صناعة الأفكار
عبد الرحمان مجدوبي
أمام زخم الاختيارات، وفي ظل صراع الهويات والحضارات، ترتدي الفكرة لباس عروس عارضة نفسها للزواج يغري موسمها كما المواسم العطاف فتنسي ألم وقهر الأزمنة العجاف، وتلعب لعبة طفلة وحيدة تطمع في التبني ببسمة وفي الرعاية بنسمة، فتتحرر من نجس الألسنة التي تلوك الكلام فتحسبه نعمة ورحمة… فتعد نفسها وتصون شرفها وترسم خطها التحريري لتفوز في معارك الولاءات ولو بطرق نتنة، مدججة بقوة المنطق أو عبق القداسة أو صدق التجربة أو نهج الاستقراء والاستنباط، فتسلك مسلك الاستقطاب عن طريق فن الخطابة، وسحر الدعاية من فوق منصة الإعلام لتكون وتملك وتسود وتحكم، مستغلة فقر الفقراء القاتل المدقع، وحب الأغنياء في البيان والمباهاة والتنطع، وسلطة الذائبين في حبها المعلنين صراحة قرانها وقربها.
ولا يمكن للفكرة أن تحقق طموحها إلا حين ترتدي لباس الأيديولوجية، أو ترتقي لتصبح عقيدة أو عرفا، فيكون لها أهلها وخاصتها وزبانيتها، فتحدد مناطق نفوذها جبرا، وتَعُد مقاعدها في الحكومة والبرلمان ومجالس الجماعات، فتحكم حينا، وتنزوي معارضة حينا آخر، راسمة أرشيفها وتاريخها الذي إما أن يضمن بقاءها أو يحتم جلاءها لبقعة تجريبية تفتقد سلطة السيادة، وتتغنى بفلكلور التبعية، وتعتز بمكاسبها الموثقة الغائبة حقيقة.
ولا شك أن الفكرة قد تتعرض للخيانة، وقد تبتلى بداء الاحتقار ومرض الإهانة، إذا ما خالفت الرعية الموثق، فغدرت علنا بانحيازها لفكرة ثانية، أو سرا بخروجها عن خارطة الطريق المحبوكة الفاتنة، فيصبح مثلا الأخ رفيقا يتقن لغة الثورة والتصفيق والتغيير، والرفيق أخا يتقن لهجة المصالحة والاستهجان عبر البيانات والإصلاح والصفير.
يكبر الطموح بريحان الفكرة، فيصير الجمعوي المتطوع سياسيا برغماتيا، والمثقف تاجرا بارعا، والطبيب فلاحا يتقن فن الاستفادة من مخطط المغرب الأخضر، والأستاذ مقاولا يناور في فن السكن الاقتصادي المزهر المثمر، فتكون الفكرة هنا خادعة، تخدع جيلا وأمة، لتصنع رجلا لا تتجلى منه سوى ملامحه الذكورية، أو أنثى يطول لسانها سوطا، فتتبدى في كل مناسبة ملامح صراع مرير يغلب عليه طابع العرض وأريج السرد الموروث من بريق جبين عريض لا تعرف الحمرة إليه طريقا ولو تغنى بقصائد البهتان أمام محكمة الشعب.
كما يصير المغمور عادة بواسطة الفكرة إنسانا تعقد الندوات من أجله، والمحاضرات على شرفه، فيرتقي من حضيض البساطة المفروضة إلى علياء الشهرة.
يكبر أيضا طموح الفكرة فتصير حضارة تصارع أفكار الخصوم لتضمن البقاء وتغتنم مزيدا من المكاسب، يقول مالك بن نبي:” إن المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة دائما بالأفكار الدافعة”، والدافعية هي التي تمنح الفكرة ضمانة تفعيلها وتبنيها ليحدث التغيير وتظهر النتائج.
وقد تكون الفكرة تقنية أو رمزا أو جسدا مجردا كما ابتغاها مُوقعها، لكنها لا تستغني عن البصمة والصبغة التي ترسم بسمتها وضحكتها وهويتها وعدوانيتها وعفويتها وجرمها، وقد تختزن رصيدا أخلاقيا يعطيها المشروعية وحق امتلاك مناطق نفوذها، وقد تمتلك الفكرة حصانة ترد العدوان، أو تهدم البنيان من الداخل وتزعزع الأركان، وتشكك في التاريخ والثقافة والحاضر والمستقبل.
والفكرة ترتبط أيضا بميلاد الحضارات وموتها وفنائها، فتكون لحظة إشراق لمكون أو بنية أو أمة، ولحظة أفول قوى ومؤسسات تخلت عن وقود الفكرة الأصلية الراقية، وانغمست في هوى فكرة ماجنة منحطة.
والفكرة تبني وتهدم في السياسة والاقتصاد والرياضة والاجتماع والتعليم والصحة والثقافة، تبني بتكريم العقول المواطنة الغيورة الناكرة لذاتها في سبيل رقي الأمة وحصانتها، المستمدة لمكانتها من مكانة الفكرة ذاتها، المزينة بأريج الحرية والإنسانية، وتهدم بتبجيل الأجساد الفاتنة والألسنة الساكنة والبطون التي تأكل فلا تشبع، وتتمرد فلا تخضع، لتؤسس قوة تحبك حبال المصائد في الظلام، بقصائد وأغاني وسهرات وجلسات المجون والغرام، فتظهر العجائب وتقطع الأرحام، يكسب الإنسان كما تكسب الفكرة، ويموت الإنسان فتبقى الفكرة شاهدة على الخيانة، تتجلي حينا وتضمر أحيانا، موجدة صراعا هو في الحقيقة معركة خالدة بين الحق والباطل ما بقي الإنسان مؤسس الفكرة والضامن لبقائها واستمراريتها ولو تبدت في جسدها ملامح الشيخوخة ومعالم الهزالة.