تقديم:
إن المجتمعات الإنسانية منذ بداياتها الأولى اهتمت بمجموعة من المواضيع المتعددة والمختلفة أبرزها: العدالة الاجتماعية، وقد تلقت هذه الأخيرة اهتماما كبيرا من طرف الفلاسفة والمفكرين باعتبارها محورا حيويا، ودارت حولها نقاشات عميقة ما زالت مستمرة إلى الآن، ومن بين هؤلاء نجد الفيلسوف الأمريكي جون راولز لكونه من المهتمين بهذا الموضوع وقد قدم رؤية شاملة ومتكاملة حوله في جل كتاباته وأعماله السياسة، والتي انتقد من خلالها النزعة النفعية لأنها تركز على الصالح العام فقط ولا تكترث بالمرة لحقوق الأقليات، وهذا بعيد كل البعد عن المبادئ الأساسية لنظريته (العدالة كإنصاف) التي تؤكد على ضرورة تمتع جميع الأفراد بحرية متساوية.
وبالرجوع إلى نظريات العقد الاجتماعي والواجب الكانطي، ذهب راولز بالإقرار على أن الهدف من نظريته هو هدف عملي بالدرجة الأولى يقدم نفسه كأساس للتوافق السياسي الواعي والطوعي بين مواطنين أحرار، ولضمان تحقق الخير فيما بينهم، فإن هذا التوافق يجب أن يبنى على أسس قوية ومبادئ اجتماعية وسياسية عامة في إطار نظام ديمقراطي عادل.
إن حديثنا عن السياسة والأخلاق يضعنا أمام تصورين مختلفين ومتباينين، الأول يدعونا إلى ضرورة الربط بينهما ومن أنصار هذا التصور نجد كل من: أفلاطون في الفلسفة اليونانية، وإيمانويل كانط في الفلسفة الحديثة، أما الثاني فيعتبر بأن العلاقة بين السياسية والأخلاق هي علاقة انفصال، ومن هؤلاء الذين حملوا مشعال هذا الاتجاه، نذكر: نيكولا ميكيافيلي
وتوماس هوبز، وقد استمر هذا الموقف حتى الفلسفة المعاصرة مع جون راولز الذي استطاع بموجبه من خلال نظريته العدالة كإنصاف من تجاوز قصور المذهب النفعي، حيث نجح في فهم نظرية العقد الاجتماعي وفلسفة الواجب لدى كانط، لذلك تحدد مفهوم العدالة عنده حول تشكيل البنية الأساسية للمجتمع بمؤسساته السياسية والاجتماعية الرئيسة، وهذا التشكيل يسعى في أعماقه إلى بناء نظام تعاوني موحد يضمن الوصول إلى مجتمع ديمقراطي تسوده العدالة.
وفي فهم راولز، فإن هذه المؤسسات يجب أن تتفاعل بشكل ملائم، حيث يكون التعاون بينهما جزءا من هدفها الأساسي، بمعنى أن كل مؤسسة يجب أن تعمل بمنطق العدالة والمساواة دون التحيز لمصالح فئة معينة أو مجموعة ما.
ولتحقيق هذا النظام الموحد يشترط راولز الوضع الأصلي للأطراف خلف حجاب الجهل، حيث يتفاوض هؤلاء الأفراد فيما بينهم دون معرفة تفاصيلهم الخاصة أو مواقفهم في المجتمع، ما يضمن اتخاذ القرارات بمنطق العدالة والمساوة. وبالتالي سنتساءل حول: هل نظرية العدالة تمثل تصورا واقعيا للسياسة والأخلاق، أم هي مجرد فكرة مثالية تنأى كل البعد عن الواقع؟
مذهب المنفعة ونقد راولز له:
لقد تبنى جون راولز موقفا معارضا للمذهب النفعي في فلسفته، وقد تبنى هذا الموقف العديد من الفلاسفة مثل: دافيد هيوم، جيريمي بنثام، جون ستيورات مل وغيرهم…، حيث يرى راولز بأن هذا التوجه النفعي فاشل في تفسير الحقوق والحريات الخاصة بالأفراد المتساوين مما جعله غير ملائم لتبرير المؤسسات الديمقراطية الدستورية، وبهذا الصدد يقول راولز: “أردت التوصل إلى تصور في العدالة يقدم بديلا نظاميا معقولا عن المذهب النفعي، الذي ساد بشكل أو بآخر لفترة طويلة في التقليد الأنجلوسكسوني من التفكير السياسي. والسبب الرئيس الذي يدفعني لإيجاد مثل هذا البديل هو الضعف، كما أعتقد، في العقيدة النفعية كأساس للمؤسسات الديمقراطية الدستورية. على وجه الخصوص، لا أعتقد أن المذهب النفعي يستطيع تقديم تفسير مرض للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين كأفراد أحرار ومتساوين، وهو متطلب ذو أهمية أولى مطلقة من أجل تغيير المؤسسات الديمقراطية.” [1]
ولهذا، فإن الهدف المنشود للنظام الاجتماعي هو تحقيق العدالة، وهو ما لا يمكن تحقيقه بواسطة التشريعات القائمة على مبادئ المنفعة الكلية، ويعتبر راولز أن هذا التوجه المنفعي لا يستطيع مراعاة حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية لأنه يستغلها لتحقيق أقصى قدر ممكن من النجاعة الاقتصادية، وبالتالي فراولز ينص على أن النفعية تتعارض وتتنافى مع مفهوم العدالة التوزيعية، أي أنهما كالخطان المتوازيان يستحيل أن يلتقيا. وبالتالي تمنعها من أن تكون فضيلة المؤسسات الاجتماعية. [2]
علاوة على ذلك، فراولز يؤمن حقا بأن المذهب النفعي الذي اعتمدت عليه المجتمعات الليبرالية ساهم في تعميق هوة الصراعات والانفصالات داخل هذه المجتمعات، ما زاد على انغلاق الأفراد على الذات، بدلا من تعزيز التعاون والتضامن، وبناء على هذا الاعتقاد قام راولز بنقد المذهب النفعي وطرح نظريته في العدالة كبديل مقبول، مشددا بذلك على أهمية تقديم بديل منطقي للمذهب الذي ساد في التفكير الأنجلوسكسوني.
وعليه، يعتبر راولز المذهب النفعي ليس سبيلا لتحقيق السعادة في المجتمعات، وفي نفس السياق، يتبنى راولز رؤية مختلفة عن هذا المذهب النفعي، ذلك أن هذا الأخير في نظر راولز أبعد نظره عن التعددية والتنوع الفردي الذي يميز كل فرد عن الآخر. فيقول: “لا يمكن للمرء التوصل إلى مبدأ الاختيار الاجتماعي بمجرد التوسع بمبدأ الحذر العقلاني إلى نظام الرغبات الذي يتم بناؤه بوساطة مراقب محايد. إن القيام بهذا يعني عدم التعامل بجدية مع تعددية وتمايز الأفراد، وعدم الاعتراف بأساس للعدالة يمكن للأشخاص الإجماع عليه، ربما نلاحظ هنا نقطة شاذة لافتة النظر، فمن المعتاد التفكير بالمذهب النفعي على أنه فردي، وبالتأكيد هناك أسباب جيدة لهذا التفكير، وهم يعتقدون أن خير المجتمع يتشكل من خلال المنافع التي يتمتع بها الأفراد، لكن المذهب ليس فرديا. على الأقل حين نصل بوساطة المسار الطبيعي للتفكير، أنه من خلال دمج جميع أنظمة الرغبات، فهو يطبق على مجتمع مبدأ اختيار الشخص الواحد.”[3]
وبهذا يظهر بأن راولز يعترض على محاولة تطبيق نفس المعايير والقيم على الأفراد كمجموعات متجانسة، مؤكدا على أهمية التفاعل بجدية مع التنوع الفردي والاعتراف بحق كل فرد في التميز والاختلاف.
ومثال ذلك، في المجتمعات اليوم أغلبيتها تسعى إلى تحقيق رفاهية الأغلبية بالتضحية ببعض الأفراد واستغلالهم لتحقيق هذه الرفاهية، وهذا هو معيار المنفعة. إلا أن هذا يؤدي في الوقت نفسه إلى الانحياز في التوزيع وغياب العدالة، ويظهر هذا الانحياز بوضوح من خلال التضحية بأفراد المجتمع الأقلية لصالح الأغلبية، مما يطور من تفاقم الفوارق داخل المجتمع، ونتيجة لذلك، يشعر الأفراد المتضررين (الأقلية) بالظلم والتعسف، ما يدفعهم إلى اللجوء للقيام بتصرفات وأفعال غير مألوفة في سبيل استعادة حقوقهم المهضومة، وهذا التفاقم في الصراعات ينشر الفوضى داخل المجتمعات، ويعمق الشعور بالعزلة، مما يزرع بذور الأنانية والحقد بين الأفراد وبالتالي نشوء حالة عامة من عدم الاستقرار وغياب الأمن والأمان.
جون راولز بين ضفاف نظرية العقد الاجتماعي وسماء الواجب الكانطي:
المحور الأول: التعاقد الاجتماعي.
يلقي راولز الضوء على الخطورة التي ينطوي عليها النهج الليبرالي النفعي وتأثيره في تعميق الفجوات مما يعرض الاستقرار للتهديد، فيرى راولز بأن الحل هو إحياء فلسفة العقد الاجتماعي، حيث يسعى لتقديم تصور جديد للعدالة يتجاوز النظرية التقليدية للعقد الاجتماعي، فبدلا من التركيز على عقود محددة لدخول المجتمع أو تشكيل الحكومة، فإنه ينبغي التركيز على مبادئ العدالة كأساس للاتفاقية الدولية.
إن فلسفة العقد الاجتماعي عند راولز تختلف عن الفلاسفة الآخرين، لكونه يعتبر العقد افتراضيا يستند إلى فرضيات تعاونية اجتماعية تتطلب تضحية وتقييدا للحريات، ويفرض على المستفيد من المشروع القيام بواجبات العدالة وعدم استغلال الفوائد دون التعاون اللازم. لهذا يقول راولز: “إن هدفي هو تقديم تصور للعدالة يمكن من تعميم رفع مستوى التجريد لنظرية العقد الاجتماعي الشهيرة كما وجدت في أعمال “لوك” و “كانت”. من أجل القيام بهذا علينا ألا نفكر بالعقد الأصلي على أنه عقد لدخول مجتمع معين أو إعداد شكل معين للحكومة وبدلا من ذلك إن الفكرة الموجهة هي أن مبادئ عدالة البنية الأساسية لمجتمع ما هي هدف أو موضوع الاتفاقية الأصلية.”[4]
ويعد توماس هوبز أحد مؤسسي فكرة العقد الاجتماعي، فقد قدم عقدا يهدف إلى تحويل الناس من حالة الطبيعة والفوضى والعشوائية إلى حالة المدينة والتنظيم…، ويرى هوبز أن البشر بطبعهم أشرار ما يجعل الحاكم الذي يتعاقد معه الناس يكون كفيلا بتحقيق العدالة ومنع الشرور، إن الحاكم لا يتولى هذا المنصب إلا بعد تنازل الأفراد عن حقوقهم له، وهذا التنازل لا يحدث بصورة طوعية طالما أن الطابع البشري شرير وتحكمه الأنانية والعدوانية، وعلى الحاكم أن يتعامل معهم لا بأسلوب الترغيب بل بالترهيب.
قام راولز بانتقاد هوبز لافتراضه أن جميع الأفراد متساوون في الحالة الطبيعية، فيرى بأن هذا الافتراض ليس واقعيا، ذلك أن الناس يختلفون في القدرات والمواهب والظروف الاجتماعية، كما يؤكد على أن تركيز هوبز على الحاجات الأمنية والخوف من الخطر يقتصر على حفظ الذات، دون أن يؤمن بالمواطنة. وبالتالي فإن أهمية النهج التعاقدي عند هوبز من منظور راولز يكمن في النهج الذي يدافع عن ضرورة الدولة فقط.
وأيضا فمن مؤسسي العقد الاجتماعي نجد جون لوك الذي اتجه فكره نحو التأكيد على الحرية الدستورية وعلى مبدأ الفصل بين السلطات وتوزيع قواها وموازاتها، عوض التركيز على سلطة الحاكم، وقد ركز لوك على مفهوم “الطور الطبيعي” الذي يتمتع فيه الأفراد بالحرية والمساواة، كما أقر على أن هاتين الأخيرتين من الحقوق التي يجب على الجميع احترامها، ورأى لوك بأن الإنسان بمفرده غير قادر على ضمان هذه الحقوق لوحده، بل من الضروري أن يتعاون الأفراد معا لتحقيق وضمان هذه الحقوق ومعالجة أي تجاوزات قد تحدث. ليصبح الأفراد بعد ذلك بإرادتهم واختياراتهم أعضاء داخل جماعة سياسية معينة، مما يؤدي إلى تأسيس العقد الاجتماعي وتميز المجتمع السياسي.
ومن منظور لوك فإنه لا يمكن تأسيس مجتمع سياسي أو الاستمرار فيه دون الالتزام بسلطة المحافظة على الملكية وتطبيق العدالة. وبالتالي، تعتبر القوانين التي يتفق عليها أعضاء المجتمع ضرورية للحفاظ عليه وعلى تماسكه.
كان لوك يدرك جيدا الأهمية الكبيرة للتحول إلى نظام اجتماعي يواكب التطورات، حيث دعا إلى الحرية الفردية ودولة الحد الأدنى التي رأى أن وجودها رهين بخدمة الفرد ومصالحه. وإذا كان لوك يرى بأن العودة إلى الحالة الطبيعية الأولى للمجتمعات قبل التطور يساعد في تحسينها والاتفاق على شكل الحكم، فإن جون راولز في المقابل يرجعه إلى الوضع الأصلي الذي يشبه في مبدئه حالة طبيعية تفترض شروطا نموذجية للاتفاق على مبادئ العدالة الخاصة بالمؤسسات الأساسية في مجتمع ما.
واضح أن جون راولز استوحى فلسفته من لوك، إلا أنها تحمل تناقضات خاصة فيما يتعلق بقبول المحكومين بالحكم حيث أن العقد يعتمد على قبول الأكثرية، مما يثير بعض التساؤلات حول شرعية الحكومة في حالة عدم قبول بعض الأفراد بهذا الحكم، وهذا ما يضع أصحاب هذه النظرية أمام موقف حرج وصعب، فيكون السؤال: “في هذه الحالة، ألا تصبح هذه الحكومة حكومة غير شرعية؟”، لهذا أجاب أصحاب هذه النظرية على أن الحكم يكون بقبول الأكثرية.
هكذا إذن فإن راولز تأثر بأفكار جون لوك، وخاصة فكرة أن الحرية حق للجميع ولا يمكن لأحد أن ينتزعه من الآخر، فرغم تناقض فلسفة لوك إلا أن أفكاره أثرت بشكل كبير على الفكر السياسي الحديث.
وفي نفس السياق، نذكر كذلك فيلسوف استفاد كثيرا من فكره جون راولز فيما يخص العقد الاجتماعي وهو جون جاك روسو الذي أكد على أن العقد ليس مجرد صفقة، بل هو تكوين لكيان سيادي يشارك فيه أفراد المجتمع على قدم المساواة، ويجب على أعضاء هذا الكيان أن يكونوا مشاركين في وضع القوانين وأن يلتزموا بها كأفراد، وفي نظر روسو فجوهر الكيان السياسي يكمن في الحرية والطاعة، حيث يظل الفرد حرا ومستقلا وفي الوقت نفسه يطمع في القوانين التي وضعها بالتعاون مع الآخرين.
ففي فلسفته يتفق الأفراد على التنازل عن جزء من حريتهم الفردية لبناء مجتمع عادل ومستقر، وهذا التنازل يعتبر معقولا وعادلا لأنه يضمن سلامة واستقرار الأفراد.
ليؤكد روسو على أن العقد الاجتماعي لا يكون مشروعا إلا إذا كان مبنيا على الإرادة العامة وهذه الإرادة يجب أن تتمثل بالشكل الذي يوافق عليه الأفراد بأنفسهم.
وعليه، فهم نظرية روسو يكمن في أنها تهدف إلى تحقيق المساواة في المجتمع وهي تعتبر ديمقراطية بما يعنيه ذلك من تشارك المواطنين في صنع القرارات وتحديد مصيرهم السياسي.
المحور الثاني: العقد الاجتماعي الافتراضي (إيمانويل كانط).
يسعى كانط إلى تفسير فكرة جون جاك روسو حول الحرية بمفهومه الخاص، فيرى بأنها تعني التصرف وفقا للقوانين التي نحددها لأنفسنا، وهذا لا يتطلب أخلاقية السيطرة بالصرامة والقوة، بل إنه يشجع على أخلاق التقدير الذاتي والاحترام المتبادل، وقبل إذن فكانط يعتبر الحرية “الشيء المرعب”، حيث يتجلى هذا الخوف عندما تكون حريتنا غير مقيدة، أي أن الحرية المطلقة قد تؤدي إلى الوحشية، وبالتالي لا يمكن أن تكون أساسا للأخلاق إلا إذا قمنا بتنظيم أفعالنا.
وفي هذا الصدد، بين كانط أهمية الانسجام بين الإرادات، حيث يجب أن تكون إرادة الفرد متناغمة مع إرادات الآخرين، مما يعني أن أفعالنا يجب أن تتوافق مع قانون أخلاقي عالمي وكوني، ويفضل هذا التنظيم المفروض على إرادتنا الوحشية، ليتحول من فوضى إلى نظام، وتصبح الحرية لها شكلا محددا ومنظما.
يبدو أن ما يهدف إليه كانط من خلال فكرة الحرية المنظمة هو تنظيم الأخلاق الطبيعية الجسدية للإنسان، التي تتسم بالانفعالات والرغبات المتضاربة والمتغيرة من شخص لآخر، بهدف جعلها تتماشى مع أخلاق الله المقدسة. وعلى هذا النحو، يقترح كانط أن تكون أفعال الإنسانية موضوعية، وذلك من خلال تحديد الواجب الأخلاقي الذي يتكون من نوعين: الواجب الداخلي والخارجي، فالأول ينبع من إرادة الفرد ذاته، والثاني من إرادة الآخرين.
ويدعم جون راولز هذا الموقف من خلال التأكيد على التوافق بين القانون والإرادة، أي بين الالتزام والحق. ولكن، غالبا ما يعاب على أخلاقياته لكونها تستند إلى ذات متعالية، لكون أن الحق ينظر عليه على أنه سابق على الخير وأولى ومقدم عليه، وقد استقبل راولز فكرة الحق بالمنظور الكانطي، الذي يعتبره أصليا ومرتبطا بجوهر الذات الإنسانية.
ومثلا، فكانط يعتبر الحرية شرطا أساسيا لأخلاقية الفعل الإنساني، ويؤكد أن الواجب لا يمكن أن يكون له شرعية إلا في ذاته، وبالتالي تتلألأ الذات الأخلاقية بذاتها، دون أن ترمي لتحقيق غاية أو منفعة بل لتبرز بجلاء كجوهرة.
فراولز إذن يرى أن النموذج الذرائعي ليس كافيا وغير مكتمل، لكونه لا يركز على إنسانية الأفراد وكرامتهم عبر رفع المظالم وتحقيق العدالة كهدف رئيس، ولهذا يشكل هذا النموذج خطرا على دوام الخير واستمراريته، وبالمقابل، نبه إلى أهمية الاشتغال على تطوير نماذج أخرى جديدة تركز على تعزيز التضامن والثقة النشطة والتي تعني الاستقلال الذاتي المرتبط بالمسؤولية الشخصية والجماعية لضمان الخير والعدل.
نظرية العدالة كإنصاف لدى جون راولز.
المحور الأول: مفهوم العدالة كإنصاف لدى جون راولز.
يبدأ جون راولز رحلته الفلسفية بالاعتراف بأن مفهوم العدالة يختلف عن المفاهيم الأخرى للعدالة، حيث يعرفها على أنها: “مفهوم سياسي للبنية الأساسية لمجتمع ديمقراطي حديث”[5]، بمعنى أن ارتباط العدالة بالبنية الأساسية للمجتمع الديمقراطي يجعلها قضية سياسية بالدرجة الأولى، وليس قضية فلسفية أو أخلاقية بالمفهوم العالي أو المتكامل.
عموما، تعتبر العدالة الأساس الأول للمؤسسات الاجتماعية، وشرطا جوهريا لقبول المؤسسات أو رفضها أو إلغاؤها أو استبدالها بمؤسسات أخرى عادلة، فراولز من خلال مفهومه للعدالة فإنه يسعى إلى توفير أساس فلسفي أو أخلاقي مقبول للمؤسسات الاجتماعية، وبالتالي يحاول التوفيق بين الحرية والمساواة.
و
كما أوضحنا، فالموضوع الأساسي للعدالة يكمن في المؤسسات السياسية والاجتماعية للمجتمع (البنية الأساسية)، وكيفية تفاعلها وتنسيقها في نظام تعاوني متكامل، وتنقسم هذه المؤسسات إلى 3 مستويات تمتد من الداخل إلى الخارج، وتشمل:
+العدالة المحلية: وتشير إلى المبادئ التي يتم تطبيقها مباشرة على مستوى المؤسسات والجمعيات داخل البيئة المحلية.
+العدالة الأهلية: فتتعلق بتطبيق مبادئ العدالة على الهيكل الأساسي للمجتمع بشكل عام، بما في ذلك النظام القانوني، الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي.
+العدالة العالمية: فتتجلى من خلال تطبيق مبادئ العدالة على مستوى القانون الدولي والعلاقات الدولية، حيث تهدف إلى تحقيق المساواة والعدالة بين الدول والمجتمعات العالمية. [6]
وبالحديث عن العدالة الأهلية فإنها ترتكز على الأسرة لكونها أصغر بنية أساسية في المجتمع، حيث تقوم بتربية الأطفال والمحافظة على استمرارية المجتمع، أما في ما يتعلق بالمجتمع المحلي فهو الجهة الثانية من حيث الترتيب التصاعدي، وتظهر العدالة في هذا المجتمع من خلال توزيع الفرص التعليمية والمواهب الطبيعية وغيرها، مما يساعد على تحقيق العدالة الاجتماعية في الساحة المحلية، وتمارس هذه السلطة وفقا للدستور ومبادئ القوانين الأساسية التي تمت الموافقة عليها من قبل جميع المواطنين العقلانيين، وهذا النهج يسهل عملية تحقيق العدالة الدولية في المجتمع الدولي الذي تشبه مكوناته المجتمع المحلي، ولكن بشكل أوسع وبقوانينه الخاصة.
ولتأسيس العدالة فجون راولز يشترط مبدأين أساسيين. الأول: هو حفظ الحريات الأساسية للأفراد داخل المجتمع، كحق التصويت وتولي المناصب العامة وحرية التفكير والاعتقاد…، ومن خلال هذا المبدأ يضمن راولز أن جميع أفراد المجتمع سيحظون بحرياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بشكل متساو، أي المساواة والحرية للكل دون استثناء أو تمييز، ثانيا: يسعى راولز إلى فصل مبدأ الحرية عن متطلبات ومقتضيات المنفعة، حيث لا يمكن تعويض الحرية بامتيازات اقتصادية.
وعليه، فإنه لا يمكن القبول بتقييد الحرية أو الحد منها، حيث تكون الديمقراطية التي تقوم على المساواة في الحريات الفردية والمدنية والسياسية هي الأساس لتحقيق المجتمع العادل.
يعتبر راولز أن الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية يجب أن تكون منظمة لصالح الأقل حظا، حيث يعمل على تسوية التفاوتات لصالح الفئة الأقل حظا، ويشد على ضرورة ترتيب هذه المبادئ في شكل تسلسلي، حيث لا يمكن تبرير انتهاكات الحريات الأساسية بواسطة المبدأ الأول أو تعويضها عن طريق تحقق المنافع الاقتصادية والاجتماعية. كما يرى أن المناصب يجب أن تكون متاحة للجميع، وأنه يجب أن يحصل الكل على فرص متكافئة للمنافسة على المناصب المختلفة، مما يعكس المساواة المنصفة في الفرص.
المحور الثاني: مبادئ العدالة وترتيبها.
+مبادئ العدالة:
إن وضع مبادئ العدالة يعتبرها راولز واحدة من أهم الأسس والمبادئ الضرورية لتحقيق المساواة والعدالة داخل المجتمع، ويرى أنه يجب وضع مبادئ عدالة ملائمة لتحديد الحقوق الأساسية والحريات وتنظيم الظواهر الاجتماعية والاقتصادية.
وردا على سؤال “ما هي مبادئ العدالة الأكثر ملاءمة لتعيين الحقوق الأساسية والحريات، ولتنظيم ظواهر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية في نظرات المواطنين العامة على مدى حياة كاملة؟”[7]، يجيب راولز بأن مبادئ العدالة تتمحور حول الاتفاق بين أشخاص متساوون وعقلانيون يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة بالإجماع عليها، بحيث لا يتضرر أي شخص من الظروف الاجتماعية والطبيعية، وبهذه الطريقة يمكن تحقيق المساواة والعدالة في المجتمع، من خلال تبني المعايير الأخلاقية والعادلة والتركيز على المنافع الكبيرة والعامة.
وعليه، فمبادئ العدالة عليها أن تتبنى سياسات وبرامج تعزز المساواة وتقلل الفوارق بين الأفراد…، وذلك تنظيما لظواهر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، وهذا التنظيم لا يمكن بلوغه إلا بمعالجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تزيد من تفاوت الفرص والثروات في المجتمع…
ولتوضيح، فهذه المبادئ يذكر منها راولز نوعين، وهما.
1/ مبدأ حفظ الحريات الأساسية.
ويعد هذا المبدأ من أهم المبادئ الأساسية التي يجب على المجتمع العادل الالتزام بها، حيث أنه يضمن ويحقق المساواة في الفرص للأفراد ويحمي حقوقهم، وهذا ما يؤكده راولز قائلا: “يتطلب المبدأ الأول ببساطة أن أنواعا معينة من القواعد تلك التي تعرف الحريات الأساسية، أن تطبق على كل شخص بالتساوي وأن تسمح بالحرية الواسعة القصوى المتوافقة مع حرية مماثلة للجميع.”[8]، ويشمل هذا المبدأ الحريات الأساسية. ويقصد بها راولز الحق في التصويت والحرية الدينية والثقافية والتعبير والاجتماع وحرية العمل والتعليم وحق الخصوصية، بالإضافة إلى الحق في الحماية من التوقيف والسجن التعسفي..
هكذا إذن، فالالتزام بمبدأ حفظ الحريات الأساسية تتحقق العدالة والمساواة في الحريات والحقوق بين الأفراد داخل المجتمع بغض النظر عن اختلافاتهم الاجتماعية والاقتصادية..، فالكل ولد حرا ومتساويا في الحقوق مع الجميع دون تفريق وتمييز واحد ما على الآخر، وبالتالي فإزالة العنصرية والتمييز من شأنه تعزيز الاستقرار والأمن والسلام بداخل المجتمع.
إن هذا المبدأ في نظر راولز هو الذي يحمي حقوق وحريات المواطن كفرد باعتباره مصدرا أساسيا للاعتبار وقيمة المواطنة. ويذهب راولز بتأكيده على ضرورة حماية حريات الأفراد لتجنب تعرضهم في المقابل لأي تمييز أو انتهاك، ما يضمن للفرد تمتعه بحرياته الأساسية (حرية التفكير، التعبير، العمل..)، والملحوظ أن هذه الحريات صارت جزءا لا يتجزأ من شعارات حقوق الإنسان منذ الثورات القديمة التي حصلت على مدى التاريخ. كالثورة الفرنسية والأمريكية والعمالية..
يبدو أن راولز ويتحدث عن هذا المبدأ يتوخى من خلاله تحقيق الحريات الأساسية دون صرف الاهتمام عن العدالة وإهمالها.
ينص راولز على أن التركيز الأساسي عنده هو فك الارتباط بين مبدأ الحريات ومتطلبات المنفعة، على الرغم من أهمية هذه الأخيرة على المجتمع ككل. ويشير إلى أن الحرية يجب أن تكون من الأولويات عند وضع ترتيب مبادئ العدالة، ولا يمكن التضحية بأي حرية في سبيل تحقيق المساواة في توزيع الموارد والثروات الاقتصادية. وبهذا، فإن الحرية لا يمكن اختزالها أو تقييدها لأي غرض اقتصادي، ولا تطلب من أجل تحقيق أي مصلحة أدنى منها. وهذا يعني أن الحرية لها أولوية سياسية وأخلاقية على الاقتصاد.
ولذلك، ينبغي عدم تقييد الحرية أو الحد منها، بل على العكس من ذلك يجب حمايتها لجميع الأفراد بصورة متساوية، وضمان حقوقهم وحرياتهم دون تمييز بغض النظر عن فرقاتهم سواء كان ذلك على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي، الديني، الجنسي أو العرقي… وبالتالي، يمكن تحقيق الحرية للكل والعدالة في المجتمع، وتعزيز الأمن والأمان والاستقرار فيه.[9]
تحتل الحريات الأساسية مكانة مهمة ولها قيمة مطلقة مقارنة بباقي الحقوق الأخرى والحريات الاقتصادية، الاجتماعية…
ويجب أولا، التركيز على تحسين شروط حياة الفرد وتحقيق المساواة في الفرص بين الجميع، لأن المجتمع العادل يستند إلى الحرية الفردية والحريات المدنية والسياسية لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية. ويجب العمل على كذلك على تحقيق هذه الحريات للجميع دون استثناء أو تمييز داخل المجتمع الديمقراطي، فهذا الأخير يحقق تنظيما جيداً لنفسه بهذه الطريقة.
وانطلاقا لما تقدم ذكره، فإن الفارق بين الأشخاص لا يتمثل في الحرية بشكل أساسي، وإنما يتمثل في القيمة التي يمكن أن توفرها الحرية من فرص أفضل…، فالحرية التي لا تقبل التنازل هي الحرية التي لا تحتوي على حقوق أقل أو أكثر من المواطنة والمساواة الدستورية في المبدأ الأول. ولكن هذا لا يتعارض مع التفاوت في قيمة الحرية التي يحددها العجز في استغلال الحقوق والإمكانيات المتاحة، ويؤثر وجود مشكل من قبيل. الفقر والجهل وغيرها من العوامل الأخرى بشكل كبير على قيمة الحرية.
ويرى جون رولز ضرورة تقييد الحريات الأساسية من أجل تحقيق المساواة المطلقة بين الأفراد، حيث أن اتساع الحرية لفئة معينة قد يؤدي إلى عرقلة وتقييد حريات فئة أخرى. ولذلك، يعتبر جون رولز أن مبدأ المساواة في الحريات الأساسية. الذي يعطي للجميع الحق في التمتع بالحريات الأساسية دون تمييز، يشكل الطريقة الوحيدة لضمان معاملة جميع الأفراد بنفس المعيار وبنفس المعاملة في مجال الحريات الأساسية، وفي هذا تعزيز وترسيخ لفكرة العقد..، وذلك بغرض تفادي الخلافات والصدامات والنزاعات المحتملة بين الأفراد.
هكذا إذن فراولز جعل مسألة الحقوق والحريات الأساسية فوق كل اعتبار ولا يمكن التنازل عنها مهما كانت قوة المبرر، لكونها ترتبط بكرامة الإنسان باعتباره ذاتا لها كرامة وقيمة.
2/ مبدأ اللامساواة أو التفاوت:
يعتمد جون راولز في فلسفته الأخلاقية والسياسية على مبدأ الحرية، وفكره هنا يهدف إلى منح كل فرد حقه في الحريات الأساسية (التعبير، العمل..)، فإنه يعود كذلك إلى مبدأ آخر وهو مبدأ الاختلاف الذي يشجع على قبول التنوع الاجتماعي والاقتصادي شريطة أن تكون هذه الاختلافات في خدمة الأشخاص ذوي الحظ الأقل وتضمن لهم وضعا جيدا ومريحا.
وفي هذا الصدد يتجلى توضيح هذا المبدأ في كتاب نظرية في العدالة بقول راولز: “يجب ترتيب حالات اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية بحيث تكون (أ) متوقعة بشكل معقول على أنها لمصلحة كل شخص، و (ب) الالتحاق بالمواقع وبالمناصب مفتوحاً للجميع.”[10]
في حين نجد في كتاب العدالة كإنصاف أن صيغة هذا المبدأ الثاني على النحو التالي: “يجب أن تتحقق ظواهر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية شرطين: أولهما يفيد أن اللامساواة يجب أن تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص، وثانيهما يقتضي أن تكون ظواهر اللامساواة محققة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذي هم الأقل مركزا (وهذا هو مبدأ الفرق).”[11]
سعى راولز من خلال هذا المبدأ إلى إزالة الفروقات بين الأفراد وتسوية مستواهم الاجتماعي والاقتصادي عبر تحقيق أقصى استفادة ممكنة للفئات الأقل حظا من التمتع بالخيرات والثروات، وقد استطاع راولز هنا من جعل حالات التفاوت تلك في خدمة للفئات المحرومة، وهذا لا يعني أن التمتع بالخيرات والاستفادة منها يخص الفئات المتضررة فقط، بل إنه للجميع مع القليل من الاختلاف يضع في مقدمة الأولوية الفئات الأقل حظا حتى تتحسن حالاتهم (الاجتماعية، الاقتصادية، المعيشية…).
يشير راولز إلى أن هذا المبدأ الثاني يقوم بتوزيع الدخل والثروة، وعلى تصميم المؤسسات التي تستفيد من التفاوتات في السلطة. ويؤكد على أهمية ضمان توزيع الثروة والدخل بطريقة تحقق الفائدة للكل، بغض النظر عن الحاجة لتحقيق المساواة المطلقة. علاوة على ذلك، يركز على ضرورة توفير فرص متساوية للوصول إلى المراكز القيادية وتولي المسؤوليات..، ولبلوغ هذا فيحصل بجعل المناصب مفتوحة على وجه الجميع والمشاركة فيها، ما يؤدي إلى التقليص من حدة التفاوتات والاختلافات الاجتماعية والاقتصادية..[12]
يمكن الوصول أذن إلى نقطة. أن هذا المبدأ يسعى بالضرورة إلى خلق نوع من التوازن بين المتمتعين والمحرومين من المواهب الطبيعية، وذلك عن طريق تعويضهم من جهة، وخلق التكافؤ في الفرص من جهة أخرى.
إن جون راولز يرى أن الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية تكون عادلة فقط إذا كانت تعوض الأفراد الأقل حظا والأكثر حرماناً، ويؤكد بهذا الصدد على أن كل فرد عليه أن يستفيد من الفرص نفسها حتى يصل لمختلف المناصب والوظائف بداخل المجتمع، التي يستفيد منها في النهاية جاره أو ما يطلق عليه بمبدأ تساوي الفرص.
يشدد راولز على أهمية تنظيم هذه المبادئ بترتيب معجمي، بحيث يكون المبدأ الأول له الأسبقية على المبدأ الثاني. وبهذا الترتيب، لا يمكن قبول أي انتهاك للحريات الأساسية المتساوية بين الجميع، يقول راولز: “يجب ترتيب هذه المبادئ في ترتيب تسلسلي بحيث يسبق الأول الثاني. وهذا الترتيب يعني أنه لا يمكن تبرير انتهاكات الحريات الأساسية المتساوية المصانة بوساطة المبدأ الأول، أو التعويض عنها، من خلال منافع اجتماعية واقتصادية أكبر.”.[13]
يظهر ترتيب مبادئ العدالة عند راولز أن الحريات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها الجميع تأتي في المقام الأول. فهو يرى أن انتهاك هذه الحريات غير مقبول بأي شكل من الأشكال وأنه لا يقبل تعويضها بأي مبدأ آخر، حتى لو كان مبدأ توزيع الخيرات. وهذه الحريات تشكل الأساس الذي تُبنى عليه العدالة، وبدونها. لا يكون للمبادئ الأخرى أي معنى. علاوة على ذلك، تمثل الحريات الأساسية دعائم ركيزة لتكوين المجتمعات وتنظيمها.
إن الوعي بالتفوق الأخلاقي للحرية المتساوية على أي جوانب تتعلق بالتفاوت في المنافع الاقتصادية أو المراكز السلطوية، يأتي من الأولوية التي تمنح للمبدأ الأول في نظرية العدالة بوصفها إنصافاً، وتوضيحا لذلك فراولز يقول: “وتعني هذه الأولوية (كما ذكرنا قبل قليل) أن المبدأ الثاني يطبق دائما ضمن مجموعة مؤسسات خلفية تحقق متطلبات المبدأ الأول (بما في ذلك تأمين القيمة المنصفة للحريات السياسية)، وهي المؤسسات التي ستقوم بذلك في مجتمع حسن التنظيم. والقيمة المنصفة للحريات السياسية تؤمن للمواطنين المتماثلين في المواهب والدوافع فرصا متساوية تقريبا في التأثير على خطة الحكومة وفي الحصول على مراكز للسلطة بمعزل عن طبقتهم الاقتصادية والاجتماعية.”.[14]
ولمواصلة تحديد أهم مبررات أولوية المبدأ الأول، يجب أن نلاحظ أن هذا لا يؤثر على انسجام المبدأين ولا على تناسق جزئي المبدأ الثاني. يرتكز هذا التناسق على فهم مبدأ التباين كما يشرحه جون راولز ويدافع عنه، ولشرح أولوية المبدأ الأول على الثاني: “إن هذه الأولوية تلغي المبادلة (المقايضة كما يقول الاقتصاديون) بين الحقوق الأساسية والحريات التي يغطيها المبدأ الأول والمنافع الاجتماعية والاقتصادية التي ينظمها مبدأ الفرق، فعلى سبيل المثال: لا يمكن حرمان جماعات معينة من الحريات السياسية المتساوية على أساس أن حصولهم على هذه الحريات قد يمكنهم من أن يعطلوا خططا يحتاجها النمو الاقتصادي والكفاءة الاقتصادية.”.[15]
لقد كان تركيز راولز الأساسي دائما على الفصل بين مبدأ الحرية ومتطلبات تحقيق المنافع الاقتصادية. لهذا السبب، يفرض ترتيب مبادئ العدالة بشكل معجمي أي أن يحتل مبدأ الحرية المتساوية للجميع المرتبة الأولى. هذا الترتيب يمنع استبدال الحرية بامتيازات اقتصادية. بمعنى آخر، لا يمكن التضحية بأي قدر من الحرية لتحقيق مساواة في توزيع الموارد الاقتصادية. فالحرية لا تُختزل ولا تُقيد بهدف تحقيق منافع أخرى. فهي تعتبر هدفاً بحد ذاتها، وهذا ما يمنحها التفوق الأخلاقي والسياسي على الجوانب الاقتصادية.
ولذلك، فإننا لا نقبل بأي تقييد للحرية أو الحد منها. بالإضافة إلى ذلك، فعندما نؤكد على أولوية الحقوق الأساسية والحريات، فإن ذلك يعكس طابعاً سياسياً، حيث نفترض وجود ظروف ملائمة ومعقولة. أي أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية تسمح ببناء مؤسسات سياسية فعالة لها جو مناسب لممارسة تلك الحريات. وهذا يتطلب وجود إرادة سياسية، وتشير هذه الظروف إلى أن عوائق الحكم الدستوري يمكن أن تنشأ بشكل كبير من الثقافة السياسية والمصالح الفعالة القائمة، وليس من نقص الإمكانات الاقتصادية أو التعليمية أو المهارات اللازمة لإدارة نظام ديمقراطي.
يرى راولز أن المجتمع الذي يحقق مبادئ العدالة كإنصاف يميل إلى أن يكون مجتمعا قادرا على التخطيط الطوعي. فهو يستجيب للمبادئ التي يتفق عليها أفراد أحرار ومتساوون تحت شروط منصفة. وبهذا المعنى، يكون أعضاء هذا المجتمع مستقلين وتكون الالتزامات التي يقرون بها مفروضة ذاتياً.[16]
وتأسيسا لما سبق، فراولز أثناء تأسيسه لنظريته العدالة كإنصاف كان يسعى إلى خلق توازن جديد بين الحرية والمساواة يقوم على أسس أخلاقية. فمحور نظريته تتحدث عن التحولات التي عرفتها الليبرالية السياسية والتشوهات التي أثرت على الديمقراطية الليبرالية، ثم عن المخاطر التي قد تواجه الحداثة السياسية في العصر الحديث. وهذه التحولات تظهر من خلال انتشار الفردانية والأنانية بالإضافة إلى تفكك الروابط الاجتماعية وضعف مفهوم المواطنة وتراجع الاهتمام بالشؤون السياسية، مع تزايد الهوة بين الحرية والمساواة.
المحور الثالث: الوضع الأصلي.
ومن الأفكار الرئيسة التي تحدث عنها جون راولز في نظريته السياسية بشكل عام، ونظريته في العدالة بشكل خاص، فكرة الوضع الأصلي، وهذا الأخير يعرفه راولز قائلا: “الوضع الاجتماعي المبدئي المناسب الذي يضمن أن تكون الاتفاقيات الأساسية التي يتم التوصل إليها منصفة”[17]، ويشترط أن يكون هذا الوضع افتراضيا، فيقول: “يجب فهمه على أنه وضع افتراضي صرف له هذه المواصفات حتى يقود إلى تصور معين للعدالة”[18]. أي أن يكون تصورا مثاليا مفترضا، وفي هذا الوضع ينبغي وضع الناس في إطار من المساواة الأولية، حيث يلزمهم أن يكونوا متساوين في البداية، ويجب أن تكون المبادئ المشتركة متفق عليها دون تحفظ، حيث يتم التعامل مع هؤلاء الأفراد معاملة متساوية ويحددون التوزيع العادل للحقوق والموارد بشكل معقول ومنصف.
يرى راولز أن الأشخاص المتفاوضون في الوضع الأصلي يجب أن يكونوا عقلانيين وأن يتجاوزوا مرحلة القصور والوصاية المفروضة عليهم ولهذا يقول راولز: “لقد افترضت دائما أن الأشخاص في الوضع الأصلي عقلانيون”[19]
بمعنى أن هؤلاء الأشخاص عليهم بامتلاك خطة عقلانية للحياة ورؤية فردية للوجود، وأن يتمتعوا أيضا بثقافة متطورة تمكنهم من تحديد المقاصد واختيار الوسائل المناسبة لتحقيق الأهداف والوصول إليها بشكل ملائم وبأمانة.
المحور الرابع: حجاب الجهل.
وكذلك من الأفكار السياسية التي تطرق لها راولز نذكر حجاب الجهل. وهو المفهوم الذي أبدعه راولز في نظريته، إذ يراه شرطا في عملية التفاوض بين الأفراد لتحديد المبادئ التي تحكم المجتمع، تقوم هذه العملية على فكرة أن الأفراد يجتمعون لاتخاذ القرارات دون معرفة التفاصيل حول أوضاعهم الشخصية أو مصالحهم الذاتية. وباستخدام حجاب الجهل، يتم تجاهل المعلومات الشخصية الخاصة بكل فرد، مثل الثروة أو القوة أو النفوذ، بحيث يتساوى جميع الأفراد في العملية التفاوضية هذا يحول دون غير الأفراد نحو تحقيق مصالحهم الخاصة وبالتالي يعزز النظر إلى المصلحة العامة والعدالة الاجتماعية.
وعلى هذا النهج إذن تتمكن المجتمعات من وضع مبادئ عادلة تعكس اهتمامات الجميع، بدلا من تفضيل مصالح الأقوياء والأثرياء، ذلك أن حجاب الجهل يضمن أن اختيار هذه المبادئ يكون ناتجا عن اتفاقية عادلة تحتوي على مصلحة الجميع، ويمتنع عن تمييز أي شخص أو مجموعة على حساب الآخرين.
عموما، فحجاب الجهل يمثل تطبيقا عمليا لمبادئ العدالة الاجتماعية، حيث يسهم في تحقيق التوازن والعدالة في توزيع الموارد واتخاذ القرارات في المجتمع.
قيمة النظرية السياسية الأخلاقية الراولزية.
المحور الأول: النتائج الإيجابية المترتبة عن الطرح الراولزي.
في إطار نظرية العدالة كإنصاف التي وضعها جون راولز، فإنه يسعى من خلالها إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي من خلال بناء مجتمع منظم ومنصف، حيث تهدف المؤسسات السياسية والاجتماعية إلى غرس مفهوم العدالة في نفوس الأفراد ومع ذلك فإن راولز يدرك التحديات التي تعترض الطريق لتحقيق هذا المجتمع المثالي، وهذا الأخير وصفه قائلا: “إن المجتمع حسن التنظيم الذي يقبل كل أعضائه العقيدة الشاملة ذاتها، هو مجتمع مستحيل الوجود في واقع التعددية المعقولة”[20].
ولتحقيق فكرة المجتمع الليبرالي المنظم بشكل جيد، قام راولز بإدخال تغييرات جوهرية في كتبه حول الليبرالية السياسية والعدالة كإنصاف، وقد اقترح راولز فكرة الإجماع المتشابك بين المفهوم السياسي الأصلي والمدارس الفلسفية المتعددة والمعقولة بهدف جعل نظريته قابلة للتطبيق في الواقع بشكل مستدام، مما يحقق الاستمرار الاجتماعي السياسي.
ويعد هذا الاستقرار نتاجا للعدالة التي يتمتع بها أفراد المجتمع، وهو يعكس الاستقرار الذي يتحقق في مجتمع يتمتع بالتنظيم المناسب والعادل، ومن الضروري بالفعل أن يتم تربية الأفراد في مجتمع منظم بشكل جيد وعادل، حيث يتمكنون من اكتساب القيم الأخلاقية الضرورية وهي العقلانية والمعقولية وتحويلها إلى مبادئ عملية تطبق في حياتهم اليومية بعد الإقرار بها.
ويهدف راولز بموجب رؤيته إلى تجديد الأساليب الاجتماعية وتطويرها بشكل يضمن العدالة، وذلك من خلال تحديد الحقوق والواجبات السياسية التي تنصها المؤسسات السياسية والاجتماعية، مع إيجاد نماذج وأسس لتوزيع الفوائد المنبثقة عن التعاون الاجتماعي.
ويتميز الفرد العقلاني والمسؤول في هذا السياق بقدرته على السيطرة على غرائزه الخاصة من أجل الاهتمام بمصلحة المجتمع والتكاثف مع أفراده، فضلا عن فهمه للعلاقات بين المعايير والقيم التي تم تطويرها وتنظيمها خلال مراحل نموه، وتنسيقها وفقا لمفهوم شامل يتمثل في المواطنة السياسية داخل مجتمع محكم بواسطة دستور يستند إلى مبادئ العدالة.[21]
وعليه، فإن الإجماع المتشابك يمثل حقا مؤكدا يضمن الرفاهية والخير السياسي ويؤمن استقرارا مستداما من خلال الوسائل الليبرالية الديمقراطية، ويتضمن هذا الاتفاق ضمان الحقوق الأساسية والحريات وتوفير الفرص والحد من التفاوتات، ووفقا لهذا النهج، فالعدالة كإنصاف يمكنها أن تكون واقعية وقابلة للتحقق على أرض الواقع.
المحور الثاني: الانتقادات الموجهة لنظرية العدالة.
واعتبر نوزيك أن راولز رفض أي مفهوم لحقوق الملكية المطلقة التي ينادي بها المتحررين، مما يعكس تبنيه لوجهة نظر متساهلة أكثر تجاه الحقوق الاقتصادية والملكية الفردية.
وكذلك نجد هابرماس الذي انتقد نظرية راولز من خلال 3 مسائل أساسية، وهي:
+المسألة الأولى: شكك هابرماس من قدرة الوضع الأصلي، كما وصف العدالة على أنها إنصافا، وتمثيل حكم أخلاقي موضوعي حيادي واجبي بشأن مبادئ العدالة، ويثير هابرماس أسئلة حول إمكانية قدرة أطراف الوضع الأصلي على فهم مصالح تمثيلهم وتأثير الأنانية والعقلانية عليها، وكيف يمكن للحقوق والحريات الأساسية أن تتمثل في المنافع الأولية، وهل يمكن لنظام الحكم بموجب حجاب الجهل أن يضمن الحياد والنزاهة؟
+المسألة الثانية: يستلهم راولز قائمة المنافع والخيرات الأولية التي يحتاجها الأفراد من أجل تحقيق خططهم الحياتية، ومع ذلك فهابرماس يجد صعوبة في قبول أن أطراف الوضع الأصلي سيتنازلون عن قيم الأخلاق الواجبة لصالح تلك المنافع المثالية.
+المسألة الثالثة: يشكك هابرماس في قدرة الأطراف على اتخاد قرارات وأحكام حقيقية في ظل حجاب الجهل، ويشير إلى ضرورة جعل مفهوم العقل العملي أكثر إجرائية بدلا من تجريده من الموضوعية والحياد، كما يقترح هابرماس أن عدم التعامل مع التعددية الثقافية في المجتمع يمثل نقصا في نظرية راولز.
إذن، هابرماس يرى بأن راولز لم يتمكن من إثبات ضرورة الحياد والنزاهة في مواجهة وجهات النظر المتعددة والمتناقضة، وذلك بعد رفع حجاب الجهل ودخول مرحلة اكتساب الشرعية من خلال الحصول على الإجماع المتشابك.
وختاما، يمكن التوصل كتأسيس لما سبق ذكره إلى عدة نقاط رئيسة، وهي:
أولا: سعى راولز من خلال نظريته إلى تصحيح التحولات التي أصابت المجتمعات الليبرالية، حيث عمل على إصلاح الانقسامات والتفاوتات ومظاهر الظلم والمعاناة التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الواقع الاجتماعي، بوصفها بديلا للمذهب النفعي الذي اعتبره نسبيا لكل المشاكل والتصدعات…، حيث أن نظريته تطمح عامة إلى العدالة والمساواة.
ثانيا: حدد راولز نظريته في العدالة بناء على مبادئ أساسية تمثلت في التوافق الذي حصل بين الأفراد المتفاوضين في الوضع الأصلي، وكانت هذه المبادئ نتيجة لتفاوض حيث تم التفاهم عليها وإقرارها وسط غموض حول معرفة مكانهم في المجتمع تحت ما يسمى بحجاب الجهل.
ثالثا: أعاد راولز إحياء موضوعات فلسفية سياسية مهمة في السياق الليبرالي المعاصر، بعد فترات من الركود نتيجة سيطرة المذهب النفعي، فقام راولز ببعث التنوع والنقاش الفلسفي التأصيلي، مما أدى بشكل كبير إلى تسليط الضوء على المشكلات الليبرالية من الداخل وفقا لمبادئ الليبرالية ذاتها، كذلك برر الحاجة المتزايدة للمساواة والتدخل من أجل إعادة توزيع الثروة وتوفير الفرص، والحفاظ على جوهر الحريات والحقوق الأساسية. هذا أجبر التوجه النفعي على الدفاع عن نفسه بعد أن كان السيد والمهيمن بشكل مطلق.
رابعا: تكمن الأبعاد الأخلاقية السياسية في فكر راولز من خلال سعيه ورغبته في تجاوز الخلافات المعروفة حاليا بصداع الحضارات، وذلك بالتركيز على السبب الرئيس لهذه الصراعات…، الذي اعتبر أنه هو الدين، فينظر راولز إلى أنه ينبغي إرجاع كل ما يتعلق بالاختلافات والعقاب إلى الله وحده، ويؤمن راولز بأن البشر يجب أن يعيشوا معا كأفراد متساوين بصورة إنسانية، مع الاهتمام بعقائد كل فرد دون المساس بحرية الآخرين.
يمكن القول إذن بأن راولز أراد الوصول إلى عدالة كونية وإنشاء مجتمع يتم توحيده تحت قانون أخلاقي واحد، يبرز الأساس الأخلاقي في فلسفته السياسية انطلاقا من نظريته العدالة كإنصاف بين أفراد المجتمع، من خلال إلغاء الفوارق والنزاعات وحماية الطبقات المحرومة والضعيفة في المجتمع، وبالتالي تحقيق التآزر والتلاحم بين المواطنين داخل المجتمع وتعزيز روح الأخوة الإنسانية.
بيبليوغرافيا:
1. جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة د. ليلى الطويل، منشورات الهيئة العامة السورية لكتاب وزارة الثقافة، دمشق، 2017، ص: 12.
2. نوفل حاج لطيف، أطروحة حول العدالة في الفكر الفلسفي المعاصر، حوار منشور في الموقع الالكتروني الرسمي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
3. المصدر نفسه، نظرية في العدالة، ص: 59.
4. جون رولز، نظرية في العدالة، المصدر السابق، ص: 39.
5. جون رولز، العدالة كإنصاف إعادة الصياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنطقة العربية للترجمة بيت النهضة، بيروت، لبنان 2009، ًص:164.
6. جون رولز، نظرية العدالة كإنصاف، المصدر السابق، ص: 101.
7. جون رولز، نظرية العدالة كإنصاف، المصدر السابق، ص: 147.
8. جون رولز، نظرية في العدالة، المصدر السابق، ص: 97.
9. نوفل حاج لطيف، جون رولز نظرية آدابية في مبادئ العدالة، مجلة دراسات فلسفية، مجلة محكمة نصف سنوية، تصدر عن الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، العدد 2، يونيو 2017، ص 148.
10. جون رولز، نظرية في العدالة، المصدر السابق، ص 93.
11. جون رولز، العدالة كإنصاف، المصدر السابق، ص: 148.
12. جون رولز، نظرية في العدالة، المصدر السابق، ص: 94، 95.
13. جون رولز، نظرية في العدالة، المصدر السابق، ص 94.
14. جون رولز، العدالة كإنصاف، المصدر السابق، ص 154.
15. جون رولز، العدالة كإنصاف، المصدر السابق، ص 154.
16. جون رولز، نظرية في العدالة، المصدر السابق، ص 41.
17. جون رولز، العدالة كإنصاف، المصدر السابق، ص: 46.
18. المصدر نفسه، العدالة كإنصاف، ص: 39.
19. جون رولز، نظرية في العدالة، المصدر السابق، ص: 191.
20. جون رولز، العدالة كإنصاف، المصدر السابق، ص: 98.
21. محمد عثمان محمود، العدالة الاجتماعية الدستورية في الفكر الليبرالي السياسي المعاصر، بحث في نموذج رولز، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، قطر، ماي 2014، ص: 251/252.
————–
*فاطمة كورتي: طالبة باحثة بشعبة الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة، الرباط.
*المصدر: التنويري.