
“بظل واقف تسع ساعات تحت الشمس، بدون أكل أو شرب”، بهذه العبارة يصف الطفل السوري أوس (16 عامًا) التحديات التي يعانيها يوميًا في عمله بأحد أكشاك بيع القهوة في محافظة إربد. فقد أجبره والداه على ترك المدرسة ليتمكن من مساعدتهما في مصاريف البيت.
يتحدث أوس عن رحلته اليومية عندما يذهب إلى العمل في الخامسة والنصف صباحًا، ليبدأ عمله في السادسة صباحًا، وينتهي عند الثالثة عصرًا، ويغادر منزله قبل أن تبدأ وسائل النقل العامة بالعمل. ويقول إنه اتفق مع سائق يخرج في الوقت ذاته كل يوم مقابل خمسة وسبعين قرشًا يدفعها له يوميًا.
ويروي الطفل أنه كان يُجبر على الوقوف في الشارع دون استراحة طوال مدة العمل البالغة تسع ساعات، فقد كان عليه أن يقف باستمرار، سواء كانت الشمس حارّة أو الجو باردًا، ولا يُخصص له أي وجبة طعام، قائلًا: “ما كنت بوكل ولا بشرب إشي، لحتى أروح على الدار، وإذا أخذت إشي من الكشك راح ينخصم من يوميتي”.
يتقاضى أوس يومية تصل إلى أربعة دنانير، يدفع منها دينارًا ونصفًا للمواصلات ذهابًا وإيابًا، وعندما يعود إلى المنزل، يتبقى معه ديناران ونصف، يعطيهما لوالده. بينما زملاؤه الأكبر سنًا في العمل نفسه يحصلون على ثمانية دنانير.
يعبر الطفل أوس عن ندمه لترك المدرسة، ويقول إنه حاول عدة مرات ترك العمل، لكن والده كان يشجعه على الاستمرار، رغم معاناته اليومية. وينهي حديثه بالإشارة إلى أن صاحب العمل لم يكن يخشى مفتشي وزارة العمل أو الملاحقة الأمنية، دون توضيح الأسباب.
عمل الأطفال في الأردن
تقول الأرقام إن هناك 100,000 طفل في الأردن مثل أوس، فقد أظهرت نتائج دراسة حول عمل الأطفال أجرتها دائرة الإحصاءات العامة في عام 2016 أن عدد الأطفال في الأردن الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 سنة يبلغ 4,030,384، ويعمل منهم 69,661 طفلًا، يعمل 44,917 طفلًا منهم في وظائف خطرة، بما يشكل حوالي 71% من الأطفال العاملين.
وفي تقريره السنوي لعام 2024، ذكر المركز الأردني لحقوق العمال “بيت العمال” أن عدد الأطفال الذين يعملون في الأردن بعد جائحة كورونا بلغ 100,000 طفل، منهم 60,000 طفل يعملون في وظائف خطرة.
كما أشارت وزارة العمل إلى أن أكثر المهن التي يشغلها الأطفال دون سن 18 عامًا هي المهن الصناعية، بالإضافة إلى أكشاك بيع القهوة المنتشرة في الشوارع والمتاجر.
انتهاكات جسيمة
يتحدث إسلام، العامل ضمن أحد مشاريع حماية الطفل في مؤسسة مجتمع مدني محلية، أن زملاءه في تلك المؤسسة كانوا يطلبون باستمرار احتياجاتهم من أحد الأكشاك في الخارج، وكان يوصلها طفل صغير يُعرف باسم “ابن الشيخ”.
ويضيف إسلام أن الطفل، ذات مرة، كان يوصل الطلبات إلى الموظفين أثناء وجود إدارة إحدى المنظمات الدولية المانحة، مما وضع إدارة المؤسسة المحلية في حرج مع تلك المنظمة، رغم علمها المسبق بهذا الانتهاك، وعلى الرغم من توقيع كافة الموظفين على وثيقة الالتزام بسياسة حماية الطفل.
ويشير إسلام إلى أنه كثيرًا ما كان يُفاجأ بوجود أطفال تحت سن الثامنة عشرة يعملون في توصيل طلبات أكشاك بيع القهوة، ويضطرون للعمل حتى أوقات متأخرة من الليل، ويُطلب منهم توصيل الدخان إلى السيارات.
ويختتم حديثه بأن من أشد المواقف التي لا ينساها، عندما توقّف عند كشك بيع قهوة ليلًا، ووجد طفلًا صغيرًا يستعد لبيعه، وعندما سأله عن عمره، أجاب قائلًا: “أنا صف رابع، وما بروح على المدرسة، عشان الشغل”.
ماذا يقول مالكو أكشاك بيع القهوة؟
يقول أبو سعيد، مالك أحد الأكشاك، إن السبب وراء تشغيل الأطفال هو رضاهم بأقل الأشياء المقدّمة، وقدرتهم على السمع والطاعة “للمعلّم”، وتنفيذ كل ما يُطلب منهم دون نقاش.
ويضيف أن الأطفال يقبلون العمل بهذه الوظيفة لحاجتهم الماسّة للمال، وذلك بسبب أن أغلبهم إما يكون يتيمًا أو فاقدًا للسند الأسري بسبب انفصال والديه.
ويذكر أبو سعيد أن عددًا من الأطفال يقيمون وينامون في الشارع، ولا يوجد من يُنفق عليهم، مما يضطرهم للعمل في مهنة توصيل طلبات الأكشاك.
ويذكر أبو سعيد أن هذه المهنة من الأشد خطورة على الأطفال، وذلك بسبب إمكانية تعرّض الطفل للدهس في الشارع أثناء توصيله للطلبات، بالإضافة إلى أن بعض الزبائن قد لا يدفع ثمن طلبه، فيقوم صاحب الكشك بتغريم الطفل.
ويرى أبو سعيد أن هذا العمل يعرّض الطفل للإهانات والإساءات المستمرة من صاحب العمل والزبائن، جرّاء التأخر أو سكب جزء من القهوة بشكل غير متعمد.
ويعبّر أبو سعيد عن استيائه من هذه الظاهرة، وحزنه من الأهالي الذين يدفعون بأبنائهم نحو هذا العمل، ويروي أنه ذات مرة جاءه والد طفل يسعى لتشغيل ابنه رغم رفض الطفل، حيث قال: “المهم يوخذ مصاري، لو بجيب بالأسبوع دينار”.
فيما يتحدث عبادة، مالك أحد الأكشاك سابقًا، أن “موظف الصينية” يأتي بمردود مادي أفضل للكشك، بسبب أن معظم الزبائن لا يرغبون في النزول إلى الكشك، بل يفضلون البقاء والانتظار في سياراتهم.
ويرى عبادة أن أصحاب الأكشاك يدركون أن وجود طفل يعمل على “الصينية” يُسهم في جلب تعاطف الزبائن وشرائهم من الكشك، ومنحهم الإكراميات للطفل، والتي يأخذها صاحب الكشك لاحقًا.
ما هي أكشاك بيع القهوة؟ وكيف يُسمح لها بالعمل؟
انتشرت خلال السنوات الأخيرة أكشاك بيع القهوة بشكل كبير في الأردن، وتُعرف هذه الأكشاك بأنها محال تعمل على تقديم المشروبات الساخنة والباردة والدخان، وإيصالها للسيارات.
وقد رافق انتشار هذه الأكشاك ظاهرة عمل الأطفال في توصيل الطلبات للزبائن في السيارات، فيما بات يُعرف مؤخرًا بـ”عامل صينية”، وهو ما يستدعي قطع الأطفال للشارع لإيصال الطلبات، مما يشكل خطرًا على حياتهم.
وفي هذا السياق، قال مدير دائرة الرقابة الصحية والمهنية في أمانة عمّان، خلدون الهوادي، إن محال بيع القهوة لا تحصل على رخص، حيث تحصل على رخص كمطاعم أو محال لبيع المشروبات والعصائر.
وأضاف أن المحال المُرخّصة للعمل في مهنة الكافتيريا أو البوفيه أقل من 100 محل، وأكد أن ترخيص محلات بيع القهوة السائلة قد توقّف منذ أكثر من عشر سنوات.
وأضاف أنه يتم التدرج في التعامل مع المحلات المخالفة، من الإنذار والإغلاق، إلى مخاطبة الحاكم الإداري.
لماذا يعمل الأطفال؟
تشير أستاذة علم الاجتماع الدكتورة ميسون العتوم إلى أن تفاقم ظاهرة عمل الأطفال في الأردن يعود إلى حاجة الأسر الفقيرة والأسر اللاجئة إلى مصدر دخل يساعدهم على تكاليف المعيشة.
وتضيف بأن سيادة القيم التي تُعلي من شأن عمل الأطفال، وتعتبره علامة نضج ومسؤولية ورجولة لدى بعض الأسر، تُسهم في دفعهم أبناءهم نحو العمل.
كما تُرجع العتوم أسباب الانتشار إلى ظاهرة التسرب المبكر من المدارس، وشعور الكثير من العائلات وأطفالهم بعدم جدوى الاستمرار على مقاعد الدراسة، بسبب البطالة وانسداد الأفق بمستقبل أفضل لحملة الشهادات الأكاديمية.
وتقول العتوم إن انتشار عمل الأطفال في توصيل طلبات أكشاك بيع القهوة يأتي بسبب رغبة أصحاب الأكشاك في توظيف عامل سهل الانقياد، يتحمّل الأوامر، يتحرك بسرعة، وغير واعٍ بحقوق العمل، من حيث الالتزام بعدد الساعات، والإجازات، والحد الأدنى للأجور.
وتضيف العتوم أن رخص عمالة الأطفال وملاءمتها لرأسمالهم المتواضع، الذي تستثمر به أكشاك القهوة الصغيرة، هو ما يجعل الأطفال فريسة سهلة لهذا العمل، بالإضافة إلى اعتبار هذه المهنة تُقلّل من شأن العامل وكرامته، ولا تليق بالكبار.
وتضيف بأن استمرارهم في هذا العمل يؤدي إلى خلق فئة من الأطفال الأميين، بسبب استمرار حالة التسرب من المدارس.
ما هي المخاطر النفسية لعمل الأطفال في هذه المهنة؟
يقول الأخصائي النفسي الدكتور باسل الحمد إن عمل الأطفال في توصيل طلبات أكشاك بيع القهوة يتطلب منهم العمل مع الكبار في الأكشاك، والتعامل مع شريحة من الزبائن، الذين هم في غالبيتهم من الذكور البالغين، مما قد يعرّض الطفل لأنواع عديدة من التحرشات، والعدوانية اللفظية والنفسية والجنسية، بالإضافة إلى مختلف أشكال التنمر.
ويحذر الحمد من أن وقوف الطفل لساعات طويلة، وقطعه لمسافات كبيرة خلال النهار على الشارع، لا يتناسب مع الحاجات النمائية والجسدية للطفل، ما يؤدي إلى آثار صحية جسيمة تمتد للتأثير في الجوانب النفسية، وذلك بحكم أن التعب عامل أساسي في تحديد الصحة النفسية للطفل.
ويضيف الحمد أن هذه المخاطر تصل إلى التأثير في مستقبل الطفل، وتحدّ من فكرة استمراره في الدراسة والتعلّم، لاعتقاده أن مصدر الدخل هذا هو الطريق الذي يجب سلوكه.
ويذكر الحمد أنه لاحظ بكثرة تشبّع الأطفال العاملين بأفكار غير صحيحة ومشوّهة عن الرجولة، مثل اعتقادهم بأنهم رجال بمجرد عملهم، مما يقودهم للتعبير عن أنفسهم ومشاعرهم بطريقة مُضرّة وغير مفيدة.
ويختتم الحمد حديثه مشيرًا إلى أن عمل الأطفال وتدريبهم على الاستقلالية مبكرًا يُسبب لهم عدم الاستقرار، ويُخلّ بقدراتهم النفسية والاجتماعية.
جهود وزارة العمل للحد من عمالة الأطفال
أطلقت وزارة العمل مطلع العام الحالي حملة زيارات تفتيشية موجهة لرفع الوعي حول عمل الأطفال ومخاطره، بمناسبة اليوم العالمي للطفل، الذي يصادف في العشرين من شهر تشرين الثاني من كل عام.
وفي هذا السياق، قال وزير العمل خالد البكار إن الأردن يشارك العالم في اليوم العالمي للطفل، ليستثمر هذه المناسبة لإلقاء الضوء على مشكلة الأطفال، من قبل أطراف الإنتاج الثلاثة: الحكومات، وأصحاب العمل، والعمال، بالتعاون مع جميع أطياف المجتمع المحلي ومؤسسات المجتمع المدني.
فيما أشار الناطق باسم وزارة العمل، محمد الزيود، إلى أن عملية التفتيش على عمل الأطفال تشكل 15% من الزيارات التفتيشية في العاصمة عمّان والمحافظات.
وبيّن أن لدى الوزارة قسمًا متخصصًا لمتابعة الحد من عمل الأطفال، وهناك آلية للتبليغ عن حالات عمالة الأطفال من خلال رابط إلكتروني على موقع الوزارة عبر بوابة التفتيش.
وأضاف أن فرق التفتيش تقوم بجولات اعتيادية يومية على مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية، للتأكد من مدى التزامها بعدم مخالفة أحكام قانون العمل بخصوص تشغيل الأطفال.
ونوّه الزيود إلى أن الوزارة تتعامل أيضًا مع أي شكوى بخصوص عمل الأطفال من خلال مديريات ومكاتب العمل المنتشرة في العاصمة وكافة المحافظات.
وقال الزيود إن عدد المنشآت التي زارتها فرق التفتيش بخصوص الحد من عمل الأطفال في عام 2024 في المملكة بلغ 3889 منشأة، وحرّرت 181 مخالفة لمنشآت شغّلت أطفالًا، كما حرّرت 201 إنذار.
وعن الإجراءات القانونية، أضاف أن المادة (73) من قانون العمل تنص على أنه:
“لا يجوز بأي حال تشغيل الحدث الذي لم يُكمل السادسة عشرة من عمره بأي صورة من الصور.”
فيما تنص المادة (74) من القانون ذاته على أنه:
“لا يجوز تشغيل الحدث الذي لم يُكمل الثامنة عشرة من عمره في الأعمال الخطرة أو المُرهقة أو المُضِرّة بالصحة.”
وأوضح أن المادة (75) من قانون العمل قد منعت تشغيل الحدث أكثر من ست ساعات في اليوم الواحد.
جهود مؤسسات المجتمع المدني للحد من عمالة الأطفال
ترى مديرة المناصرة والإعلام في مؤسسة إنقاذ الطفل في الأردن، نادين النمري، بأن هنالك جهودًا مميزة لمؤسسات المجتمع المدني للحد من عمل الأطفال في الأردن.
وتبلورت تلك الجهود من خلال مساهمة المجتمع المدني في إنجاز الإطار الوطني للحد من حالات الأطفال العاملين والمتسولين (2020)، الصادر عن المجلس الوطني لشؤون الأسرة، ومساهمته في إعداد الاستراتيجية الوطنية للحد من عمل الأطفال (2022–2023).
وتقول النمري إنه يوجد عدد لا بأس به من مؤسسات المجتمع المدني الناشطة في مكافحة عمل الأطفال، إلا أنها بحاجة ماسة، على أرض الواقع، لتنسيق وتشبيك الجهود فيما بينها، والعمل على تطبيق منهجية تشاركية بين المجتمع المدني والحكومة، لضمان الفعالية في التنفيذ، والسرعة في الإنجاز والعمل.
وعن الجهود التي تقوم بها مؤسسة إنقاذ الطفل، تقترح النمري تطبيق منهجية “إدارة الحالة” المعمول بها في إنقاذ الطفل، والتي تقوم على تحليل الأسباب التي ساهمت في عمل الأطفال، وتسمح بتقييم التدخلات التي يجب القيام بها لمعالجة المشكلة.
وترى بأن إدارة الحالة هي الطريقة التي تمكّننا من الوصول إلى المسبّبات الحقيقية، جنبًا إلى جنب مع الحلول التي تساعد الطفل وعائلته، وتضمن لهم الحياة الكريمة الآمنة.
وتدعو النمري المواطنين إلى المساهمة في الحد من هذه الظاهرة المأساوية، من خلال الإبلاغ المباشر لوزارة العمل عن أي طفل يُشاهد يعمل في أكشاك القهوة.
كما تعتقد النمري بأن امتناع الزبائن عن التعامل مع الأطفال العاملين في توصيل طلبات الأكشاك، سيُجبر صاحب العمل على التوقف عن تشغيل الأطفال.
الاتفاقيات الدولية والاستراتيجيات الوطنية للحد من عمل الأطفال
بادر الأردن إلى المصادقة على اتفاقية حقوق الطفل، الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى اتفاقيتَي العمل التابعتَين لمنظمة العمل الدولية:
• الأولى: الاتفاقية رقم 138 “الحد الأدنى لسن الاستخدام”
• الثانية: الاتفاقية رقم 182 “حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال”
كما صادق الأردن على الاتفاقية العربية بشأن مستويات العمل، والتي تطرقت بشكل تفصيلي إلى الحد من عمل الأطفال.
وعلى المستوى المحلي، أطلقت الحكومة الأردنية الاستراتيجية الوطنية للحد من عمالة الأطفال (2022–2030)، والإطار الوطني للحد من حالات الأطفال العاملين والمتسولين (2020)، بالإضافة إلى إقرار تعديلات قانون حقوق الطفل لعام 2022، الذي أكّد على حظر تعريض الأطفال للاستغلال الاقتصادي.
ما يضعنا أمام استحقاق بالغ الأهمية، يكمن في كيفية تحويل تلك الجهود إلى إجراءات ملموسة تستطيع الحد من عمل الأطفال في الأردن.
ـــــــــــــــــــــ
•الأسماء الواردة في هذا التقرير مستعارة