المقالاتعلوم وتكنولوجيا

فلسفة البيئة.. بين نظريَّة الحِمَى والمركزيَّة الحيويَّة

نظرة عامة:

يَدْرُس الفقهاء فيما يمكن توصيفه بـ”نظريَّة الحِمَى”، والعلماء فيما يُعرَف بـ”فلسفة البيئة” علاقتنا، كبشر، بالطبيعة، أو ببيئتنا الطبيعيَّة؛ فهما يُرَاجِعان فهمنا الديني والفلسفي العقلاني للطبيعة، وتصوّرنا الإنساني لقيمة الكيانات والمخلوقات الأخرى واستحقاقاتها؛ إنهما يستكشفان كيف نعيش مع الطبيعة، وفي كنف بيئتها، وإلى أي مدى تكون هذه البيئة متجذِّرة في تشكيل هويّتنا البشريَّة. أولاً، ينظران إلى مسألة ما إذا كانت الطبيعة والبيئة هما مفهومان تتأتَّى من الوعي بهما أيَّة فائدة، أو أنهما يساهمان فقط في تعريف المواقف، التي تهيِّئ لتأسيس علاقاتنا مع عالمنا، الذي نعيش فيه، على قواسم من المرونة والتوازن. إذ تشمل مفردة “الحِمَى” و”فلسفة البيئة” في نطاقهما العام جميع الخطابات الأساسيَّة للعقلانيَّة؛ الدين، والميتافيزيقيا، والفلسفة، وافتراضاتنا المختلفة حول الأشياء المهمَّة في الوجود، وهيكل الكيانات الموجودة في بيئتنا. إنها تمثِّل جِمَاع ما تقدّمه لنا “نظريَّة المعرفة”، حول كيف نتعرَّف على البيئة ونفهمها، وكيف تكشف لنا المعرفة الحقائق المختلفة عن جوانب من العالم الطبيعي؛ بما في ذلك الجماليَّات، والزخارف، التي يمكن، أن تؤخذ لإضفاء معنى، أو قيمة على الطبيعة؛ ومنظومة الأخلاق، التي تضبط سلوكنا في معاملة الكائنات الحيَّة، والأنظمة البيئيَّة الأخرى.

 إن المجتمعات الإنسانيَّة المختلفة تفهم بيئاتها المحيطة بها جيداً، وتتعلَّق بحقوقها في الطبيعة بطرق مختلفة. ففي المجتمعات التقليديَّة، يمكن تحديد مسارين رئيسين للفكر الفلسفي، مفصولين بِتَوَازٍ كامل في نظرتهما للبيئة وعالم الطبيعة؛ فالسكّان المستقرُّون على حرفة الزراعة، وغير المستقرِّين من الرعاة، كانت ثقافتهم تنتظم بشكل صريح حول “الأرض” والعناية بها؛ استقراراً، أو مساراً، وهذا شغل حيزاً مقدّراً في “نظريَّة الحِمَى”. ولكن في العقود الأخيرة فقط، بدأ الفكر الغربي، يُكثِر من تغلغله بالافتراضات الحداثيَّة حول الطبيعة، والتعدِّي حتى على منظورات “فلسفة البيئة” بتقديراتها العقلانيَّة. وللأسف، لم تستطع مؤسَّساتنا البحثيَّة إخضاع هذه الافتراضات الدخيلة للتحليل والمراجعة، وفق ما أورثتنا له التجربة الإسلاميَّة من قيم، أو تواضعت عليه الفلسفة الغربيَّة القديمة من تصوّرات. وعلى الرغم من أن بلداننا توفّر بيئة خصبة للحوار بين الثقافات، إلا أننا نُلاحظ أن نقاشاً فلسفيّاً جادّاً، خاصَّة في قضايا شديدة الأثر والخطر، مثل الطبيعة بمائها وخصوبتها وكائناتها، والبيئة بمحمولاتها الوجوديَّة وتقلّباتها المناخيَّة، لم يأتِ الوعد به كاملاً حتى الآن.

الحِمَى والمراتب الوجوديَّة للمخلوقات:

إنَّ التفكُّر في خلق الله هو واحد من مداخل ترسيخ الإيمان في الإسلام (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ)، فـ(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى). لذلك، عُرِفَت “الحِمَى”، التي أسميها “نظريَّة” لمحدّداتها الاصطلاحيَّة، ومطابقة مقدّماتها لنتائجها، واكتمال الجدوى في تجاربها، في بداية عهد الإسلام على أنها “مرعى خاص”. وقد أُشير إلى مُصطلح “الحِمَى” مُباشرةً في صحيح البخاري، الحديث النبوي، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.” فـ”الحِمَى هي المنطقة المُحرَّمة” حيثُ يُشير الفقهاء إلى أنها المنطقة المُخصَّصة للحفاظ على الثروة الطبيعيَّة، أي عادةً الحقول والحياة البريَّة والغابات، على العكس من مُصطلح “الحَرَم”، الذي يُشير بشكل مباشر إلى أن “الإنسان” مُحَرَّمٌ دمه في كل الأوقات، وجاءت حُرْمَة “الصيد” محكومة بالتوقيت البيئي الزماني والمكاني، وواضح إلى عموم الأغراض والأهداف الإنسانيَّة من فكرة “التوازن”، التي تستوجب الرعاية والحماية.

لهذا، تَوَلَّدَ لدى المُسلم التزام مُحدد في الإشراف على الطبيعة، لأنه (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)؛ وهنا “الجدوى”، إذ يَقول القرآن الكريم: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)، أي أن كل نوعِ من الحيوانات له “أُمته”، وله حياضه ومحارمه. إذن البشر هم خُلَفَاء الله على الأرض، التي خلقهم فيها وكلفهم بإعمارها؛ استفعالاً واستعمالاً واستفادة (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ). وهذا يعني أنهم مكلّفون بالمُحافظة عليها، لا الإطاحة بها، أو تدميرها. بالتالي، كان اختيار الإسلام لكلمة “حِمَى” اختياراً دقيقاً، كونها إلزاماً دينياً مُجتمعيّاً، وكثيراً ما شَرَّعَهُ العُلماء وقاموا بواجبه. وهُناك خمسةُ أنواعٍ للحِمَى؛ مثل، المناطق، التي يُحرم فيها رعي الحيوانات الأليفة، والمناطق التي يقتصر فيها الرعي على مواسم مُحدّدة، ومحميّات رعاية، أو تربية النحل حيث يمنع الرعي خلال فترة الإزهار، ومناطق الغابات، والتي يُحرم فيها قطع الأشجار. ومثلها إدارة المحميَّات، التي توفِّر الترويح والرفاهيَّة لبلدة، أو قرية، أو قبيلة معينة؛ مثل، “الحَرَم”، على الرغم من أن المُصطلح يُشير عادةً إلى تدابير حماية المياه. كما أن هناك أمثلة جيدة لـ”حِمَىً” في الجزيرة العربيَّة، بعضها تم تبنيه في الصدر الأول من الإسلام. وحسبَ قاموس المعاني، فإنَّ الحِمَى اسم زهو الْمَوْضِعُ، الَّذِي يُحْمَى ويُدَافَعُ عَنْهُ كَالدَّارِ وَالْمَرْعَى وَمَا إلَى ذَلِكَ، ولاَ حِمَى إلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ولهذا، فإن الغرض من “الحِمَى” هو صون النظام البيئي كله، ورعايته وحمايته من الاستغلال غير المنظَّم، الذي يؤدِّي إلى التدهور، ليكون كل شيء بقدر من المقاصد، التي شاع الاهتمام بها، وخاصَّة فيما بعد، عندما كان الوقف سنة شائعة بين المسلمين، فأوقفوا أموالهم وعقارهم لرعاية أنواع شتَّى من الحيوانات الأليفة والبريَّة، بل أوقفوا الأشجار ليتفيّأ تحت ظلالها الإنسان والحيوان، وتلتقط من ثمارها الطيور والحشرات، خدمة لأغراض التكامل البيئي، الذي حَضَّ عليه الإسلام. فالفقهاء والعلماء المسلمون يعلمون أن هذا هو المكان، الذي تأتي فيه “نظريَّة الحِمَى”، والتي تنص على أن الإنسان، الذي خُلِقَ في أحسن تقويم، مقدّم على غيره بامتياز المسؤوليَّة عن غيره، وإدراكه أن جميع المخلوقات يجب أن يكونوا في مراتب وجوديَّة في الطبيعة، وتستحقّ الاعتبار الأخلاقي الكامل.

البيئة ومفهوم الطبيعة:

إذا عدنا إلى جذور الكلمة، نجد أن “البيئة” تعني “ما يحيط بنا”، ويجري “تطويق” أو محاط. وبشكل عام، تُفهم البيئة على أنها السياق المادِّي والعاطفي الشامل، الذي نعيش فيه. لذلك، من المهم جداً إدراك أن البيئات تختلف من مكان لآخر، ومن وقت لآخر، اعتماداً على من نحن، وأين نحن. وبصفتنا بشراً، يمكن أن يكون السياق المادِّي المناسب، الذي يحيط بنا مختلفاً تماماً اعتماداً على من نحن، وعلى الثقافة، التي ننتمي إليها، ولا سيما نوع التكنولوجيا، التي نستخدمها، ولا يمكننا مناقشة بيئة محدّدة دون تحديد أولئك المحيطين بها. وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو حقيقة أننا لا نستطيع مناقشة وفهم أنفسنا حتى نعترف ونفهم البيئة، التي نرتبط بها. إنّ معظم الإساءات البيئيَّة، اليوم، تبدأ من الداخل، وتنتج عن الحقيقة المعاصرة أننا قصيرو النظر والجهل بالمناطق المحدّدة، التي تغذّينا.

من الواضح أن أيَّة مدينة هي بيئة الأشخاص، الذين نسمّيهم سكّان هذه المدينة، وأنها أيضاً شيء يمكننا التعرّف عليه بوضوح كبيئة من صنع الإنسان، رغم أنها بالتأكيد بيئة طبيعيَّة في الأصل، (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ(، ولم يكن للبشر يدّ في إيجاد، أو تحقيق ما يجدونه في هذه البيئة باستثناء تصميم وبناء المدينة، وتعبيد الطرق، التي تخدمها. وحتى عندما نعترف بأن البشر هم جزء من المخلوقات المتساكنة مع الموجودات الأخرى في هذه الطبيعة. فمن المنطقي إذن التمييز بين البيئات، التي يهيمن عليها التصميم والبناء البشري، والبيئات، التي تهيمن عليها العوامل والكيانات غير البشريَّة في الطبيعة. وهناك سبب آخر مهمّ لدفع هذا التمييز بين البيئات، التي بناها الإنسان، وبين البيئات الطبيعيَّة، حتى منح البشر لأنفسهم الحقّ في سيادة الكائنات الطبيعيَّة الأخرى تماماً. ونصل هنا إلى القضيَّة الأعمق حول ما إذا كانت المشاريع البشريَّة تلعب بـ”قواعد الطبيعة”، أم أن المشاريع البشريَّة تتبع قواعد جديدة في انتهاك صريح للتطوّر الطبيعي؟ ومن ثم، هل نرى في البيئة، التي بناها الإنسان مرحلة ثوريَّة، وربما مدمّرة ذاتيّاً لحياته الطبيعيَّة على الأرض؟

إنَّ علم البيئة، كعلم التوازن الطبيعي، يمكنه توضيح هذا التمييز، أي إيضاح الفرق بين التطوّر الطبيعي، والتدخّل لإفساد التوازنات الطبيعيَّة على مدى فترات طويلة من الزمن، فاختلّ التوازن، و(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). فكل الأنواع تأخذ نصيبها؛ ولكن ينبغي من كل الأنواع أن تعطي أيضاً. ويتمّ تحقيق التوازن بين الأنواع في منطقة معيّنة من خلال عمليَّة الأخذ والعطاء هذه. ومع ذلك، خرج البشر إلى حدّ كبير من نظام التوازن هذا بأخذ الكثير وإعطاء القليل، أو لا شيء في المقابل. ويمثّل الوجود البشري الضغط على كل بيئة طبيعيَّة، إذ يدخل البشر إليها على أساس أنها “غريبة”، ويرفضون أن يكونوا طرفاً في أي توازن جديد، مما يزعج أرصدة الأنواع الموجودة بحكم طبيعتها. وعندما يصبح هذا الوجود دائماً، وينمو بشكل أكبر، يبقى الضغط دائماً والتوازن مستحيلاً إلى الأبد. وما يعنيه هذا هو أن المشاريع البشريَّة تغزو وتفسد القاعدة الأساسيَّة للتوازن الطبيعي، مُلْحِقَةً الضرر بإنسانها في محاولاتها خرق القواعد الأساسيَّة للتوازن الطبيعي، التي فعلت بحال الأرض كما هي عليه الآن. في الواقع، تمثِّل الحياة البشريَّة مصيراً غريباً وخطيراً بشكل متزايد لحياتها في الطبيعة نفسها. لذا، فالتمييز بين البيئات، التي بناها الإنسان، والبيئات الطبيعيَّة مناسب في هذا الصدد، على الرغم من أن البشر هم أيضاً كائنات طبيعيَّة ميّزها الله بإرادة التصرّف اختياراً؛ لها أن تُصْلِح في بيئتها، أو تُفْسِد. 

الأخلاق البيئيَّة:

الأخلاق البيئيَّة هي جزء من الفلسفة، التي تتعامل مع وجهات النظر الأخلاقيَّة بين البشر والبيئة. وتهتم بالطريقة، التي يؤثِّر بها البشر على بيئتهم الطبيعيَّة، وتسعى لمساعدة الناس على أن يصبحوا أكثر إدراكاً لكيفيَّة إفسادهم للأرض ببطء. إذ قام الفقهاء والفلاسفة بمحاولات عديدة للكشف عن الوضع الأخلاقي للعلاقة بين المخلوقات في بيئة مشتركة، وهناك العديد من الحجج الصحيحة، التي يجب أخذها في الاعتبار للحصول على الجواب الحقيقي. فمثلاً، تتناقض نظريتا المركزيَّة البشريَّة والمركزيَّة الحيويَّة مع بعضهما البعض، وكلاهما مهمّ عند دراسة الأخلاقيات البيئيَّة. إن مركزيَّة الإنسان هي نظرة للعالم تعتبر البشر في مركز الكون، وهمهّم الأساس أن ينالوا من البيئة والطبيعة ما يحقِّق رفاهيتهم. وتنصّ على أن كل شيء آخر موجود، بما في ذلك البيئة ذاتها، مخصَّص للجنس البشري ولا شيء آخر. ومع ذلك، فإن هذه النظريَّة ليست بالضرورة أساس الواقع، الذي نعيشه الآن. ويجادل الفيلسوف باروخ سبينوزا بأننا نميل إلى تقييم الأشياء بشكل خاطئ، وذلك بمنطق فائدتها لنا فقط كبشر. وهذا يعني أنه إذا نظرنا إلى الكون من خلال وجهة نظر موضوعيَّة، يمكننا أن نرى أن كل شيء له قيمته الفرديَّة الخاصة. ونحن نتّفق مع حجّته، التي تقول إنّ البشر ليسوا مركز كل شيء في الوجود؛ نحن جزء من هذا الكون، لكننا قد لا نفهم من منظور إنساني أن هناك صورة أكبر يجب أن نهتمّ بها. 

إن وجهة النظر القائلة بأن البشر لديهم تفوّق على الأنواع الأخرى تؤثِّر على تفاعلاتهم مع غيرهم من الكائنات الحيَّة، مما يجعلهم يتصرَّفون بطرق تحفِّز مصالحهم الخاصَّة، ويضعون أنفسهم قبل كل شيء آخر. وعندما يتعلَّق الأمر بالبيئة والحياة البريَّة، يفسِّر البشر علاقاتهم وأفعالهم مع الأنواع الأخرى والطبيعة في عدد من الآثار من وجهة نظر تَفَوُّق الإنسان. ويستخدم البشر، من خلال الاستفادة من قيمتهم الجوهريَّة الأكبر على الأنواع الأخرى، أحكاماً أخلاقيَّة تتأثَّر بهذا التفوّق. وغالباً ما تستخدم هذه الأخلاق لإضفاء الشرعيَّة على أساليب التعامل مع الأنواع الأخرى بطرق يمكن اعتبارها غير مقبولة أخلاقيّاً إذا تمّ التعامل مع البشر بالمثل. فالمركزيَّة البشريَّة تقرِّر، على سبيل المثال، أنه إذا كان من الممكن استخدام الحيوان كمورد للإنسان، مثل الطعام، فسيأكله الإنسان. هذا يقلِّل من عدد الحيوانات، في بعض الأنواع، حتى نقطة الانقراض. وعلى عكس المركزيَّة البشريَّة، فإن “الحِمَى” و”المركزيَّة الحيويَّة” هما الاعتقاد، الذي يضع الإنسان كجزء من الطبيعة. وينظر الوسطاء الحيويّون إلى الجنس البشري على أنه فعلاً هو جزء من الطبيعة، وأن كل شيء آخر له قيمته الخاصَّة. 

يقول الفيلسوف بيتر تايلور، مؤلِّف كتاب “احترام الطبيعة”، إن وضع البشر يساوي حالة الحيوانات والحياة البريَّة، ويجادل بأنهم يجب أن يتقاسموا الأرض ويعيشوا فيها على قدم المساواة. وهنا يُذَكِّر أيضاً بما يسميه “المركزيَّة الحيويَّة”، التي تقرِّر أن كل كائن حي فريد من نوعه، ويعيش بطريقته الخاصَّة من أجل مصلحته الخاصة، مما يعني أن أحد الأنواع لا يمكنه معرفة المزيد عن ما هو جيِّد لأنواع أخرى من هذا الفصيل نفسه. لهذا، إذا تَصَرَّفَ البشر بطريقة مركزيَّة حيويَّة، بدلاً من مركزيَّة الإنسان، فستكون بيئتنا أكثر نظافة وازدهاراً وتناغماً. وتستند الأخلاقيات البيئيَّة، باعتبارها فرعاً للفلسفة، إلى الصواب والخطأ في الإجراءات البشريَّة، لأنها تؤثِّر على البيئة الطبيعيَّة. فالبيئة كما نعرفها تلعب دوراً نشطاً في تشكيل المجتمع البشري. وتظهر الأخلاقيات البيئيَّة للبشر ما نقوم به من أخطاء تساعد في تدهور بيئتنا، وستستمرّ في لعب دورها في تشكيل حياتنا على كوكبنا. ولكن، وفقاً للاعتقاد العام، فإن جميع الكائنات الحيَّة في البيئة لها مكانة أخلاقيَّة متساوية. فمن وجهة نظر المجتمع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، تساعد البيئة العالم البشري على الازدهار. وتضع نظريَّة المركزيَّة الحيويَّة البشر، وجميع الكائنات الحيَّة الأخرى، في نفس الوضع الأخلاقي؛ بينما ترى الرأسماليَّة الجشعة، التي ترتكز على مركزيَّة الإنسان، أن ذلك لن يساعد بالضرورة المجتمع على الازدهار، لأنه لن يتمّ اتِّخاذ إجراءات ضدّ البيئة، أي قطع الغابات الجائر، الذي يُستخدم لاستهلاك السوق.

قضيَّة التكنولوجيا:

كثيرا ما يقترح الفقهاء والفلاسفة أن البشر يمارسون علاقة مختلفة مع بيئتهم عن الحيوانات الأخرى، وكثيراً ما نقول إنَّ “البشر” يعدّلون بيئتهم لتناسب أنفسهم، بينما تقبل “الحيوانات” الأخرى أن تعيش في بيئتها كما هي. وقد لا يبدو ذلك صحيحاً تماماً، لأن حيازة التكنولوجيا، التي نتحدَّث عنها، في هذا الصدد، لا تعدو أن تكون واحدة من السمات الرئيسة لعلاقتنا مع ما يحيط بنا، نظراً لأن معظم الحيوانات الأخرى في العالم تمتلك علاقة مختلفة تماماً مع بيئاتها، فنحن نحكم أنها لا تمتلك التكنولوجيا، لأننا لا نستطيع مثلها أن نعيش بدون هذه التكنولوجيا. فالميل الإنساني نحو استخدام التكنولوجيا راسخ منذ زمن طويل، في الواقع، أن علماء الحفريات يقبلونه على أنه أفق الحياة البشريَّة، وأنه أمر ملازم لحياة الإنسان.

وإذا كانت الفرضيَّة السابقة صحيحة، فإن الأخلاق البيئيَّة تتطلَّب منا أن نفهم علاقتنا مع بيئاتنا، لأن الاستنتاج الواضح هو أن فهم التكنولوجيا هو دائماً أمر ضروري. وبالتالي، تعدّ قصة التكنولوجيا خاضعة لتفسيرات أيَّة فلسفة ملائمة للبيئة. وبهذا المعنى، يجب التعبير عن العلاقة الأخلاقيَّة “الحكيمة” بالبيئات، بشكل أساس، كمفهوم عام للسلوك التكنولوجي الجيِّد “الحكيم”، وهو تعريف للسلوك المناسب، الذي تستجيب له التكنولوجيا. ومن المهمّ ملاحظة أن البيئة لا تعارض التكنولوجيا في حد ذاتها؛ بدلاً من ذلك، فإن الطلب هو ما نعتبره علاقة كاملة مع التكنولوجيا. فعندما نبني أشياء في العالم، نحتاج إلى النظر في مصير هذا العالم. ويبدو أننا نتصرَّف كما لو أن مصير العالم منفصل عن مصيرنا، أي أننا نتصرَّف كما لو أننا نستطيع فعل أي شيء للعالم دون أي تأثير نهائي على أنفسنا. إذن، فإنَّ تركيز الأخلاق البيئيَّة ليس مجرَّد فكرة التعامل مع العالم البيئي باحترام، أو التزام، ولكن، بشكل أساس، العودة إلى فهم التبعيَّة والمعاملة بالمثل في العالم.

باختصار، هناك قضايا أساسيَّة نحتاج إلى فهمها قبل أن نتمكَّن من التفكير بشكل أخلاقي في علاقاتنا مع ما يحيط بنا. وعندما نفكر في السلوك البشري، تنشأ قضايا مماثلة؛ بمعنى أن السلوك الصحيح يعتمد في نهايَّة المطاف على شكل من أشكال الاتصال الاجتماعي. ونتيجة لذلك، نحن نقبل الموانع والقيود على سلوكياتنا التفاعليَّة. حتى التجريد المنطقي لـ”الضرورة الفئويَّة” لكانط يعتمد على رؤية أنفسنا في سياق اجتماعي للنشاط العالمي. ومن ثم، إذا كان السلوك الأخلاقي يمتدّ إلى ما بعد البشر الآخرين، وإلى النباتات، والحيوانات، وحتى المناظر الطبيعيَّة، فنحن بحاجة إلى أن نعرف، بطريقة جادَّة للغاية، علاقتنا الحقيقيَّة بهذه الأشياء، لماذا نحتاجهم؟ وعندما نقترب من هذه الأسئلة، نبدأ في فهم نطاق المشكلة المعروضة علينا.

إشكاليَّات وتصوّرات:

لقد دفع البشر فقط غلاف التوازن الطبيعي بشكل أكبر من أي مخلوق طبيعي آخر على الإطلاق، ولكن سوف يسود التوازن في نهاية المطاف، وهذا يعني أن البشر، الذين تلقُّوا الكثير، سيضطرون في نهايَّة المطاف إلى ردّ الجميل إلى الأنواع الأخرى لاستعادة هذا التوازن. ولن يكون هذا العطاء سهلاً، خاصّةً إذا كان على يد عوامل كارثيَّة، مثل جائحة كرونا، التي أوقفت تعدّينا على البيئة الآن، أو عمليّات طبيعيَّة أخرى، تتجاوز قدرتنا على السيطرة عليها. فهناك طريقة واحدة مأمونة وممكنة لتسهيل الأمر، وهي إمكانيَّة أن يستخدم البشر عقلانيتهم ​​العالية لتوجيه أفعالهم في احترام حكم الطبيعة، كمخلوقات طبيعيَّة، ويجب على البشر أخيراً أن يتصالحوا مع معنى “الحِمَى” و”الحكمة الطبيعيَّة”. فإذا كانت نظريَّة “الحِمَى” و”فلسفة البيئة” تتعلّقان بأي شيء على وجه الخصوص، نَوَدُّ أن نقول إنهما متجذّرتان في حبّ الحكمة الطبيعيَّة واحترام البيئة.

إنَّ الكثير من الاجتهادات الدينيَّة والمناقشات الفلسفيَّة للأخلاقيّات البيئيَّة قد تمَّ تشويهها بشكل سيِّئ، بافتراض أنه يمكن استيراد الحجج ببساطة من المعالجات القياسيَّة للحداثة، أو التكنولوجيا، أو حتى الأيديولوجيّات السياسيَّة المغالية في مادّيتها. ونجد أن الفلاسفة يجادلون في القضايا البيئيَّة من حيث الضرورات الفئويَّة الكانطيَّة، أو النفعيَّة الإنجليزيَّة؛ بينما نجد أيضاً فلاسفة آخرين يعالجون علاقات الكيانات الطبيعيَّة بمصطلحات سياسيَّة كلاسيكيَّة، ويناقشون قضايا الحقوق والالتزامات. ولقراءة هذه الخلاصة بصورة نقديَّة، تصبح خيبة الأمل المركزيَّة مع الكثير من الأخلاقيات البيئيَّة هي المشكلة، التي لا يمكننا التأكد من كيفيَّة تطبيق الفئات الأخلاقيَّة والسياسيَّة القياسيَّة على عناصر بيئتنا. فهل يجب أن يكون للصخور “حقوق”؟ وهل يجب أن نعترف ببعض “الالتزام” تجاه الأنهار والبحار؟ فنحن نميل إلى العيش في عالم تبدو فيه المصالح الإنسانيَّة فقط هي التي تهمّنا. ونشعر بالراحة عندما يتعلَّق الأمر بتصوّرنا، والتعبير عن الكيفيَّة، التي يمكن بها مناقشة المصالح الأخرى، والنظر فيها بجديَّة أقل.

بيد أن ما يبدو مفقوداً في معظم مناقشات الاجتهادات الدينيَّة والفلسفيَّة للأخلاقيات البيئيَّة هذه هو فقدانها لتناول شامل وسليم للبيئة نفسها. فقد تطوَّرت القضايا الأخلاقيَّة في المجتمعات البشريَّة دون مناقشات مماثلة إلى حدٍّ كبير، لأنه يمكننا أن نتحكَّم بشكل “عضوي” مشترك في حياة الإنسان والمجتمعات. وما نحتاجه هو فهم “شعوري” واسع لكل من بيئة البشر والبيئات الأخرى، بطريقة توحي بعلاقاتهم مع بعضهم البعض. ونزعم أن المشاعر المعنويَّة تتطلَّب أساساً نوعاً من العلاقة التكامليَّة؛ إذ تنبع معظم المعضلات البيئيَّة المعاصرة من “موضوعيَّة” النظر إلى الطبيعة الحديثة، وما ينتج عن ذلك من انخفاض علاقتنا الشعوريَّة بالطبيعة، إلى شراهة الاستغلال المدمّر لبيئة الكائنات الأخرى. وعندما نبدأ في دراسة كل البيئات بعمق، ندرك بسرعة أن البشر وبيئتهم تقع في مركز العلاقات المتبادلة مع البيئات الأخرى.

إنَّ الأنانيَّة والأثر النفسي السلبي، الذي يقف بين “نحن” و”الآخر”، في طبيعة البشر ذاتها، مسؤول عن الكثير من الشرّ في البيئة الإنسانيَّة والطبيعيَّة. وعلى وجه الخصوص، سماحها للناس، الذين ظنُّوا خطأً أنهم متفوّقون أن يفعلوا أشياء رهيبة ضدّ الآخرين، الذين يعتقدون أنهم أقل شأناً منهم. وطالما أنه يمكن عزل الخصوم باعتبار أنهم “الآخرون”، الذين لم يكن عليهم أن يفهموا، والزعم أنهم يفتقرون إلى الفهم، ولا يجب أن يعاملوا باحترام، أو رحمة، وأن ما نسمّيه “البيئة” وصل إلى هذه المرحلة، في معظم المجتمعات الإنسانيَّة. ولكن، بدون فهم هذه العلاقات بشكل صحيح، سوف لن نستطيع أن نتخلَّص من مشكلاتها ببساطة، ودون بذل جهد وتفكير مضنٍ. إن إحدى مشاكل الفلسفة البيئيَّة هي إعادة إنشاء معاني الكلمات، ومن ثمّ الرؤى، للتعامل مع هذه القضايا المرتبطة بها. ويحثّنا العديد من علماء البيئة على التفكير في أنفسنا كما في داخل العالم، وأن نتذكَّر أن “البيئة” مصطلح مفيد فقط في استكشاف العلاقات، وليس من أجل وضع حواجز موضوعيَّة وعزلة غير مبرَّرة خارج إطارها.

والأهمّ من ذلك، أن هناك نوعين من الأسئلة، التي يجب أن نطرحها في موضوع “الحِمَى” و”فلسفة البيئة”، ونحن الآن في وضع جيَّد لطرحها. أولاً، هل هناك قيم لدينا في تحديد ودراسة البيئات الطبيعيَّة؟ وبالتالي، هل الحفاظ على البيئات الطبيعيَّة أمر مهمّ بالنسبة لنا؟ وثانياً، هل هناك أخلاقيات توازن يشارك فيها البشر بشكل متبادل مع جميع الأشياء الأخرى في العالم؟ وكما سبق أن ذكر بعض الكُتَّاب، يسود اعتقاد عام أنَّ العديد من الإجابات سيتمّ العثور عليها في الدين والأدب والفن قبل أن يتمّ العثور عليها في حجج الفلاسفة والعلماء المحترفين. والسبب في ذلك هو أن الفقهاء والأدباء والفنّانين أخذوا زمام المبادرة في محاولة فهم طبيعة الأرض على أنها “مكان”، وفي محاولة فهم طبيعة المكان على أنها “سكن” بشري، واعتبروا أن الأخلاق هي في الأساس التزام بالتوازن والاعتدال في علاقة الإنسان ببيئته.

في الختام:

يؤكِّد ما نراه من تدهور في أحوال البيئة أننا لا نعرف أنفسنا حقاً حتى نعرف الطبيعة، التي ينبغي أن نندمج فيها بالضرورة. وعندما نبدأ في مراقبة الطبيعة حقاً، نبدأ معها في مراقبة أنفسنا للمرَّة الأولى. وأعتقد أننا لا نعرف أنفسنا حقاً حتى نتمكن من تجربة أنفسنا كشركاء في العالم. فالمشكلة البيئيَّة كانت، وما تزال، مشكلة خطيرة ومهمَّة للغاية، وتتطلَّب اهتماماً فورياً، لأنه إذا بقينا طِوال الوقت داخل أنفسنا، ولم ننظر بجديَّة أبداً للطبيعة حولنا، فلن نعرف أنفسنا هذه أبداً، ولن نعيش حياة حقيقيَّة بكل معنى الكلمة. وهذا أكثر من مجرد نداء لرعاية أشجار الغابات القديمة، وتحسين جودة الهواء في البيئة من حولنا. بل هو نداء يطلب منّا إعادة اكتشاف طريقة جديدة لرؤية أنفسنا في الطبيعة، ويدعو لذلك بإلحاح كبير. ففي حين أن البيئات، التي هي من صنع الإنسان هي جيوب مقبولة داخل البيئة الطبيعيَّة، إلا أنها لا يمكن أن ترتفع إلى مستوى السيطرة الكاملة على صحَّة البيئات الطبيعيَّة. فنحن أقوى الحيوانات، التي سكنت الأرض على الإطلاق، ولكن يجب علينا الآن أن نثبت ذكاءنا الفائق أيضاً من خلال إظهار أنه يمكننا استخدام قوتنا بشكل مناسب. والادّعاء هو أننا إذا لم نعيد اكتشاف العلاقة المتبادلة بين الإنسانيَّة والطبيعة، فسوف نفقدهما، مما يوجب علينا أن نُحْسِن إلى الطبيعة لنحصل على الإنسانيَّة.

* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

الخميس 9 أبريل 2020

القاهرة، جمهوريَّة مصر العربيَّة

المصدر
التنويري
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات