المقالاتفكر وفلسفة

الماركسية الانعكاسية – ماكس فيبر ضد ماركس

الماركسية الجديدة

” إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين, مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة”

كار ل ماركس

1- مقدمة:

تشكل نظرية ماركس في المادية التاريخية والجدلية مدخلا منهجا أصيلا في فهم فيبر ونظرياته المثالية. ويحق إذ يكفي للمرء أن يقلب نظرية ماركس ليجد نفسه في فضاء نظرية فيبر، وذلك لأن نظرية فيبر تشكل النظرية المثالية النقيضة لنظرية كارل ماركس المادية. وفي جدل التضاد والتناقض بين مثالية فيبر ومادية ماركس تنفتح آفاق فسيحة لفهم مختلف التجليات الفكرية الخصيبة في الفكر والفلسفة والمناهج الاجتماعية. وحال هذا التناقض بين النظريتين يمتثل واضحا في التشبيه الشعري الذي يقول: ضِدّانِ لمّا اسْتَجْمَعا حَسُنــــــــــا والضدّ يُظْهِرُ حُسْنَـــه الضِــــــدُّ. وقد يجد الباحث في هذه المقاربة بين النظريتين أن كلا منهما تشكل محكا منهجيا لفهم الأخرى ورصد حركتها الفكرية لأن سماء فيبر تنعكس على الصفحات المائية في البحر الماركسي المتلاطم الأمواج. وقد يتجلى التناقض القائم بينهما على صورة تناقض جدلي ديالكتيكي يتخاصب فيه التناقض بين الطرفين على صورة توليد ذهني فكري يتجاوزهما كلاهما في حركة من الفهم والتوالد لا تتوقف أبدا.

لقد أقرّ ماكس فيبر بداية بأنه ولد في عالم فكري هو في جزء كبير منه من صنع كارل ماركس وفريدريش نيتشه”[1]، في عالم فكري وأيديولوجي إما أن يكون فيه المرء مع ماركس أو ضده ولا وسط بين الحدين. وقد شكل هذا الضغط الفكري الماركسي كابوس ماكس فيبر الذي لازمه كظله. ومع ذلك لم يستكن فيبر في البحث عن منهجية جديدة تخرجه من وهج ماركس وعن قوة هائلة تضعه خارج المدار الماركسي الذي استقطب الفكر والمعرفة والفلسفة في القرن التاسع عشر ولم يزل. وقد شكل هذا التحدي الماركسي قوة حافزة لماكس فيبر الذي استلهم ماركس وعمل على تجاوزه بطريقة انعكاسية على صورة انقلاب شامل ضد بركان ماركس وطوفانه الجاذبي. ومع ذلك لم يستطع ماكس فيبر الانفلات من قبضة ماركس نهائيا وكأن الماركسية كانت له قدرا ومصيرا حدد له مصيره على نحو انعكاسي.

وقد لا يستطيع أحد من المفكرين اليوم ومنهم فيبر نفسه أن ينكر أن كارل ماركس كان له أكبر الأثر في التشكيل الفكري لماكس فيبر، وهو الذي ألهمه في جوانب كثيرة من إنتاجاته الإبداعية في التاريخ والدين والمجتمع. واستطاع فيبر في النهاية أن يتمثل ماركس ويطرح نفسه نقيضا له  في مختلف تجلياته الفكرية والفلسفية. وإذا كان ماركس قد أقر يوما بأنه أوقف هيجل على قدمية بعد أن كان يقف على الرأس فإن فيبر أراد أيضا أن يوقف ماركس من جديد على قدميه ليجعل من الفكر أصلا في الحضارة بدلا من أصالة الوجود في التشكيل الحضاري للفكر والإنسان.

ويتجلى التناقض بداية  بين الرجلين في الموقف الأيديولوجي لكل منهما ، ففي الوقت الذي أعلن ماركس تأييده المطلق للطبقات الفقيرة والمهيضة في التاريخ وقد جعل من نظريته المادية التاريخية قوة فكرية للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وحمايتها من الجشع البرجوازي الرأسمالي، وضع ماكس فيبر نفسه في خدمة النظام البرجوازي وانتخى ليكون أحد أكثر المدافعين عن النظام الرأسمالي البرجوازي حماسة واندفاعا، ومضى بقوة ليعلن عداوته لماركس والماركسية وقد دفعت هذه العداوة بعض المفكرين إلى وصفه بـ ماركس البرجوازي، أي: ” أنه مثلما كان يدافع ماركس عن البروليتاريا أو الطبقة العاملة فإن ماكس فيبر جعل نفسه نصيرا وأزيرا للبرجوازية، ونصب نفسه المدافع المخلص عن النظام الرأسمالي [2]. ولا يخفى على العارفين بأن فيبر  على الرغم من عداوته للماركسية لم  يستطع أن يخف إعجابه الكبير المتوهج بأفكار ماركس ونظرياته في الماديتين التاريخية والجدلية.

يرى فيبر في سياق معارضته للفكر الماركسي أن النظام الاشتراكي الذي يدعو إليه ماركس يشكل خطرا على المجتمعات الإنسانية وقد حذر من مخاطر انتشار النظام الاشتراكي الماركسي ، ورأى أن  هذه الاشتراكية ستشكل خطرا كارثيا وتهديدا للإنسان وطعنا في الكرامة الإنسانية، وذهب إلى أن انتشار النظام الاشتراكي سيؤدي إلى تفاقم التناقضات الطبقية وزيادة “سيطرة الإنسان على أخيه الإنسان وإلى سيطرة المنظمات على الأفراد وحرمانهم من حرياتهم ” [3]. وقد تجلت نبوءته هذه في النظام الديكتاتوري الشيوعي للثورة الثورة البلشفية التي اندلعت في 25 أكتوبر عام 1917 وبلغت أقصى درجات وحشيتها في العهد الدموي لستالين.

لم يخف فيبر  يوما ولاءه الكبير للنظام الرأسمالي  رغم تناقضاته ومثالبه ، وقد عبر عن موقفه المؤيد للبرجوازية بصراحة في قوله المشهور إنني عضو في الطبقة البرجوازية وأنا أفخر بذلك وقد نشأت في أحضان هذه الطبقة وتبنيت آراءها ومثلها العليا [4].

على الرغم من تناقضه الكبير مع ماركس إلا أنه أقر بوجود الصراع الطبقي وأكد في الوقت نفسه أن المجتمع الرأسمالي الصناعي لا يكون من غير الصراع الطبقي، ولكنه رفض أن يكون هذا الصراع محركا للتاريخ وفاعلا في إحداث تغيرات جوهرية في بنية النظام الرأسمالي، وعزز ذلك برفضه القاطع أن تكون السيادة لغير الطبقة البرجوازية، وقد نصح هذه الطبقة بالدفاع عن مصالحها والمحافظة على دورها القيادي في المجتمع، وكان يعتقد أيضا أن هذه الطبقة هي الطبقة الوحيدة المؤهلة لتحقيق التقدم والحضارة في المجتمعات الإنسانية. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى زيارة ماكس فيبر للولايات المتحدة الأمريكية عام 1904 وإلى الاستقبال الحافل المهيب الذي استقبل فيه ومن الواضح أن نظرياته لقيت حضورا واسعا في الفكر والثقافة في الولايات المتحدة الأمريكية واحتلت نظريته البرجوازية مكانها السامق في الوسط العلمي الأمريكي وقد اتخذت أفكاره منصة للدفاع عن الرأسمالية والهجوم العنيف ضد الماركسية والأفكار الاشتراكية[5].

2- من مادية ماركس إلى مثالية فيبر:

شكل التناقض الأيديولوجي مقدمة لتناقض أخطر وأكبر في المستوى الفكري الفلسفي، وفي هذا المستوى نجد أن ماكس فيبر يشيد نظرية مناقضة تماما لنظرية ماركس في العلاقة بين البناء الفوقي والبناء التحتي . ومن المعروف أن ماركس قد رسخ نظريته الاجتماعية في التأكيد على أولوية البناء التحتي (علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج) ودوره في توليد البناء الفوقي الذ يتمثل في الأفكار والتصورات والمؤسسات ومختلف أشكال الوعي، وهذا يعني ان البنية المادية في المجتمع تشكل أساس الأفكار والتصورات ومختلف أشكال الوعي وقد تمثل ذلك في قوله المشهور “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم“. وبناء على هذه الرؤية لأهمية الوجود الاجتماعي اتخذت الماركسية تسميتها بالمادية التاريخية إذ تولي الجوانب المادية أهمية مطلقة في تحديد مسارات الحياة الفكرية.

وعلى النقيض من ذلك يعاكس فيبر هذه الرؤية  ويرى بأن التكوينات الذهنية الواعية هي التي تشكل التشكيلات الوجودية الاقتصادية والمادية، وقد تجلت رؤيته هذه في نظريته حول العلاقة بين الدين والرأسمالية وهي الفكرة الأساسية لكتابه المشهور ” الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية “. ويبدو لبعض الكتاب أن كل ما فعله ماكس فيبر هو أنه قلب الماركسية رأسا على عقب. وإذا صح التعبير يمكن القول ومن وجهة نظر فيبرية أن ماكس فيبر أوقف النظرية الماركسية على رأسها بعد أن كانت تقف على قدميها: فالواقع الاقتصادي – حسب فيبر – لا يحدد الواقع الفكري السيكولوجي بل على العكس من ذلك فإن الواقع الفكري هو الذي يحدد الواقع الاقتصادي ويرسم منحنياته الأساسية. وعلى هذا الأساس وجد فيبر أن ظهور الرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي ناجم عن التأثير الخلاق للقيم البروتستانتية، وليس العكس كما تقول الماركسية، وهذا يعني أن الأخلاق والدين كما يرى فيبر يشكلان الأصل في عملية التشكيل الاقتصادي والاجتماعي وأن النظام الاقتصادي مجرد تجلٍ وتجسيد للعوامل الثقافية السيكولوجية.

وفي مسار تأكيده على هذه الرؤية النقيضة للماركسية حول أهمية البناء التحتي وأولويته في تحديد مسار التشكيلات الاقتصادية كرس فيبر جهوده في دراسة البنى الفوقية في المجتمع للكشف عن تأثير العوامل الثقافية وتأثيرها في النمو الاقتصادي،  وذهب إلى الاعتقاد بأن الوعي الثقافي المتمثل في القيم والأخلاق والمعتقدات لا يمكن أن يكون انعكاسا عفويا للواقع الاقتصادي كما يعتقد الماركسيون، وقد ذهب على على العكس إلى الاعتقاد بأن ” المعتقدات والقيم أشياء واقعية مثلها مثل القوى المادية، من الممكن أن تغير من طبيعة الواقع الاجتماعي” [6]. ويبدو” أن هذا هو الهاجس الذي شغل تفكير فيبر ليعمل جاهدا على كشف النقاب عن تلك المواقف الأخلاقية التي يصنعها الدين في المواقف الاقتصادية لتتحكم في آخر المطاف في طبيعة النموذج والأسلوب التنموي لأفراد المجتمع “[7].

وقد كرس فيبر جهود هذا الكشف في “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” واستطاع إلى حدّ كبير أن يستجلي الدور الكبير الذي تمارسه العوامل الثقافية الأخلاقية والقيم والأفكار الدينية في تحديد طبيعة سلوك الأفراد داخل المجتمع وتوليد نوع من النشاط الاقتصادي الرأسمالي. وها هو يقول في هذا الصدد: “إن بإمكان الدراسة الراهنة أن تساهم في جانبها المتواضع، في تفسير كيفية تحول الأفكار إلى قوى تاريخية فعالة” [8]، فالأفكار والمعتقدات والقيم تتفاعل وتتكامل لتشكل قوة ثقافية قادرة على قولبة السلوك الاقتصادي والاجتماعي للأفراد وتحديد مسارات النمو الاقتصادي للرأسمالية.

ويصرح فيبر دائما بأن ثقافة المجتمع تشكل قوة فاعلة في المجتمع وهي ليست مجرد قوة سلبية ناجمة عن تفاعلات البنية التحتية في المجتمع، ومن الطبيعي وفقا لفيبر أن تكون هذه القوة قادرة على تحديد السمات العامة للسلوك الاقتصادي -الاجتماعي للأفراد والجماعات في آن واحد، ويصر في هذا المسار على أن التكوينات السيكولوجية للذهنيات القائمة في المجتمع تتجلى في صورة معتقدات وتصورات وقيم وهي تقوم بوظيفة توجيه السلوك الاقتصادي والاجتماعي للفرد [9].

3- وظيفة الوعي – تفسير العالم أم تغييره:

تتجلى التناقضات الانعكاسية القائمة بين ماكس فيبر وماركس في الدور الخلاق للعلم والفلسفة في فضاءات التغيير والتفسير. يرى ماركس أنه مهمة المعرفة يجب ألا تتوقف عند تفسير العالم، بل يجب عليها تغييره وتوجيهه نحو الأفضل. وعلى خلاف ذلك يرى فيبر أن مهمة الفكر يجب أن تتوقف عند تفسير العالم لا تغييره. ومن المعروف أن ماركس قد عرف برفضه اقتصار الوعي على الدور التفسيري للعالم وهو الدور الذي دأبت على ممارسته منذ القدم مبشرا بدورها الجديد الذي يحملها مسؤولية تغيير العالم لا تفسيره فحسب، وعلى النقيض من ذلك أراد لها فيبر أن تقتصر على دورها القديم في التفسير، وطالب بأن يقتصر دورها على الفهم والتفسير العالم دون التبديل والتغيير، وعلى هذه الصورة غرد خارج السرب الماركسي ووضع فكرته هذه نقيضا كليا لفكرة ماركس عن دور المعرفة في التغيير. ولأن فيبر قد أصر على وظيفة الفهم والتفسير للعلم والفلسفة وجردهما من وظيفة التغيير والتثوير استحق بجدارة لقب فيلسوف الفهم والتفسير والتأويل وذلك على صورة النقيض لماركس فيلسوف الذي أضاف للوعي مهمة التدخل والتأثير والتغيير وجعل من هذا الدور وظيفة حيوية أساسية للعلم والوعي والمعرفة الإنسانية.

ومن الواضح أن فيبر لم يطرح رؤيته الداعية إلى حيادية المعرفة واقتصارها على الفهم والتفسير بصورة عبثية بل أسس لرؤيته تاريخيا وصقلها فكريا بأدواته المنهجية التي تجلت في نماذجه المثالية التي اقترت على فهم الظواهر الاجتماعية دون التدخل في مسارات حركتها مقصيا إياها عن الغايات الإنسانية التي نجدها في تصورات ماركس. ومن البيّن الواضح أن فلسفة التفسير تتناقض مع فلسفة التغيير وتمضيان في اتجاهين متعاكسين متناقضين، وإن “التقتا على المقدمات فهما تفترقان في النتائج، وذلك بسبب الافتراق في المنهج” [10].

وبالعودة إلى ماركس نجد بأنه تصوره عن دور الفكر في التغيير اتخذ طابعا إنسانيا إذ رام تحقيق العدالة ورفع الظلم عن المقهورين والمعذبين في الأرض وإعادة الحقوق إلى الطبقة العاملة المسلوبة والمنهوبة. ومن أجل هذه الغاية كان يلحّ على توظيف كل أشكال الوعي الإنساني على اكتشاف الحقيقة ومن ثم توظيفها في إحداث التغيير المنصف والعادل للطبقات الاجتماعية المهيضة في التاريخ. وهذا الأمر أعطى لنظرية ماركس بعدا إنسانيا تفتقر إليه نظرية ماكس فيبر الذي تجاهل الأوضاع الاغترابية التي تعانيها الطبقات العمالية في ميدان العمل والإنتاج ولم يلق بالا لأوضاعها الإنسانية المتردية. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن ماركس قد منح المعرفة صبغة إنسانية لا نجدها في التفكير البرجوازي عند ماكس فيبر الذي كرس نفسه دفاعا عن مصالح الطبقة البرجوازية. وباختصار كان ماركس يبحث عن الحقيقة ليجعلها منصة الانطلاق بحثا عن الإنصاف والعدالة وحقوق الإنسان، ومن أجل هذه الغاية كرس علم الاقتصاد والتاريخ والمادية التاريخية وجعل من هذه العلوم قوة تتجه نحو الثورة والتغيير بحثا عن العدالة الإنسانية المفقودة. وعلى النقيض من ذلك رسخ فيبر نموذجا فكريا جامدا ونظرية معرفية سعيا إلى فهم الظواهر التاريخية بوصفها ظواهر منفردة متفردة لا تتكرر في التاريخ أو المجتمع، وصنع لها نماذج فكرية أراد أن تكون قادرة على ضبطها منهجيا واستكشاف مضامينها والغوص في أعماقها مرة واحدة في تاريخ لا يعرف التكرار. ومع ذلك يمكن القول بأن نظرية فيبر لم تكن حيادية إذا كان يتوخى إبقاء الوظيفة المعرفية للعالم خارج سياقها التاريخي حفاظا على أوضاع الطبقة البرجوازية ومصالحها، ومن الواضح إلى أنه كان يسعلا إلى إبطال مقولة ماركس حول دور المعرفة في التغيير الاجتماعي.

وهنا يتفق فيبر مع ماركس بأن الرأسمالية لا يمكنها أن تكون النظام الأمثل، ومع ذلك فقد رفض أن تكون الثورة البروليتارية ممكنة ورفض أيضا أن تكون هي الحل المناسب لتجاوز سلبيات النظام الرأسمالي. ومع أهمية هذا الأمر لم يقدم أي اقتراح أو تصور حول البديل الممكن للرأسمالية ذات الصندوق الحديدي الذي ابتلع الإنسان والمجتمع في بعد استهلاكي إنتاجي واحد.

4- من المادية التاريخية إلى المثالية المادية:

رفض ماكس فيبر فكرة التطور الماركسية بما تنطوي عليه من قوانين جدلية، ومن هذا المنطلق رفض أولية العامل الاقتصادي وأعطى هذه الأولوية للأفكار والتصورات وفي سياق ذلك تفادى أحادية التفسير المادي للتاريخ، وانطلق يحفر وينقب في تأثير العوامل الثقافية على نمو الاقتصاد وتطور الرأسمالية، ” واضعاً نفسه لا في مواجهة ماركس فحسب بل في مواجهة الماركسية “المبتذلة” التي أكدت على أولية العامل الاقتصادي بصورة ميكانيكية[11].

وقد عرف عن ماركس رفضه أن يكون الوعي المجرد قادرا على توليد الوجود المادي الاقتصادي والاجتماعي على نحو كلي وشمولي، وقد اكد هذا في الأمر في كتابه (نقد نظرية الحق عند هيغل) وأقرّ أن الوعي لا يفسر دوافع الإنسان وأن هذه الدوافع تتحدد جوهريا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي، ” ورفض في الوقت نفسه نظريات الهيغليين الشباب في كتابه (أطروحات حول فيورباخ) لأنها اكتفت بتفسير العالم دون تقديم أطروحات عملية لتغييره”[12].

وعلى خلاف ذلك يرى ماكس فيبر أنه لا يمكن تفسير سلوك الإنسان ودوافعه بوصفهما انعكاسيا آليا للعوامل الاقتصادية، إذ يعتقد أيضا بأهمية المتغيرات الثقافية ويعطي أهمية كبيرة للعقائد والقيم والتقاليد، في إحداث عملية التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وعارض في كتابه (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) أولوية الاقتصاد الماركسية في تشكيل الوعي والتكوينات الثقافية الفوقية. وذهب إلى ابعد من ذلك مؤكدا أن وجود الطبقات الاجتماعية ليس نتاجا لعلاقات التملك وأنماط الإنتاج الاقتصادي، وعلى خلاف ذلك يرى أنها تشكلت في رحم اقتصاديات السوق وفي بوتقة حركته وآليات اشتغاله. وعلى هذا الأساس يهاجم المادية التاريخية بقوله المعروف: “وحدها المادية التاريخية الساذجة من تفترض أن الأفكار هي انعكاس للظروف الاقتصادية”. وفي سياق آخر يقول “إنّ ما يُعرف بـ ”التصوُّر المادّي للتاريخ” -في معناه القديم البدائي والعبقري كما ورد في “البيان الشيوعي”- لا يُمارِسُ في أيّامنا أيّ ضغطٍ إلاّ على بعض الجَهلة والهُواة “[13].

ويشير ريمون آرون في كتابه ” مراحل الفكر السوسيولوجي ” إلى أن ماكس فيبر في دراسته لدور الأخلاق البروتستانتية وتأثيرها على بزوغ النظام الرأسمالي كان يريد أن يؤكد أمرا في منتهى الأهمية وهو أن سلوك الأفراد في مختلف المجتمعات يتحدد بتصورهم عن العالم والوجود، وتعد المعتقدات الدينية وتفسيراتها أهم وأخطر التصورات التي تؤثر بشكل مباشر في السلوك الاقتصادي والاجتماعي للأفراد [14]. ومن الملاحظ أن فيبر لم يهتم بالجوانب الإيمانية للدين بل اكتفى بدراسة الجوانب الأخلاقية والقيمية في تأثيرها على السلوك الاقتصادي والاجتماعي.

4-1- تضاد الفكر والواقع:

لو أخذنا العلاقة بين الفكر والواقع لوجدنا بأن الاختلاف بين الرجلين كان في الأولوية وليس في الأهمية. فماركس لم يتجاهل أبدا دور البناء الفوقي في التغيير وعلى هذا الأساس دعا الفلاسفة إلى تغيير العالم بدلا من تفسيره وكان دائما يركز على أهمية البناء الفوقي في عملية التحول الاجتماعي والسياسي وفي عملية الانتقال التاريخي من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى، ويمكن القول إن ماركس اعكى للبنيان الفوقي أهمية خطيرة في التاريخ وإن كان يعكي للبعد الاقتصادي للبنية المادية في المجتمع الأولوية الصارخة في عملية التغيير وفي عملية تشكل الوعي وقد تجلى ذلك في مقولته المشهورة التي تنص على أن الوجود الاجتماعي هو الصانع الأساسي للوعي: ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ” وهذا القول لا يتعارض مع أهمية البناء الفوقي في عملية التغيير وقد أركز ماركس كثيرا على دور الوعي في مراحل تاريخية مثل الثورات الاجتماعية والنضال الطبقي بوصفه حركة واعية في التاريخ الإنساني.

