي: الحقوق المدنيَّة والحقوق الاجتماعيَّة والحقوق السياسيَّة، إلا أنَّهم أهملوا عاملا مهما جدا والذي يعتبر الركيزة في الحياة، ألا وهو ” الدين”، باعتباره مصدر إزعاج بالنسبة لهم، هذه الحقوق حددها جون راولس john rawls وهو من أبرز المفكرين السياسيين في أمريكا في كتابه “نظريَّة العدالة”، يقول راولس أن هذه الحقوق تعني الحريات المُكَرَّسَة في البلدان الديمقراطيَّة مثل حريَّة التعبير وحريَّة الانتماء للجمعيات، أي حريَّة الشخص وحمايته من الضغوطات النفسيَّة ومن الاعتداءات الجسديَّة والجنسيَّة، وحق حمايته من التوقيف والاعتقال التعسفي، وحمايته أيضا من عنف النظام السياسي للدولة وتعسّفها، وبهذه الحقوق يصبح هدف العدالة ضمان الحريَّة في أفق نظام حقوقي بنظم توافقيَّة جامعة لكل الحريات الفرديَّة، وهذا يعني تحقيق العدالة السياسيَّة، التي تعطي للفرد حق المشاركة.
لقد أطلق جون راولس على حقوق المشاركة اسم حقوق المواطنة les droits de la citoyenneté، وحقّ المواطنة كما يرى هو لا تقتصر عند الحصول على حماية اجتماعيَّة أو مدنيَّة بالمعنى الشامل للكلمة، بل تتمثَّل في ضرورة حق اكتساب حق المشاركة الفعليَّة والفعالة في صياغة القرارات التي تهدف إلى تنظيم الحياة الاجتماعيَّة، اي ممارسة الحريَّة في المجال السياسي، لقد خاض كثير من المفكرين في الحديث عن إشكاليَّة المواطنة ومنهم جان مارك فيري في كتابه “فلسفة التواصل”، دعا فيه إلى إعادة النظر في الخطاب السياسي وإضفاء عليه الشفافيَّة، ما يمكن ملاحظته هنا هو أن الفرق بين راولس والزاوي هو أن هذا الأخير يرفض كما سبق ذكره مبدأ الوسطيَّة التي اعتمدها راولس في دراساته الملاحظة الأخرى هي أن المفكر أمين الزاوي يسير على نهج مفكرين آخرين من بينهم خلدون النقيب الذي يعتبر من أبرز المفكرين الذين بحثوا في مسألة المواطنة وذلك في كتاب له بعنوان” آراء في فقه التخلُّف”، حاول فيه إيجاد حل لمسألة الاندماج الوطني، يتحدَّث خلدون النقيب عن أطروحات حول المواطنة وأزمة الدولة القطريَّة في الوطن العربي ويدعو إلى تحديد مفهوم المواطن أولا، ثمّ معرفة خصوصيَّة المواطنة في الحضارة الإسلاميَّة مع نقد النموذج التراثي للمواطنة، بقي هنا الإشارة إلى أنَّ فكر أمين الزاوي على غرار من يسير على نهجه يلقى دوما العديد من الانتقادات من طرف ما يسمونهم بالمنفعيِّين، إلى حدّ أنَّهم يتَّهمونه بالتطرُّف الفكري أو بالإلحاد.
علجية عيش بتصرُّف
*المصدر: التنويري.