قراءة في كتاب “صمت هايدجر” في المسألة اليهوديَّة (1/3)
The man who speaking by silence
قالوا عن هايدجر
مع نشر كتاب هايدجر Schwarze Hefte (Black Notebooks)الدفاتر السوداء، أدَّت مسألة صمته فيما يتعلق بالهولوكوست وأمور أخرى تتعلَّق بشخصيته وطبيعته النفسيَّة، إلى إثارة الجدل الساخن وتشعُّب النقاش مع ما كان عليه من انتماءات اشتراكيَّة.
إنَّ هذا كله ليجرَّنا إلى الوجود والزمان وإسكات الرهبة والملل العميق في Da-sein’s. نذكر أنَّ “الوجود والزمن” الذي اعتنى به هايدجر، مكتوب لإثارة النظر في “مسألة معنى الوجود”.
الكلمة الألمانيَّة التي تعني “أن تكون” هي Sein. (معظم اللغات الهنديَّة الأوروبيَّة تستخدم صيغة المصدر — “إلى x” كاسم عام — تستخدم اللغة الإنجليزيَّة اسم النعت “x-ing. فالدازاين ـ DASEIN كلمة ألمانيَّة مكونة من كلمة DA بمعنى هناك و SEIN بمعنى يكون، تعني الوجود الحاضر أو الوجود المقابل للاوجود.
ويستخدم هايدغر هذه الكلمة للدلالة على كينونة الموجود الإنساني أو كيفيَّة وجوده؛ أي الإنسان من حيث هو الكائن المنفتح على الكون في تغيّره وعدم استقراره، وهذا يعني أنّ الدازاين يختلف عن سائر الكائنات من حيث إنّه ينجز كونه، فماهيَّة الإنسان إذن، وجوده وحقيقته نزوعه إلى ما يريد أن يكون، فهو من يصنع ذاته بذاته ويجاوز بفعله حدود الواقع وينفتح على العالم.
ويمكن من هذا التعريف أن ندخل على وجوديَّة سارتر من قريب ونكتشف سارتر في هايدجر. فكلمة Sein الألمانيَّة تعني بالإنجليزيَّة for to be أي أن تكون وهي being بمعنى كائن أو كينونة، لذلك قالوا being alone ويعني أن تكون وحيدًا، ثم اصطلح عليها أن تعني الوجود أو الكون والكائن، فهو من تحويرات الكون والكينونة، لا في الدلالة الأوليَّة.
وبالفعل رأينا أنَّ المقطع الاول sein ويعني “أن تكون”، وأنَّ المقطع الثاني DA ويعني “هناك” فكلمة Dasein كلمة ألمانيَّة عاديَّة تمامًا وتعني الوجود، لذا فإنَّ هايدجر يحوِّل الكلمة العاديَّة إلى كلمة تقنيَّة، ولهذا السبب تُركت دون ترجمة في مدرسيَّة هايدجر.
وما نحتاجه هو نقد تقنية هايدجر مع أنَّه ليس موضوع مقالنا. عندما استخدم هايدجر مصطلح الدازاين Dasein للتعبير عن الوجود الإنساني، وهذه الكلمة ليست مرادفة للإنسان، وإنَّما وظيفة أو طريقة الإنسان في الوجود .
الدازاين هو كينونة الوجود الإنساني لا من حيث كونه ذاتا أو عقلًا أو وعيًا أو إرادة أو تصورًا من لدن الذات عن الوجود، وإنَّما من حيث هو وجود بلا ماهيَّة.
ويمكن أن نأخذ ترجمة عبدالرحمان بدوي لهذا المصطلح ليكون مقابله في الفلسفة الإسلاميَّة واللغة العربيَّة هو الآنيَّة، كما في تعريفات الجرجاني ” تحقُّق الوجود العيني من حيث هو رتبة الذاتيَّة، أو هو ” البناء الأنطولوجي للإنسان في تناهي الذات”.
فالدازاين قديمًا يقصد به الإنسان، ولكن مع هايدجر لا يعني الإنسان فقط بل هو الإنسان وعلاقته بالوجود التي يحقِّقها ويفقدها، إنَّه درجات من الكينونات والكونيات التي ينشئها الإنسان في كل لحظة، إنَّه يعني الاتِّصال بالذات والانفكاك عنها، إنَّه أكثر توسُّعًا من ثنائيَّة ديكارات، وأكثر واقعيَّة من متعاليات هوسرل في تأويليَّة وجوديَّة انعطفت بالفينومينولوجي الأنطلوجيَّة نحو حقيقة الوجود، فقرَّبتنا إلى هذا العالم وجعلتنا أكثر التصاقًا به وتفاعلًا معه وتعرُّفًا عليه.
ولو مررنا سريعًا على عدد من الفلاسفة لرأينا فينومينولوجيا هيجل ليست أكثر من تدرُّج الوعي لتحقيق نفسه وتملُّكه ذاته الجدليَّة، أمَّا بالنسبة لنيتشه فهو أقرب إلى الحَرْفيَّة الماديَّة النفسيَّة عندما أظهر إرادة القوَّة، أمَّا سارتر في الوجود والعدم، فإنَّ الاختلاف وقرار النزعة المتفرِّدة هو الذي يدفع الفرد إلى اتِّخاذ القرارات بشأن نفسه والعالم، أمَّا هايدجر فيعني الاندماج والتفاعل والتأويل المشترك في فطريَّة طبيعيَّة تتعامل مع المجموع دون انفصال، ومع الذات دون انكفاء في بحثيَّة دائبة عن المفقود فيها.
إنَّ ارتباط هايدجر بالتقنيّة وموقفه منها يظهر في مصطلحاته التي اخترعها، وكأنَّه يرمز بها إلى العالم الذي وجد فيه، وهو من المناسبة بين العصر والتأليف مع أنَّه يطرح مسألة التقنية وعلاقتها بالعالم والإنسان، من خلال محاضرته ” مسألة التقنية ” فيرى بدل من أن تكون التقنية هي مصدر السكينة للإنسان ، فقد رمت به وسط متاهات تفرض عليه اليوم أكثر من أي وقت مضى إثارة السؤال عن حقيقتها، إنَّها في نظره تمثُّل الوجود المزيف الذي لا يزيد الإنسان إلا شعورًا بالغربة وإدراكًا بفقدان المسكن والموطن الأصيل.
إنَّ صمت هايدجر هو صمت الوجود الناطق حتى في حال سكونه الرهيب ذلك الصمت الذي هو نوع من الأحداث ذات المعنى والمغزى التي تتكشَّف فيه، ولذلك قد نقول إن هناك روابط بين الصمت والحقيقة واللغة، لذلك يتردَّد كثيرًا ” الأجوبة المسكتة” أو “الصمت أبلغ من الكلام” أو ” الصمت في حرم الجمال جمال “، لأنَّ الجمال هو اللغة العالية من الحقيقة والبيان، عندما تتحدِّث الحواس والمشاعر ويصمت كل شيء، لأنَّ الدهشة الصامتة هي أبلغ تعبير.
فجوهر اللغة باعتبارها القول الصامت، فالكلمات صوامت وفي الصياغات اللاحقة فإن اللغة باعتبارها مقدمة لا صوت لها تنطوي بشكل أساسي على الحقيقة، لأنَّ اللغة في جوهرها وفي نفسها، تصبح موقعًا للانكشاف، لذلك كان النبي صلى الله عليه وآله يميل إلى الصمت، ولو شاء أحد، كما قالت عائشة، أن يعدَّ كلماته لعدّها لقلتها وحسن بيانه، حتى أنَّ الله سبحانه إذا أراد شيئا، إنَّما يقول له كن فيكون }إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {(40)، وجاء عن السلف عندما سئلوا أيّهم أكثر علمًا هم أو من سبقهم، قال أنتم أكثر كلامًا والمتقدِّمين أكثر علمًا، لذلك جاء في الحديث ” أمسك عليك لسانك”.
لذلك أيضًا جاء عن السلف، أنَّ العارف هو من وعظك حاله لا مقاله، فالحال الصامت هو أبلغ من الكلام الناطق. فالصمت قرين العمق والانغراس في الذات الصامتة، ولكن من المؤكَّد أنَّ هناك علاقةً بين الخفاء والصمت من جهة والصوت من جهة، كما أنَّ هناك علاقة بين الانكشاف والصمت من جهة، وبين الانكشاف والصوت من جهة.
إنَّ تأمّلات هايدجر تنتج وفرة من الأفكار المناسبة التي تشكِّل مفاهيم فريدة عن الصمت.
إن هايدجر يبدأ تصوّر الصمت في العلاقة الأكثر مباشرة مع الوجود ظهورًا/ وخفاءً حضورًا / وغيابًا أثناء تحليلاته عام 1929 للتناغمات الأساسيَّة للرهبة في “ما هي الميتافيزيقيا ” والملل العميق في المفاهيم الأساسيَّة للميتافيزيقيا: العالم ، النهاية، العزلة، إنَّه يحاول أن يقارن بين مفهوم الصمت في هذه الأمور ومفهوم الوجود والزمان الذي ما زال يتعلَّق بالشكل الإنساني للصمت، فهل نحن كائنات صامتة أو ناطقة.
إنّ الشاعر العربي القديم كان يقول :
نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا / وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لاَ تَنْقَضِي
فهناك إصمات في الوجود للأشياء جميعها ، يظلّ الإنسان يريد ولكن الله يفعل ما يريد، حتى الكلام أو الكلمة قد تكون إشارة إلى صوامت البلاغة، عندما لا تشبع الكلمات جوف الصمت ولا تملأه، فالفراغ الكبير صمت هائل يلتهم الطاقات، إنَّ كلامنا محاولة لردم هوّة الصمت، فالحقيقة أنَّنا كائنات صامتة تحاول أن تتكلَّم وتربط بين الصوامت المتفرِّقة التي يتَّصل بعضها ببعض، لذلك كان التأمُّل هو التجلِّي الأكبر للإنسانيَّة الذي هو التفكّر، ولا يكون إلا بالصمت، فعندما نصمت نعود لإنسانيتنا الأولى ونتَّصل بالوجود، ولكن تبقى إشكاليَّة أنَّنا لو قدرنا أن أحدًا في صحراء شاسعة بعيدًا عن الناس كلها فسيستوحش حتمًا وسيكون الملل عميقًا جدًا، لذلك لا بد من الاجتماع بغيرنا من الصوامت وهو اجتماع الصامتين، فأنت إذا دخلت غرفةً واسعة خالية، فلن تشعر بشيء ذي بال، ولكن ما إن تحتشد هذه الغرفة بالأثاث حتى تشعر بالأنس وبالشعور الجميل، ولذلك فإنَّ ذلك المنفرد لو كان معه دواب وخيل وبيت وينشط في زراعة أو فلاحة لوجد أنساً طيبًا.
إنَّ العارف عندما يصل إلى درجة عالية من العرفان والتذوُّق، يصمت عن كل شيء ويكون كلامه محدودًا وسؤالاته مختصرة لا تتمدد مع الدنيا كثيرًا، لذلك كان النبي طويل الصمت قليل الكلام.
فالمعرفة تصمِّت والضحالة تكثِّر النطق وتوسع الشغب، وإن كان هايدجر يميز بين الذات الزائفة والذات الأصيلة بين الاستماع الزائف والاستماع الأصيل وهو قدرة الإنسان الاستماع إلى نداء الضمير الصامت، فالضمير الذي يؤنِّب الإنسان لا يتكلَّم، ولكنَّه يكون أوجع ما يكون وأقلق ما يكون للشخص، إنَّه يناديه ويؤنبه ويوبخه وقد يفقده لذة يومه وهناءة ليله، إنَّ الذين لا يحسنون الاستماع إلى أنفسهم ذواتهم زائفة ولم يتعلَّموا الصمت كما ينبغي، إنَّ الصمت يجعلك تنصت إلى نداءات مهولة من حولك وخطابات وجوديَّة عظيمة تناديك إلى نفسها، لتكون وجوديًّا بحق يبحث عن ماهيته المفقودة، علَّه أن يجدها فأكثر ما يعانيه الناس، أنّهم لا يعرفون أنفسهم ولا يؤمنون بذات أخرى تنتظرهم.
إنَّ نداء الضمير لا يكون لغير المذنبين وعند هايدجر كونك مذنبا هذا ينتمي إلى طبيعة الدازاين الإنساني، لكن الوجود العام لا يخطئ إن الوحيد الذي يخطئ هو الإنسان فكل شيء في الكون محسوب بدقَّة، ويبقى الإنسان مكان التشوُّه فيه لذلك قال الله } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{ (41).
وعنده أن أعمق صمت يكمن في الدازاين وهو ما يشير إليه بسكون نفسه ويعرف بأنه ما “يُستدعى إليه” و” يُستدعى كشيء يجب أن يصبح ساكنًا”. فالسكون هنا ليس مجرد هدوء أو سكينة النفس التي تنسحب إلى ذاتها، بعيدًا عن صخب الآخرين وهموم الحياة إن صمت الدازاين في بطلان شيء ما أو وجود ما زائف إنه بحث عن الذات المخبأة في الداخل إنه الإمكانيَّة القصوى لأن يكون المرء نفسه وبهذا المعنى الذي ظهر فالدعوة إلى سكون الذات هي دعوة للابتعاد عن الذات الزائفة إنه يدعو إلى العودة نحو الذات الحقيقيَّة من خلال الانكشاف والشفافيَّة وهذا في عمليَّة وجوديَّة بين الظهور والخفاء إنه رفع للغطاء الزائف الذي وضع على أنفسنا وستر ذواتنا وهذا علمنا الأصلي في الحياة والوجود وفي كل ما نقوم به علينا أن نكون نحن لا غيرنا ولكن هذه النحن قد تكون مشوهة ومطمورة فلا بد من البحث عنها والسعي إليها وهذا لب الدازاين.
*المصدر: التنويري.