اجتماعالمقالات

رؤية ماركيوز لمفهوم السلب عند هيجل

هيجل

– تمهيد:

يعتقد هربرت ماركيوز (1898-1979) الفيلسوف وعالم الاجتماع النقدي، أن الممارسة النقدية تستمد قدرتها على النقد من خلال استحضار مفهوم الجدل عند هيجل، ” الذي يقوم على التضاد بين الإثبات والنفي = (الإيجاب والسلب)، ومن خلال ذلك ينشأ مفهوماً ديالكتيكياً ينتج عنه ما يسمى بالتركيب، أي نفي النفي في حركة جدلية لا متناهية. وحسب هيجل، يؤدي انعدام الإيجاب إلى السلب، فانعدام الخير مثلاً يؤدي إلى الشر، وانعدام النور يؤدي إلى الظلام. وهذا هو الطباق، أي جمع لفظين متضادين. وفي المنطق الديالكتيكي، أي في الفكر المجرد، قد يتحول الطباق إلى شيء ثالث عند تجاوز الضدين في الطباق”([1]).

وهذا يعني أن الممارسة النقدية في جوهرها – حسب تصورات ماركيوز-  تستند إلى مفهوم السلب عند هيجل، وهو أيضاً نقد الأوضاع القائمة على نفس الأرض التي تقف عليها، ونقد لنظام الحياة المستتب الذي ينكر ما ينطوي عليه هو ذاته من إمكانيات واحتمالات مشجعة([2])لكن وجب علينا – قبل أن نحوض في تحليل رؤية ماركيوز لمفهوم السلب عند هيجل- توضيح أسس المنهج الجدلي بشكل عام بهدف تعميق الفهم والإحاطة بكل جوانب القضية المدروسة.

أولاً- أسس المنهج الجدلي عند هيجل:

سعى هيجل* من خلال فلسفته إلى تقديم محاولة فلسفية متكاملة ترمي إلى حل جميع المشكلات الفلسفية التي يدور حولها بعض وجهات النظر الخلافية في تحليلها وتفسيرها، فمن خلال رؤيته التاريخية نظر إلى كل شيء موجود في الواقع نظرة تطورية استطاع من خلالها تفادي الأخطاء التي كان ماديون القرن الثامن عشر يعتقدون بها وخصوصاً فيما يتعلق بالضعف الظاهر بمسائل التطور سواء في الطبيعة أو في التاريخ، فقد انعكس هذا الاعتقاد على فلسفتهم التي كان مضمونها فقيراً بالمقارنة مع نظرة وفلسفة هيجل.

إن الحديث عن هيجل ونظريته التاريخية التطورية يؤدي بنا إلى الحديث عن الجانب الثوري الحقيقي في فلسفة هذا المفكر الكبير، ألا وهو الجدل، فالجدل كما يعرّفه هيجل “هو مبدأ كل حركة و كل حياة، وكل ما يتم عمله في عالم الواقع، بل إنه أيضاً روح كل معرفة تكون حقاً علمية([3]).

يرى هيجل أن التفكير ليس حكراً على الفلاسفة وحدهم دون سواهم، بل هو قانون نشعر بوجوده في جميع مستويات الوعي الأخرى، والتجربة خير دليل على ذلك، فكل ما يدور حولنا يتسم بالطابع الجدلي، فجميع الأشياء متناهية في جوهرها متغيرة ومتحولة وهذا ما يسميه هيجل “بالجدل المتناهي”* ويعني به تحول الشيء إلى شيء آخر مختلف عما هو عليه([4]). والجدل عند هيجل لا يقتصر على ظواهر الطبيعة فقط. بل يشمل الجانب الروحي والأخلاقي والقانوني والسياسي. فالجدل يكمن في طبيعة الأشياء كلها. وهذه الأشياء ليست في حالة تناغم وانسجام تامين بشكل مطلق, بل هي في حالة دائمة من الصراع والتناقض بمعنى آخر إنها متبدلة وزائلة، فكل الظواهر متناقضة لأنها تحمل في داخلها عناصر تؤدي إلى ضدها([5]). لذلك يمكن القول إن الجدل الهيجلي ليس مجرد منهج فلسفي فحسب، إنما هو أيضاً تعبير عن الحركة الباطنية للصيرورة الروحية الشاملة، فالروح التي تتطور وتترقى، تحتفظ دائماً وأبداً بشتى المكاسب التي أحرزتها عبر هذا التطور أو الترقي([6])

يقوم المنهج الجدلي عند هيجل على مجموعة من أسس، التي استند إليها في تصور المثالي لبناء مقولاته النظرية والفلسفية، وهي كالآتي:

– الأساس الأول: الترابط.          – الأساس الثاني: التحول الشامل.

– الأساس الثالث: التحول النوعي.  – الأساس الرابع: نضال الأضداد.

أ- الترابط: يركز المنهج الجدلي على علاقات التفاعل والترابط  العضوي بين الظواهر، لهذا يرى هذا المنهج أنه لا يمكن إجراء تفسير لأي ظاهرة طبيعية بالنظر إليها على حدة أو على أنها منفصلة عن الظواهر المحيطة بها، لأنها ستصبح بلا معنى إذا تم معالجتها في منأى عن الظروف المتعلقة بها. لأن الأسلوب الأمثل لفهم أي ظاهرة وتفسيرها، لا بد أن يكون من خلال إدراك علاقاتها بالظواهر المحيطة التي ترتبط بها. وبذلك تكون آلية فهم المنهج الجدلي للوجود ومكوناته، على العكس تماماً من آلية فهم المنهج الميتافيزيقي لمكونات الوجود وظواهره الذي ينظر إلى تلك المكونات على أنها منفصلة عن بعضها البعض وبذلك يصبح الواقع منفصل عن الفكر([7]).

ب- التحول الشامل: يلاحظ أن للمنهج الجدلي طابعاً إيجابياً يتجلى في حالة نفي النفي، ومن ثم الانتقال بالتفاعل الجدلي من السلب إلى الإيجاب. وبذلك يكون التفاعل الجدلي في حالة تجاوز وتحقيق مستمر، بحيث تبلغ منتهاها في لحظة التأليف([8]).

ويعبر هيجل عن هذه اللحظة بفعل ألماني (قد لا تسهل ترجمته إلى أي لغة من اللغات الأجنبية) وهو فعل “الرفع” الذي يعني في آن واحد (المحور أو الإلغاء) من جهة، ومن جهة أخرى (المحافظة والإبقاء). ومعنى ذلك أن مركب الموضوع يقضي على كل من الموضوع ونقيضه من جهة، ولكنه يحافظ عليهما ويستبقيهما في وحدته العليا من جهة أخرى، ولا شك أن التناقض واضح في هذا التعبير، ذلك لأنه يتضمن معنيين متعارضين تماماً هما (الإفناء والبقاء). ولكن ربما كان في وسعنا أن نقول إن “مركب الموضوع” عند هيجل يتسامى بكل من “الموضوع” و “نقيضه” إلى حقيقة أعلى من كل منهما، بل ومن الاثنين مجتمعين. فهو يحولها إلى مجال أسمى بحيث يخلع عليهما حقيقة أخرى جديدة. ولعل خير مثال لهذا الضرب من “التسامي”… ما يحدث حينما تجيء التغيرات الكمية (في لحظة من اللحظات) فيؤدي ذلك إلى تغير كيفي (نتيجة لإضافات جديدة)، مما يجعل من “مركب الموضوع” حقيقة جديدة مختلفة تماماً عن الحدين اللذين تألفت منهما([9]).

يرى هيجل أن الوجود والمجتمع يكونا في حالة من التحول الشامل، أي هي في حالة من الحركة والتغير الدائمين والتجدد والنمو المستمرين، حيث يولد أي شيء بينما يتحلل آخر ويزول. وبذلك لا يصبح هناك انفصال بين الواقع والطبيعة وبين الحركة، لأن الواقع أو الطبيعة ذاتهما الحركة. ولعل طبيعة هذا التفاعل الحركي الشامل هي الطريق الأساسي الذي يسلكه الوجود نحو حالة من التراقي والاكتمال. إذ يكون الجديد قد وجد على نحو ما في قلب القديم([10]).

ج- التحول الكيفي أو النوعي: يتمثل هذا الأساس، في الحركة الأخيرة من اللحظة الجدلية، وهي الحركة التي يكون فيها مركب الموضوع، حقيقة جديدة، ومختلفة تماماً عن الحركتين السابقتين أي (الموضوع ونقيضه) التي تشكلت منهما. ونحن في هذه الحالة أمام انبثاق طفري جديد، وهو نتيجة منطقية للتحولات الشاملة، وهدف لهذه التحولات، ذلك لأن التغيرات التدريجية البسيطة هي عبارة عن قياسات أو كيفيات بسيطة تضاف، ولكن في لحظة معينة تكثر هذه الإضافات من ناحية، وتكثر مقادير النفي والإلغاء في الحقيقة من ناحية أخرى، بحيث إن الحقيقة المتولدة تصبح جديدة تماماً عن سابقتها مع أنها تحمل منها شيئاً ما([11]). ولعل هذا ما حدا بالماركسيين فيما بعد إلى تعليق أهمية كبرى على هذا القانون الخاص من قوانين الديالكتيك: ألا وهو قانون “التحول الكيفي([12]).

د- تفاعل الأضداد: يستند هذا الأساس إلى ثلاثة اعتبارات هامة: أولها أن حركة الواقع هي نتاج للتناقض بين وحدات الجدل الثلاثة، إذ لولا هذا التناقض لما كان التغيير، ولولا التناقض والإضافة لما كان التقدم نحو وجود أكثر اكتمالاً، والتناقض غالباً ما يكون داخل الأشياء فلكل ظاهرة تناقضها الداخلي، وهي السبب لنموها، أما صلتها بالظواهر الأخرى فهي ثانوية([13]). ويؤكد هيجل أن الشيء عندما يتحول إلى ضده، وعندما يناقض ذاته فإنه يعبر عن ماهيته([14]). أما الاعتبارالثاني فيؤكد على الدور التجديدي للتناقض. لأن التناقض بين القديم والجديد عادة ما يتمخض عن تولد الجديد من أحشاء القديم. ذلك الجديد الذي لا بد وأن يكون قد وجد على نحو ما في قلب القديم ولكنه وجد بصفته إمكاناً. وأن هذا الإمكان مع بعض الإضافات يقود إلى وجود الجديد، وذلك لا يعني إلغاء القديم تماماً، ولكنه يبقي على العنصر الجوهري فيه، ومن ثم فإن كل ما في الوجود شاهد على بقاء الطاقة واستمرار القيم، ولولا وحدة (الواقعي) و (المثالي) لزال المثل الأعلى من الوجود تماماً. أو لما استطاع أن يمد جذوره في أعماق الواقع. بذلك لا تقضي الأشكال الجديدة على القديمة ولكنها تتسامى بها دون أن تمحوها([15]).

وأخيراً يتمظهر الاعتبار الثالث في اشتراك أطراف التناقض داخل وحدة عضوية كاملة، ذلك على عكس الوجود الميتافيزيقي حيث توجد الأضداد في حالة انفصال تام. أما في الجدل فلا بد من تواجد الوحدة بين النقيضين، فالعلم والجهل نقيضان إلا أننا إذا أمعنا النظر للاحظنا أن كل علم هو نضال ضد الجهل. فليس هناك علم مطلق، بل تظل الطبيعة حاملة دائماً لما يجهله العلم. إلا أن هذا التواجد الثنائي داخل وحدة واحدة يؤكد على ضرورة وجود تأثير متبادل حيث يؤثر هذا التأثير دائماً في الأضداد، بحيث ينتقل بها دائماً إلى حالات كيفية جديدة، لأنه تأثير مضاف، فهو انتقال مما هو أدنى لما هو أعلى، ومن ثم فهو حركة متفاعلة دائماً تسعى إلى تجاوز ذاتها باستمرار نحو وجود أشمل وأكثر اكتمالاً ([16]).

ثانياً- رؤية هربرت ماركيوز لمفهوم  السلب عند هيجل:

سعى ماركيوز من خلال ما تقدم إلى التعمق بالمنهج الجدلي المثالي لدى هيجل بهدف توظيفه في بناء مقولاته النظرية، فكان كتابه (العقل والثورة) أكثر من مجرد مقدمة عامة عن هيجل. لقد كان في الحقيقة أطروحة جدالية رفيعة المستوى، تقدم الحجة القائلة بأن هيجل كان ثورياً([17]). وابناً باراً لعصر التنوير وناقداً للنظام الاجتماعي الأوروبي، لذا يمكن اعتبار شخصية هيجل شخصية جذابة بالنسبة لماركيوز، لأنه عارض الامبيريقية غير النقدية والنزعة الطبيعية عند الإيديولوجيا الليبرالية([18]).

يذهب ماركيوز إلى أن هيجل استطاع حسب رأيه أن ينتقل بالمذهب المثالي من مرحلة الاستسلام للأمر الواقع والدفاع عنه إلى مرحلة النقد المكافح، الذي يعتمد على مفهوم السلب لأن هيجل جعل للفكر مساراً ديالكتيكياً. تحتل فيه فكرة السلب في فلسفته مكاناً هاماً ورئيسياً، حيث يصبح السلب جزءاً لا يتجرأ من كيانها وطبيعتها، لأن أي شيء لا يكون له معنى حقيقي إلا من خلال السلب الكامن فيه([19]).

إن الجدل عند هيجل يتسم بالطابع “السلبي“. فالسلبي يشكل طابع العقل الجدلي. لأن الخطوة الأولى نحو التصور الحقيقي للعقل هي “خطوة سلبية” على اعتبار السلب هو قوام العملية الجدلية الأصيلة. ومفهوم السلب عنده يدل على شيئين مختلفين:

أ-يدل على سلب مقولات الموقف الطبيعي أي السكونية الثابتة.

ب-ويدل أيضاً على الطابع السلبي، الزائف للعالم الذي تشير إليه هذه المقولات. فعلى ذلك نجد أن السلبية واضحة في مسار الواقع ذاته، بحيث إن أي شيء موجود لا يكون صحيحاً في صورته الراهنة. فلا بد من أن يتطور إلى أوضاع وأشكال جديدة إذا شاء أن يحقق إمكاناته([20]).

بهذا يصبح السلب برأي ماركيوز قوة بارزة تسعى إلى فضح وكشف الواقع بما فيه من قوة وضعف. أما عن السمات الأساسية التي يتصف بها مفهوم السلب عند هيجل حسب رأي ماركيوزفهي كالآتي([21]):

 1- يعتبر مفهوم السلب الصفة الملازمة التي تتغلغل في جميع أشكال الوجود، فهو الذي يتحكم بمضمون هذه الأشكال وفي حركة تطورها. فالظواهر التي تبدو للذهن العادي بوصفها مظهراً إيجابياً للحقيقة، هي في واقع الأمر سلب لها، بحيث يستحيل إقرار الحقيقة إلا بتجاوز هذه السلبية([22]). فيقول هيجل في هذا المقام “أما الجدل فهو يعني الميل المستمر الذي نتجاوز بواسطته التحديد وأحادية الجانب لصفات الفهم بحيث توضع في وضعها الصحيح، أي يتضح ما فيها من سلب لأن الشيء المتناهي يطمس معالم نفسه ويضع نفسه جانباً([23]).

2- السلب عند هيجل ليس عدماً، إنما قوة خلاقة في الفكر والوجود معاً. فهو أساس الحركة ونبض الحياة. فيقول هيجل في علم المنطق: “السلبي هو في الوقت نفسه إيجابي، وإن ما هو متناقض لا ينحل إلى عدم مجرد، بل يفضي فقط إلى سلب مضمونه الجزئي، وأن مثل هذا السلب ليس سلباً للكل، وإنما هو مجرد سلب لشيء محدد، وأن النتيجة تتضمن بالتالي في جوهرها ذلك الذي ترتبت عليه باعتبارها نتيجة، وإلا لما كانت نتيجة بمعنى الكلمة، بل مجرد معطى مباشر([24])

3- السلب الذي يطبقه الجدل ليس نقداً للمنطق التقليدي الذي يرفض الاعتراف بحقيقة المتناقضات فقط. بل هو أيضاً نقد للأوضاع القائمة على نفس الأرض التي تقف عليها. وهو في نهاية المطاف نقد لوضع الحياة المستتب([25]). ولا يكتفي ماركيوز بإضفاء هذا الطابع النقدي على السلب، بل إنه يضفي عليه طابعاً ثورياً راديكالياً، فيرى في القدرة على التفكير السلبي أساساً لزعزعة الثقة الزائفة التي يشعر بها الإنسان العادي في موقفه الطبيعي حيال ذاته وحيال عالم الواقع، والبرهنة على أن اللا حرية تكمن في قلب الأشياء إلى درجة أن نمو تناقضاتها يؤدي بالضرورة إلى نوع من التغير الكيفي، وإلى انفجار الأوضاع القائمة وإصابتها بكارثة مروعة([26]).

إن مثالية هيجل كما يراها ماركيوز تتخذ نقطة بدايتها من الواقع نفسه، على اعتبار أن كل كتابات هيجل تمثل عودة دائمة إلى عالم التجربة، ومحاولة لا تكل من أجل إيجاد دور العقل في تنظيم الواقع (العالم). ولكن هيجل كان دائماً يؤكد في الوقت ذاته. أن كل وضع لعالم التجربة يكون متناقض مع العقل إنما هو وضع مؤقت. ومن ثم يتعين رفضه وتجاوزه. وهكذا تكون المثالية الهيجلية، كما فسرها ماركيوز مرتبط على نحو أساسي بنزعة الرفض والسلب أي رفض للواقع القائم في لا معقوليته، وسعي دائم إلى إقرار حكم العقل في عالم التجربة([27]).

لم ينظر هيجل إلى الوضع القائم على أنه وضع يتسم بالاستقرار والدوام التامين، مهما بدا هذا الوضع لأول مرة على أنه متماشياً مع العقل. فأي وضع لا بد أن ينظر إليه في ضوء ما فيه من إمكانات التي لم تتحقق بعد، لأن الاكتفاء بالحالة الراهنة يعني على الأرجح خنق لكل الإمكانات المتضمنة فيه التي لم تزل في مهدها، أي حرمانها من أية فرصة لرؤية النور. ومن هنا كانت مهمة العقل الرئيسية هي إدراك ما هو ممكن خلال ما هو موجود، ويعنى ذلك أن يلمح بما هو متحقق فعلاً إمكانات أخرى أوسع وأرحب يمكنها بدورها أن تتحقق. وتلك هي السمة التي تتميز بها قدرة العقل: فهو الذي يستطيع أن يدرك الممكنات، واحتمالات التطور، في ظل الوضع القائم. وهو وحده الذي يمكنه أن يتجاوز حالة الأشياء الراهنة في الوقت الذي لا يكون فيه أمامنا سواها([28]).

– خلاصة القول: يبدو العقل الهيجلي في نظر ماركيوز قوة ثورية في المحل الأول. أي أنه سعي لا يتوقف نحو الحركة والدينامية. ونزوع لا يكل إلى التجاوز والعلو إذ أن ذلك العلو ليس علو منقطع الصلة بما يعلو عليه، وإنما هوة علو مستمد من قلب ما هو موجود. وتجاوز منتزع من باطن الوضع القائم. وذلك يعني الشرط الأول للثورة، ويعني ذلك وجود القدرة على إدراك وضع جديد ممكن في داخل الوضع القائم. ونتيجةً لهذا التصور عن مفهوم العقل عند هيجل ربط ماركيوز مفهوم العقل بمفهوم الثورة. لأنه يرى في مثالية هيجل أداة لا غنى عنها في يد القوى الثورية التي ظهرت منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى العصر الحديث. فعلى يد هيجل أصبح العقل أداة في يد قوى التغيير بعد أن ظل على مر العصور القديمة قوة تنزع بطبيعتها إلى المحافظة وتنحو نحو الاستقرار وتتجه إلى تثبيت كل وضع قائم. أما في أوائل العصر الحديثة فقد تم استخدم العقل كأداة للتغيير، حين سعت البرجوازية الصاعدة إلى الإعلاء من شأن العقل من أجل تأكيد مكانة الإنسان في هذا العالم. وإقرار دوره في تشكيل الطبيعة والتسيّد عليها. ولكن هذا التيار بأكمله قد غرق في خضم المثاليات التقليدية المتعددة التي لم تستطيع أن تدرك الدلالة الحقيقية لسيادة العقل على العالم. حيث جعلت من هذه السيادة وسيلة لتجاهل الواقع والاكتفاء بحث مطالب العقل وشروطه. إلا أن هيجل قد أقام فلسفته على أساس مبدأ دينامية العقل وقدرته على تجديد ذاته، وتجديد العالم الذي يدركه بلا انقطاع([29]).  

بناءً على ما تقدم نستنتج أن ماركيوز أعطى تفسيراً جديداً لمنهج هيجل الجدلي لا يعود فيه هيجل على اعتباره آخر الفلاسفة التقليدين الكبار فحسب، ولا يعود مذهبه لآخر بناء عقلي شامخ شيدته الفلسفة الغربية فقط. بل يصبح هيجل في أول المعاصرين، ويغدو تفكيره نقطة بداية إلى تفرعات في مختلف الاتجاهات العقلية السياسية والاجتماعية (التقدمية أو الرجعية) في فلسفة عالمنا المعاصر والحديث([30]).

وهكذا لابد للنقد الاجتماعي أن يطفو على السطح عندما يعيش المجتمع أزمة عميقة، فيقوم (النقد) بممارسة وظيفته حتى يتمكن المجتمع من تجاوز أزمته، فيكون له دوره المؤثر في تشخيص الواقع الاجتماعي في مختلف أبنيته حتى يتسنى للقائمين في المجتمع من معرفة معوقات تقدمه، بهدف تغيير الواقع الاجتماعي إلى ما هو أفضل.

د. حسام الدين فياض


[1] – أنور نجم الدين: الطباق بين هيجل وماركس، الحوار المتمدن، العدد: 4428،  تاريخ 18/4/2018. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=410886  

[2] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة (هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية)، ترجمة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية للعامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1970، ص(17).

* هو جورج فيلهيلم فريدريك هيجل George Wilhem Fridrich Hegel ( 1770-1831 )، فيلسوف ألماني مثالي، يعتبر من أهم فلاسفة القرن التاسع عشر والتاريخ الإنساني برمته، والشخصية المحورية في الفلسفة المثالية الألمانية بوجه عام، وهو واضع قواعد المنهج الجدلي، من أهم مؤلفاته: “موسوعة العلوم الفلسفية” و “فينومينولوجيا الروح” و “علم المنطق” و“فلسفة القانون و “فلسفة الحقوق” و “فلسفة التاريخ“، يرتبط هيجل ارتباطاً مهماً بحركة الفلسفة المثالية ولذا يمكن أن نعتبره الامتداد الطبيعي لخط كانط – فشته – شلنج، وأبرز ملامح التقاطع تتمثل في التصور المثالي للواقع والتنظيم العقلي للتجربة أو الرؤية المنظمة لوجود أنتجه العقل، وإذا أقام كانط فلسفته النقدية لتمييز المعرفة العلمية الصحيحة عن المعرفة الميتافيزيقية التي تؤدي إلى الوقوع في التناقض، فإن هيجل قد جعل من هذا التناقض جوهراً لفلسفته ومنهجه الجدلي، وبفضل منطق هيجل الجدلي دخل العقل في الوعي وفي الطبيعة نفسها ثم تجلى في التاريخ، وأصبح هو جوهر التاريخ ومحركه، هاجم هيجل المعرفة العقلية الخالصة التي فصلت الفكر عن الوجود، كما هاجم الفلسفة التجريبية الخالصة التي أغفلت السمات العقلية للواقع. توفي هيجل بمرض الكوليرا سنة 1831، وأصدرت الكنيسة الإنجيلية عام 1832 بياناً تعتبره خطراً على الدين، لذا لم تسمح بإلقاء التحية على ضريحه عندما مات.

[3] – هيجل: موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة وتقديم: إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، ط1، 1983، ص(217).

* لمزيد من القراءة الاطلاع انظر- مفهوم السلب عند هيجل، تأليف يوسف سلامة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2001.

[4] – هيجل:مرجع سبق ذكره، ص(210-221).

[5] – هنري لوفيفر: المنطق الجدلي، ترجمة: إبراهيم فتحي، دار الفكر المعاصر، ط1، 1978، ص(141-15).

[6] – زكريا إبراهيم: هيجل أو المثالية المطلقة (عبقريات فلسفية)، مكتبة مصر، القاهرة، 1970، ص(146).

[7] – علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية ( سلسلة النظريات الاجتماعية: الكتاب الأول)، المكتبة المصرية، الإسكندرية، بدون تاريخ، ص(154).

[8] – حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر – دراسة تحليلية نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص(127).

[9] –  زكريا إبراهيم: مرجع سبق ذكره، ص(165-166).

[10] – علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(155).

[11] –  المرجع السابق نفسه، ص(155).

[12] – زكريا إبراهيم: مرجع سبق ذكره، ص(165-166).

[13] – علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(156).

[14] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة (هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية)، مرجع سبق ذكره، ص(156).

[15] – زكريا إبراهيم: مرجع سبق ذكره، ص(165).

[16] – علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(157).

[17] – بول أ. روبنسون: اليسار الفرويدي، ترجمة: عبده الريس، مراجعة وتقديم: إبراهيم فتحي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، العدد: 724، 2005، ص(139).

[18] – المرجع السابق نفسه، ص(146-147).

[19] – فؤاد زكريا: هربرت ماركيوز، دار الفكر المعاصر، القاهرة، 1978، ص(25-26).

[20] – Herbert Marcuse: Reason and Revolution – Hegel And The Rise Of Social Theory, London, Ruotledge and kegan Paul LTD, 2 Edition,1955, p.(123).

[21] – حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(131).

[22] –  هربرت ماركيوز : العقل والثورة، مرجع سبق ذكره، ص(48-49).

[23] – هيجل: مرجع سبق ذكره، ص(217).

[24] – زكريا إبراهيم: مرجع سبق ذكره، ص(150).

[25] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة، مرجع سبق ذكره، ص(17).

[26] – المرجع السابق نفسه، ص(20).

[27] – فؤاد زكريا: مرجع سبق ذكره، ص(27).

[28] – المرجع السابق نفسه، ص(27-28).

[29] – المرجع السابق نفسه، ص(28-29).

[30] – حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(133-134).
____________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات