المقالاتفكر وفلسفة

فلسفة التكامل المعرفي في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر

لقاء فكري حواري بين الدكتور علي أسعد وطفة والدكتور محمد مينار

1- مقدمة

تمثل فلسفة التكامل المعرفي واحدة من أهم المقاربات الفلسفية والمنهجية الراهنة، الرامية إلى إعادة تقويم مسار الفكر التربوي الإسلامي المعاصر، وذلك من خلال استعادة أطره المعرفية والمنهجية الذاتية والأصيلة، وتخليصه من التبعية الحضارية، فضلا عن تفعيل الأدوار المنوطة به، في سبيل بناء الإنسان السوي معرفيا ونفسيا واجتماعيا وحضاريا.

تهدف هذه المقابلة مع الدكتور وطفة إلى مساءلة جدوى هذه المقاربة، وفهم حقيقة مضامينها الابستيمولوجية، فضلا عن محاولة ملامسة أفقها الإجرائي، عن طريق مناقشة عدد من المداخل التي ترمي إلى هدف نهائي، هو استعادة الإنسان النموذج، القادر على التعاطي مع شتى التحديات الحضارية الراهنة.

د. محمد مينارسعادة الأستاذ الدكتور: علي أسعد وطفة، حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله، وبعد،

أنتم تمثلون في نظر الباحث، أحد رموز الجماعة العلمية التنظيرية، لهذه المسألة التي يندرج جهد الباحث فيها، كشفا وتحليلا وتقويما واستشرافا، ألا وهي فلسفة التكامل المعرفي في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر؛ بحيث يحاول الباحث في هذه المسألة الراهنة، استنفاذ الجهد وبذل الطاقة في سبيل مساءلتها، في جانبها النظري وكذا التطبيقي، وذلك في أفق الفكر التربوي الإسلامي المعاصر.

وتبعا لهذا المسعى، فإن الباحث يلتمس من حضرتكم المحترمة، التكرّم بالإجابة عن جملة الأسئلة التي رتبها أدناه، وهذا استئناسا بتجربتكم، واستعانة بآرائكم، بقصد التمكّن من مساءلة أبعاد هذه المقاربة، ومدى نجاعتها في إعادة صياغة الفكر التربوي الإسلامي المعاصر، والسبل الكفيلة ” بأجرأة ” هذه الفلسفة في نظام التعليم الإسلامي المعاصر، على وجه التحديد.

د. محمد مينار:  برأيكم د. علي فيما تكمن طبيعة فلسفة التكامل المعرفي بالنسبة لكم؟

د. علي وطفة:

أولا أود في البداية أن أوجه لكم صديقي الدكتور مينار خالص الشكر والتقدير على تناولكم لهذا الموضوع النادر والمميز والمهم جدا في مسيرة الحضارة الإنسانية، كما أرفع لكم خالص التقدير على اختياري لمناقشة هذه القضية التربوية المعقدة في دائرة الفكر الإسلامي المعاصر الذي يتميز بطابعه الإشكالي في ميزان الحضارة الإسلامية المعاصرة.

أقول مبدئيا إن المعرفة الإنسانية بدأت على نحو  تكاملي منذ بدء التكوين، وإذا كانت التباشير الأولى للمعرفة قد بدأت على نحو لاهوتي، فإن اللاهوت القديم -كشكل من أشكال المعرفة- يتسم بطابعه البنائي الشمولي. وتتجلى هذه الشمولية في الفلسفات الأولى التي اتسمت بطابعها الموسوعي، وعلى هذا الأساس كان يطلق على الفلسفة الأولى أم العلوم وفن الفنون، إذ فيها اجتمعت عناصر المعرفة في المجالين الفيزيائي والميتافيزيائي. وفي الأصل والجوهر كانت الفلسفة تأخذ صبغة شمولية تكاملية وهي كما عرفها الأقدمون النظر إلى الوجود بما هو موجود، بوصفها أم العلوم وفن الفنون. وفي هذه الفلسفة عرفنا عمالقة الفكر الإنساني الذين اتصفوا بالطابع الموسوعي مثل الفارابي والبيروني وابن سينا وأرسطو وفولتير وكانط وديكارت وليوناردو دافنتشي وأوغست كومت، وغيرهم كثير ، وهم يشكلون نمطا من الفلاسفة الذين أبدعوا في عدة ميادين معرفية فيزيائية وفلسفية وكونية شاملة. ومما لا شك فيه أن الحدود والحواجز  بين العلوم جاءت في فترات متقطعة من التاريخ حيث بدأت هذه العلوم تنفصل تدريجيا عن الفلسفة. ومع أهمية هذا الاستقلال نشأت فلسفات جديدة لصيقة بكل علم من هذه العلوم من أجل توجيهها وتحقيق تكاملها مع العالم بصيغته الشمولية. ونرى في هذا السياق أن التواصل المعرفي التكاملي بين العلوم لم ينقطع، وبقيت الفلسفة بصورة عامة تمثل الفعالية المعرفية التي حاولت أن تحافظ على مسارات التكامل والتفاعل بين مختلف العلوم والفنون. وإذا كان استقلال العلوم قد أسهم في تطور الحضارة الإنسانية، فإن تواصلها اليوم وتكاملها يحقق ثورة فكرية معرفية عظيمة. لأن التكامل المعرفي بين الحقول العلمية يشكل اليوم منطلق الثورات المعرفية التي تشهدها الإنسانية. وهنا يجب أن نأخذ بأهمية الجدل ما بين الانفصال والتواصل ما بين التجزؤ والتكامل بين العلوم والفنون في مسارات تطور الحضارة الإنسانية.

د. محمد مينار : إلى أي مدى يمكن ربط هذا المفهوم، بحقل فلسفة العلوم المعاصرة؟

د. علي وطفة:

نميل إلى الاعتقاد بأن التكامل بين العلوم قد تجاوز حدود المسارات الفلسفية، ويميل هذا التكامل اليوم إلى هدم الحواجز التي كانت قائمة بين مختلف العلوم ، وقد أصبح التفاعل عميقا وجوهريا حتى دون مقدمات فلسفية، ويمكن ملاحظة هذا الأمر فيما بين الفن والعلم إذ أصبح الفن بتجلياته المختلفة جوهريا في مسارات العلوم وضروريا في تطورها،  ويمكن التدليل على هذا الأمر بما عرفناه من ترابط عميق بين الفنون والعلوم تاريخيا ومثال ذلك : ليوناردو دافنتشي الذي كان رساما ومخترعا في آن واحد وغيره كثير في هذا الميدان. فالحدود العميقة بين العلوم لم تعد ممكنة لأن المعرفة الإنسانية قد تخطت هذه الحدود،  والحضارة الإنسانية بأبعادها الفلسفية تتطور على نحو تكاملي والعصر القادم هو عصر تنصهر فيه العلوم والفلسفات والفنون في بوتقة حضارية واحدة وتلك هي السمة الحضارية للتطور الإنساني في القرن الحادي والعشرين.

د. محمد مينار: إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى مصطلح التكامل المعرفي، في مقابل مصطلحات أخرى مثل: التقريب، التداخل؟

د. علي وطفة:

يقول فولتير بصدد المفاهيم إذا أردت أن تناقشني فحدد مفاهيمك. المفاهيم رجراجة وكل مفهوم يعبر عن دوالية العلاقة بين الدال والمدلول … وكل من هذه المفاهيم يحمل غايته … وبصورة عامة فإن مفهوم التكامل يتجاوز هذه المفاهيم برأينا إذ يدل مفهوم التكامل بين العلوم على علاقة جوهرية تفاعلية ووظيفية يتجاوز فيها العلم ذاته ويتخطى حدوده المرسومة إلى آفاق أبعد وأعمق، وهو في الوقت ذاته ينفتح على معطيات العلوم الأخرى ويغتني بها في الوقت الذي يغنيها. وفي كل الأحوال فإن التكامل مفهوم يرمز إلى التجاوز والتوحد في صيغة أعمق وهذا كما ذكرت آنفا يعبر عن روح العصر الذي يميل إلى تحطيم الحواجز بين العلوم نحو وحدتها وتكاملها.

