التـفكـير الـناقـد؛ المهارات الأهمّ لمواجهة الانحراف الاجتماعي
ما صور الانحراف الاجتماعي؟
في خضم الوصول إلى مجتمع متناغم متماسك، تظهر بعض الصور والمظاهر التي لا تنسجم مع العادات والتقاليد المجتمعية الأصيلة.
في الشارع ( قمامة- كسر مصابيح الانارة- قطع الأشجار- العبث بإشارات المرور- ضعف احترام الطابور والنظام- التزاحم الخطر بين السيارات- المشي في وسط الطريق…).
الفرد لذاته ( ارتداء الملابس المخالفة للقيم- قصات الشعر الغريبة- التلفظ بالسيء من الكلام- التباهي بالفواحش- غياب الانتماء اللغوي عبر استخدام كلمات دخيلة- نشر الأفكار الهدامة- الدخان والمخدرات- المخدرات الرقمية- المثلية والشذوذ- السرقات الرقمية والمادية- انتشار الجدل العقيم…).
في المؤسسات ( عدم احترام خصوصية المكان- تخريب مقصود-غياب التعاون- القتل والحرق والتنمر والتهديد والتخويف….).
ما سبق ذكره هي تعبر عن صور للانحراف الاجتماعي والتي تمثل أنماط فعل وسلوك تتنافى مع المعايير الاجتماعية السائدة داخل النسق الاجتماعي في الوطن العربي، والانحراف الاجتماعي بشكل عام هو ظاهرة اجتماعية خطيرة قد تنذر باحتمال ارتكاب المنحرفين “المحترفين” جرائم مخالفة للقانون الجنائيـ واستمرارهم على ذلك السلوك ما لم يتم تدارك الأمر بسرعة، باتخاذ تدابير وقائية وعلاجية مناسبة قبل استفحال الظاهرة المجتمعية، خاصة إن كان السلوك مرتبطًا بالمراهقين أو الأحداث أو صغار السن.
لماذا يحدث ذلك؟
ما كان يحدث سابقًا أن العالم انقسم إلى قسمين وفقاً لنظريات الاقتصاد وعلم الاجتماع (نظريات التحديث والتبعية)، فالدول المسيطرةـ والقوية ماليًا وفكريًا استخدمت الهندسة الاجتماعية البشرية في توجيه الدول الأخرى (التابعة) وقولبتها لكي تكون في دائرة التبعية المستدامة، وعليه فالعديد من دول العالم حاولت الخروج من دائرة التبعية إلى دائرة التحديث بوسائل عدة، وعدم الارتكاز على الدول المسيطرة في شئون الحياة العامة، وبعضها ما زال في دائرة وفكرة التبعية المسيطر عليها فكريًا وماليًا.
ولا يختلف اثنان أن النظام الرأسمالي العالمي يريد لبعض الدول أن تكون في المقدمة، ويريد لأخرى تكون خادمة للدول المتقدمة مستهلكة وتابعة لها، ولأفكارها ومنتوجاتها، حتى تكون بعض الدول المتقدمة في السيادة والصدارة والحاكمة لهذا العالم بمقتنياته، متفردة بكل موارده وهذا بدوره يكون خادمًا للنظام الاشتراكي التي تبحث عنه الدول حفاظاً على المصلحة المشتركة للدولة(أفراد يعملون مع دول فقيرة لخدمة دولة بنظام واحد). وبهذا فإن الانحراف الاجتماعي هو وليد النظام الرأسمالي العالمي، الذي فرض اللاعدالة الاجتماعية وعزز الطبقية.
ما مقومات الانحراف؟
وقبل انتشار التقنيات الرقمية وخوض الغمار في عالم رقمي مليئ بالتطبيقات والوسائل والأدوات الميسرة للتواصل والرقمنة في العالم، كانت وسائل الدول والمؤسسات المستعمرة تختلف عنها اليوم في هندسة الفكر ونشر ما يريدون من أفكار ومتشابهات ومغلوطات وملوثات فكرية وثقافية.
فاستخدموا (عملاء التأثير) وكان لهم الدور الكبير في تغيير الرأي العام في قضايا متعددة تهدد بالأمن المجتمعي وتحقق أهدافًا خاصة بهم، كذلك تم استغلال وسائل الإعلام المختلفة في تحقيق ذلك.
ومع بزوغ عصر الثورة الصناعية الخامسة والانتشار الكبير للتطبيقات والذكاء الاصطناعي في العالم، وفي الوقت الذي أصبح استخدام التكنولوجيا ضرورة؛ لكي تسير شئون الحياة اليومية بات الأمر أسهل للغزاة والهدامين، وأصحاب الفكر المنخرف في العالم لتحقيق أهدافهم، ومن المنطق والطبيعي بأنه من المستحيل إبعاد الأجيال عن التكنولوجيا واستخدام تطبيقاتها المختلفة، لئلا نحرم أنفسنا من مميزاتها، وبذلك نبتعد عن دوائر التطور والرقي والتقدم وننزوي مبكرًا.
لهذا فإن التعامل مع التكنولوجيا أمر مهم جداً فهي تحقق فوائد جمة للفرد والمجتمع، والمؤسف أن هناك انحرافات سلوكية وملوثات ثقافية أيضاً ظهرت في استخدام الفرد للعالم الرقمي كالسرقات العلمية والسب والشتم وغياب الحوار الرقمي وغيرها…
ما الحل؟
ولأن العقل البشري لا يقبل بالفراغ فإنه إن لم يملأ بالأفكار الايجابية سيملأ بالأفكــار السلبية، فالعناية بالعقــل هي الأهم وتوجيهه وإدارته هي الوسيلـة المثـلى لمواجهة كل التحديات السابقة، وعليه نجد في التفكير الناقد كمهارة مدخلاً مهماً جداً في مواجهة تحديات العصر الحالي وبناء إنسان صالح لنفسه ومجتمعه.
والتفكير الناقد يعمل على تمتين العقل لمواجهة الانحرافات السلوكية، ومواجهة كل الجوانب التي تعترض أمن الفرد والمجتمع، وذلك من خلال التفريق بين الأفكار العاطفية والأفكار المنطقية، مع الانفتاح على الأفكار الجديدة والتأكد من المعلومات والأفكار وسلامتهما له ولمحيطه، كما أن مهارات التفكير الناقد المختلفة(تقويم الحجج- الاستنتاج- الاستقراء- التفسير وغيرها) تسهم في التأمين الفكري والثقافي للفرد، وتعالج الجانب العقلي في مواجهة التيارات الفكرية والثقافية التي تموج بالفرد، وبذلك تقيه من الانحرافات المجتمعية، وإن المفكر الناقد تتسم خصائصه في تمحيص المعلومات ومحاكمتها منطقيًا من أجل الوصول إلى الحقيقة، كما أنه يتجنب الأخبار الشائعة ويبعد عن الأحكام الذاتية في جوانب الحياة، وهو قادر على التفريق بين العاطفة والمنطق، فهو لا يميل نحو المسايرة أو المجاراة للسلوكيات أو المعارف أو الأخبار المنتشرة بل يمتلك الرغبة في تفحص المعتقدات والمسلمات والآراء.
كيف يمكن تنمية مهارات التفكير الناقد؟
إن مهارات التفكير الناقد من أهم المهارات التي يحتاجها العقل البشري منذ الطفولة لبناء شخصية قوية، لهذا فجميع المؤسسات التربوية مطالبة بتنميتها وتعزيزها وتدعيمها، حتى يصبح التفكير الناقد عادة من عادات العقل، وطريقة اعتيادية في التفكير وهذا يأتي من خلال الاستراتيجيات الموجهة المستقلة المباشرة، كذلك بتضمينها عبر البرامج التربوية والمدخلات التربوية والتعليمية كالمنهاج المدرسي، ومصادر التعلم المتنوعة. وإن الحرية في التعبير لدى الفرد تعد انطلاقة توجيه التفكير الناقد مع البعد عن التسلطي في التربية، لأن الفرد يجب أن يصرح بآرائه ومعتقداته وأفكاره واستقرائه للأحداث الحياتية، وبذلك ينبذ الفرد ويلفظ كل الأفكار الواردة إليه بقالبها الجاهز، ويرفض النقل للأفكار وإعادتها من فرد لفرد بسلبياتها وأهدافها المنحرفة إن كانت. كما أن الدلال الزائد أو الرعاية الزائدة لها نفس المردود السلبي في التفكير حيث تؤهله لتقبل الأفكار الجاهزة دون الاعتراض أو الاختلاف. ولا شك أن الأسلوب القصصي وتقييم المشاهد، والألغاز والألعاب المفيدة لتنمية مهارات التفكير الناقد، كذلك مناقشة الحوارات الرقمية، والمشاهد الرقمية وتقييمها والوصول إلى حلول مشتركة مع الأبناء، كذلك استخدام الأسئلة بأنواعها وأهمها الأسئلة السابرة ذات أهمية في تعزيز التفكير الناقد.
ختامًا/ إن تحصين العقل البشري وتأمينه يحتاج إلى جانبين أولهما تعزيز الجانب الروحي بنشر تعاليم ديننا الإسلامي، وثانيًا: تعزيز الجانب العقلي، والذي يتم من خلال تنمية مهارات التفكير والتي أهمها مهارات التفكير الناقد.
_________
*د. منير حسن شقوره.
*المصدر: التنويري.