مقدِّمة كتاب الإنسانيَّة والمجتمع (ملامح الإنسانيَّة في المجتمع المعاصر)
الإنسانيَّة والمجتمع المعاصر

” حقوق الإنسان ليست رفاهية وأصبح من الواضح للمجتمعات المعاصرة أن الإنسانية يجب ألا تتجزأ. لكن بالمقابل إن عدم احترام حقوق الإنسان مرض ينتشر في معظم بقاع العالم “ (أنطونيو غوتيريش).
” إن أرقى درجات الإنسانية هي أن يكون الإنسان إنساناً مع نفسه ومع الآخرين “ (المؤلف)
تعني الإنسانية أن يعيش كل شخص حياة كريمة تحفظ حقوقه وكرامته وكيانه، وأن يكون قادراً على التعبير عن نفسه كإنسان حر ومسؤول عن قراراته وممارساته الاجتماعية. ولكن عندما ندرك أن سماع أخبار القتل والموت والحروب والانتهاكات اللا إنسانية أصبحت أمراً عادياً دون أي رد فعلٍ يذكر فاعلم أن شعور اللا مبالاة وتبلد الشعور الإنساني قد وصل إلى مستويات مخيفة عند معظم أفراد المجتمع المعاصر حتى أصبح الموت والقتل والاعتقال والتعذيب لا يصدم إنما هو أمر اعتيادي بالنسبة لهم وكأن انتهاكات حقوق الإنسان لا تعني لهم شيئاً. لذا، نجد أن كثير من العوامل وبالأخص منها: (السياسية، والإيديولوجية، والمذهبية، والطائفية) قد أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تدمير العديد من المجتمعات البشرية وإسقاط معاني الإنسانية من عقول أفرادها وهدم مفاهيم الرحمة والرأفة والتسامح في قلوبهم.
إن الجهل بالبعد الإنساني، وبالمعاني الإنسانية السامية والراقية، تسبب عبر مختلف العصور وبالأخص في القرن العشرين في حدوث مصائب وكوارث للجنس البشري، حيث إن هناك حضارات انقرضت ولم يعد لها وجود إلا في شكل مآثر تاريخية. والأسباب تتجسد في خطاب الكراهية والعنصرية وفي حروب بلا حدود. وما زالت المصالح تنتج مزيداً من التجاهل، واللا إنسانية، وتهدد الكرة الأرضية بالانفلات من مدارها، بل تهدد كل الحياة بالزوال.
إن التعاطف الإنساني قيمة سامية أساسها الشعور بالتضامن مع ظروف وأحوال الآخرين والمشاركة الوجدانية معهم، مهما كان لونهم أو جنسهم أو عرقهم. بمعنى أوسع يعتبر التعاطف سمة إنسانية أساسية تسمح لنا بالتواصل مع الآخرين وفهم عواطفهم والاستجابة بطريقة رحيمة. إنها القدرة على وضع الشخص نفسه مكان شخص آخر ورؤية العالم من وجهة نظره. فالتعاطف ليس مجرد شعور بالسعادة، ولكنه يلعب أيضاً دوراً حيوياً في بناء علاقات صحية، وخلق شعور بالانتماء للمجتمع الإنساني، وتعزيز الانسجام الاجتماعي. بهذا المعنى، رغم قدرة الفطرة البشرية على اكتسابه بوصفه شعوراً شخصياً كامناً في الذات البشرية، إلا أن الحياة المعاصرة جعلته في حالات كثيرة سلعة تنكفئ ضمن حدود المجالات الإنسانية الضيقة لاعتبارات عدة بسبب سيطرة النزعة المادية على مجمل الحياة الاجتماعية وشيوع الأنانية والتمحور حول الذات.
إن التغير الاجتماعي المتسارع وما ترتب عليه من آثار ونتائج بسبب التقدم التكنولوجي الهائل حجب عنا نسبياً نور المبادئ والمُثل والقيم العليا التي استقت منها الإنسانية دربها ومنهجها، ولو عدنا إلى عقود ماضية لاختلفت وجهات النظر الاجتماعية ولمسنا التحولات التي وصلنا إليها على صعيد أهمية الأخلاق وجوهرها التي تعتبر أساس بناء وتقدم المجتمعات الإنسانية المعاصرة. وعليه، فإن أي مجتمع تنعدم فيه الأخلاق وتتراجع القيم الفاضلة سيكون مآله العبث وستسود فيه الفوضى وتنحدر القيم الإنسانية وتندثر.
لذا نجد أن نقطة الضعف هنا أن البشر ليسوا جميعهم مثاليين، إلا أن السلوك الأخلاقي يمثل قيمة إنسانية مشتركة بين الثقافات العالمية، قد يرتدي ثياباً مختلفة ومتنوعة أو يحمل أسماء مغايرة، وقد يتبدل مصدره بين الدين، والعرف، والقانون، ولكن يبقى جوهره واحداً، يعكس سعي كل فرد إلى تأكيد إنسانيته وخيريته من خلال تجسيد الصور المثلى عن تعاطفه وتسانده الإنساني مع الآخرين، فمن أكثر الأبواب اتساعاً على عالم الفضيلة أن يكون المرء إنساناً حقاً يدافع عن حقوق الإنسان وكرامته، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى التصنيفية. وهناك من يختصهم الله تعالى بصفات عظيمة مثل: الإيثار، والإقدام، والثبات على المبادئ مهما كانت الصعوبات ومهما زادت الإغراءات، والتاريخ الإنساني حافل بشخصيات ثائرة على الظلم منتصرة للعدالة وحرية الإنسان وحقه في العيش الكريم.
إن الإنسانية، في نهاية المطاف هي اعتقاد نشط بقيمة الحياة البشرية، حيث يمارس البشر المعاملة الكريمة ويقدمون المساعدة للبشر الآخرين للتقليل من معاناتهم وتحسين ظروفهم الإنسانية لأسباب أخلاقية وإيثارية ومنطقية، تتجسد في الحملات التطوعية للدفاع عن قضايا وحقوق الإنسان، وتقديم المساعدات الإغاثية والتنموية، والأعمال الخيرية.
بذلك، تُعد الإنسانية إيديولوجيا عملية غير رسمية، إذ تمثل ” العقيدة القائلة بأن واجب الناس هو تعزيز رفاهية الإنسان “. وتستند إلى وجهة نظر تُقر بأن جميع البشر يستحقون الاحترام والكرامة ويجب معاملتهم على هذا النحو. وبالتالي، يتبنى الناشطون في مجال حقوق الإنسان مبادئ النهوض برفاهية البشرية ككل، التي تعتبر نقيضاً لذهنية ” نحن ضدهم ” بسببعصبية القبلية والمذهبية والطائفية والقومية الإثنية. كما يحارب الناشطون في هذا السياق كل أشكال العبودية، والانتهاكات الإنسانية، والإذلال الاجتماعي، والتمييز العنصري على أساس اللون أو الدين أو النسب أو مكان الميلاد. كما يحض مفهوم الإنسانية البشر على إنقاذ الأرواح، وتخفيف المعاناة، وتعزيز الكرامة الإنسانية أثناء الحروب والكوارث الطبيعية. ويمكن لنا تلخيص هذه الإيديولوجية غير الرسمية بمقولة ألبرت شفايتزر (1875-1965) التالية: ” تتمثل الإنسانية في عدم التضحية بإنسان من أجل غاية ما “.
سعى المؤلف من خلال هذا الكتاب إلى الكشف عن ملامح الإنسانية في المجتمع المعاصرمن خلال تتبع ورصد معالم الفهم البشري للمعاني الإنسانية في مواضيع وسياقات مختلفة ذات صلة وثيقة بممارسة الإنسان لإنسانيته في مواقف الحياة الاجتماعية المعاصرة.
يتكوّن الكتاب الذي بين أيدينا من فصل تمهيدي (محاولة للتأصيل) بعنوان: ملامح علم الاجتماع الإنساني ” في أحضان فلسفة عصر النهضة والتنوير تبلور مفهوم الإنسانية “يحاول من خلاله المؤلف التأصيل لمفهوم الإنسانية في التاريخ الحديث والمعاصر. كما يتضمن الكتاب بشكل أساسي ستة وعشرين مقالاً سوسيولوجياً يناقش كل مقال جانب معين من ملامح تجليات الإنسانية وتمظهراتها في المجتمع المعاصر، حيث يسعى المقال الأول إلى توضيح أزمة علم الاجتماع في البلدان العربية. أما المقال الثاني جاء ليطرح إشكاليات تمكين علم الاجتماع في البلدان العربية. في حين حرص المقال الثالث على مناقشة عمليةالاستقلال السوسيولوجي في الجامعات العربية باعتباره مهمة لم تنجز بعد. بينما سعى المقال الرابع إلىتوضيح العلاقة بين الإنسان والأدب على اعتبار أن الأدب عرَّاب فهم أغوار النفس الإنسانية. وجاء المقال الخامس ليبين موقف الإنسانية من المادية الثقافية بالاعتماد على التحليل المادي للمنتوج الثقافي عند ريموند ويليامز. وقد حاول المقال السادس مناقشة الكيفية التي يتجسد من خلالها مفهوم الإنسانية في معالم الشخصية التجنبية. أما المقال السابع فقد سعى إلى دراسة اللغة باعتبارها مرآة الثقافة الإنسانية. في حين جاء المقال الثامن ليسلط الضوء على وضع الإنسان في عصر التفاهة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أما المقال التاسع حاول توضيح القهر الاجتماعي عند حسن حنفي من خلال قراءة الوضع الإنساني الراهن للواقع العربي المعاصر. كما أتى المقال العاشر ليشرح لنا علاقة الإنسان المعاصر بالقهر الاجتماعي من خلال توضيح التجربة الممنهجة لحقيقة الظلم الإنساني. أما المقال الحادي عشر فقد سعى إلى توضيح العلاقة الجدلية بين نهاية الإنسان أم نهاية الإنسانية بالاستناد إلى رؤية فرانسيس فوكوياما للثورة البيوتكنولوجية. في حين جاء المقال الثاني عشرلمناقشة محاولة الإثنوغرافيا الدفاع عن الإنسانية. بينما حاول المقال الثالث عشر رصد تمظهرات السلوك الإنساني في عصر ممارسات الصراع الثقافي والمتناقضات الثقافية. في حين جاء المقال الرابع عشر ليوضح العلاقة بين الإنسان والوجود المتخيل من خلال يوتوبيا المجتمع الجديد باعتبارها الخلاص النهائي للإنسان المعاصر. أما المقال الخامس عشر فقد سعى إلى توضيح ماهية الإنسان في عالم الأشياء في عصر ما بعد الإنسانية. كما حاول المقال السادس عشر مناقشة الهم الإنساني في النقد الثقافي من خلال قراءة مقولات النظرية النقدية. وجاء المقال السابع عشر ليبين ملامح الإنسانية المهدورة في ممارسات العنف الأسري. وفي المقال الثامن عشر حاولنا توضيح مفهوم الإنسانية في ظل الإذلال الاجتماعي باعتباره الوجه الآخر لنزع الصفة الإنسانية. وجاء المقال التاسع عشر ليوضح أثر العنصرية على الإنسانية من خلال طرح التساؤل التالي: لماذا الناس عنصريون؟. بينما سعى المقال العشرون إلى مناقشة تقديم الذات الإنسانية عند إرفنج جوفمان من خلال دراسة العلاقة ما بين الفن المسرحي ونظام التفاعل الاجتماعي في العلاقات الاجتماعية. في حين جاء المقال الحادي والعشرون ليبين لنا تمظهرات السلوك الإنساني في نظرية الاختيار العقلاني. أما المقال الثاني والعشرون فقد حاول تتبع مفهوم الإنسانية في التأويل السوسيولوجي من خلال تحليل رؤية المدرسة التأويلية المعاصرة للإنسان والمجتمع. وجاء المقال الثالث والعشرون ليسلط الضوء على مظاهر السلوك الإنساني ما بين الرواسب والمشتقات من خلال عرض نظرية فلفريدو باريتو عن صعود وسقوط النخبة السياسية. وفي المقال الرابع والعشرون حاولنا توضيح رؤية علي الوردي لمفهوم الإنسانية في عملية الإصلاح الاجتماعي. بينما حاول المقال الخامس والعشرون تبيان العلاقة الارتباطية ما بين الإنسانية والمواطنة على اعتبار أن المواطنة تربية وممارسة. وأخيراً حاول المقال السادس والعشرون توضيحالمظاهر التي يتجلّى من خلالها مفهوم الإنسانية في نهج الرؤى السلوكية.
وفي الختام يبقى هذا الكتاب محاولة تأصيلية متواضعة لتتبع ملامح الإنسانية في المجتمع المعاصر بالاعتماد على المنهج التحليلي والنقدي، إلا أننا بالمقابل بحاجة إلى جهود أعمق فيما يتعلق بالتأصيل النظري والمنهجي لمفهوم الإنسانية وتجلياته في سياقات الحياة الاجتماعية المعاصرة على اعتبار أن مفهوم الإنسانية مشروع لم ينجز في معظم المجتمعات النامية وبالأخص في المجتمع السوري في عهد نظام الأسد البائد بسبب ما تعرض له الإنسان السوري من انتهاكات الاعتقال والتعذيب والإبادة الجماعية والجرائم الوحشية والإذلال والاستبعاد لاعتبارات عديدة أهمها: الاستبداد، والتسلط، وقمع الحريات العامة، وغياب الديموقراطية، والمواطنة التي لا تعرف طريقها في قاموس حياتنا السياسية، والثقافية، والاجتماعية.
إن الإنسانية هي احترام الإنسان وإكرامه وصون حقوقه من حيث هو إنسان، بغض النظر عن انتماءاته العرقية والمذهبية والإيديولوجية…، فمتى توحشت الإنسانية وتجردت منها انتهكت حقوق الإنسان سُلبت الرحمة وأصبح التعاطف الإنساني لغة الضعفاء من بني البشر الذين ما زالوا يحتفظون بإنسانيته في مجتمع لا يعترف إلا بالقوة وممارسة العنف لصالح الفئات المسيطِرة على الواقع الاجتماعي، فيبغي بعضهم على بعض ويغدر القوي بالضعيف فلو كان للرحمة سبيل إلى القلوب لما كان الشقاء الإنساني موجوداً، وفي هذا السياق يقول الله (سبحانه وتعالى) في محكم كتابه العزيز ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (آل عمران: 159)، وفي موضع آخر ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) ( الحديد:27)، فالرحمة والمودة يعتبران أعلى مراحل التضامن والتعاطف الإنساني واحتواء الإنسان لأخيه الإنسان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
ماردين في 15/01/ 2025
د. حسام الدين فياض
______
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
*المصدر: التنويري.