د. محمد مينار: لماذا خُصّ مدخل الفكر التربوي بفلسفة التكامل المعرفي، دون غيره من المداخل الفكرية؟ الأخرى؟

د. علي وطفة:

كل علم يُعْرف ويُعرّف بوظيفته. ووظيفة التربية حصرا هي إعداد الفرد للحياة، ومن المؤكد أن التربية تعنى بالجوانب النفسية والأخلاقية والعلمية والروحية للفرد، ومن هذا المنطلق فإن التربية تقوم على التنوع المعرفي وتكاملها مع العلوم والمعارف الإنسانية ، وهذا الأمر يعبر بالضرورة عن تكاملها الوظيفي، فهي تعد الفرد للحياة في مختلف المستويات الأخلاقية والإنسانية والعملية، ولذا فإن التربية علم كوني شمولي بطبيعته وهذا متأصل في جوهرها الوظيفي.

ويجب علينا هنا أن نأخذ بعين الاعتبار بأن التربية مدخل علمي، يقوم في جوهره على العلوم الأخرى مثل علم النفس وعلم الجمال وعلم البيولوجيا والدين وغير ذلك. فالتربية لم تكن يوما علما مستقلا بل هو علم يقوم على علوم كثيرة ينسغ منها رحيق وجوده. ولا يمكن اليوم كما بالأمس أن نتحدث عن علم للتربية بالمفرد بل عن علوم تربوية وكل منها يأخذ طابعا بينيا (=بين العلوم) مثل علم الاجتماع التربوي، وعلم النفس التربوي، واقتصاديات التعليم، والإدارة التربوية، وأنتربولوجيا التربية. وهذا يعني أن التربية منظومة معرفية تقوم في جوهرها على التكامل المعرفي بين عدة علوم، وبعبارة أخرى هي تأخذ التربية سمتها التوليفة التكاملية بوصفها معرفة تقوم على معطيات العلوم الإنسانية الأخرى. وغالبا ما نستخدم كلمة المربي لوصف المتخصصين في هذا الميدان ولا نقول عالما تربويا. ونظرا لهذه الخصوصية العلمية للتربية فإن التربية كانت أكثر العلوم حصادا للتكامل المعرفي بين العلوم. ولكن هذا التكامل نجده أيضا في عدة حقول معرفية أخرى، والأمر ليس حكرا على التربية وحدها دون غيرها كما ينص سؤالكم الكريم.

د. محمد مينار: ما مدى حضور فلسفة التكامل المعرفي، في التجربة الفكرية الإسلامية المبكرة؟

د. علي وطفة:

من حيث المبدأ يمكن لهذا المفهوم أن يحيلنا إلى مرحلة التخاصب الفكري الإسلامي الأول بين الأشاعرة والمعتزلة، الذي شكل الإرهاصات الأولى لنشأة الفلسفة العربية الإسلامية، ومما لا شك فيه بأن المعرفة العلمية في الإسلام تميزت كما اشرنا سابقا بطابعها الموسوعي التكاملي وقد تجلى هذا التكامل في قامات موسوعية وعلمية كبيرة مثل البيروني وابن سينا والفارابي وابن الفارض والجاحظ وغيرهم كثير. ويمكن القول في هذا السياق: بأن الطابع الموسوعي للمعرفة والعلوم الإسلامية كان يتجاوب مع طبيعة العصر الموسوعي حيث لم تكن بعد قد ظهرت عمليات الاستقلال المعرفي للعلوم عن الفلسفة، إذ كانت كل معرفة تأخذ طابعا فلسفيا وترتبط بالفلسفة،  وكل فيلسوف كان ينزع إلى أن يكون موسوعيا (شاعرا وأديبا وعالما وفلكيا) في الآن الواحد. ولذا فإننا نعتقد على أن التكامل العلمي كان يأخذ طابعا فلسفيا وذلك ينسحب على مختلف الحضارات التي ظهرت في هذا المراحل التاريخية المتقدمة..

د. محمد مينار: الحديث عن أزمة الفكر التربوي الإسلامي المعاصر، يستتبع الحديث عن أزمة الفكر التربوي الغربي، كيف تبدو لحضرتكم حالة انتقال هذه الأزمة من الفكر التربوي الغربي إلى الفكر التربوي الإسلامي المعاصر؟

د. علي وطفة:

إذا كان الفكر التربوي الإسلامي يعيش أزمة فهذا الأمر يدعونا إلى التفاؤل، لأن الأزمة تتضمن مفهوم الحياة والصراع والتحدي. فالأزمات موجودة في أي حضارة مهما بلغت درجة تطورها، إذ يمكن لأي مجتمع أن يتجاوز الأزمات العابرة والمزمنة، فالأزمة حالة تاريخية يمكن للمجتمع أن يتغب عليها ويجد الحلول المناسبة لها. ولكن المسالة في واقعنا تفوق حالة الأزمة فالثقافة العربية الإسلامية لا تعاني من أزمة بل حالة من التخلف الذي يتسم بالعمق والشمول في مختلف مستويات الفكر والوجودوتعود هذه الحالة إلى وضعية الجمود الحضاري الشامل منذ اللحظة التي سقطت فيها بغداد على يد المغول في عام 1258 حتى يومنا هذا. ولا اعتقد بأن الحضارة العربية قد شهدت ازدهارا أو تألقا منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا.

اعتقد أن أزمة الفكر التربوي الإسلامي (إذا استخدمنا تعبير الأزمة) سابقة في الحضور على أزمة الفكر التربوي الغربي. الفكر التربوي- وحاله هذه كحال أي فكر آخر – إذ يمثل وضعية حضارية ترتبط بالسياق الحضاري للمجتمع وتعبر عن أرومته الحضارية. فأزمة الفكر أي فكر كان هي أزمة حضارية. وهنا يمكننا أن نراقب حالة الفكر التربوي العربي الإسلامي في سياق التقطعات الحضارية التي نعيشها هبوطا أو صعودا. وبناء على هذه المنهجية نستطيع القول بأن الفكر التربوي الإسلامي يعيش حالة تخلف شاملة عميقة مترامية في الزمان والمكان وهي تقارب ألف سنة من التخلف الشامل.

د. محمد مينار: فيما يمكن حصر تمثلات هذه الأزمة على صعيد الفكر التربوي الإسلامي المعاصر؟

د. علي وطفة:

لا أريد أن أكون عدميا ومتشائما، لكن واقع الحال يقول: إن الفكر التربوي العربي الإسلامي يعاني من الترهل. فهو إن جاز التعبير لا يعدو أن يكون أكثر من اجترار لمقولات ماضوية تجلت في مراحل تاريخية سابقة للحضارة الإنسانية بمعناها الحداثي. فالثقافة التربوية العربية أو الإسلامية أيا منهما لم تشهد أي إبداعات فكرية أو نقدية حتى يومنا هذا، ومن يقرأ في كتابات المربين العرب في مجال التربية سيرى بأن هذه الكتابات لم تقدم أي جديد، فهي لا تعدو أن تكون مجرد مقولات وكتب وإرشادات تدور فيما قاله الأولون علة صورة نمط من النصائح والإرشادات والتوجيهات التي تؤكد ما ذهب إليه الأولون مثل الغزالي وابن سحنون وابن خلدون وابن الأزرق وابن مسكويه والشوكاني وإخوان الصفا … وغيرهم. فالكتاب العرب في المجال التربوي ما زالوا يرددون ويجترون هذه المقولات التي أصبحت خارج العصر الذي نعيش فيه. في الوقت الذي يبدع فيه الغربيون والشرقيون وينتجون أنظمة من التفكير المتجدد الفارق المتقدم الذي يناسب العصر ويعمل على التجاوب مع مختلف صيغ الحضارة المتجددة. ومن المؤلم أن نرى أن كثيرا من المربين العرب قد اتخذوا شعارات مشائخية أو دينية وألقابا تأخذهم إلى دائرة الفكر الديني الخاص، وهذه الألقاب كثيرة اليوم من مثل ” فيلسوف التربية العربية الإسلامية” و”شيخ التربية العربية” وشيخ المربين العرب. وفي هذا دلالة أن الفكر التربوي العربي الإسلامي أو غيره ما زال في حالة اجترار للفكر الماضوي السلفي وأن التجديد حالة غائبة دائما. ومن يقرأ النصوص التربوية للمفكرين العرب سيجد نفسه وكأنه يقرأ في كتاب الفقه والدين والتراث الديني. وهذا التراث يصعب تطويره نظرا لعلاقة الترابط العميقة مع المقدس الإسلامي.

د. مينار : إلى أي حد يمكن اعتبار فلسفة التكامل المعرفي – بالمفهوم المراد توظيفه في هذه الدراسة  قادرة على اجتثاث التبعية الفكرية في الميدان التربوي، ومن ثم تقديم البديل الحضاري، المعبّر عن روح النظام المعرفي، المتشبّع بالرؤية الإسلامية إلى العالم؟

د. علي وطفة:

يقول المفكر الماركسي الثائر غرامشي في كتابه ” دفاتر السجن” القديم لم يمت بعد … والجديد لم يولد بعد ” ويمكن أن نعدل قليلا في قول غرامشي فنقول بأن التخلف في ثقافتنا يرفض الموت ويتوالد من جديد وإن التجديد يموت في كل ولادة. فالتكامل العلمي حالة حضارية وهي تعبير عن روح العصر المتوثب إلى عهد جديد من الحضارة. ونحن مع الأسف الشديد نعاني حالة انتحار حضاري قديم لا يموت وجديد لا يولد. نعيش حالة التبعية كما تفضلتم بعضنا يُستغرق في القديم حتى الثمالة وبعضنا الآخر يدمن على أوهام الجديد دون أن يبلغ ومض الحضارة. ونحن هنا نريد أن نتحدث عن التكامل الخلاق بين العلوم والمعارف بين الماضي والحاضر والمستقبل بين المكان والزمان بين الإنسان والحرية بين العقل والتنوير. وباختصار المسألة ليست في التربية أو الفلسفة بل هي مسألة حضارية معقدة مترامية الأطراف والأبعاد. لا يمكن للتكامل المعرفي أن يجتث التبعية بل يجب علينا أن نبحث في مسارات حضارية أكثر عمقا وأمضى في شمولها واتساعها. وبعبارة واحدة يمكن التعبير عن هذه الإشكالية بمقولة الكينونة والعدم ، أي : أن تكون أو لا تكون، وهذا يعني أن التحرر من حالة التبعية لا يمكن أن تتم إلا في سياق نقلة حضارية جبارة تنقلنا من العدم إلى الصيرورة والوجود.

د. مينار: كيف تقرؤون مسألة مأسسة فلسفة التكامل المعرفي في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر؟

د. علي وطفة:

يمكن الإجابة عن هذا التساؤل بصيغ متعددة ويكمن الارتداد بأسئلة أخرى؟ عن أي فكر تربوي إسلامي نتحدث؟ …ولماذا لا نغير صيغة السؤال مبدئيا فنقول: أي فكر تربوي في البلدان الإسلامية أو العربية؟ وقد تكون الصيغة أفضل. والسؤال أيضا عندما نتحدث عن الفكر التربوي في العالم لا يجري الحديث عنه اليوم في صيغة دينية، كأن نقول: الفكر التربوي المسيحي أو الفكر التربوي البوذي؟ لماذا لا نقول الفكر التربوي العربي مثلا؟ هذا الطرح والتركيز على وجود فكر تربوي ديني هو حالة من الانفصال الشامل وهذا يتناقض مع التكامل الذي تتحدث عنه دراستكم. الآن تتكامل الأنظمة التربوي في العالم في مجال الفكر والممارسة هناك اليوم فكر عالمي تربوي ينتشر في أصقاع الدنيا ويتكامل هذا الفكر مع ثقافات الشعوب وتراثها دون أن يأخذ هذا الفكر طابعا دينيا أو لاهوتيا. وسأجاريك في المفاهيم التي تستخدمها فأقول: إن الفكر التربوي الإسلامي عليه أن يتخاصب مع الفكر العالمي وأن ينطلق ليحطم الحواجز وأن يتجه ليأخذ طابعا إنسانيا يتجاوب مع العصر بمعطياته الأخلاقية والروحية والإسلامية. إذا كانت الأخلاق تشكل روح الثقافة الإسلامية فإن التجارب الأخلاقية في المجال التربوي في الدول المتقدمة تتقدم علينا في هذا الميدان. وهنا أود أن أشير بإيجاز إلى دراسة أجريت على تطبيق الأخلاق الإسلامية في دول العالم وقد بينت هذه الدراسة أن تصنيف أول دولة عربية جاء في المرتبة السابعة والأربعين بين دول العالم في تطبيق القيم الأخلاقية الإسلامية. وهذا يعني أننا نحن الآن نعيش أزمة إخلافيه شاملة عميقة مدمرة لكل ما نزعمه من قدرة التربية العربية الإسلامية على مجاراة التطور. ما أريد قوله هنا أن التكامل الفعلي يجب أن يكون بين التربية في الدول العربية الإسلامية وبين أنماط الفكر التربوي العالمي في مسيرته نحو تحقيق البعد الأخلاقي المتمثل في إنسانية الإنسان وكرامته.

د. محمد مينار: يمثل التوحيد في رأي الباحث، بؤرة فلسفة التكامل المعرفي في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر. برأيكم ما القيمة الابستيمولوجية التي يحوزها هذا المكسب المعرفي بالنسبة للفكر التربوي الإسلامي المعاصر؟ 

د. علي وطفة:

لا أعرف بصورة دقيقة ماذا تقصد بالتوحيد هل تعني به وحدة الوجود أو التوحيد الإلهي بمعنى الإيمان بالله الواحد، أيا تكن الدلالة التي تريدها فالتوحيد قيمة إيمانية مشتركة وهي قيمة فلسفية قبل أن تكون دينية. ففكرة وحدة الوجود فكرة قديمة قدم الإنسان ولا يتفرد الفكر التربوي الإسلامي بقانون الوحدة دينيا أو إبيستيمولوجيا. ولكن يمكن القول بأن التوحيد والوحدة تحمل كثيرا من المعاني والدلالات السامية فنحن في هذا العالم ننتمي إلى أسرة إنسانية واحدة ووطن واحد هو الأرض ونعود في أصولنا إلى جذر واحد. هذه الواحدية والوحدانية والتوحيد وهي مفاهيم تعود إلى جوهر واحد برأينا لتشكل طاقة تنويرية إنسانية تجعل الإنسان إنسانا بالمعنى الدقيق للإنسانية. الواحدية وفقا للمعنى الذي أنشده تحررنا من شرور أنفسنا ومن كل أشكال الغلّ والحقد والكراهية نحن أبناء وطن واحد وأرض واحدة ومصير واحد وكلنا خلق الله الواحد. ومما لا شك فيه هذه القيمة التوحيدية إذا أخذناها ضمن الطابع الإنساني ستشكل ثروة إنسانية هائلة وثراء أخلاقيا يجلّ عن الوصف في عملية البناء الحضاري الإنسان والإنسانية. إنها دعوة إنسانية إلى التكامل والتفاعل الإنساني في مختلف ميادين الوجود والعمل وهذا ما تطمح إليه الإنسانية المعاصرة في اتجاهات الخروج من مأزق الكراهية والحقد والحرب. وتلك هي الصيغة الواحدية التي وردت في ميثاق الأرض حيث نص هذا الميثاق على القول: ” للمضي قدما، يجب علينا أن ندرك، أنه في خضم التنوع الكبير من الثقافات وأشكال الحياة الإنسانية، أننا نشكل عائلة بشرية واحدة، تعيش على أرض واحدة، ويحكمها مصير واحد مشترك. وعلينا أن ننضم معا لنعمل من أجل إقامة مجتمع عالمي مستدام، يقوم على احترام الطبيعة، وحقوق الإنسان العالمية، والعدالة الاقتصادية، وثقافة السلام”.

د. محمد مينار: تحقيق فلسفة التكامل المعرفي في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر، أبطأ ما تكون عليه مقارنة بميادين أخرى. ما تفسيركم لذلك؟

د. علي وطفة:

تكمن المسألة في أن الفكر الإسلامي السائد نفسه يأخذ مسارات متناقضة ومختلفة ويعود هذا الأمر إلى أصول تاريخية كالصراع الفكري الخصب بين المعتزلة والأشاعرة بين أنصار العقل وأنصار النص، بين أبن رشد والغزالي، بين التيارات الصوفية والتيارات العقلانية. ومما لا شك فيه أن الفكر التربوي المعاصر نزاع إلى أن يأخذ اتجاهات مختلفة.

تكمن المشكلة برأينا في الانغلاق الذي يشهده المفكرون التربويون الذي أصبحوا أكثر تملكاً وملكية من الملك في نزعاتهم الانغلاقية غير المنفتحة وكثير منهم يتأثر بتيارات أصولية منغلقة في الفكر العربي الإسلامي ففي كثير من الأحيان نجد أن بعض المفكرين ينطلقون من منصة الهجوم على كل الثقافات غير الإسلامية. ونعتقد أنه قد حان الوقت للفكر التربوي الإسلامي أن يطلق نحو الواحدية نحو البعد الإنساني وأن يأخذ بالإسلام التسامحي المنفتح المنطلق إلى الحضارة والإنسان. اعتقد أنه على الفكر التربوي العربي أن يتحرر من الانغلاق والتعصب وأن ينطلق إلى الفناءات المتقدمة للحضارة الإنسانية. وفي النهاية وفي معرض الإجابة عن السؤال تحديدا نقول أن ارتباط الفكر التربوي بالعناصر البدائية للتفكير المنغلق جعل من قدرته على المواءمة والتفاعل الحضاري أمرا في منتهى المشقة. 

 د. محمد مينار: كيف تستشرفون مستقبل فلسفة التكامل المعرفي، وجدوى نجاحها وتفعيلها في مفاصل في الفكر التربوي الإسلامي؟

د. علي وطفة:  

سبق أن أشرت إلى أن التكامل المعرفي يجب أن يقوم على فلسفة الانطلاق نحو الآخر دون إحساس بالضعف وبعيدا عن مشاعر القلق والخوف . وهذا يعني التخاصب مع الآخر فكريا وروحيا وإنسانيا فنحن أبناء الإنسانية وسكان الأرض الواحدة والمصير الواحد. ولذا يتوجب علينا عملية مدّ الجسور وهدم الحواجز والحصون علينا أن ننطلق إنسانيا بروح التكامل الإنساني الإسلامي ” لقد جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم “. فالإسلام كما هو في الجوهر دعوة إنسانية إلى التكامل والتفاعل والتخاصب الإنساني وعندما يأخذ المربون بالمبدأ الإسلامي في جوهره ويتحررون من انحيازات التعصب يمكن للتربية العربية أن تنطلق نحو الحياة والمستقبل والحضارة الإنسانية.

د. محمد مينار: هل ترون طرحا آخر يكون بديلا عن فلسفة التكامل المعرفي، يكون أكثر نجاعة في إعادة صياغة الفكر التربوي الإسلامي؟

د. علي وطفة:  

ونحن في محراب التكامل الإنساني والمعرفي أجد كما أسلفت في الجوهر أن ترسيخ القيم الإسلامية الحقيقة كفيل بتحقيق نقلة نوعية في تاريخنا وحضارتنا. وكما يقول النبي الأكرم ” إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق ” وفي هذا القول تكمن قدرنا على الانطلاق الإنساني. فالتربية رسالة أخلاقية وهي رسالة إنسانية وهذا ما تؤكده بقوة الرسالة الإسلامية. وكما يقول حافظ إبراهيم إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. ويضاف إلى ذلك أنه يجب علينا أن نحدث تغييرا في العقليات والذهنيات الدينية والتأكيد على الطابع العقلاني للرسالة الإسلامية التي هي رسالة تربوية وأخلاقية وعقلانية أيضا. فالقرآن الكريم يفيض فيضا بالمقولات التي تحض على العقل والتعقل والكمال والتكامل والوحدة والرحمة. ولكن ما يجري في مدارسنا ومؤسساتنا العلمية وفي الكثير من الخطاب الديني يتعارض مع القيم السمحاء. كثير منها يحض على القتل لا العقل والكراهية لا التسامح، والتكفير بدلا من التفكير. فالتكامل بداية يجب أن ينطلق من هنا من منظومات القيم الأخلاقية والعقلية في الإسلام يجب أن نحرر أطفالنا من كل أشكال الكراهية والتعصب والجهل والخوف والعنف للانطلاق نحو المعرفة من أجل البناء الإنساني. أحييكم وأشكرك على هذا اللقاء وأتمنى لكم التوفيق والنجاح في تحقيق غاياتكم المعرفية والإنسانية.

د. مينار: شكرا لحضرتكم، تقبلوا أسمى معاني التقدير والامتنان

د. وطفة: كان الحوار معكم ممتعا وخلاقا وأشكرك بلا حدود على تفضلكم بإجراء هذا الحوار المثمر حول التربية الإسلامية ضمن سياق تكاملها المعرفي وأتمنى لكم المزيد من التألق والنجاح في مساعيكم العلمية. 

تعريف

الدكتور محمد مينار: دكتوراه علوم في العقيدة الإسلامية، جامعة الأمير عبد لقادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، الجزائر. مؤلف كتاب: جدل الدين والعلم في الفكر الإسلامي المعاصر (دراسة في مشروع إسلامية المعرفة)، ناشر: دار الأيام للنشر والتوزيع، 2017.

علي أسعد وطفة: كاتب ومفكر سوري، أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت.

*المصدر: التنويري.


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات