تأمُّلات في الأصول الاجتماعيَّة للتربية الأخلاقيَّة
شيئان يملآن نفسي إعجابا واحتراما: السماء المزدانة بالنجوم فوقي والقانون الأخلاقي في أعماقي”
(عمانويل كانط)
مقدِّمة
يشكِّل النموّ المتصاعد لوتائر العنف والعدوانيَّة والتعصُّب والفساد الأخلاقي والنزعات الأنويَّة المضادَّة للمجتمع مقدّمة منهجيَّة للبحث في مسألة التربية الأخلاقيَّة. فالأخلاق تتعرَّض لصيرورة التغيُّر وقدر التبدّل في دائرتي الزمان والمكان، وانطلاقا من هذه المعادلة، أي معادلة الصيرورة التاريخيَّة للقيم الأخلاقيَّة، تبرز الأهميَّة المنهجيَّة والضرورة العلميَّة لدراسة منظومات القيم ووظائفها بصورة مستمرَّة في ضوء التغيُّرات والطفرات التي يشهدها العصر، وتأخذ هذه الضرورة أهمّيتها القصوى في المرحلة التي تفقد فيها هذه القيم قدرتها على أداء دورها وممارسة وظيفتها الأخلاقيَّة، أي في اللحظات التي يجد فيها المجتمع نفسه في حالة ضياع أخلاقي فاقدا القدرة على توجيه أفعاله في المسارات الأخلاقيَّة الصحيحة. وهي حالة الضياع التي يطلق عليها دوركهايم مفهوم “الأنومي” Anomie الذي يرمز إلى حالة من الفوضى والتصدُّع الأخلاقي والانهيار المعياري في المجتمع. وهنا أي في هذه اللحظة -لحظة الضياع – التي يفقد فيها الإنسان القدرة على توجيه سلوكه وتحديد غاياته الأخلاقيَّة، تولد الضرورة العلميَّة للبحث في تجليات القيم وفي دلالاتها الوظيفيَّة، كما تولد الحاجة إلى الكشف عن العوامل والمتغيّرات المؤثِّرة في أداء المنظومة القيميَّة الأخلاقيَّة. لقد بات واضحا اليوم أن التفكير بالتربية الأخلاقيَّة يطرح نفسه اليوم في مواجهة مختلف الآفات الثقافيَّة التي تتعلق بالعنف والتعصُّب والعدوانيَّة والكراهيَّة والأنويَّة والذاتانيَّة المفرضة التي تفرض نفسها قيما ثقافيَّة تفرض نفسها في المجتمع كما في المؤسَّسات التربويَّة المعاصرة.
لقد أصبح الدور الذي تؤدِّيه التربية في بناء المنظومة الأخلاقيَّة في المجتمع قضيَّة فكريَّة مركزيَّة تطرح نفسها بقوة وإلحاح في مجال الحياة التربويَّة. ومع ذلك فإن الدراسات الجارية في ميدان هذه الظاهرة ما تزال تتَّصف بندرتها، وما زالت تتلمَّس طريقها وترسم خطواتها الأولى . وكان لدوركهايم قصب السبق في هذا الميدان ، حيث بقيت أعماله اليتيمة حول التربية الأخلاقيَّة منارة علميَّة يهتدي الباحثون بها في تناولهم لهذه المسألة الحيويَّة من حيث طبيعة التربية الأخلاقيَّة ووظيفتها.
الطابع الاجتماعي للأخلاق عند دوركهايم .
ينطلق دوركهايم في كتابه التربية الأخلاقيَّة (L’éducation morale) من مبدأ الحتميَّة الاجتماعيَّة للأخلاق، فالأخلاق تصدر عن المجتمع والأحكام الأخلاقيَّة بالتالي لا يمكنها أن تكون إلا أحكاما اجتماعيَّة في بنيتها وجوهرها ومصدرها ووظيفتها. وهذا يعني أن القيم الأخلاقيَّة ليست قبْليَّة أوليَّة خارجة عن المجتمع ومتعالية عليه بل هي ترجمة لمتطلّبات الواقع وتجسيد لمقتضياته الإنسانيَّة. ومن هذا المنطلق فإن الحكم الأخلاقي لا يحمل في طيَّاته أيَّة قيمة ذاتيَّة أو مثاليَّة، وإنما يستمدّ جوهره القيمي من الواقع ومتطلّبات الحياة الاجتماعيَّة، فالقيمة الأخلاقيَّة قيمة اجتماعيَّة في جوهرها وبنيتها ومصدرها ووظيفتها. وقد أسَّست رؤية دوركهايم للأخلاق كقيمة اجتماعيَّة منطلقا للنظريات الأخلاقيَّة في كثير من التيارات الفكريَّة التي أكَّدت على مبدأ النسبيَّة الأخلاقيَّة من منطلق الطابع الاجتماعي للنسق الأخلاقي، وهذا ما تذهب إليه الفلسفة الوجوديَّة التي دأبت على تأكيد فكرة “أخلاق الوضع الراهن” رفضا لأي مرجعيَّة مثاليَّة للأخلاق، لأنّ الأخلاق في هذا المنظور تعدّ نتاجا طبيعيا حتميا لما يفرضه الواقع المعاش من تداعيات ومواقف وصيرورات إنسانيَّة (DURKHEIM,1992) .
لقد أعاد دوركهايم ما هو أخلاقي إلى ما هو اجتماعي، وأكَّد في مختلف تجلّيات نظريته الاجتماعيَّة بأن الأخلاق ما هي إلا انعكاس طبيعي للحياة الاجتماعيَّة، ولا يمكنها بالتالي أن تكون إلا تجلياً من تجلياتها الإنسانيَّة. والأخلاق وفقا لهذا التصوّر لا تقوم على مبدأ التعالي المثالي الذي نجده عند افلاطون وهيغل وكانط، بل تقوم على المبدأ الواقعي الذي يرتبط بالحياة الاجتماعيَّة في إطار الزمان والمكان بما ينطويان عليه من ظروف وتحدّيات اجتماعيَّة وإنسانيَّة. وهذا يعني بالضرورة أنّ الأخلاق ليست مطلقة بل نسبيَّة قائمة على التفاعل الحيوي الذي يستلهم مختلف المتغيرات الديناميَّة لبناء الحياة الأخلاقيَّة وفقا للضرورة الاجتماعيَّة ومقتضيات التطوّر الإنساني.
فالخير محكوم بصورته الاجتماعيَّة لأن المجتمع هو الذي يصنع الأوامر الخلقيَّة، وهذا يعني بأن الإلزام الخلقي ليس إلزاما ذاتياً فطريا مطلقا، إنه صورة لإلزام اجتماعي، فالقتل أيام السلم أمر شائن غير مشروع يرفضه المجتمع ويستهجنه ويعاقب عليه، أما القتل في أيام الحرب فهو أمر مشروع ومبرَّر ومستحب وقد يضع ممارسيه في منازل الأبطال ومقامات القديسين، وهذا يعني كله أن الأحكام الأخلاقيَّة تخضع لديناميات اجتماعيَّة بالغة التعقيد (DURKHEIM,1992).
التربية الأخلاقيَّة:
تناول دوركهايم القضايا والإشكاليَّات التي تطرحها النظريات التربويَّة المعاصرة، وشكَّلت هذه القضايا موضوعا مركزيا في نظريته وأعماله السوسيولوجيَّة، ويعدّ دوركهايم بحقّ من أكثر المفكّرين الذين تناولوا هذه القضيَّة عمقا وأصالة وعبقريَّة. وما تزال نظريته وأفكاره تشكِّل مرجعيَّة فكريَّة ومنطلقا مركزيا في كل تناول فكري وبيداغوجي لهذه المسألة الأخلاقيَّة الشائكة المعقَّدة.
دأب إميل دوركهايم على دراسة المجتمعات الإنسانيَّة في سياق تطوّرها التاريخي، وذلك دون أن ينطلق من تصورات أيديولوجيَّة مسبقة، كما هو الحال عند غيره من المفكّرين والفلاسفة. وبوصفه عالم اجتماع، استطاع دوركهايم في بدايَّة حياته المهنيَّة أن يكتشف القوانين التي تحكم تطوّر المجتمعات الإنسانيَّة، واستخدم في تحقيق ذلك الأمر مناهج المقارنة والمناظرة والملاحظة والتحقيق بين مختلف المجتمعات الإنسانيَّة في مختلف المراحل التاريخيَّة (DURKHEIM,1992).
ومع أهميَّة الاكتشافات التي قدَّمها في مجال التطوّر الاجتماعي، فإنه لم يزعم أبدا بأنه اكتشف قوانين كونيَّة لها طابع تاريخي، كما فعل أوغست كونت أحد كبار المؤسِّسين لعلم الاجتماع وغيره من المفكّرين. لقد أبان دوركهايم بأن تطوّر المجتمعات الإنسانيَّة يأخذ مسارا محدّدا تحكمه قوانين تاريخيَّة اجتماعيَّة، وهو في سياق هذه الرؤية كان يبحث عن عوامل التطوّر الاجتماعي ومتغيّراته لبناء نظريّته الاجتماعيَّة وتحقيق تكاملها .
واستطاع دوركهايم، في مضمار أبحاثه وتقصّياته السوسيولوجيَّة، أن يكتشف نمطين أساسيين من أنماط التضامن الاجتماعي: التضامن العضوي، والتضامن الآلي. وبيَّن في هذا الخصوص أن الروابط الاجتماعيَّة في النموذج الآلي تعتمد مبدأ التجانس بين الأفراد الذين يرتبطون بمجتمعاتهم على نحو مباشر دون توسّط، وذلك لأن شخصياتهم الفرديَّة قد تعرَّضت للذوبان الكلِّي في شخصيَّة الجماعة أو المجتمع الذي يعيشون فيه. ويلاحظ دوركهايم في هذا السياق أن الطابع الجمعي القطيعي يميِّز البنيَّة الاجتماعيَّة لهذه المجتمعات: فهي تكوينات اجتماعيَّة مؤلَّفة غالبا من عشائر، أي وحدات اجتماعيَّة عائليَّة التكوين متشابهة، حيث لا يكون هناك أي تمايز واضح أو كبير في وظائفها وفعالياتها , فالوعي الجمعي يأخذ صورة روح الجماعة التي تجمع أفراد الجماعة وهذا الوعي يتماثل بصورة كبيرة مع الوعي الفردي إلى درجة التماهي والتذويب. وهنا يمكن القول بأن التضامن الآلي يتميَّز ببساطته وينجم عن الحياة المشتركة للأفراد في إطار الجماعة التي ينتسبون إليها.
أمَّا التضامن العضوي، فهو نوع من التضامن الاجتماعي الذي يقوم على التمايز والتكامل الوظيفي بين الأفراد والمجتمعات الإنسانيَّة، فالمجتمعات الحديثة تقوم على مبدأ التضامن العضوي، وسمات هذا التضامن تتمثَّل في حضور النزعة الفرديَّة والتنوُّع والاختلاف والتباين والتكامل في الوظائف والأدوار، وهذه سمات مختلفة تماما عن هذه التي يمليها التضامن الآلي في المجتمعات البدائيَّة والتقليديَّة القديمة.
وفي مسار تطوُّر المجتمع الإنساني، يتناول دوركهايم عمليَّة انتقال المجتمعات الإنسانيَّة من صيغة التضامن الآلي إلى صيغة التضامن العضوي، أي من المجتمعات التقليديَّة القديمة إلى المجتمعات الحديثة، وفي سياق هذا التناول يستكشف طبيعة التغاير والتنوُّع الذي يسم المجتمعات الإنسانيَّة تاريخيا وثقافيا. ووفقا لهذه المنهجيَّة، لم يتحدَّث دوركهايم عن أخلاق نموذجيَّة مثاليَّة في مجال تصوّره عن العائلة والوحدات الاجتماعيَّة، بل تحدَّث عن المنظومات الأخلاقيَّة الاجتماعيَّة التي تتشكَّل في الوسط الاجتماعي وبوصفها واقعا تفرضه المتطلّبات الاجتماعيَّة المتبادلة بين الأفراد في داخل الجماعات المعنيَّة. وهذا يعني أن الأخلاق تتجلَّى في مختلف صيغ التضامن بين الأفراد في أحضان الجماعة. فكل شكل من أشكال التضامن يقوم على أساس أخلاقي خاص به، فأخلاق التضامن الأسري هنا تختلف بالضرورة عن هذه التي تسود في المؤسَّسة المدرسيَّة أو غيرها من مؤسَّسات المجتمع الحديث(DURKHEIM,1992).
فالأسرة النوويَّة، التي كانت سائدة في عهد دوركهايم، تمثِّل العائلة النموذجيَّة للمجتمعات الحديثة، وذلك على خلاف المجتمعات القديمة حيث كانت العائلة الممتدَّة هي التي تفرض حضورها، وهي عائلة تتكوّن في الغالب من عدَّة أجيال تعيش في منزل واحد وتحت إدارة واحدة. وعلى خلاف ذلك فإن الأسرة النوويَّة الحديثة تتكوَّن من أب وأم وأطفالهما فحسب، وتقوم بوظيفة تربيَّة الأطفال حتى اللحظة التي يستطيعون فيها الاعتماد على أنفسهم ماديا، أي اللحظة التي يغادرون فيها الأسرة للزواج والعمل. وفي هذا النوع من الأسر يقوم الأبوان بإدارة الأسرة والإشراف عليها، ويساعدان كل فرد في الأسرة على تملك خصوصيته وفرديته، وهذا بدوره يمكّن كل فرد في الأسرة من الشعور بذاتيته وفرديته في أحضان المجتمع المدني الذي يعيش فيه.
وفي دورة التطوُّر الاجتماعي تبدأ الدولة بممارسة تأثيرها الكبير في العائلة. فالدولة تقوم بعمليَّة التنظيم الاجتماعي، ويتنامى دروها باستمرار تحت تأثير التقسيم المتزايد للعمل. وعلى هذا النحو فإنَّ تدخُّل الدولة يزيد من وتائر تنامي فرديَّة المواطنين وأعضاء المجتمع، ومع تنامي فرديَّة أعضاء الأسرة فإن الوظيفة الأخلاقيَّة للعائلة تتقلَّص في مجال العمل والإنتاج، وهذا يعني أنها لم تعد تمارس مسؤوليتها الأخلاقيَّة التقليديَّة في قطاع العمل والإنتاج، كما كان هو الحال في الأسرة الريفيَّة الزراعيَّة، إذ كانت الأسرة بمثابة الراعي الأخلاقي لأفرادها في ميدان العمل والإنتاج الزراعي، كما في مختلف مجالات الحياة. فالعمل في المجتمع الحديث يحمل دلالات تتجاوز من حيث أهميتها المصالح الخاصَّة للأفراد، وهذا الأمر ينسحب على مختلف المؤسَّسات الاجتماعيَّة الكبرى التي بدأت تُعنى بأوضاع العمال والموظفين، وتتولَّى بالتالي مهمّتها الأخلاقيَّة في توجيه حياة أعضائها وتحديد مساراتهم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة. ومع تنامي النزعة الفرديَّة في المجتمعات المدنيَّة، تفقد العائلة جزءا كبيرا من مهمّتها التربويَّة ووظيفتها الأخلاقيَّة، فالعائلة التي رصدها دوركهايم في عصره، كانت تقوم على نسق من العلاقات الشخصيَّة، التي تتجلَّى في الروح الأخلاقيَّة الوجدانيَّة للعائلة نفسها.
ومع تعدُّد المؤسَّسات الاجتماعيَّة وزيادة التخصُّص وتقسيم العمل فإنَّ وظائف العائلة تتقلَّص وتبدأ الأسرة نفسها بالتقلُّص والانكماش، لأنها لم تعدّ المؤسَّسة الوحيدة للتنشئة الاجتماعيَّة. ففي الأسرة الحديثة النوويَّة يستطيع كل فرد فيها أن يمارس نشاطاته الخاصَّة ووظائفه المتباينة عن الآخرين، وذلك على خلاف العائلة الممتدَّة حيث يكون الأب هو الوحيد الذي يملك ويقرِّر؛ وقد يبدو في هذا السياق أن العائلة بدأت تفقد ضرورتها الأخلاقيَّة التي أكَّدها كوندورسيه وهيغل حيث كانا يركزان على الأهميَّة الكبرى للعلاقات الطبيعيَّة والأخلاقيَّة التي توجد بين الآباء والأبناء.
كشف دوركهايم عن حقيقة هامَّة تتمثَّل بالطابع الأيديولوجي للتربية، فالتربية معنيَّة بالمحافظة على وجود المجتمع واستمراره، كما هي معنيَّة بتمكين الأطفال من العيش المشترك في أحضان المجتمع، ووفقا لهذه الوظيفة، فإن التربية تقوم بالتركيز على القيم الاجتماعيَّة في عناوينها الأوسع والأشمل. وهذا يعني أن التربية أصبحت معنيَّة بتحقيق الحدّ الأدنى من الأفكار والتصوّرات المشتركة التي يجب أن توجد بين المواطنين من أجل تحقيق التضامن الاجتماعي فيما بينهم، وهذا التجانس في بنية الأفكار والتصوّرات ضروري من أجل الحياة الاجتماعيَّة. ولأن الدولة تمثّل المجتمع وتوجّه مسيرته فإنَّ تدخّلها في تحديد التوجهات التربويَّة للمجتمع يأخذ مشروعيته الاجتماعيَّة والسياسيَّة، ويكون هذا التدخُّل أيضا ضروريا دون أن يترافق ذلك بإكراهات وضغوط كبيرة إزاء الأسرة نفسها. وفي سياق هذه التوجهات المجتمعيَّة تعمل الدولة على تحديد السمات العامَّة والضروريَّة للشخصيَّة الاجتماعيَّة، كما هي معنيَّة أيضا بتوجيه العمليَّة التربويَّة في المدرسة وفي المؤسَّسات التربويَّة على نحو اجتماعي. وفي سياق هذه الرؤية يتوجَّب على المربين تحديد النماذج التربويَّة الاجتماعي المطلوبة ورسم مسارها.
فالدولة – كما يرى دوركهايم – تعهد إلى المدرسة بنقل المعارف والمعلومات إلى الأجيال المتعاقبة وتنشئتهم على مبدأ المواطنة. وهذا يعني أن العائلة لم تعد المؤسَّسة التي تنفرد بالعمليَّة التربويَّة، ومع ذلك يبقى للعائلة مجالها التربوي الذي يتميَّز بالخصوصيَّة والأهميَّة. وتبقى العائلة في نظر دوركهايم مؤسَّسة تربويَّة تقوم بعمليَّة التنشئة الاجتماعيَّة، وتمتلك قدرتها الكبيرة على أداء هذا الدور، ولكن وظيفتها تتقلَّص فيما يتعلَّق بالحياة الاجتماعيَّة الأكثر شمولا واتِّساعا. فالنظام المدرسي وعلى خلاف العائلة يستجيب للحاجات الاجتماعيَّة العامَّة، إذ يمكن للمدرسة أن تتجاوب مع وضعيات جديدة تمكّن المجتمع من تطوير متجدِّد لعمليَّة النهوض الاجتماعي والتربوي.
ركز دوركهايم في نقده لمفكِّري النهضة وروّادها على الجانب الأخلاقي في مشروعاتهم التربويَّة والتنويريَّة. وهو في سياق نقده هذا يتناول تصوّراتهم الشموليَّة والأهميَّة التي يعطونها للمعرفة، كما يعالج تصورهم للطفولة والإنسان والأهميَّة التي يعطونها أيضا للفعل الإنساني. فعلى سبيل المثال يؤسِّس رابليه نظريته الشموليَّة على مفهوم القدرة الإنسانيَّة المطلقة التي لا يمكن أن تقهر أو تتراجع بتأثير أي ضغط أو إكراه، وهو في رؤيته هذه يعطي العلوم والآداب مكان الصدارة في منظومته الفكريَّة. ووفقا لهذا التصوّر فإنَّه يتوجَّب العمل على تطوير الإمكانيات الإنسانيَّة الروحيَّة والجسديَّة إلى أعلى درجة ممكنة من الكمال الإنساني (DURKHEIM, 1990: 211-217).
فالطفل كما يراه دوركهايم كائن يمكن تشكيله إنسانيا وتربويا، وذلك لأنه في حالة صيرورة مستمرَّة من التطوّر والنمو الفيزيائي والذهني والوجداني. فالطفل يعرف بحالة نماء مستمرَّة، وهذه الحالة لا تكون ممكنة إلا بوضعيتين متكاملين وظيفيا وعضويا لتحقيق ازدهار الطفل وتكامله: إذ يشكِّل ضعف الطفل وعجزه الكلي الوضعيَّة الأولى، في حين تشكل ديناميته وقابليته للتغير الوضعيَّة الثانيَّة، وفي التفاعل ما بين الإحساس بالضعف والقدرة على النمو يمكن للتربيَّة أن تحقِّق مآلها في تنمية الطفل وتطوير ملكاته الإنسانيَّة. وتقتضي هذه الوضعيَّة الثنائيَّة من المربي أن يعمل على توظيف ديناميَّة الطفل ونزعته إلى النمو والتطوُّر في عمليَّة تربيته وتنشئته.
وفي هذا السياق ، يؤكِّد دوركهايم على الطبيعة المزدوجة للإنسان، فالإنسان كما يراه كائن اجتماعي وفردي في آن واحد، ويرى أن الطفل يمتلك جانبا مضادّا للمجتمع أو جانبا غير اجتماعي وهو الجانب الفردي البيولوجي. وهذا هو الجانب الذي يتوجَّب على التربية أن تصقله وتعطيه صورته الاجتماعيَّة، ويتمّ هذا الأمر عبر عمليَّة إخضاع الطفل للنظام الاجتماعي القائم. وهنا تبرز أهميَّة التشكيل الأخلاقي للطفل الذي يتطلَّب ثلاثة عناصر أساسيَّة بنويَّة هي: روح النظام، والنزعة الاجتماعيَّة، والذكاء الأخلاقي(دوركهايم، 1991).
فالطفل يجد نفسه بداية في أحضان جماعتين اساسيتين: العائلة من جهة وجماعة الرفاق أو الأقران من جهة أخرى. أما المدرسة فهي مجتمع مصغَّر يتجانس مع صورة المجتمع الأكثر اتِّساعا ورحابة، فالمدرسة تجمع الأطفال وتدمجهم بناء على معايير اجتماعيَّة محدَّدة مثل العمر والجنس والمركز والقدرة، وفي معترك الحياة المدرسيَّة تغيب علاقات القرابة والعلاقات العائليَّة التي ترتسم وفق معايير وجدانيَّة وعاطفيَّة خاصة.
فالمدرسة تشكل وسطا أخلاقيا جديدا يعلم الطفل أن يسلك على نحو مختلف لما اعتاده في العائلة، فالطفل يتعلم أنماطا سلوكيَّة معياريَّة جديدة تساعده على التكيُّف مع أفراد غرباء ليسوا من العائلة، وهنا وفي ظل هذه العلاقات الجديدة يتوجب عليه أن يتعلم معنى الغيريَّة والتضحيَّة والإيثار والاعتماد على الذات، كما يتوجب عليه أن يخرج من دائرته الذاتيَّة وأن يتجاوز نزعته الأنانيَّة الفرديَّة ليستطيع الاندماج والتفاعل مع الآخرين ويتفاعل معهم في وسطه المدرسي. فالمدرسة هنا تلعب دورا وسيطا بين الأسرة والمجتمع المدني وتمكن الطفل من أن يتذوَّق طعم الحياة الاجتماعيَّة في كنف المؤسَّسات التربويَّة.
فالذكاء الأخلاقي يتطلَّب من الفرد وعيا بمعايير السلوك الاجتماعي وموجهاته وضروراته، والطفل في المدرسة يتعلم القوانين والقواعد الأخلاقيَّة التي تسود في الوسط المدرسي وتهيمن، فالوعي الأخلاقي يجب أن يتشكَّل عبر عمليَّة التثقيف والممارسة والمعرفة، ولاسيما هذه التي يبثها علم التاريخ والعلوم الطبيعيَّة تحديدا. فالعلوم هي التي تمكّننا من فهم الحقائق الفيزيائيَّة والطبيعيَّة القائمة في العالم، وبالتالي فإن هذا التعليم يمهد للطفل القدرة على فهم الحقائق الاجتماعيَّة فيتمكَّن من إدراك نفسه في سياق العلاقة التي تشدّه إلى الوسط الاجتماعي الذي ينتسب إليه.
وفي مقاربته لدور المعلمين التربوي، يرى دوركهايم أن وظيفة المدرسة رهن بالفعاليَّة التربويَّة للمعلمين الذي يشكلون سدنة التعليم المدرسي وكهنته، وهم مطالبون بممارسة التفكير التربوي إلى جانب فعاليتهم التعليميَّة التطبيقيَّة، لأن التفكير سيكون ضروريا من أجل أنجاز مهمّتهم التربويَّة الأخلاقيَّة على أفضل وجه. والمعلمون -وفقا لدوركهايم -مطالبون أن يبرهنوا على قدرتهم البيداغوجيَّة وكفائتهم التربويَّة في مواجهة المتغيّرات والمستجدّات والتحدّيات الاجتماعيَّة الجديدة بمرونة وفاعليَّة. كما يترتَّب عليهم تزويد الأطفال بمشاعر الانتماء إلى الوطن وتطبيعهم على تمثُّل القيم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة بطريقة تمكن من تشكيل وعي الطفل تشكيلا إنسانيا ووطنيا.
غائيَّة النظام التربوي:
لكل نظام تربوي -كما يرى دوركهايم -غاياته وأهدافه الخاصَّة به، وكل نظام يؤسِّس لصورة الإنسان النموذج الذي يسعى إلى تربيته وبنائه. وفي دائرة هذا النموذج نجد صورة الشخصيَّة الأخلاقيَّة التي يعمل النظام التربوي على ترسيخها، والشخصيَّة الأخلاقيَّة هنا تعبير عن تراكمات قيميَّة وأخلاقيَّة جمعيَّة يعمل كل جيل على تأصيلها في الجيل الذي يليه عبر الأسرة والتربية والمدرسة والمؤسَّسات التربويَّة. وممَّا لا شكّ فيه أن المدرسة ترسِّخ نظاما أخلاقيا يتناغم مع النظام الاجتماعي القائم ويتوافق مع متطلّبات كل مرحلة من مراحل تطوّر المجتمع أخلاقيا وإنسانيا.
فالمجتمع يعمل، عبر مؤسَّساته التربويَّة، على ضمان وجوده واستمراره وإعادة إنتاج تكويناته الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة. والتربية بالتالي تهدف إلى تأهيل الأجيال الجديدة وتنشئتها وفق المعايير الأخلاقيَّة الخاصَّة بالمجتمع في مرحلة محددة من مراحل تطوّره. وهنا نجد أن دوركهايم -على خلاف هيغل -يركِّز على الأهميَّة الكبيرة للمدرسة في مجال التربية الأخلاقيَّة.
يرى دوركهايم أن المدرسة مؤسَّسة اجتماعيَّة يكمن هدفها الرئيس في التنشئة الاجتماعيَّة، وهي ، في نهاية الأمر، لا تكون، ولا يمكنها أن تكون، إلا نتاجا للواقع الاجتماعي بكل ما يتضمّنه هذا الواقع من معطيات وفعاليات وإمكانيات. ومع الأهميَّة الكبيرة للواقع الاجتماعي، وتأثيره الكبير في تكوين المدرسة وتحديد وظائفها، فإن محدّدات الواقع الاجتماعي ليست كليَّة أو مطلقة، إذ تحتفظ المدرسة بهامش محدود من الحريَّة والاستقلال الذاتي. فالمدرسة تلعب دورا أساسيا في عمليَّة التطور التاريخي لمجتمع ما (في دائرة الظروف المجتمعيَّة التي يفرضها المجتمع نفسه) وهي في الوقت نفسه تشكِّل مسرحا للصراع الأيديولوجي الذي قد يكون فعّالا أو محدود الفعاليَّة وفقا للسياق التاريخي للعلاقة بين المدرسة والمجتمع.
وفي الوقت الذي كان فيه دوركهايم يحاضر حول التطوّر التربوي في فرنسا، في الفترة ما بين عام 1905 حتى بداية الحرب العالميَّة الأولى عام 1914، قام بصقل رؤيته للعلاقة بين الفرد والمجتمع في سياق تقصّيه الأبعاد الأيديولوجيَّة الأخلاقيَّة للحياة الاجتماعيَّة في مسار تنوّعاتها التاريخيَّة. وفي هذا السياق قام بتحليل ودراسة أزمة المدرسة وتوجّهاتها وفق منهج سوسيولوجي تاريخي يتميَّز بعمقه وشموله وفعاليته، وقد دعا الباحثين والمربين عبر دراسته هذه إلى تحليل المدرسة والاستفادة من تاريخها التربوي ، لأن المدرسة ليست في نهاية الأمر غير نتاج تارخي لأنساق مترابطة متكاملة من الظروف الاجتماعيَّة التاريخيَّة. لقد رسَّخ في عقل دوركهايم أن المدرسة مؤسَّسة تندرج في دائرة المجتمع وتتأصَّل في بنيته، كما يراها مؤسَّسة منتجة للقيم وتمتلك القدرة على توجيهه وتصحيح مسار الحياة الجمعيَّة فيه.
مرتكزات التربية الأخلاقيَّة:
يرى دوركهايم أنَّ التربية الأخلاقيَّة هي المهمَّة الأساسيَّة والمركزيَّة للمدرسة. فالتربية الأخلاقيَّة هي التي تولد الأفكار والمشاعر وتؤسِّس للعقل الأخلاقي ، كما أنها تعمل على توجيه السلوك وتنظيمه عبر نظام من القواعد العمليَّة. وببساطة يمكن القول بأن الأخلاق تمثل الوعي الجمعي، وتعبر عن المشترك الذي يحظى بقبول الجماعة أو رفضها في المستوى القيمي والعملي. وهذا لا يعني أبدا أنها نظام متراكم من العادات الاجتماعيَّة أو التقاليد، بل هي نظام من الأوامر والنواهي والتفضيلات والقيم والمعايير التي تتكامل في نسقها الأخلاقي. فالأوامر والنواهي الاجتماعيَّة تأخذ صورة معايير وقيم تمتلك سطوتها في مجال السلوك الإنساني، ولاسيما في مجال التفكير والعمل، وهي تعمل وفق مبدأ الخير والاحترام والتقدير، لأنها نتاج متكامل للخبرة الإنسانيَّة الاجتماعيَّة. ومن هنا يجب على الفرد أن يتعلَّم الأعراف والقيم الأخلاقيَّة في مرحلة الطفولة الثانية أي في مرحلة دخوله إلى المدرسة الابتدائيَّة حيث يبدأ باكتساب بعض القيم الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة.
وفي سياق تناوله للتربية الأخلاقيَّة يحدِّد دوركهايم ثلاثة أهداف أساسيَّة للتربيَّة الأخلاقيَّة : بناء روح النظام ، والإلتزام الاجتماعي ، وتكوين الذكاء الأخلاقي (DURKHEIM,1992) .
1- روح النظام L’esprit de discipline
تتمثَّل القاعدة الأخلاقيَّة الأولى عند دوركهايم في بناء روح النظام واحترام السلطة. ومن هذه الزاوية يعتقد بأن بناء روح النظام الاجتماعي يحقِّق حالة التوازن البنيوي في مكوِّنات الشخصيَّة بما تفتضيه من اعتدال المزاج واستقرار الرغبات السيطرة على الذات. والنظام بوصفه نتاجا للحضارة لا يمكنه أن يكون قائما في التكوين الفطري للطفل أو في وعيه الأوَّلي: بل يجب على المجتمع أن يعمل على تكوين روح النظام وفرضها في وجدان الطفل وعقله.
يعلن دوركهايم في هذا السياق أنَّ المربّي يمتلك قدرات هائلة للتأثير في الطفل، ويعلن أيضا خشيته من المبالغة في استخدام هذه الإمكانيات إلى درجة أنه يعترض على سوء استخدامها أو الإفراط في توظيفها. ومن أجل تجنب مختلف الآثار السلبيَّة الممكنة للإفراط أو التفريط بالسلطة ينادي بتعدُّد المعلمين والمربين الذين يقومون بتربية الطفل وتعليمه، لأن خضوع الطفل لمعلِّم واحد، في فترة زمنيَّة طويلة، قد يكون كارثيا في المستوى الأخلاقي، وهذا يعني أن تعدُّد المعلمين وتواترهم يضمن الاعتدال والتوازن في استخدام النفوذ والتأثير الذي يمارسه المعلّمون والمربون، كما يضمن تفادي الضرر الناجم عن إسراف أحدهم أو بعضهم في استخدام سلطته ونفوذه.
فالمدرسة تعلِّم الطفل بصورة متدرِّجة، وتجعله يدرك أنه في وسط يختلف نوعيا عن وسطه العائلي، وأنه في المدرسة ليس محاطا بوالديه وأخوته كما هو الحال في المنزل، وهو انطلاقا من هذه الوضعيَّة يجب أن يخضع للقوانين والأنظمة الاجتماعيَّة، وهذا بالتالي سيمكّنه في المستقبل من أداء وظائفه وأدواره الاجتماعيَّة على أكمل وجه. فالأجواء العاطفيَّة التي تغمره في الأسرة لا تمكّنه من بناء هذا الشعور بالواجب تجاه الآخرين، ولا تنمّي لديه حسّ الاستقلال ومشاعر الغيريَّة والاعتماد على النفس، لأن الطفل دائما ما يكون في وسطه العائلي محاطا بالحمايَّة والرعايَّة والدعم والمساندة من قبل والديه وإخوته. وكذلك فإن تعليم الطلاب التصرّف تحت تأثير الأوامر والنواهي، وفي ظلّ التفاعل الاجتماعي الذي يقوم على التكافؤ والندّيَّة يمكّنهم من تكوين الحسّ الاجتماعي الضروري الذي يشكل ملمحا أساسيا في صورة الإنسان النموذجي الذي رسمه المجتمع كغاية تربويَّة.
ويحذِّر دوركهايم هنا من التنظيم المفرط الذي يؤدِّي في نهاية الأمر إلى العنف والتمرّد، أو في أسوأ الأحوال إلى نوع من القهر الأخلاقي. فالتربية الأخلاقيَّة التي ينشدها دوركهايم ليست تربية تسلطيَّة قهريَّة كليا، بل تتضمَّن نوعا من التركيز على هامش الحرّيَّة التي يمكن للطفل أن يمارسها ليفهم ما يفرض عليه ويدرك معنى حرّيته.
2- الالتزام الاجتماعي:
يشكِّل الارتباط بالجماعة والشعور بالانتماء إليها الشرط الثاني للفعاليَّة الأخلاقيَّة عند الطفل، فالطفل يمارس فعاليته الأخلاقيَّة في مصلحة الجماعة التي يتنسب إليها، وبالتالي فإنّه هذه الفعاليَّة الأخلاقيَّة تتجاوز أبعادها الشخصيَّة والفرديَّة. فالروح الجمعيَّة تمارس تأثيرها على الأفراد في الجماعة. ومن أجل أن يشعر الفرد بارتباطه الاجتماعي يجب أن يشعر بالحاجة إلى هذا الانتماء، بمعنى أنَّ شعوره بالانتماء إلى الجماعة يجب أن يحقِّق له في نهاية الأمر خيرا يعمّ جميع أفراد المجتمع. فالإنسان نتاج للمجتمع، وهو إذ ذاك يتوجَّب عليه أن يتصرَّف دائما بما من شأنه أن يرتد بالنفع عليه وعلى المجتمع في آن واحد. وهذا يتطلَّب من الفرد أن يشعر بالانتماء إلى مجتمعه الكبير، وأن يشعر بأنه جزء لا يتجزّأ منه، وهذا يوجب عليه أيضا بأن يشارك في المحافظة على النظام والقيم، وأن يعزِّز الاتِّجاهات الإيجابيَّة في داخل الجماعة، وهذا ما يجب أن يتعلَّمه في المدرسة، أو هذا ما تسعى إليه المدرسة في دورتها التربويَّة.
3- الذكاء الأخلاقي:
يشكِّل الذكاء الأخلاقي العنصر الثالث الأخير في نظريَّة دوركهايم الأخلاقيَّة دوركهايم، ويأخذ هذا الذكاء دلالته في قدرة الطفل على تمثُّل القيم الأخلاقيَّة وممارستها ببداهة وحكمة وأن يمتلك القدرة على توظيف السلوك الأخلاقي بنباهة وذكاء يتميَّز بالفعاليَّة الأخلاقيَّة ، وهذا يتطلَّب أيضا المعرفة الواسعة بمختلف القيم والتشكيلات الأخلاقيَّة في المجتمع . وبعبارة أخرة يتمثَّل الذكاء الأخلاقي بمعرفة فعالة بمختلف المعايير والقيم والعادات والتقاليد الأخلاقيَّة السائدة في المجتمع وامتلاك الإمكانيَّة على ممارسة الفعل الأخلاقي بطريقة إنسانيَّة خلاقة. فالوعي الشخصي يجب أن يحظى بدرجة كبيرة من الاستقلال والذكاء والقدرة على المبادهة الأخلاقيَّة. ومع ذلك فإن الفرد أثناء عمليَّة التطبيع الأخلاقي يبقى غالبا أكثر خضوعا وسلبيَّة، حيث يشارك بدرجة محدودة في التوجيه الأخلاقي الجماعي القائم قبل ولادته. وتفيدنا القراءة المتأنيَّة لدوركهايم أنه يرى أن الفرد يمتلك جانبا ذاتيا أنانيا يتنافى مع التضامن الأخلاقي في المجتمع، فكل فرد يولي مصالحه الشخصيَّة كثيرا من الأهميَّة والتقدير، وهذا هو الجانب غير الأخلاقي في الفرد، إذ ينعطف المرء إلى ذاته وينطوي على مصالحه مقدّما إياها على المصالح العامَّة للحياة الاجتماعيَّة. وهنا يأخذ القانون الأخلاقي صورة إلزام اجتماعي لتحقيق التضامن الاجتماعي، وليس امتدادا أو تعبيرا لإرادة شخصيَّة خاصة. فالقانون الأخلاقي لا يقوم على تمجيد النوازع الشخصيَّة والميول الذاتيَّة لأفراد المجتمع، بل يتحرَّى ما هو عام، ويحقَّق ما هو كلِّي، وما يرتبط بمصالح، وليس بمصالح حفنة من أفراده. فالإرادة لا تخضع بشكل عفوي للنظام بل ترتسم فيه وتندمج في معطياته عبر عمليَّة التطبيع الأخلاقي. فعندما يندمج الإنسان في النظام الأخلاقي ويتكيَّف مع معطياته فإن ذلك يأتي تعبيرا عن اقتناع بأن هذا هو ما يجب أن يكون عليه الأمر. فالتوافق هنا يأخذ طابعا اجتماعيا أخلاقيا بذاته وبطبيعته، وهذا يعني أن إرادة الاندماج تعبير عن الإرادة الحرَّة التي لا تخضع لقمع ولا تنحني لقهر واستعباد.
وفي هذا السياق، يعتقد دوركهايم، بأن التربية الأخلاقيَّة المثلى يمكنها أن تؤصِّل نوعا من الحرّيَّة، كما يمكنها أن تقلِّل من شأن الضرورة الاجتماعيَّة وتأثيرها لصالح حريَّة الفرد ورغبته في مجال الحياة الأخلاقيَّة: ومثل هذه التربية تمكننا أن نجعل من شعور الطفل بالقوانين الأخلاقيَّة طبيعيا عفويا بدلا من ممارسة التطبييع الأخلاقي الذي يقوم على القسر والقهر.
الوظيفة الوطنيَّة للتربيَّة الأخلاقيَّة.
ترتهن التربية الأخلاقيَّة عند دوركهايم بالطابع الوطني والقومي. فالأسرة تخضع للمجتمع، وبالتالي فهي تمتلك نظاما من القيم الأخلاقيَّة ذات طابع اجتماعي يتعلَّق بالمجتمع ويعبِّر عن طموحاته الأخلاقيَّة، وهذه القيم دائما تكون عامَّة تعلو فوق القيم الشخصيَّة والفرديَّة لأفراد المجتمع. ومن أجل بناء هذه القيم يوظف المجتمع المدرسة لأداء دور الوسيط الأخلاقي للدولة، وذلك لأن الأسرة لا تستطيع بمفردها أن تولد الشعور الوطني والقيم الأخلاقيَّة وفقا للمستوى القومي، بل يجب أن تتضافر جهودها مع المدرسة والمؤسسات التربويَّة والاجتماعيَّة الأخرى لبناء النموذج الأخلاقي الوطني وتعزيزه.
ومن أجل تحقيق هذا النموذج تقوم المدرسة، كما يعتقد دوركهايم، بتطبيع الأطفال أخلاقيا واجتماعيا على منوال المعايير الأخلاقيَّة السائدة في المجتمع. وقد أثار الدور الأخلاقي للمدرسة مجموعة من التساؤلات أبرزها: هل يجب على المدرسة أن تقوم بأداء دور علمي يتمثَّل بتحويل معارف علميَّة موضوعيَّة مجرَّدة فحسب؟ أم أنه يجب عليها أن تعمل على ترسيخ قيم أخلاقيَّة ، وأن تقوم بتوليد مشاعر الانتماء والولاء إلى الأمَّة والوطن؟ وفي معرض الإجابة عن هذا السؤالين الجوهريين، يركز دوركهايم على أهميَّة الدور الأيديولوجي الأخلاقي للمدرسة، حيث يتوجَّب عليها أن تؤدي دورا أخلاقيا ذاتيا وموضوعيا بامتياز في آن واحد، وهذا الدور سيكون ضروريا من أجل تحقيق التضامن الاجتماعي في مستوى الأمَّة والوطن، فالفرد يحتاج بالضرورة إلى إحساس بالانتماء إلى الوطن والأمَّة، وهذا بدوره يشكل قيمة أخلاقيَّة لدى دوركهايم. ومن هنا يتوجَّب على المربّين أن يتسلموا درجة كبيرة من المسؤوليَّة التربويَّة إزاء هذا الدور الأيديولوجي والأخلاقي والسياسي للمدرسة. ووفقا لهذه الصورة فإنه يتوجَّب عليهم أن يؤثِّروا في الوعي العام وأن يشكِّلوه وفقا للقيم الوطنيَّة والمعايير الأخلاقيَّة في المجتمع(DURKHEIM,1992) .
خاتمة:
أخرج دوركهايم المسألة الأخلاقيَّة من تيه التصوّرات الأيديولوجيَّة، وحرّرها من مختلف التصوّرات الميتافيزيائيَّة ليضعها في سياقها التاريخي الاجتماعي. لقد بيّن لنا بصورة عبقريَّة كيف تتشكَّل الأخلاق وفقا لمبدأ الضرورة التاريخيَّة لتطور المجتمع، وكيف تتطوَّر بموجب الحاجة إلى تنظيم المجتمع ومتطلّبات التقسيم الاجتماعي. فالأخلاق كما يراها تصدر عن المجتمع وتؤدِّي وظائف اجتماعيَّة حيويَّة تضمن للمجتمع توازنه الإنساني وتكامله الوظيفي، ومن غيرها فإن المجتمع سيواجه العطالة والفوضى والعدميَّة.
ولم يقف دوركهايم عند حدود التنظير السوسيولوجي للأخلاق بنية ووظيفة وماهيَّة، بل تجاوز هذا كله إلى تحليل معمق وأصيل للعلاقة بين التربية والأخلاق، فأبان الكيفيات الأخلاقيَّة للحياة التربويَّة، وأوضح الصيرورات التربويَّة للحياة الأخلاقيَّة ذاتها، ومن ثمّ رسم حدود العلاقة الجليَّة القائمة بينهما في مختلف التجليات الحضاريَّة. وأخيرا يمكن القول بأن القيمة الكبرى لنظريَّة دوركهايم في الأخلاق والتربية الأخلاقيَّة تتمثَّل في إخراج هذه المسألة من دائرة التداول الأيديولوجي والغموض الميتافيزيائي حيث وضعها جليَّة في متناول العقل بما عرف عنه من وضوح المنهج وعبقريَّة الرؤيَّة.
مراجع المقالة:
DURKHEIM, Emile. L’éducation morale. Paris: P.U.F., 1992.
DURKHEIM, Emile. L’évolution pédagogique en France (1938). Paris: P.U.F., 1990.
DURKHEIM, Emile. L’enseignement de la morale à l’école primaire, Revue française de sociologie. Paris: octobre-décembre 1992.
FILLOUX, Jean-Claude. Durkheim et l’éducation. Paris: P.U.F., 1994.
إميل دوركهايم: التربية والمجتمع، ترجمة علي أسعد وطفة، دار الوسيم 1991.
*المصدر: التنويري.