جنايات “الكوجيتو” وحيرة ديكارت
ربما هو القَدَرُ الذي سيحمل الفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت على اقتراف دابَّة العقل، ليجعلها خطّ الدّفاع الأوّل عن الإيمان المسيحي. والذين أدركوا ما اقترفه الرّجل، ربّما لنصحوه قبل فوات الأوان أن لا يفعل. وما هذا إلّا لأنّ حصاد الفعليّة جاء خلاف مقصود النيَّة. لكنّ القَدَرَ سيتمِّمُ رحلته ويستحثُّه ليتّخذ “الشكَّ المنهجيَّ” دربةً لمسعاه. وما كان ذلك إلّا لأجل أن يستدلَّ منطقيّاً على حقيقة الألوهيّة، ثم ليبلغ من طريق الاستدلال ضالَّة اليقين المعرفي.
من المبين أن نقول إنّ ديكارت لم يكن ليهتدي إلى “الكوجيتو” لولا أن غَلَبته شَقْوَةُ فَقْدِ الوجود، ثم سعى ليعثر عليه عن طريق “الأنا” المكتفية بذاتها. الخَيارُ سيكون شاقاً، بل ويحتاج من المكابدة أقصاها. لقد وَقَعَ الرجلُ في معثرةِ الجمعِ المستحيلِ بين نقيضين غير قابلين للتواؤم في هندسات العقل الأدنى: الإيقان بالألوهيّة الذي لزومُهُ التّسليم والإيمان، والبرهان بالفكر الذي مقتضاه السؤالُ، والسّببيّةُ، والعلَّة المفضيةُ إلى ظهور المعلول والتعرُّف عليه. لم يجد ديكارت ما ينفذُ به إلى مجاوزةِ هذه المَعْثَرة الممتدّةِ جذورُها إلى الميراثين الفلسفَييَنْ اليوناني والروماني، إلّا أن يلوذَ بـ “الأنا” لكي ينجز مبتغاه. وهكذا قرّر الرّجوع الى نقطة البداية؛ ليكشف لنا أنّ الشّيء الوحيد الذي كان واثقاً منه، أنّه هو نفسه كائن يشكُّ، وجوهرٌ يفكر. وها هنا يمكث الظنُّ الذي سيحمله على الاعتقاد بأنّ الإنسان ذهنٌ محضٌ، وأنّ معرفتَه بنفسه وبغيره منحصرةٌ بهذا الكائن العجيب الذي يسأل عن كلّ شيء، ويشكِّك بكلّ شيء.
بحسب فرضيّة “الأنا أفكر” يمكن أن يكون في فعل الشكّ معرفةٌ أكثر من اليقين المجرّد للذهن ولوجوده. إذ إنّ من يشكُّ يعرفُ أنّه لا يعرفُ تماماً بقدرِ ما يريد أن يعرف. وبالتالي لا بد أن يكون في ذهنه، على الأقل، شعورٌ ملتبسٌ عن كيفيّة المعرفة الكاملة، أي عن فكرة الكمال. ثم من خلال ملاحظة تلك الفكرة بإمعان، يغدو الشاكُّ واعياً أنّ في ذهنه حضوراً لفكرةٍ جديرةٍ بالملاحظة.. إنّها فكرة الكائن الكامل.. وبتعبير آخر، فكرةُ كائنٍ يمكن أن يحوي جميع الكمالات التي يمكن تصوّرها. إنّه – كما يفصح ديكارت في تأملاته – الله، الذي نفهمه ككائنٍ متعالٍ، أبديّ، لا متناهٍ، ثابتٍ، عليمٍ، قديرٍ، مخالفٌ كل شيء خارج ذاته. ثم يتساءل في حَيْرة: ولكن ما هو مصدر هذه الفكرة فينا؟
* * *
بعرضِهِ لفكرته الأساسيّة ولهيكل نظامه الفلسفي، “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، يزعم ديكارت أنّه أنشأ أوّل قضيّة يقينيّة غير قابلةٍ للشك. ولعلّه في زعمه هذا سيبدو “فيلسوف يقين” حاول أن يعبر إلى يقينه بسفينة الشك. ربّما أخذته أسحار الرياضيات التي ظلّت تلازمه حتى آخر معاشه من أجل أن يعْثُرَ على فردوسه الضائع. كان عليه أن يبتدئ من اللَّايقين، لينتهي إلى بداهة المعر اليقينة الوجود. غير أنّ معثرته الابتدائيّة هي تلك التي كشفها في “التأملات”. يقول: “أنا موجود.. يعني أنا لي وجود”، أمَّا إلى متى؟ يجيب: طالما أفكر.. ومتى ما توقّف تفكيري عن التفكير، لربّما توقّف الوجود ووجودي حينها (ص:28-1361). إنّ قولاً كهذا، وإن جاء لتوكيد “مشروعيّة الكوجيتو”، إلّا أنّ تداعياته ستطال بالأذى مقاصده الأولى في الدّفاع عن الألوهيّة. ربّما لم يكن ديكارت يدرك، وهو يستظهر هذا التّأمّل، أنّه يؤسّس لعدميّةٍ صمَّاء، تلغي الكون كلّه حالما تنعدم “الأنا” التي كانت ترى موجودات العالم وتفكّر فيها…
في المعرفة الفلسفيّة لديكارت، الوجود اليقيني الأوّل كان “الأنا” المدركة ولا سواها. وهذه الرؤية، أي إثبات حقَّانيّة الوجود على أساس حاضريّة “الأنا” والأحكام الصّادرة منها، شكّلت لافتةً غير مسبوقةٍ في الفكر الفلسفيّ الحديث. مع هذه الحاضريّة سوف يستبدل مسار التّفكير الفلسفيّ لينتقل بنظريّة المعرفة من الحقائق العينيّة إلى مجرّد تصوّراتٍ ذهنيّةٍ صارمةٍ. من هذا النحو بالذات، سوف يأخذ “ذهن الإنسان” في معرفة ديكارت معيارًا للتعرُّف على نفسه والعالم؛ بمعنى أنّ الذهن هو الموضوع الوحيد الذي تُعتبر كلَّ الأشياءِ والعالم الخارجي وحتى الله من تمثّلاته وتصوّراتِه. في هذا الصدد يُبيِّن ديكارت: ” يقول ديكارت: “من حيث أن كل مفهوم هو فعل الذهن، فإنّ طبيعته هي انه بنفسه لا يقتضي أن يكون صورة لأية واقعية، سوى أن يكون اقتباسًا من الذهن أو التفكر” (ص:45-نفسه).
طبقًا لقوله هذا، ستمضي منظومته الفلسفيّة إلى منح الأصالة للذهن في مقابل ميتافيزيقا الواقع التي تعتقد بـ “أصالة العين”. أي بحقيقة الموجود الخارجي الظاهر في الواقع. بذلك يكون الذهن الذي تربَّع على عرش التفكير عند ديكارت هو الوحيد الذي ينبغي أن يحصِّل الحقائق الواقعيّة. ولسوف يصبح تقريره هذا أساساً “لمحوريّة تفكير الفرد الإنساني”، وللاستقلال المحض للفكر المتّكئ على الرياضيات والميكانيكا والطبيعيات بوصفها علوماً صحيحةً لا تقبل الخطأ…
ما من ريبٍ أنّ هذه الرؤية المضطربة في معنى الوجود عند صاحب الكوجيتو سوف تفضي إلى مشكلاتٍ جمَّة حيال القضايا الكبرى في الميتافيزيقا، منها على وجه المثال لا الحصر، أنّ الوجود في منظومة ديكارت دالٌّ على معنيين منفصلين لا يمكن جمعهما مطلقًا: الأوّل: اعتبارُه الوجود صفةً للشيء أو كحقيقةٍ صوريّةٍ للأشياء الخارجة عن نطاق الذهن، والثاني: أنّ لديه الوجود هو صفة للذهن، أو أنّه حالةٌ فكريّةٌ مرتبطةٌ بذهن الإنسان. والإشكال الذي يُطرح هنا هو أنّ هذين النوعين يرتبطان بوثاقٍ وطيدٍ بقانون العلّيّة؛ وذلك بسبب اعتقاده بعدم إمكانيّة تصوّر شيءٍ إلّا إذا كان متقوّمًا على حقيقة صوريّة، في حين أنّ الحقيقة الصوريّة للأشياء بحدّ ذاتها لا وجود لها في تصوّراتنا، باعتبارها مجرّد عللٍ أساسيّةٍ للحقائق الذهنيّة، أو لما يسمّى بالمعاني الدلاليّة للتصوّر.
* * *
من بعد مخاض، يأتي دور الشّكّ المنهجيّ لكي يتولّى المهمّة. ومنهج الشك – بالنسبة إلى صاحب الكوجيتو-، هو أقرب إلى واسطةٍ لتقطير جميع القضايا التي نشكُّ بها منطقيّاً، وذلك بغية تحصيل المعارف التي لا يرقى إليها الشك. فالغاية من “الشك المنهجي” ليست تحديد ما هو معقول أو غير معقولٍ الشكّ فيه، وإنّما ما هو ممكن الشك فيه منطقيًّا. في هذا المنهج تُحذف جميع القضايا التي لا تستطيع أن تشكّل مقدِّماتٍ في نظامٍ فلسفيٍّ استنباطيٍّ. غير أنّ الشك المنهجي له افتراضات محدَّدة: أظهرُها ما يفيد بأنّ الفرد هو الذات المفكِّرة الوحيدة التي تثير الأسئلة. ومنه نستنتج، ومن دون ذهول واستغراب، أنّ الجواب – أي اليقين الذي يقطع الشك- هو عند ديكارت يقين الفرد المفكِّر. والحاصل، أي النهاية الأكيدة للشك هي بطريقة ما متمثِّلة في طريقة إثارته السؤال. وهكذا، يكون معيار الصدق عند ديكارت ما يحدِّده نظام العقل، والعقل الرياضي على وجه الضّبط. فما يصل إليه هذا العقل ويراه واضحاً ومتميّزاً بعد تفكيرٍ منظّمٍ ومدروسٍ، يمكن قبوله واعتباره صادقاً. واستطراداً لهذه الفرضيّة، يوصي ديكارت بوجوب إخضاع الخبرة الحسّيّة لسلطان العقل ومعاييره؛ لأنّ خبرة الحواس هذه، هي بصورةٍ فطريّةٍ أقلّ إيحاءً بالثّقة من العقل.
* * *
من مفارقات ديكارت أنّه كان ناطقًا باسم الجديد ومتمثِّلًا للقديم في الآن عينه. ولمّا رغب أن يبدأ من جديد، ويشيّد الفلسفة على أساسٍ متينٍ، كانت جذوره عميقةً وراسخةً في التّقليد الفلسفي للَّاهوت المسيحي. وحين لاحظ وجود نزاعاتٍ لا نهاية لها في الفلسفة، رأى أنّ المنهج الوحيد لبلوغ المعرفة الصّحيحة هو منهج الرياضيات الاستنباطي، فاتّخذه مثاله العلميّ الأعلى. وحقيقة الأمر، أنّ ديكارت لم يكن لينأى قيد أنملةٍ من شريعة الإغريق وهو يستغرق هموم “الكوجيتو”. ونميل إلى القول إنّه لم يقطع مع أرسطو، بل جاءت نظريّته في المعرفة امتداداً جوهريًّا لمنطِقِه؛ حيث خضعت لوثنيّة الأنا المفكِّرة. وسيجوز لنا أن نلاحظ، أنّ الكوجيتو الديكارتي ما هو إلّا استئناف مستحدث لـ “دنيويّة المقولات العشر الأرسطيّة”. وبسببٍ من سطوة النّزعة الدنيويّة هذه على مجمل حداثة الغرب لم يخرج سوى “الندرة” من المفكّرين الذين تنبهّوا إلى معاثر الكوجيتو وأثره الكبير على تشكّلات وعي الغرب لذاته وللوجود. من هؤلاء – على سبيل المثال لا الحصر- الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر الذي قامت أطروحاته على تفكيكٍ جذريٍّ لمباني الميتافيزيقا الحديثة وحكم بتهافتها الأنطولوجيّ والمعرفيّ في آن. وإذا كانت فلسفة بادر النقديّة طاولت الأسس التي انبنت عليها الميتافيزيقا الأولى، فإنّ نقده للديكارتيّة يشكّل ترجمةً مستحدثةً للميراث الأرسطي بمجمله، حيث يمكن إجماله في النّقاط الثلاث التالية:
أوّلاً: إنّ الكوجيتو الديكارتي «مبدأ الأنا أفكر» يؤدّي إلى قلب العلاقة التأسيسيّة للوعي بجناحيه المتناهي واللَّامتناهي. والسّؤال البديهيّ في هذا المحلّ هو التالي: «كيف يمكن المرء أن يعرف الله بتفكير لا إلهيّ، أو بتفكير لا إله فيه، أو بتفكير مدعوم إلهياً، مع أن نفس وجود أو لا وجود اللَّه يُحدَّد فقط من خلال معادلة مختلة الأركان قوامها: “اللَّه موجود مجرّد نتيجة للأنا موجود”.
ثانياً: ما يريد الشك الديكارتي أن يقوله فعلاً، بوصفه استقلاليّةً مطلقةً للمعرفة، ليس أقل من أنّ الإنسان بوصفه مخلوقاً يكوّن معرفته الخاصّة، ويجعلها تؤسّس ذاتها من دون مسبقات. الـ “أنا موجود” (ergo sum) التي تلي «الأنا أفكّر» (co gito) هي – في منطق ديكارت-تعبير عن كيان يريد إظهار نفسه بالتفكير والكينونة، بمعزل عن الله. وبسببٍ من كونه عاجزاً عن فعل هذا، يمنع تجلّي نفسه وتجلّي الله. فالموجود المتناهي – الإنسان – ومن خلال تأسيس يقينه الوجودي والمعرفي في “الأنا الواعي”، يحاول إظهار ذاته كموجودٍ مطلقٍ، ويجعل نفسه إلهاً مؤسِّساً لذاته”.
ثالثاً: يشكّل الكوجيتو الديكارتي، بالأساس، إنعطافةً أبستمولوجيّةً نحو الأنا، ما يستلزم انعطافةً أنطولوجيّةً تليها انعطافةٌ أبستمولوجيّةٌ منطقيّةٌ أنطولوجيّةٌ للعودة إلى ذاتها. وفي أية حال، ستؤدي الأَنَويّة الأبستمولوجيّة والأنانة الأنطولوجيّة لـ «الأنا أفكر أنا موجود» في ميدان تطبيقها الاجتماعي والسياسي والحضاري إلى ولادة أنانيّة سياسيّة ليبراليّة ذات نظامٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ أنانيٍّ. وهذا هو على نحو البيان والوضوح ما أظهرته قيم الرأسماليّة من “بربريات” صارخة في حقبة التّطاول الكولونيالي على الشّعوب الواقعة خارج المركزيّة الغربيّة.
* * *
على هذا النحو من النّظر إلى “العقل الأناني” المستكفي بذاته، سيؤسّس ديكارت فلسفة العصر الحديث. وهي كما يظهر مما أنجزته في رحلتها المتمادية، فلسفة أيقنت دعوتها على الاكتفاء الذاتي للتفكير والوجود الإنساني. وجلُّ الفلاسفة الذي خَلَفوا ديكارت، أو تبعوا دربته الاكتفائيّة، رأوا أنّ ذات المرء كافيةٌ في تأسيس وجوده وتفكيره، وأنّ الإنسان بسبب هذا الاكتفاء الذاتي لا يحتاج إلى اللَّه في التأسيس والمساعدة، ولا في وجوده، ولا في معرفته، ولا في وعيه الذاتي.
لقد نبَّه التّحليل النّقدي لـ «الأنا أفكر إذاً أنا موجود» إلى أنّ الأنا، عندما تتأمّل المكان الذي أتت منه، سوف تدرك أنّها لا تملك “كوجيتو” خاصاً بها، ولا وعياً ذاتياً خاصاً بها، أو منسجماً معه. عندما نفكّر بشكلٍ أعمق في شروط الوعي -كما يبيّن نقّاد الكوجيتو- يصل المرء إلى معرفة أنّ الوعي المتناهي يعرف ذاته على أنّه وعي لشخص لا يُحدِثُ نفسَه، ولا يعرف نفسه بنفسه وحده. وفي الوقت ذاته الذي يعرف الوعي المتناهي «الأنا أفكر» ماهيته، يعرف أنه «مفكَّر فيه». فالوعي المتناهي مؤسَّسٌ في وعي مطلقٍ مستقلٍ بشكلٍ كاملٍ عن الوعي المتناهي. أمّا «مبدأ المفكَّر فيه»، فإنّه يعبّر عن عقيدة حضور كلّ الأشياء في اللَّه على مستوى الوعي، بمعنى أنّ الوعي المتناهي مؤسَّسٌ في اللَّامتناهي، ومن ناحيةٍ أخرى يُبيّن أنّ معرفة الإنسان ليست صنيعة الإنسان، بل هي موهبة إلهيّة.
* * *
مبعثُ الضلالة التأسيسيّة لـ الأنا الديكارتيّة” يتأتَّى من افتراضها أنّها هي سبب نفسها، وأنّها مكتفيةٌ بذاتها ولا حاجة لمبدأٍ يؤسِّسُها. ويمكن أن نمضي إلى أبعد من ذلك لنقول إنّها واجدةُ نفسها. ولنا هنا أن نسأل: كيف لديكارت أن ينجو من عثرة التّناقض حين يزعم أنّه كرَّس نظريّته لإثبات وجود الله، وفي الحال عينها يتصرّف كما لو أنّ “أناه المفكرة” هي خالقة نفسها. واقع الحال أن هذه الفرضيّة المتسلِّلة إليه من طغيان منطقِهِ الرياضي، لم تلحظ نقطة البدء التي خرجت بسببها الأنا إلى الوجود. فقد تقدّمت عنده الأنا المسكونة بفقرها ومحدوديتها على الوجود الأكمل الحاوي لكلّ موجود والراعي لكلّ شيء. حقيقة الأمر أنّ الأنا التي تتوِّج الكوجيتو بدت شديدة الإدعاء بالاقتدار، إلّا أنّها ظهرت مبتورةً عن أصلها الوجودي، حيث لا تمتلك صفة التأسيس للوجود، حتى لوجودها هي بالذات.
وإذن، لا بد للتعرف من أن يبدأ من مسلَّمةٍ ما، حتى تستقيم لصاحبه المعرفة. من دون مسلَّمة ما، من مبتدأ، أي من نقطة بَدء، يتعذَّر الوصول إلى معرفة ما يراد معرفته. عند ديكارت مسلَّمتان.. الله والفكر. لكنّه سيرجِّح مسلّمة الذهن على مسلَّمة الله لمّا أسلم كلّ المقدمات للأنا أفكر. والنتيجة أن تقطَّعت السبل إلى معرفة الله، وصار على أهل الكوجيتو أن يبحثوا عن معرفةٍ لا تفنى من بعد أن تبيَّن أنّ دوام الوجود كلّه رهنٌ بدوام الأنا وبقائها…
* * *
لقد استنبت الكوجيتو الديكارتي الأصل الميتافيزيقي الذي أقامت الحداثة عليه أركانها. عنينا به الفردانيّة (individualisme): التي ستعني الإنكار لأيّ مبدأٍ أعلى منه. ولم يكن الكوجيتو سوى الإعراب الميتافيزيقي الأكثر جلاءً عن فردانيّة الحداثة. لقد شكّلت الفردانيّة المؤسّسة على الكوجيتو الأساس الأنطولوجي والمعرفي للعقل الأدنى الذي يحكم بقبضته الصلبة على حضارة الغرب الحديث. بل هي السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب، لا سيما من جهة كونها الدافع الحصري لظهور المنازع السفلي للحياة الإنسانيّة المعاصرة. ومن البديهيّ حالئذٍ أن يكون إنكار الحدس العقليّ، أوّل قيمة تستهدفها الفردانيّة لكونه أساساً، مَلَكَةً فوق فرديّة (supra-individuelle) ، واستتباعًا، إنكار مرتبة المعرفة التي هي المجال الخاص بهذا الحدس.
الأدهى في جناية الكوجيتو الديكارتي على الفكر الفلسفي الحديث، أنّه دفع بسيرورةٍ من عدم اليقين أفضت في كثير من الأحوال إلى ضربٍ من الضلال المعرفي. وسيكون لهذه السيرورة تداعيات جمّة ليس على ميتافيزيقا الحداثة وحسب، وإنّما على مجمل العلوم الإنسانيّة في العصور اللّاحقة.
__________
**محمود حيدر: مفكر وأستاذ في الفلسفة والإلهيات – لبنان.
*المصدر: التنويري.