وكذلك فإن ماكس فيبر وعلى الرغم من تأكيده على أولوية الوعي في التغيير الاقتصادي لم ينكر أبدا أو يتنكر لدور العامل الاقتصادي في التغيير، وقد أكد مرارا وتكرار على أهمية هذه العوامل ودورها الكبير في التغيير الاجتماعي ويتضح ذلك في البحث الذي أجراه في عام 1869 والذي أكد فيه على دور العوامل الاقتصادية في سقوط الإمبراطورية الرومانية دون الإشارة إلى تأثير العوامل الثقافية والروحية [15] .

4-2-الدين والحضارة:

لا يخفى على أحد النظرة السلبية التي قدمها ماركس للدين في مختلف أعماله التي يؤكد فيه على أن الدين لعب دورا أيديولوجيا محايثا للهيمنة الطبقية في التاريخ وهو يراه على أنه أيديولوجيا طبقية في أبسط تجلياته وفي أعمقها وأكثرها شمولا. فالدين عند ماركس مضاد للحضارة وهو أيديولوجيا اغترابية، كما يعرفه بأنه “زفرة المضطهدين” ومظهر من مظاهر استلاب الإنسان وشكل من أشكال الأيديولوجيا التي تستخدمها السلطة للسيطرة على الناس”.

 وعلى النقيض من ذلك يرى فيبر أن الدين يؤدي دورا صانعا للحضارة ومبشرا بالحداثة، وقد اتضح هذا الأمر في دراسته حول الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية. وفي الوقت الذي يتهم فيه ماركس الدين بوصفه أيديولوجيا استلابية يتجلى في نظرية فيبر على أنه أيديولوجيا حضارية يمكن أن تساهم في تقدم الحضارة. ومع ذلك يمكن القول بأن فيبر كان قد أبرز بأن المسيحية البروتستانتية وحدها هي الوعي الصانع للعقلانية الرأسمالية، وهذا لا ينسحب على الأديان الأخرة الكونفوشيوسية والبوذية والتاوية واليهودية والإسلامية التي لعبت دورا كابحا لتقدم النظام الرأسمالي.

وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول إن نظرية فيبر تتفرد بأنها ركزت على المكون الديني ودوره في عمليتي التغيير الاجتماعي ومن هذا المنطلق وجه نقده التقويضي العنيف للتصور الماركسي حول ثانوية البناء الفوقي لأن الدين كما جرت الإشارة يقع في عمق المكونات الثقافية للبناء الفوقي الذي يتحدد ويرتسم على مقاييس البنية التحتية. وفي سياق هذا التضاد مع الفكرة الماركسية لجدل العلاقة بين البنائين الفوقي والتحتي يقدم فيبر تفسيرا مغايرا إذ يفسر الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمال تفسيرا ثقافيا ودينيا. [16]. وقد عمل على تأسيس منهجية مبتكرة للبحث في علاقة بين الدين والحضارة واستطاع يبرز أهمية القيم والمفاهيم والتصورات الدينية في التأثير على المجتمع واستطاع أن يرسم مسارين أساسيين لتأثير الدين في علاقته بالرأسمالية يتمثل الأول في الكشف عن مساهمة المسيحية البروتستانتية الكالفينية في تشكيل الرأسمالية الحديثة وتمثل الآخر في الكشف القيم الدينية التي عطلت حركة التقدم الرأسمالي في الديانات الأخرى مثل الكونفوشيوسية والبوذية والإسلامية واليهودية .

ومن الواضح أن فيبر وجد في دراسته هذه منطلقا لرفض نظرية ماركس المادية الذي كان ينظر إلى البروتستانتية بوصفها أيديولوجيا الرأسمالية لأن الدين ما هو إلا انعكاس للوضعية الاقتصادية في المجتمع. ومن جديد يعكس فيبر القضية ليعان بأن الأخلاق الدينية -البروتستانتية الكالفينية هي التي شكلت المقدمات الأساسية والمنطلقات الحيوية لنمو الاقتصاد الرأسمالي الحديث في الدول الغربية [17].

4-3- مفهوم الاغتراب :

شكل مفهوم الاغتراب الرأسمالي أحد القضايا الجدلية بين الرجلين اللذين يقران بالوضعية الاغترابية للرأسمالية ولكنهما يختلفان أيديولوجيا في تحديد ماهية هذا الاغتراب وخلفياته الوجودية. وعلى هذا النحو يتفق الرجلان في نظرتهما إلى الرأسمالية بوصفها قوة استلابية اغترابية وأنها تشكل الوضعية القاتمة التي يفقد فيها الإنسان جوهره الإنساني، ولكنهما يختلفان في تحديد عوامل هذا الاغتراب ففي الوقت الذي يرى فيه ماركس أن الاغتراب الإنساني الطبقي ناجم عن الاستغلال الرأسمالي للعمال والفقراء ونتاج لفائض القيمة وعدم المساواة الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية، يرى فيبر أن الاغتراب الاجتماعي ناجم بالضرورة عن الإكراهات البيروقراطية للمجتمع الرأسمالي الذي يضع الإنسان في أقفاص العقلانية الفولاذية المغلقة التي تنمو فيها القواعد والقوانين والتنظيمات البيروقراطية المتصلبة فتؤدي إلى عزلة الإنسان وسقوطه في مستنقع الاغتراب والسلبية، ويتحول في النهاية إلى مجرد آلة أو “عزقة” في دولاب الرأسمالية البيروقراطية الجبارة. وفي أتون هذا القفص الحديدي البيروقراطي يتحول الإنسان إلى مجرد رقم يمكن حسابه من غير قيمة إنسانية ومن غير احتساب لكيانه الإنساني الأخلاقي. ويبين فيبر أن ” العمل ضمن المؤسسات البيروقراطية الكبرى سيؤدي إلى تشعب التخصصات وتكرار روتيني للعمل، وهذا النظام يسعى لوضع قواعد وتنظيم لكل شيء مما سيحطم في النهاية الروح الإنسانية ” [18]. وباختصار الرأسمالية قوة جبارة اغترابية بالنسبة للرجلين ولكن الاختلاف الجوهري في عوامل الاغتراب وليس في جوهره، فالاغتراب الماركسي استلاب لحقوق الإنسان واقتطاع الفائض من عمله واستغلاله من قبل الطبقة البرجوازية، وعلى خلاف ذلك يرجع فيبر هذا الاغتراب إلى الممارسة البيروقراطية، وهو في ذلك يخفي أوجاع العمال واستغلال الطبقات المهيضة في التاريخ، فالبيروقراطية لا يمكنها أن تشكل قوة اغترابية لجميع الطبقات بل سيكون تأثيرها أكبر في الطبقات المهيضة المستغَلة تاريخيا. فالبيروقراطية لا يكون تأثيرها على رب العمل والعمال متكافئا على حد سواء، بل سيكون أشد إكراها وإيلاما على العمال منه على أرباب العمل الذي يصنعون هذا الروتين بأنفسهم للمحافظة على مصالحهم وامتيازاتهم.

ومن الواضح أن ماركس يرى بأن الاغتراب يرتبط بالأوضاع الاقتصادية والصراع الطبقي إذ يشكل استئثار الرأسماليون بالفائض المتراكم من الأرباح السبب الرئيس للغربة والعجز والاغتراب. وعلى خلاف هذه الرؤية يربط فيبر هذا الاغتراب بمفهوم “القفص الحديدي” ويراه بأنه نتاج للعقلنة البيروقراطية الطاغية التي تجعل من تحقيق النجاح المادي الهدف الأول والنهائي للإنساني في غمرة نظام بيروقراطي يتحول فيه الناس إلى طاقة استهلاكية في دورة الإنتاج الرأسمالي وذاك على نحو يفقدون فيه هويتهم الإنسانية ويغرقون في أوضاعهم الاغترابية

4-4- مفهوم الطبقة:

يتفق الرجلان على حضور الصراع الطبقي في قلب المجتمع الرأسمالي ولكنهما يختلفان حول بنية هذا الصراع وطبيعته ووظيفته. يقرّ فيبر كماركس بوجود الطبقة والصراع والطبقي في النظام الرأسمالي ويذهب إلى أن الطبقة تشكل بأنها مجموعة من الأفراد الذي يأخذون مكانهم في موقع اقتصادي واجتماعي متماثل، وتمكن الوضعية الطبقية لأفرادها مستويات من الحياة تضمن لهم إشباع حاجاتهم المادية والثقافية والشعور بالرض. وهذا التصور لا يختلف في جوهره كثيرا عن التصور الماركسي للطبقة بوصفها جماعة من الناس تحتل موضعا متماثلا نسبيا في نظام الإنتاج الاجتماعي. ومع ذلك يؤخذ على فيبر أنه حاول تسطيح هذا المفهوم وتفريغه من مضمونه الحيوي الاقتصادي القائم على التناقض الطبقي. ويتجلى هذا التسطيح في محاولة فيبر وأنصاره اعتماد مؤشرات سطحية للدلالة على الوضع الطبقي مثل: طريقة الأفراد في الاستهلاك الثقافي والسلوك الأخلاقي وغير ذلك من المؤشرات التي تخرج عن جوهر التصنيف الطبقي. وقد بالغ بعض أنصار فيبر في تسخيف مؤشرات الانتماء الطبقي كما فعل تلميذه لويد وارنر (L.Wamer) الذي جعل من شكل الحذاء الذي يرتديه الفرد ولونه مؤشرا من مؤشرات الانتماء الطبقي. ولكن المهم في الأمر كما يذكر عبد الباسط عبد المعطي بأن فيبر يتفق مع ماركس جوهريا حول أهمية “الاشتراك في المصالح كأساس لوجود الطبقة، وقد وسع من هذه المصالح لتشمل أشياء كثيرة، لكنها لا تخرج في التحليل العام والأخير عن ملكية الأصول الرأسمالية “ [19] .

وإذا كان الرجلان يقران بوجود الصراع الطبقي ويريان أنه مكون أساسي من مكونات الرأسمالية فإنهما يختلفان جذريا موقفهما من الصراع الطبقي فبينما يرى ماركس أن الصراع الطبقي هو المحرك الساسي في التاريخ فإن ماكس فيبر يخالفه تماما ويرى بأن هذا الصراع صفة لازمة في الرأسمالية من أجل استمرارها وهو يشكل دينامية داخلية للمحافظة على وظائفها الداخلية وأنه لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يقود إلى التغيير الذي يراه ماركس. ويذهب ” البرت سالون A.Salomon إلى أن فيبر اجتهد في رسم إمكانات حل الصراع، وأنكر قدراته الدافعة نحو التغير، فقد رأى أن الصراع يمكن أن يتطور تطورا جدليا ديناميا، بمعنى أن وجوده لا يحول دون بقاء المجتمع واستمراره، فتغيره تماما أمر لا يحدث إلا في حالات استثنائية” [20] .

نخلص في النهاية إلى أن سوسيولوجية ماكس فيبر تجد قوتها النظرية في البعد العقدي الديني على غرار التفسيرات الميكانيكية المادية للماركسية المؤطرة بقوانين دياليكتيكية حتمية ونظرتها السببية للوجود والكون والاقتصاد وقوانينه [21].

5- خاتمة – تدوير الزوايا:

على الرغم من احتدام الصراع بين الاتجاهين الماركسي والفيبري ووضوح التناقض الشديد في مختلف التوجهات والاتجاهات فإن الباحث المدقق لا يعدم وجود كثير من النقاط المشتركة من حيث الجوهر والمختلفة من حيث المنهج والشكل والمظهر. وفي هذا السياق يرى لوران فلوري أن التباين والتناقض بين ماركس وماكس فيبر لم يكن قطعيا ونهائيا بل كانا ” متفقين حول كثير من الأفكار المتعلقة بالرأسمالية وآلياتها وعوامل نشوئها واشتغالها ولاسيما حول دور الملكية الخاصة والتشيؤ والتفسير الاقتصادي للأخلاق الدينية، ودور المصالح المادية والفكرية في تحديد سلوك البشر… إلخ. لكنهما كانا متناقضين في المنهج تناقضاً كلياً أي متناقضين في توظيف هذه الأفكار ” [22].

ومن المناسب في هذا السياق أن يقال بأن نظريتي ماكس فيبر وماركس حملتا كثيرا من التفسيرات الحدية القطعية التي يرفضها كل منهما فعلى سبيل المثال غالبا ما يشار إلى أن ماركس قد أعلن بأن البناء الفوقي يتحدد بصورة انعكاسية آلية عن البناء التحتي وفي هذا القول مغالطة كبيرة لأن ماركس وإنجلز أكدا مرارا وتكرارا على أن وجود علاقة جديلة بين الجانبين وأن البناء الفوقي يؤثر جدا في البنية التحتية ولاسيما في مراحل التغيير والتثوير ومن هنا فإن القول بالانعكاس الآلي للبناء الفوقي كصورة منعكسة آلية عن البناء التحتي مقولة لا تحتمل الصواب في الفكر الماركسي.

وكذلك الأمر بالنسبة لفيبر فإنه لم يذهب إلى قطعية أن تكون الأفكار الدينية في السبب الوحيد لانتصار الرأسمالية بل وعلى خلاف ذلك كان يؤكد أنه من أهم العوامل وفي وضعية خاصة تتمثل في الرأسمالية الغربية الحديثة والدليل وجود أشكال قديمة من الرأسمالية لا علاقة للددن في نشأتها. وهذا يعني أن نشأة الرأسمالية لا تعزى بالكامل إلى الأخلاق الرأسمالية بل إلى عدة عوامل مادية ومعنوية. وعلى هذا الأساس يعلن ماكس فيبر أنه لا يسعى لاستبدال التفسير المادي للتاريخ بتفسير مثالي آخر ولا يريد أن يقع في هذه المصيدة الفكرية الأحادية، كما أنه يعلن بأن البروتستانتية ليست علة كاملة لظهور الرأسمالية، وعلى التباين من ذلك يقرر بوجود علاقة جدلية تفاعلية بين الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية، ويؤكد في الوقت نفسه بأن التعاليم البروتستانتية في العقيدة الكالفينية الداعية إلى العمل والكسب كانت سببا أساسيا في تطور الرأسمالية كمنظومة اقتصادية نشطة ولم تكن عِلّتَها الوحيدة. وهذا يعني أن الكالفينية لم تكن سبب كفاية بل كانت أحد أهم أسباب نشوء الرأسمالية الغربية بصورتها العقلانية. وبعبارة أخرى ” لم يَرْمِ إلى استبدال التفسير المادّي للرأسمالية الحديثة -أو للحضارة والتاريخ عموماً- بآخرَ روحانيٍّ لا يقلّ عنه أحاديةً ” [23]. ولذلك نراه يتساءل بصيغة الإنكار: “هل من الضروري الاحتجاجُ على أنّ هدفنا ليس أبداً استبدال تحليلٍ سببي “مادّي” حصراً بتأويلٍ رُوحاني للحضارة والتاريخ، تأويل لن يكون إلا كغيره آحادي الجانب؟! فإنّ كُلاًّ منهما [التأويلين] يُسيء إلى الحقيقة التاريخية” [24]. وفي هذا السياق أيضا يقول :“لقد حاولنا ببساطةٍ أنْ نُحدّد الحِصّة التي تعُود إلى العوامل الدينية، مِن بين العوامل العديدة التاريخية المعقّدة التي أسهمت في تطوُّر حضارتنا الحديثة الموجَّهة تخصيصاً نحو الحياة الدنيا” [25].

وهناك كثير من المفكرين اليوم الذين يرون بأن ماكس فيبر لم ” يسقط في القول بحتمية العلاقة بين الدين والنظام المجتمعي، بل يرى أن العلاقة بينهما هي علاقة انسجام وتناغم لا علاقة سببية حتمية” [26]. والقول الفصل في ذلك “أن ماكس فيبر حينما بحث عن الوعي والروح الرأسماليين وعن سبب اختصاصه بالدول الأوربية وجده ثاويا في النزعة البروتستانتية الكالفينية تحديدا وهي التي كان لها الدور الحاسم في تحفيز الإنسان وحثه على العمل فجعلت من أمرا واجبا بل طقسا تعبديا مقدسا يتقرب به الفرد من الله إلى درجة أنها اشترطت الفوز بالآخرة بالنجاح الاقتصادي في الدنيا[27].

ويمكننا القول في هذا السياق بأن ماكس فيبر أراد الهروب من الماركسية ولكنه سقط في دوامتها، وأقل ما يمكن القول أنه كان ماركسيا انقلابيا وقد لا يكون غريبا هو القول بأنه لولا ماركس لما كان ماكس فيبر. لأن الماركسية شكلت محور حياته وتفكيره ومع أنه أراد الانفصال والمشاكسة والانقلاب وهاذ لم يزده إلى اندماجا في الماركسية والتلاحم مع أفكارها وإن يكن بطريقة المعاكسة والتناقض. وفي هذا الأمر يقول ارفنج زاتيلن (Irving.M. Zeiltlin): ” إن ماركس كان بالنسبة «لفيبر» وغيره من الباحثين شبحا ظلوا يحاكونه ويحاجونه وكان مصدر إلهامهم سواء أقلدوه أو نقدوه، وهناك آراء غير قليلة ترى أن «فيبر» بدأ ماركسيا، لكن ذلك لم يسعفه ولم يضعه في مكانته التي تطلع إليها، فانتهى إلى عكس ما بدأ، فكان له في الأخير ما أراد من شهرة ” [28]. ويمكن القول في نهاية هذه المقالة بأن الجهود الفكرية الكبيرة التي قدمها فيبر للفكر الإنساني تأخذ صورة انقلاب على النظرية الماركسية وتصوراتها. وهذا الانقلاب بذاته كان على درجة كبيرة من الخصوبة الهائلة التي أضافت وأثرت في الفكر الإنساني المعاصر.

Irving.M. Zeiltlin , Rthinking Sociology : A critic of contemporary Theory, Prentice-Hall , Englewood, New Jersy, 1973.

مراجع المقالة :


[1] – لوران فلوري، ماكس فيبر، ترجمة: محمود علي مقلد، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2008، ص 11.

[2] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، القاهرة: دار الهاني للطباعة والنشر، 2006. ص115

[3] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، القاهرة: دار الهاني للطباعة والنشر، 2006. ص115

[4] – Max Weber, Basic Concepts in Sociology (New York, The Citadel Press, 1946), p.9. -29

[5] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، القاهرة: دار الهاني للطباعة والنشر، 2006. ص118.

[6] – عبد الكريم الجندي، ماكس فيبر والتفسير الثقافي لمسألة التقدم والتنمية، الحوار المتمن، الحوار المتمدن-العدد: 4972 – 2015 / 11 / 1 – https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=490836

[7] – عبد الكريم الجندي، ماكس فيبر والتفسير الثقافي لمسألة التقدم والتنمية، الحوار المتمن، الحوار المتمدن-العدد: 4972 – 2015 / 11 / 1 – https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=490836

[8] – ماكس فيبر،” الأخلاق البروتيستانتية وروح الرأسمالية” ت: محمد علي مقلد، مراجعة: جورج أبو صالح، نشر مركز الإنماء القومي لبنان، ص:58.

[9] – ماكس فيبر،” الأخلاق البروتيستانتية وروح الرأسمالية” ت: محمد علي مقلد، مراجعة: جورج أبو صالح، نشر مركز الإنماء القومي لبنان، ص:67.

[10] –  لوران فلوري،  ماكس فيبر ، ت: محمود علي مقلد، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2008، ص:12.

[11] –  لوران فلوري،  ماكس فيبر ، ت: محمود علي مقلد، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2008، ص 13 .

[12]  – محرر ، الصراع الفكري بين ماكس فيبر وكارل ماركس ، عربي بوست ، 3/4/2016. http://bitly.ws/zZcm

[13]  –  نقلا : عن براق زكريا ، ماكس فيبر وأخلاق العمل والرأسمالية ، مجلة حكمة ، 21/6/2021. http://bitly.ws/zoxK

[14]  – المحفوظ السملالي ،  أصول النظام الرأسمالي بين ماكس فيبر وكارل ماركس  ، كوة ، 21/ أغسطس 2022 . http://bitly.ws/zZdg

[15] – عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، عالم المعرفة، العدد 44، الكويت، 1981. ص 96.

[16]  – المحفوظ السملالي ،  أصول النظام الرأسمالي بين ماكس فيبر وكارل ماركس  ، كوة ، 21/ أغسطس 2022 . http://bitly.ws/zZdg

[17] – انظر: براين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام، دراسة نقدية لفكر ماكس فيبر، ترجمة أبي بكر باقادر، دار القلم، بيروت، ط1، 1987، ص25.

[18]  – طارق سرحان ، العقلانية في علم الاجتماع، لارابروف ،17 أبريل 2021 . http://bitly.ws/zFyv

[19] – عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، عالم المعرفة، العدد 44، الكويت، 1981. ص 96.

[20] – عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، عالم المعرفة، العدد 44، الكويت، 1981. ص 96.

[21]  – المحفوظ السملالي ،  أصول النظام الرأسمالي بين ماكس فيبر وكارل ماركس  ، كوة ، 21/ أغسطس 2022 . http://bitly.ws/zZdg

[22] –  لوران فلوري،  ماكس فيبر ، ت: محمود علي مقلد، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2008، ص:11.

[23]  – براق زكريا ، ماكس فيبر وأخلاق العمل والرأسمالية ، مجلة حكمة ، 21/6/2021. http://bitly.ws/zoxK

[24]  – نقلا عن براق زكريا ، ماكس فيبر وأخلاق العمل والرأسمالية ، مجلة حكمة ، 21/6/2021. http://bitly.ws/zoxK

[25]  – نقلا عن :  براق زكريا ، ماكس فيبر وأخلاق العمل والرأسمالية ، مجلة حكمة ، 21/6/2021. http://bitly.ws/zoxK

[26]  – المحفوظ السملالي ،  أصول النظام الرأسمالي بين ماكس فيبر وكارل ماركس  ، كوة ، 21/ أغسطس 2022 . http://bitly.ws/zZdg

[27]  – المحفوظ السملالي ،  أصول النظام الرأسمالي بين ماكس فيبر وكارل ماركس  ، كوة ، 21/ أغسطس 2022 . http://bitly.ws/zZdg

[28] – نقلا عن : عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، عالم المعرفة، العدد 44، الكويت، 1981. ص 96.
___________
*علي أسعد وطفةكلية التربية – جامعة الكويت.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات