قراءات في كتاب الرَّحالة المتأخرون؛ الاستشراق في عصر التفكك الاستعماري
يتولَّى علي بهداد في كتابه؛ الرَّحالة المتأخرون، بالدرس موضوع الاستشراق في القرن التاسع عشر الاستعماري، منطلقاً في نقوداته من حقلي النقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونياليَّة. وهو يحشد لهذا الغرض كثرة من الأجهزة التحليلية و المفاهيمية التي تنتسب إلى غير كاتب وغير جنس كتابي يتوزع بين النظرية الأدبية، و الفلسفة، و الأنثروبولوجيا، والتاريخ، والتحليل النفسي. وينطوي عمل الكاتب, أيضاً, على تبحُّر في الوثائق و المصادر التاريخية يكشف عن صبر و حرفية تتبديان في انهماكه و مجاهدته لفك ما استغلق من المخطوطة التي سطرها فلوبير بخط يده الذي بهتت ملامحه.
وهو يجمع, بهذا و ذاك, بين الرواية و الدراية تبعاً لتعبير السلف من علماء المسلمين. و ليس غريباً , والحالة هذه , أن يتبوأ هذا الكتاب مكانة المصادر النقديَّة التي يرجع إليها الأكادِيميون و المشتغلون في الحقلين اللذين سبقت الإشارة إليهما.
وقد غلبت على النص فاعلية تأويلية ذات مشرب تفكيكي و إن اختفى الأخير من مصادر الكاتب ، فهو يؤثر استثمار الجهاز النقدي للمفكر الفرنسي ؛ ميشيل فوكو , ولا سيما تحليله لموضوع المعرفة والسلطة تبعاً لما يحكمهما من علاقة داخلية . فضلاً عن مقاربة الأخيرة تبعا لخاصيتها الإنتاجية لا القمعية أو القانونية . غير أننا نلمس عوداً أبديا لفكرة بعينها تكاد تنتظم عقد الكتاب من أوله إلى آخره . وذلك حين يتناول الكاتب ؛ النوستالجيا الغربية نحو الآخر فيراها محايثة للنصوص الاستشراقية قيد الدرس، مما يؤشر على معارضة كامنة للكولونيالية و انشطار في هذه النصوص , فضلاً عن هوية منتجيها . بل إن المرء يواجه, كما يؤكد بهداد , حتى في نتاج كاتب إمبريالي صريح، مثل كيبلينغ, هذا النمط الانشطاري في الهوية . ثم يستدركُ الكاتب على ذلك فيرى هذه النوستالجيا و تمثيلاتها النصية محدودة بغيرها من الممارسات الخطابية و غير الخطابية للكاتب/الرحالة , فضلاً عن السلطة الكولونيالية التي تعمل , بما تمتلكه من خاصية إنتاجية، على توظيف هذه النوستالجيا في سياق الجهد الإمبريالي.
وعليه , فان المراوحة بين الكولونيالية و ما رآه المؤلف ” معارضة ” لايبلغ حدود ديالكتيك المشاركة بله التضاد . إذ تأتي المعارضة لتبرز الحضور الكولونيالي في الخطاب الاستشراقي لا لتنقضه كما في الديالكتيك الهيجلي . و هي حين تنحل ” بنقيضها ” الكولونيالي , فإن ذلك , لا يتمخض عن صنف ثالث أرفع، بل عن سلطة كولونيالية جديدة تنتظرنا مع بهداد في خاتمة الكتاب.
وربما صدر ما أطلقنا عليه عوداً أبدياً عن غياب الغاية، دون أن نعني, هنا, الغاية بمعناها الأنطولوجي الذي يوحي به المصطلح الفلسفي , وإنما أردنا غلبة عناية الكاتب بأدواته النقدية على عنايته بالموضوع المدروس . فتحضر بذلك الوسيلة؛ الأداة , و يغيب الموضوع ؛ الغاية. فالكاتب يعمد , مثلاً , إلى جرّ المنطقة الزمنية المتعلقة بالاستعمار؛ أي القرن التاسع عشر، إلى منطق المصطلح النقدي؛ قلق التأخر . وغير خفي ما ينطوي عليه نعت القرن التاسع عشر الإستعماري بالتأخّر من مجازفة .
غير أننا نقع في المعضلة ذاتها حين يدفعنا ما ينطوي عليه المصطلح الفلسفي من غواية إلى حكم مجحف في حق الكاتب . فربما كانت عنايته في استثمار الأدوات النقدية وصقلها صادرة عن غائية موضوعية لا أداتية أو تقنية . فالكاتب يجافي النزعات التعميمية لدى سعيد , مثلاً , لأنها تنطوي على إقصائية باطنية، ما انفك الخطاب ما بعد الكولونيالي يرمي بها الخطاب الاستشراقي . وربما عمد بهداد إلى إبراز ما أسماه النوستالجيا نحو الآخر , وما يستتبعها من نقاط معارضة و هوية منشطرة , كي ينأى بنفسه عن حلوليَّة فوكويَّة لا ترى الإنسان إلا مشروطاً بشيفرات ثقافيَّة قبليَّة، فيغدو, بهذا , أنموذجاً مختزلاً عن هذه الثقافة أو جسدا طيعاً في ماكنتها.
ولكن على الرغم من سعي بهداد لتحرير ممارسته النقديَّة من آثار النصية, فإننا نرى أنها تضمر نزوعاً نحو ضرب من النصيَّة . فهو يغلّب استخدام مصطلح النص على الخطاب ، وتمثل النصوص الأدبية حقل تطبيقه الأثير . و تشهد بذلك , أيضاً , خاتمة الكتاب التي أرادها بهداد مفتوحة أو مرجأة، بل إن قول بهداد بانشطارية الخطاب الاستشراقي تأسيساً على ما دعاه نقاط معارضة كامنة، يحمل في أطوائه أثراً بعيداً من آثار التفكيكية النصية التي تجعل النسبي والعام على صعيد . صادرة في ذلك عن مطلقات قبليَّة ترى النص” مطلق نص” حاملا لعناصر تفكيكه . فتتمحّك في البحث عن فوارق ظلية تجعلها بمنزلة ضديَّات تفجر النص فلا يستقر على معنى بعينه.
وقد نعتنا تأثّر بهداد بتوجهات النصية بالبعيد لأنه, على النقيض من الأخيرة , يقيم اعتباراً في عمله لسياقات النص التاريخية و تعالقاته السلطويَّة . بل يزيد على ذلك فيتعمق الذات المنتجة للنص متوسلا مقولات التحليل النفسي و أدواته .
و لم نقصد من كل ذلك الانخراط في مساجلة نظريَّة مع الكاتب أو التقليل من أهميَّة كتابه الذي يمتلئ بالفوائد و البصائر المعرفية والنقدية . وإنما أردنا مما ذكرناه أن يكون , بنوع من المفارقة , مدخلا إبيستمولوجيَّاً للتحلّل من النبل الإبيستمولوجي و القول أنه كان بمقدور , بهداد , أن يمايز نفسه عما أسميناه نزعات تعميميَّة أو حلوليَّة ثقافيَّة عبر امتحانه لثيمة النوستالجيا، وما ينبني عليها من تمثيلات في نصوص أكثر إبرازا لهذه الثيمة . وقد قامت بهذا الجهد, مثلا, مارغريت جوب في كتاباها التأريخي المتفرّد؛ أسطورة صلاح الدين في الأدب و الكتابة التاريخيَّة الغربيين , وذلك حين رصدت صورة صلاح الدين في المصادر الغربية مستقصية التحول الذي جرى على شخصيَّته فغدا بطلاً أسطورياً بعد أن كان شخصية شيطانيَّة . تقول مارغريت جوب في الكتاب :
” وقد أفضى ما عُرف عن صلاح الدين من كرم وفروسيَّة إلى تشكيلة غير عاديَّة من القصص في الأدب الغربي .وربما كان بمقدورنا أن نجملها تحت عبارة ( أسطورة صلاح الدين ) وقد بثت هذه الأسطورة , بصورة واسعة , في كل من النصوص اللاتينية , والفرنسية , و الإنجليزية , و الألمانية, والهولندية , والإيطالية , والأسبانية . كما بقيت هذه الأسطورة على مر الزمن و تقادمه بدءاً من القرن الثاني عشر حتى زمننا الحاضر , و ينطوي ذلك على أهمية تاريخية لا مراء فيها . وذلك أن جوهر الأمر كائن في أن صلاح الدين بادَهَ الكاتب الغربي ؛الذي سعى لعرض شخصيته وأفعاله, بمفارقة تعصى على الحل. إذ إنه يعد, من جهة ، العدو الأكبر للمسيحية الذي أنزل هزيمة منكرة بجيش المملكة اللاتينية في تموز من عام 1187 في موقعة حطين , ومضى من فوره في تشرين أول من العام ذاته ليستعيد المدينة المقدسة التي استولى عليها المسيحيون لزمن ناهز القرن . فامتلك الكتاب الغربيون , بذلك سبباً قوياً لشيطنته , وقد اضطلع , في واقع الأمر, عدد غفير من الإخباريين القروسطيين بتلك المهمة, بيد أنه توجَّب عليهم , بصورة ما , أن يضمِّنوا تصورهم تلك الحقيقة المذهلة المتصلة بسلوكه الرحيم والكريم الذي تجسَّد، أفضل ما تجسَّد، في معاملته لسكان القدس حين استسلمت إليه المدينة. فقد مَّثلت أفعاله مبادئ الفروسية التي زعم الفرنجة ذاتهم أنهم اعتنقوها، لكنهم كانوا يطّرحونها جانبا في معاملتهم للمسلمين التي اتسمت بالغدر و الوحشية”.
وقد أوردنا هذا الاقتباس الطويل نسبياً لاعتقادنا أن رصد تمثيلات هذه الشخصية في النصوص الغربية يرجعنا إلى سؤال القيم . ويغدو من النافع ,في أثناء هذا, تقصي النوستالجيا نحو القيم:” كافتتان الإنسان الغربي بتسامح صلاح الدين في هذا المقام ” واستثمارها كمدخل للحديث عن المشترك الإنساني عوض استخدام مصطلحات غائمة من قبيل الهجنة وما ناظرها من توصيفات.