المقالاتفكر وفلسفة

أسئلة التنوير.. مفاتيح المستقبل

مدخل:

تُحَدِّثُنَا المنقولات الفلسفيَّة أنَّ أسئلة التنوير ظلَّت دائماً متعدِّيَّة للزمان والمكان باعتبارها استفسارات تأسيسيَّة وبَعْدِيَّة، تبتغي إحداث التَغَيُّر المنشود، وفتح مجالات التحرُّر العقلاني من قيود الراهن الإنساني بالعلم والتقنية والابتكار والإبداع. ومثلما يحدِّد العلم والتكنولوجيا اليوم مسار المجتمع، الذي سنعيش فيه، كانت الفلسفة، وما تزال، تسعى لاستكشاف مسارات يُعَمِّرها شعاع المعرفة العقليَّة، التي استهدفت إشاعة التنوير، الذي ينبثق من كل حركة تجديد وتقدُّم في الحياة. لهذا، نركن اليوم إلى حقيقة أنَّ الإنجازات العلميَّة، والتكنولوجيَّة الرئيسة، تحتاج أيضاً إلى اتباع مسار أخلاقي، وفلسفي، يجب أن يتمّ إنشاؤه خصيصاً لها. فالإمكانيَّات، التي تتيحها هذه التقنيات الجديدة تعمل على تغيير طريقة فهمنا للمعالجة، والحل، في المجتمع، الأمر الذي يؤدِّي بدوره إلى تهيئة القرارات، والتي نتَّخذها لتنظيم حياتنا في كوكب مزدحم الخيارات. وتؤثر كذلك على المفاهيم الأساسيَّة، التي استخدمناها سابقاً لتوجيه تَعَايُشنَا على هذا الكوكب؛ أو مثل، ما جلبته العولمة، من آنيَّة التواصل، والتنميَّة، وتلوّث المدينة، والجريمة، والأوبئة والجوائح، من بين عدَّة أشياء أخرى، تضطرب بها النُسُق الناظمة لهذا التعايش. 

إنَّ التحوُّل يحدث الآن في كل مجالات حياتنا، وفي جميع سياقات المعرفة المرتبطة بهذه المجالات. ولمنعنا من الخضوع للقوى المعاكسة لهذا التغيُّر القيمي؛ وسرعة التغيير التقني أحياناً، حيث يتمّ حجب التقدُّم بسبب عدم اليقين، نحتاج إلى أسئلة تنوير جديدة، تكون هي مفاتيح المستقبل، الذي نرنو إليه بعين العقل المؤمن. فقد غيَّرت التكنولوجيا كيف نتفاعل فيما بيننا، ومع بيئتنا المحيطة، ويجب علينا الانخراط في تفكير فلسفي حول كيفيَّة فهمنا حالياً للعالم “الجديد”، الذي نحن جزء منه، أو مقبلون عليه. إذ يحتاج مستقبل عيشنا في المجتمع، كما هو محدّد في الثورات العلميَّة والتكنولوجيَّة، إلى اتِّجاه أخلاقي وفلسفي مخصَّص لمجابهة القضايا الكبرى، التي تُظْهِرُهَا هذه الثورات المتسارعة. إذ سيتغيَّر الجنس البشري مع التحرير الجيني؛ ويتحدَّى الذكاء الاصطناعي مفهوم الـ”أنا”، و”الفرد”، وسيحضر صانعو الروبوتات أنواع وأشكال مُصَاحِبَة للإنسان جديدة، نحتاج إلى تعريفها، واعتمادها اجتماعياً. وستمكّننا التقنيات الأساسيَّة، والبيانات الكبيرة، من توسيع قدراتنا المعرفيَّة، لكن، هل من الممكن، ونحن نُجابِه كل هذه الخضَّات الاجتماعيَّة، حماية حرّيتنا، وعُرَى عقائدنا وإيماننا، وما تعلَّقنا بأهدابه من مبادئ كونيَّة لحقوق الإنسان، في مثل هذا السيناريو، باستخدام الأدوات الحاليَّة؟ 

العلم نور:

بالقطع لا يمكن أن نتوقَّع إجابة واحدة على ما تقدَّم من استفسارات حملها هذا السؤال، ولكنّنا سنطرح في متن هذا الحديث توضحيات، تتضمّنها عدد من التصورات، التي يقترب الاتِّفاق عليها عالميّاً، تؤشِّر على مستقبل التخصُّصات، والتي تتطلَّب تنويراً جديداً، أي مراجعة للمفاهيم الأساسيَّة لأخلاقياتنا، وقيمنا، وأسئلتنا الحارقة، والتي ينبغي أن تمثِّل إجاباتها مفاتيح المستقبل، الذي نتطلَّع إليه. فقد استهلَّ الفلاسفة قديماً حوارات حول القضايا الكبرى بمنطق التَخَلِّي، أي دفع الناس إلى ترك ما عَدُّوه سبباً للتخلف، ومن تلك القضايا، التي شعروا بها بأهميَّة طرحها؛ كمقدمة لاستعادة العقل، هي التحرُّر من الأساطير الدينيَّة، واستخدام العقل بدلاً من ذلك، وانتهاج حريَّة الفكر كجزء من النضج، وتَمَثُّل الوعي الذاتي الفردي، والمجتمعي؛ مع عدالة الزيادة في المعرفة، والتحرُّر من أنواع مختلفة من التدخُّل، مقارنة بأوقات ما قبل التنوير. ومع ذلك، لم يكن الناس يعتقدون أنَّ التنوير يمثِّل تقدّما فيما يتعلَّق بإعادة توزيع الموارد، في عصور تعتصرها ضغوط الإقطاع. والحقيقة أنَّ الكثير من الفلاسفة المعاصرين لا يرون تَغَيُّرَاً قد حدث في هذا الجانب، فالناس يخسرون اليوم، مثلما كانوا في عصور الإقطاع، بسبب الفشل في التحرُّر من السيطرة الرأسماليَّة على الموارد.

لقد كان يُعْتَقَد، على نطاق واسع، أنَّ الإجابة أقل وضوحاً عندما يتعلَّق الأمر بالقضاء على التحيُّز في توزيع الموارد، بينما رأى البعض أن بعض التقدُّم قد تمَّ إحرازه، عبر تطبيقات قيم العدالة الدينيَّة والسياسيَّة، ولكنَّه محدود. ويجادل آخرون أنَّ زيادة إنتاج الموارد سلاح ذو حدين، كما أن كل التطوّرات التكنولوجيَّة ليست بالضرورة تقدّميَّة، ويقدِّمون، على سبيل المثال، القنبلة الذريَّة، باعتبارها قمَّة التقدُّم العلمي، في حين أنَّ قوّتها التدميريَّة تمثِّل أبشع صور هذا التقدُّم. مثلما يمكن اعتبار ما بعد الحداثة تقدّماً، ونقصاً له؛ إذا تمَّ أخذه خطوة أبعد من الحداثة، تستهدف هدم القيم المرعيَّة في المجتمعات، وعلى رأسها القيم الدينيَّة الإيمانيَّة. في حين أن ارتباط الحداثة بفكرة عدم وجود إجابات على الأسئلة الكبرى يشير إلى أنها لا يمكن أن تمثِّل تقدُّماً. وفي مثل هذه المفارقات، فإن ما لا يمكن معرفته بشكل شامل، يُكْسِبُ مهمَّة المعرفة ذاتها شعوراً بالقلق، ويفتحها على غير قليل من الانزعاج، وأحاسيس الضياع. وللإشارة إلى هذا الأمر كتصوّر مقارن، يجب التأكيد على أن المعرفة؛ في ظروفها المحتملة، وأساليب إنتاجها، هي دائماً تاريخيَّة ومحدَّدة بأزمانها. وهذه الفرضيَّة الأساسيَّة قد تشكِّل نظرة ثاقبة، خاصَّة في دراسة تتصارع مع الحداثة العلميَّة الدائمة، التي هي في معركة إدانة مستمرَّة للخرافات والأساطير، وتتهيأ أبد لإعلان الدين العقلاني، الذي لا يؤمن به أحد.

لهذا، نجد أنَّ قامة فكريَّة وفلسفيَّة مثل ديكارت يقول إنَّ غايَّة العلم هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، وهذا تطمين لكل المطمئنين للميتافيزيقيا، وهو نفسه كان يسمِّي ذلك تطمينا للميتافيزيقيا. إذ خَشِيَى أن تتعثَّر مسيرة العلم بسبب مواجهة بعض المُدَّعِين فيه مع الأديان وحقائق الإيمان، وكل من يؤمنون بالماورائيات، أو القوى الخالقة المهيمنة على العالم. وحتى لا يحصل هذا التضارب، ويؤخذ جانب واحد من جوانب التنوير في أوروبا، اجتمع أكثر من 120 من العلماء والمفكّرين الكبار ليضعوا أسئلة المستقبل لجيل المستقبل حتى يعرّفوهم على التنوير، وحتى يستمرّ هذا القلق المعرفي لقضايا التنوير، كقضايا التأسيس لهذا التنوير، التي لا نتساءل عنها كثيراً هنا، فكتبوا سبعين ألف مقالة، نُشِرَت في 28 مجلداً، لِتُطَالِعها أجيال المستقبل، ولتحقيق التواصل المعرفي حول قضيَّة التنوير مع الجميع. وكانت كل الأصول محفوظة في هذا الجهد المعرفي الضخم؛ أصول العلمانيَّة للتنوير الفرنسي، والأصول المؤمنة للتنوير الأسكتلندي، والأصول الكلاسيكيَّة والتقليديَّة للتنوير الألماني، وغيرها من مدارس التنوير الغربي، فحفظوا هذه الأصول كأساس لطرح الأسئلة المختلفة الآن وفي المستقبل.

سؤال الحال:

بالنسبة لي، فإنَّ قضيَّة السؤال العادي العام، الذي يستصدر الإجابة المباشرة، لا يخدم قضيَّة المعرفة، ولا يخدم قضيَّة التنوير، لكن السؤال القَلِق، الذي يذهب ويبحث باستمرار عن تجدّد الإجابة، ويقتحم المستقبل، ويستفسر ما يُحَصِّله من إجابة، هذا ما يسعى إليه التنوير، وما يبحث فيه وعنه الفكر. فأقضية الفكر تُخدم دائماً بأسئلة مستمرَّة؛ أسئلة متجدِّدة، أسئلة لا تبحث عن إجابات مباشرة، إنما تخلق الإشكاليّات بشكلٍ مستمرّ حتى تستولد إجابات صالحة للزمان والمكان. وهذه هي قضيَّة المعرفة، كما هي قضيَّة الدين كذلك، لأنَّ “عالم الضرورة” هو راهن ينبغي أن يجيب عن أسئلة في وقتها، أو كما يسمّيها بعض أهلنا في المغرب، أو الأندلس القديمة “النوازل”؛ أن نجد فقهاً لقضايا الحاضر في وقت الحاضر، ولكن هناك قضايا كثيرة جداً متعدّيَّة ينبغي أن نبحث لها كذلك عن أسئلة متعدّيَّة في المستقبل، وهذه قضيَّة الدين. فأسئلة التدين والإيمان مُتعديَّة، والدين أصلاً مُتجدد، لأنّه صالح لكل زمان ومكان. لذا، لا يصلح بفكرٍ واحد، ولا يصلح بإجابات واحدة، وإنما ينطلق من عالم الضرورة إلى مساءلة المستقبل بمفاتيح المستقبل. 

ولهذا، فإن الانطلاق من عالم الضرورة يوجِد ضرورات الحاضر في كل وقت، وفي كل جغرافيا كذلك، لأنّ الجغرافيا تغيِّر طبيعة الأسئلة؛ فقضيَّة تغيير الزمان والمكان ضروريَّة جداً في عمليَّة طرح الأسئلة المتعدّيَّة، وطرح الأسئلة الإشكاليَّة، التي تبحث عن إجابات في كل زمان ومكان. وفي هذه الملاحظات أحاول التقاط بعض النقاط الرئيسيَّة، التي خرجت منها اليوم، لأن تقديري لها أن هذه مناقشة مستمرة، وأنا متأكد من أننا سنواصل استكشافها لسنوات عديدة قادمة. وحتى أقرِّب المسألة، وقد امتدّ اليوم طويلاً، لا بد من إشارات مباشرة لقضايا مباشرة. فقد تحدَّث الدكتور محمد أبو رمان، عن موضوع أزمة الفكر العربي، وأعتقد أنَّ أزمة الفكر العربي، وهذا الحديث ذكرته في حينه، إذ كنت باحثاً في المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، عندما بدأت هذه الحركة، حركة أسلمة العلوم، وما صاحبها من جهد قَيِّم في النظر إلى أزمة العقل. وأيضا نظَّر إلى أنَّ مشكلة العلوم ومشكلة التطوّر كقضيَّة متعلّقة بالفكر، وأنّ هنالك أزمة في الفكر العربي، فكانت مساهمتي دائماً، أنّ هناك أزمة في السؤال؛ لأن الفكر العربي تأزَّم لأنّه لا يعرف طرح السؤال المناسب في الوقت المناسب، أو السؤال المتعدّي الذي يساهم في دفع الناس إلى البحث عن هذا التطوّر، أو التقدّم. في حين أنّ الفلاسفة الغربيُّون عندما اطّلعوا على قضايا التنوير الأساسيَّة، كانت تشغلهم أسئلة قضايا الحقوق والعدالة، إلخ، وكانت هناك أسئلة أساسيَّة داخل هذه القضايا نفسها، لم تحسم إجاباتها مطلقاً. فالتطوّر حصلت فيه دائماً مساءلة؛ هل التطوّر مفيد؟ هل التطوّر يخدم العدالة؟ هل زيادة التقدّم والإنتاج يخدم عدالة التوزيع؟ كل هذه الأسئلة لم نسألها في عالمنا.

من ذاكرة التنوير:

واسمحوا لي، ونحن نستذكر أسئلة التنوير، أن أستحضر هنا؛ للتذكير، ثلاث ندوات عربيَّة أساسيَّة، انتظمت في التاريخ الحديث، حاولت التأسيس لفكرٍ عربي تنويري قَاصِدٍ لمساءلة مستقبل النهضة العربيَّة. وقد أمَّهَا سياسيُّون ومثقّفون وعلماء وفلاسفة، وطُرحت فيها الكثير من الأسئلة العاديَّة، واجترحت غير قليل من الإجابات المُنْقَطِعَة.

الندوة الأولى، هي “المؤتمر العربي”، التي نظَّمها نُخْبَةُ من طلائع القوميين العرب، من وصفوا أنفسهم بـ”أحرار العرب”، واشْتُهِرَت بـ”ندوة أحرار العرب”، وعُقِدَت في يونيو 1913، بمقرّ “الجمعيَّة الجغرافيَّة” الفرنسيَّة، في سان جيرمان باريس. وكانت القضايا والأسئلة، التي طُرِحَت وركز عليها المؤتمرون في ذلك الزمان، حول العلاقة مع الدولة العثمانيَّة؛ والدولة العثمانيَّة لمن يقرأ واقعها في ذلك التاريخ، لا بد يعلم أنّها في سبيلها للوداع، إذ بلغت مرحلة الانهيار الكامل، إلا أن صِراعها مع الحركة الطورانيَّة، أو ما عُرِفَ بـ”الاتحاد والترقي”، شكلت تحدّياً مشتركاً جمع بين العرب والدولة العثمانيَّة. وأسهمت هذه التفاعلات والتداعيات في بلورة الفكرة القوميَّة العربيَّة بهدف التخلّص من سيطرة الطورانيين، التي تصاعدت إلى ذروتها وشموليّتها بما جسّدته ثورة الشريف حسين بن علي في الحجاز في العاشر من يونيو عام 1916، التي جاء في بيانها الأول: “لن نترك كياننا الديني والقومي ألعوبة في أيدي الاتّحاديين وقد يسّر الله تبارك وتعالى للبلاد نهضتها كما وفّقها بحوله وقوّته لأخذ استقلالها”. فحماية الكيان الديني والقومي كانا المحرِّك الأساس لمناهضة الحركة القوميَّة التركيَّة الطورانيَّة، التي انحرفت بمبادئ الخلافة الإسلاميَّة، التي كان العرب وغيرهم، يشعرون بالاطمئنان تحت رايتها الجامعة.

لهذا، يتأكد خطأ الاعتقاد الشائع أنَّ أحرار العرب وثورة الشريف حسين كانت ضدّ الخلافة العثمانيَّة، بقدر ما هي حامية للدين، بل حاربوا الانجراف الطوراني العنصري ضدّ القوميَّات المُكَوِّنَة للإمبراطوريَّة. وبهذا يثبت أنّ القادة من العرب المسلمين لم يفصلوا إذاً بين العروبة والإسلام في نضالهم القومي الإصلاحي؛ منذ “الجمعيَّة القحطانيَّة” عام 1909، و”الجمعيَّة العربيَّة الفتاة” عام 1911، و”المؤتمر العربي” عام 1913، و”الثورة العربيَّة” عام 1916، بل وقفوا ضدّ الطموحات العنصريَّة الطورانيَّة وحماية للدين، كما جاء في بيان الشريف حسين المذكور “لن نترك كياننا الديني والقومي ألعوبة في أيدي الاتّحاديين” الطورانيين، وليس العثمانيين. وعَبَّرُوا، من جانب آخر، عن إدراكهم أن الإمبرياليَّة الأوربيَّة تشكِّل خطراً على الولايات العربيَّة العثمانيَّة حيث أن بعض الدول الأوربيَّة قد احتلَّت بالفعل عدداً من الأقطار العربيَّة؛ مثل، مصر، والسودان، وليبيا، وتونس، والجزائر، وبدا أنها تتطلَّع لتقاسم البقيَّة فيما بينها. بناء على ذلك رأت الحركات القوميَّة العربيَّة أنَّ سبيلها الأفضل هو البقاء في إطار الدولة العثمانيَّة، اعتقاداً منهم أنها قويَّة بما يكفي لردع هذه الأطماع الإمبرياليَّة، وأنَّ الإمبراطوريَّة العثمانيَّة نفسها لا تشكِّل خطرا عليهم. رغم أن ذلك لم يمنعهم من السعي لتحقيق مطامحهم القوميَّة، التي كانت تستوجب إجراء إصلاحات في نظام الحكم وتحويله إلى نظام لا مركزي، لأن ذلك سوف يحقِّق هدف العرب في التطوُّر والنهضة، ومطمح الأتراك في الإبقاء على الإمبراطوريَّة العثمانيَّة.

إنَّ الإدراك العربي للحال الخاص، وللواقع العالمي، في ذلكم التاريخ، الذي أنتجته حركة “التنوير القومي”، التي لم يكن أوّلها كتاب نجيب عازوري “يقظة الأمَّة العربيَّة في آسيا التركيَّة”، الذي نُشِرَ باللغة الفرنسيَّة في باريس عام 1905، بل بدأت في المشرق العربي، في النّصف الثاني من القرن التاسع عشر بتأليف أوّل جمعيَّة عربيَّة؛ عُرفت باسم “الجمعيَّة العلميَّة السوريَّة” سنة 1857، والتي كان من أهدافها: دعوة الأمّة العربيَّة الى النّهوض من تخلّفها والى التخلُّص من نير الحكم العثماني الذي كاد أن يفقد العرب مقوّمات أمّتهم، حضارتهم تراثهم واللغة. ويذكِّرنا التاريخ بقصيدة الشيخ ابراهيم اليازجي، المعروفة بالبائيَّة، في أعضاء هذه الجمعيَّة سنة 1868: “تنبّهوا واستفيقوا أيّها العرب.” وقد جاءت ردّة الفعل هذه، كما أسلفنا، في مقابل الحركة الطورانيَّة، فتمثّلت حركة التنوير العربي في تمجيد العرب والعروبة، وفي التمسّك باللغة العربيَّة، وفي رفض هيمنة السلطات الأجنبيَّة وفي الاعتزاز بالتاريخ العربي، دون أن تجنح لمعاداة الإسلام، كما فعلت بعض التيارات القوميَّة لاحقاً. وقد أصدر “المؤتمر العربي” مجموعة من القرارات، التي طالبت بالإصلاح، وبالحكم الذاتي، وباعتبار اللغة العربيَّة لغة رسميَّة، والسماح للعرب بالمشاركة بالحكم، وضمان التمتُّع بحقوقهم السياسيَّة.

الندوة الثانية، وأعتقد أنّها من أهمّ الندوات، التي عقدت في مسيرة الفكر العربي الحديث، هي ندوة الكويت في العام 1974، وكنت قد شاركت بورقة في “الندوة الرئيسيَّة لمهرجان القرين الثقافي العشرين”، التي انتظمت في الفترة من 14 إلى 16 يناير 2014، بعنوان: “أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي: إعادة تفكير 1974-2014″، والتي أرادت إعادة قراءة ومراجعة تقييميَّة، بمناسبة مرور 40 عاماً على انعقادها ما بين 7 و12 أبريل 1974. وكانت مساهمتي في المحور الأول “الحضارة وقضيَّة التقدُّم والتخلُّف”، ورغم احتفائي المستحقّ بجدارتها، وحصافة توقيتها، وما طرحته من تصوّرات لامست مقتضى الطموحات، إلى أنّ مما لاحظناه أنَّ  الأسئلة التي طُرِحَت، كانت أسئلة الانتصار العسكري في حرب الـ73، وأسئلة الانتصار السياسي في موضوع المقاطعة النفطيَّة في ذلك الوقت؛ لأنّه انتصار إجماع عربي لأوّل مرَّة يتحقَّق، رغم أنّها تحدّثت عن قضيَّة التقدُّم؛ قضيَّة التطوّر والنهضة والتخلّف، لكن لم تطرح أسئلة متعدّيَّة كافيَّة، كما لم تتمّ محاكمة قضيَّة التطوّر والنهضة وحتى التخلّف، بما يشفي من أسئلة إشكاليَّة.

والندوة الثالثة، هي “ندوة النظام الاجتماعي العربي المعاصر: آفاق الثمانينات”، التي احتضنتها القاهرة، في9 – 11 فبراير 1985، والتي كانت حاشدة بالأوراق العلميَّة، والمساهمات القيِّمة حول النظام الاجتماعي العربي، ولكن كان سقف توقّعاتها عقد الثمانينات. وتحدِّثنا كل المراجع الآن أنَّ التحولات العولميَّة الحقيقيَّة انداحت في أرجاء المجتمعات الإنسانيَّة مطلع عقد التسعينات، الذي كان بينه وانعقاد تلك الندوة خمس سنوات، لم تتجاوزها أسئلة الاستشراف العربيَّة. وهذه قضيَّة منهجيَّة علينا أن نتذكَّر بها أن “الآفاق”، في شأن التغيُّر والتحوّلات الاجتماعيَّة، ينبغي أن تتعدَّى العقود إلى ما يرسمه المستقبل من ملامح هذه التغيُّرات والتحوُّلات في بنية مجتمعاتنا. ومن هنا، فقد أردت بهذا الحديث، وهذه الاستعادة لفكرة هذه الندوات الثلاث، لإلقاء نظرة على بعض ما كان من اجتهادات في طريق التنوير العربي، قبل الولوج إلى ما استجدّ في حركة التقدُّم العلمي، منذ نهاية الثمانينات، وسيشكِّل نظرتنا للمستقبل، وسيحدِّد الأسئلة الرئيسة، التي ينبغي مراعاتها عند أي محاولة لتعريف ما يُعرف بالتنوير الجديد في الغرب؛ بمعنى آخر، مراجعة للمفاهيم الأساسيَّة لأخلاقياتنا، وقيمنا، وما إذا كانت تتوافق، أو تتعارض مع ما سيمر به قطار التقدُّم على مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة.

ثِمار التقدُّم:

يحدِّد العلم، والتكنولوجيا اليوم مسار المجتمع، الذي سنعيش فيه. لكن الإنجازات العلميَّة، والتكنولوجيَّة الرئيسة، تحتاج أيضاً إلى اتباع مسار أخلاقي، وفلسفي، يتم إنشاؤه خصيصاً لها. وتعمل الإمكانيَّات، التي تتيحها هذه التقنيات الجديدة على تغيير طريقة فهمنا للمعالجة، والحل، الأمر، الذي يؤدِّي بدوره إلى تهيئة القرارات، التي نتَّخذها، وكذلك المفاهيم الأساسيَّة، التي استخدمناها سابقاً لتوجيه تعايشنا على هذا الكوكب؛ العولمة، والجريمة، والتنميَّة، والمدينة، من بين عدَّة أشياء أخرى. إنَّ التحوُّل يحدث في كل مجال من مجالات حياتنا، وفي جميع سياقات المعرفة. ولمنعنا من الخضوع للقوى المعاكسة لهذا التغيير حيث يتمّ حجب التقدُّم بسبب عدم اليقين، نحتاج إلى تنوير جديد. وهذا ما نقترحه في هذه الندوة المهمة، التي تربط بين التنوير والتربية كهدفين متلازمين لا ينفصلان. إذ إن التنوير هو الذي قاد الغرب والشرق إلى التقدُّم العلمي، والذي وصل بنا إلى “صيغة العولمة”، التي تشمل ثورة الاتصالات وقضايا أخرى كثيرة، بما فيها عصب الحياة، الاقتصاد، ولذلك كان يُنظر إلى الأزمة الماليَّة العالميَّة، لعام 2008، على نطاق واسع، على أنها تبشِّر بموت هذه العولمة. ولكن، لإعادة صياغة ملاحظة نُسبت للروائي الأمريكي مارك توين، “كانت تقارير زوالها مبالغ فيها إلى حدٍّ كبير”.

ولكن، بعد مرور أكثر من عقد على الأزمة، تُعَلَّق العولمة الآن في الميزان، حيث يهدِّد الرئيس ترامب التعريفات الجمركيَّة على الواردات من مجموعة متنوّعة من الشركاء التجاريِّين للولايات المتَّحدة، ويتحدَّى قواعد التعدّديَّة العالميَّة، التي تسارعت في أواخر القرن العشرين، ويصعد إلى السلطة في عدد متزايد من البلدان كسياسيِّين شعبويِّين من قوميَّات مختلفة. ويمكننا أن نسأل ما إذا كانت هذه الاتِّجاهات الأحاديَّة والقوميَّة، التي تبدو وكأنها تشكِّل تهديداً خطيراً للعولمة هي انحراف مؤقَّت، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يفسِّر حدوثها وتوقيتها، أو ما إذا كانت في الواقع تبشِّر بالانسحاب الذي طال انتظاره من العولمة. فقد كانت السنوات من 2008 إلى 2019 فترة مليئة بالأحداث بالنسبة للاقتصاد العالمي، ولكن لم يكن أحد سيصفها بأنّها متسامحة. عانت الاقتصادات المتقدِّمة من أخطر أزماتها الاقتصاديَّة والماليَّة منذ الكساد الكبير في 1929، بينما هدَّدت الأحداث في اليونان وأماكن أخرى في أوروبا بقاء منطقة اليورو. أدَّى الانتعاش المخيِّب للآمال إلى إثارة مخاوف بشأن الركود، وهي الفكرة القائلة بأن قلَّة الطلب مقترنة بنمو الإنتاجيَّة الراكد قضت على البلدان المتقدِّمة. على النقيض من ذلك، نجت الأسواق الناشئة، بقيادة الصين على سبيل المثال لا الحصر، من الأزمة إلى حدٍّ كبير.

إن ما صار يُصْطَلحُ عليه بـ”الصناعة الماليَّة”، التي هي محرِّك الإنتاجيَّة، والنمو الشامل في العصر الحديث، كما في كل عصرٍ مضى، أو مُسْتَقبَل، هي في قلب فكر التنوير الجديد في عصر العولمة. وفي هذا الصدد يطرح السيد فرانسيسكو غونزاليس، رئيس البنك الرقمي للقرن الحادي والعشرين حتى عام 2018، الذي نشأ في مدريد، تربطنا بالحاجة إلى تنوير جديد؛ يعتمد تجديد أركاننا الفلسفيَّة، والهندسة الاقتصاديَّة، والقانونيَّة. إذ يقول إنَّ الصناعة الماليَّة يجب أن تنتقل إلى مقدّمة التغيير، حتى تتحقَّق إمكانات النمو الكبيرة للتكنولوجيات الجديدة. وهذه التكنولوجيَّات الجديدة هي وعود الكون المُنْتَظَرَة، للتيقُّن من فهم أسرار الانفجار الكبير. وذِكِر مدريد، أو مجريط أسبانيا الأمويَّة، يَرُدنا راغبين إلى ذكرى الأندلس، وكيف أن العقل العربي اختبر التقدُّم فِكرة وصِنعة عندما توفرت له بيئة التفكر في فضاء الكون المفتوح. وهنا، يشرح مارتن ريس، مارتن ريس عالم الكونيَّات وعالم الفضاء، أستاذ ورئيس معهد علم الفلك في كليَّة ترينيتي في جامعة كامبريدج، بالمملكة المتَّحدة، الذي ساهم في فهمنا لتكوين المجرّات، والثقوب السوداء، وظواهر الطاقة العالية في الكون، ومفهوم الأكوان المتعدِّدة. أنه رغم الأزمة الماليَّة العالميَّة فقد قدَّم العلماء أعظم إنجازات استكشاف الفضاء في العقد الماضي، مع التركيز بشكل خاصّ على الانجاز التكنولوجي لتأكيد نظريَّة آينشتاين مع موجات الجاذبيَّة. ويجادل أنه على الرغم من أننا نعرف أن هناك كواكب خارجيَّة، هل سنجد الحياة؟ للمضي قدماً، نحتاج إلى فهم ما هو أصل كل شيء: الانفجار الكبير، الذي قال به العلماء قديماً، ولكن إجابة أسئلته الحقيقيَّة ما يزال يكتنفها الغموض.

إنَّ هذا الأمر قد يبدو للوهلة الأولى أنه من اهتمامات العقود الماضية، ولكنه مفتاح مهمّ للمستقبل، ويؤثِّر بشكل حاسم على التنوير بتطوُّر علم الكونيَّات، والفيزياء الفلكيَّة. ومن لم يدرس مِنَّا علم الفيزياء، يعلم أنها ضروريَّة للتنميَّة متعدّدة التخصّصات. وليس هناك في العالم اليوم من يُحَدِّث عنها أفضل من خوسيه مانويل سانشيز رون، أستاذ تاريخ العلوم في الفيزياء، في جامعة مدريد المستقلَّة، وعضو الأكاديميَّة الدوليَّة لتاريخ العلوم في باريس منذ عام 2006. وهو هنا يحلِّل بعض من أعظم الإنجازات في الفيزياء في السنوات الأخيرة، مثل إشعاع الجاذبيَّة. ويحثّنا أنه من الضروري أن نفهم الدور الحالي، والمستقبلي للفيزياء فيما يتعلَّق بمجالات العلوم الأخرى، التي تَعِدُ بتغيير العالم، مثل التشفير الكمِّي. وعندما يصبح الماضي هو المستقبل، فإن الفيزياء في القرن الحادي والعشرين، وعلى الرغم من أنها لم تشهد أي نوع من الثورات، التي حدثت خلال الربع الأول من القرن العشرين، لا تزال البذور المزروعة في ذلك الوقت تؤتي ثمارها، وتستمرّ في توليد تطوّرات جديدة، بدءاً من اكتشاف إشعاع الجاذبيَّة، الذي يُظهِر نظرة أعمق للحاجة الإضافيَّة لمعالجة الاكتشافات الأخرى، إذ يكشف عن وحدتها مع الفيزياء الفلكيَّة وعلم الكونيَّات، وتشمل هذه المادة المظلمة، والثقوب السوداء، والأكوان المتعدِّدة، كما يتمّ النظر في نظريَّة الأوتار والتناظر الفائق، وكذلك التشابك الكمي واستخداماته في مجال الاتِّصالات الآمنة، أو التشفير الكمي، وأهميَّة الفيزياء في عالم متعدِّد التخصّصات علميّاً.

إنَّ واحدة من القضايا، التي ينشغل بها التربويّون والتنويريّون، على حدٍّ سواء، هي علم الوراثة لفهم الاختلاط في الجنس البشري، والتي أحدث التقدُّم النوعي فيها حواراً لا ينقطع بين العلماء والمثقّفين. ومن بين من عُرِفُوا بأن لديها اهتمامات بحثيَّة في علم الأحياء القديمة من جنس الإنسان، والسيناريو التطوري للأوروبيِّين الأوائل، ماريا مارتينون-توريس، مديرة المركز القومي للبحوث في تطوّر الإنسان، والقارئة الفخريَّة في قسم الأنثروبولوجيا في الكليَّة الجامعيَّة لندن، التي قادت وشاركت في العديد من المشاريع الدوليَّة المتعلِّقة بدراسة أدلَّة الأنسان البشريَّة في جميع أنحاء العالم. تقول ماريا إن السنوات العشر الماضيَّة، أتاحت لعلم الوراثة تحليل الحمض النووي القديم، ونتيجة لذلك، كشفت عن تاريخ أوَّل سكَّان الكوكب. نحن الآن نوع بشري واحد، لكننا نعلم أخيراً أنه ينحدر من فصيلة أخرى، فكيف يغير هذا المنظور فهمنا للتنوُّع البشري الحالي؟ وماذا يعني أن تكون هجيناً؟ وما هي الآثار المترتّبة على وجود مادة جينيَّة من أشباه البشر السابقين في دمنا؟ هل كان هذا التهجين عاملاً في انقراض النياندرتال؟ وهل تغيَّر منظورنا حول التنوُّع البشري اليوم؟ إن كل من الأدلَّة الجينيَّة والحفريَّة، التي تمَّ جمعها خلال العقد الماضي، تقدّم صورة أكثر تنوّعاً وديناميكيَّة لأصولنا قد تكون سبباً في العديد من مفاتيح نجاح الإنسان العاقل في التكيُّف في هذا التزاوج المختلط، الذي لا يؤثِّر على هويِّتنا فحسب، بل ربما يشكل جزءاً من السمة المميَّزة لأنواعنا وخصائصها.

ويُعْنَى علماء آخرون بشرايين حياة أخرى، هي البيانات، التي يعدّونها بمثابة المادة الخام الجديدة للتنوير المرتبط بقضيَّة العدالة والتغيير في العالم. ويدير عالم الرياضيات البروفيسور أليكس “ساندي” بنتلاند مختبرات علوم الاتصال، والديناميكيّات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ويعرّف هذه البيانات بأنها “شريان الحياة في صنع القرار، والمواد الخام للمساءلة، والشفافيَّة”. ويقول إنه مع تحليل البيانات، أصبح لدينا الآن أدوات غير مسبوقة للإعلام، وتغيير المجتمع، وحماية البيئة. إذ إنه بدون بيانات عالية الجودة توفِّر المعلومات الصحيحة عن الأشياء الصحيحة في الوقت المناسب، يصبح تصميم السياسات الفعَّالة ومراقبتها وتقييمها مستحيلاً تقريباً. فاليوم هناك إمكانيَّات غير مسبوقة لإبلاغ المجتمع وحماية البيئة عبر العلوم الاجتماعيَّة وهندسة الكمبيوتر، التي ستسمح باستخدام هذه البيانات بأمان للمساعدة في التكيُّف مع عالم البيئات الجديد، عالم أكثر عدالة وكفاءة وشمولاً، ويوفِّر فرصاً أكبر من أي وقت مضى. فكيف ينبغي لنا تسخير هذه الإمكانات في المستقبل؟

إنَّ قيمة التنوير هي في الربط بين المخترعات العلميَّة وانعكاساتها على التغيُّرات الاجتماعيَّة، فتقنيَّة النانو الكامنة؛ مثلاً، كانت وراء التحوّلات الرئيسيَّة في حياتنا اليوميَّة. ويحدِّثنا البروفسير سانديب تيواري، أستاذ الهندسة بجامعة كورنيل، عن اهتمامه بمعالجة المعلومات الكامنة في الهندسة والعلوم، وكيف أن استكشافاته الحاليَّة سهَّلت فهم ووضع الأسس للمواضيع العامَّة، التي تجعل التعلُّم الآلي وكيلاً تقريبياً مفيداً لفهم ديناميكيات العالم الطبيعي. وهذا يشمل استخدام تقنيات الشبكة الاحتماليَّة والعصبيَّة لفهم التعقيد، وطاقات الطاقة، والإنتروبيا، والثقة في الاستدلالات كأدوات نظريَّة، ومناهج أجهزة مقياس النانو كأدوات عمليَّة. وهو يبحث في تأثير تقنية النانو، و”القطع النانويَّة”، والرقائق الدقيقة، التي لا نستطيع رؤيتها، ولكنها بلا شكّ تغيِّر من روتيننا للعالم. وعلى سبيل المثال، يحلل تيواري دور تقنية النانو في التلاعب الجيني، والذكاء الاصطناعي. ولكنه يحذِّر أيضاً من الحاجة إلى البحث في عمليَّات تعلُّم الآلات، وذلك بالتحديد للتأكد من أن “الشبح في الآلة” قد لا يكون مخلوقاً حقيقياً.

لقد أخذنا استعراض الندوات الثلاث إلى حديث عن القوميَّات المتصارعة في المنطقة؛ التركيَّة والعربيَّة، كعامل تحفيز لحركات تنوير سياسيَّة واجتماعيَّة في العالم العربي. لكن، تفاجئنا التقنية الحديثة بفكرة “نهاية الهويَّة”، ليس فقط كقوميات، بل كبشر ومجتمعات، الأمر الذي يمكن أن يهدِّد استقلال الإنسان كمُوجِّه للابتكار والإبداع. تقول جوانا برايسون، الباحثة متعدِّدة التخصّصات في هيكل وديناميكيات الذكاء البشري والحيواني، في جامعة باث، التي تُغطِّي مواضيع الذكاء الاصطناعي، من خلال الاستقلاليَّة وأخلاقيّات الروبوت، إلى التعاون البشري، أو العلاقات بين الإنسان والآلة. إنها تقول إنَّ هذه العلاقات نتجت بسبب ظهور الهواتف الذكيَّة في عام 2007، التي أصبحت تحمل إلينا بيانات كليَّة تستخدم الذكاء الاصطناعي، وغيَّرت إجراءات حياتنا اليوميَّة. وتؤكِّد برايسون كيف أن الوصول الجماعي إلى المعرفة في عصر الاتِّصالات يهدِّد المفاهيم الأساسيَّة مثل الهويَّة الفرديَّة، والاستقلال الذاتي، وتطالب بالنظر المعمَّق لمستقبل تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمع.

إنَّ القيمة الاجتماعيَّة للعلوم في عصر المعرفة تتطلب مِنَّا معرفة الأبعاد القيميَّة لتأثيرات الذكاء الاصطناعي، وما يترتب عليها من موجودات ستشاركنا أفعال حياتنا الإنسانيَّة، إذ تقول كل المؤشّرات إن الروبوتات الذكيَّة تُمثِّل ذروة هذا التحدِّي في الغد. وقد تنازعنا تعريف الحسّ السليم في علاقاتنا الاجتماعيَّة. ويشدد خوسيه م ماتو، الذي عمل باحثاً زائراً في المعهد الوطني للصحَّة بجامعة نورث كارولينا وتشابل هيل بجامعة بنسلفانيا وجامعة توماس جيفرسون في فيلادلفيا، على ارتفاع متوسط​​العمر المتوقّع في العقود الثلاثة الماضيَّة، في مناطق غربيَّة لا تعدّ ولا تحصى، باعتباره أكثر الأدلَّة الملموسة على القيمة الاجتماعيَّة للعلوم التطبيقيَّة. فإذا سياسات الرعاية الصحيَّة العامَّة، طوال القرن العشرين، قد انتصرت على المرض، ولكن ما هي التحدّيات التالية للطب في عصر المعرفة؟ يجب أن يمتدّ هذا الاعتراف الاجتماعي بقيمة العلم إلى الآلاف من الأمراض النادرة، وإلى جميع المناطق، التي لا يزال يتعيَّن عليها الذهاب إليها. ويشاركه هذا الهم رامون لوبيز دي مانتاراس، الأستاذ الباحث في مجلس البحوث الوطني الإسباني ومدير معهد أبحاث الذكاء الاصطناعي، الذي يعتقد أنه لا غنى عن إعطاء الآلات “معرفة المنطق السليم” من أجل التحرّك نحو الهدف الطموح المتمثِّل في بناء الذكاء الاصطناعي العام “الذكي حقاً”. وإذا كان هذا هو الوقت المناسب لاتِّخاذ القرارات اللازمة لتحديد هذا المسار، فما هي تحدّيات اليوم للذكاء الاصطناعي؟

بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف سوف نعمل معاً؟ وكيف لي أن أصبح رفيقاً للروبوت؟ ربما نجد في بحوث العالمة دانييلا روس، مدير مختبر علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بعض الإجابة، إذ تتمثَّل اهتماماتها البحثيَّة في الروبوتات والذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات. وينصبّ تركيز عملها على تطوير علم وهندسة الاستقلاليَّة، نحو الهدف الطويل الأجل المتمثِّل في تمكين المستقبل من خلال الآلات، التي تتكامل بشكل واسع في نسيج الحياة، ودعم الأشخاص، الذين لديهم مهام معرفيَّة وجسديَّة. تقول روس إنه عندما تأخذ الروبوتات القفزة الأخيرة من خيالنا إلى منازلنا، وأماكن عملنا، فإنها ستصبح رفاقنا؛ سيضيفون إمكانيَّات جديدة، ومتغيّرات لا تعدّ ولا تحصى لأنماط سلوكنا: سوف يغيّرون كيف، وأين نبني، وكيف نتحرَّك، أو المواد، التي نستخدمها لإنشاء الأشياء. فهل نحن جاهزون بالفعل لمثل هذه النُقلات في طبيعة علاقاتنا الاجتماعيَّة والإنسانيَّة؟ وهل وضعنا الأسئلة الإشكاليَّة الأساسيَّة، التي ستنهض إجاباتها بمهمَّة إيضاح الجوانب الفلسفيَّة والأخلاقيَّة لقضيَّة بهذا القدر من الحجم والتعقيد؟

مسك الختام:

في الختام، وبعد هذه السياحة، التي أرجو أن تكون قد قَرَّبَت مقتضى ما رميت إليه بعنوان المداخلة، وما تناثر في متنها من أسئلة إشكاليَّة، نستطيع أن نقول ما إذا كان التنوير قد جعل الناس أفضل أم لا، من واقع منجزات العقل الإنساني، الذي انفتح بالنظر في الآفاق، وهيأته التربيَّة الأخلاقيَّة لضبط مقارباته العلميَّة. نعلم أنه كان هناك نقص في الرغبة في التعامل مع هذا السؤال “الأخلاقي”، الأمر الذي جعل الناس يظنون الظنون في مسألة التنوير، ولكن تَعَرُّفنا على تاريخ النظر فيه وإليه أوردنا موارد التعامل معه كلازمة ضروريَّة لمسيرة حياتنا العربيَّة والإسلاميَّة، دون الإحساس بتعارض، أو تناقض. وأعتقد أن المشاركين من التربويِّين ربما يكونون أرسخ بالاً، وأفضل حالاً، وأحسن تعليماً، حول كل ما تناولناه من قضايا وموضوعات، لامست جوهر التنوير، ويعيشون حياة لا تُشْكِّلُ عليهم مُنَقِّصات الفهم العامَّة، ونحو ذلك. ولكنهم يتطلعون أن يشعروا بالفعل أنه من المستحيل القول ما إذا كان كل الأشخاص سيكونون أفضل بلا تنوير. وأصدقكم القول إن هذه لم تكن وجهة نظر طارئة استوجبها الحديث لتربويين، لكنها كانت مثار اهتمام أصيل، وتتمدَّد في أطروحات بأكملها. 

إنَّ الاستنتاجات الواضحة الواجب تبنيها هي تلك، التي ربطها المشاركون بكلمة التقدُّم والتديّن، كما هو واضح في بداية اليوم، وربما يأخذ القائلون بها فوائد التعليم كتدبير، كما هو تربية وتنوير. فقد كان من المثير للاهتمام أن نلاحظ مدى توافقنا، بشكل وثيق، على تلك الاستنتاجات، بالنظر إلى مجموعة الخلفيَّات، والآراء، التي انطلقنا منها. ومن شبه المؤكَّد أن التركيز الاجتماعي الملحوظ في ترتيبنا للأشياء، التي يرتبط بها مع التقدُّم أمر سار، حيث أن معظم مناقشات التقدُّم كانت مشبعة بفهم تربوي تنويري لهذه الفكرة. ومع ذلك، لا بد من ملاحظة مُسَلَّمَة يشوبها شيء من الغموض، وهي أن الأشخاص المتعلِّمين بشكل أفضل في مجتمعاتنا لم يكونوا بالضرورة جميعاً أشخاصاً أفضل، خاصة من ارتبط منهم بقيم معادية في أصولها القيميَّة لمواضعات ومسلّمات هذه المجتمعات. فالغموض هنا ليس مرتبطا فقط بمسألة ما إذا كان مشروع التنوير قد تمَّ فصله عن الدين، أم لا، وإنما هي صيغة مُلْتَبِسَة من الفهم يحركها تجاذبها بقلق غامر بين أصول بعض مدارس التنوير الغربي العلمانيَّة. ولكن، بدلاً من الحيرة بسبب هذا الغموض، ينبغي أن نجتهد كيف نفهم مستقبل التنوير في مجتمعاتنا، وفي هذه الحالة، مستقبله العربي-الإسلامي. فالتنوير نفسه يمكن أن يرتكز على تقاليد، كما حدث في أوربا، وعندما يحدث ذلك، فإنَّ المستقبل، الذي يمكن أن نُشير إليه قد يفي بالتوقُّعات الحضاريَّة، التي حدَّدها ماضي العالم العربي-الإسلامي، عندما كانت النهضة مساراً متقدِّماً إلى الأمام. ونحن نعلم أنه لم تُجْرَ الكثير من الكتابات المقارنة بين مدارس التنوير المتعدِّدة الجوانب، التي ترسم مسار التقدُّم التاريخي؛ من الخرافة إلى العقلانيَّة، ومن السلفيَّة إلى التدين المقاصدي، ولكننا نفعل ذلك الآن من خلال أعمال هذه الرابطة، وغيرها، ولو بطرق غير متجانسة، غير أنها تضع هذا المشروع التنويري المقارن على جدول أعمالنا الفكري.

__________

* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات