المقالاتفكر وفلسفة

مراجعة ماركيوز للآراء الفلسفية والاقتصادية لكارل ماركس الشاب 1844

الاقتصاد

أبدى الفيلسوف وعالم الاجتماع النقدي هربرت ماركيوز (1898-1979) اهتماماً كبيراً بكتابات كارل ماركس خاصةً بتلك التي صدرت بين عامي 1844-1846، تحت عنوان ” المخطوطات الاقتصادية والفلسفية “([1])*. تعتبر تلك المخطوطات عبارة عن مسودة أول بحث اقتصادي يقوم به كارل ماركس. وموضوعه هو نقد الاقتصاد السياسي البورجوازي والنظام الاقتصادي البرجوازي. ويشتمل العنوان الذي وضعه معهد الماركسية اللينينية “مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية” على ثلاثة مخطوطات. المخطوط الأول منها – وهو أولها أيضاً من الناحية الزمنية – ذو طابع تحضيري. تتبادل فيه ملحوظات ماركس واستخلاصاته مع فقرات مأخوذة عن الاقتصاديين البورجوازيين والبورجوازيين الصغار. أما المخطوط الثاني يتناول موضوعات في الملكية الخاصة والعمل والملكية الخاصة والشيوعية وقوة النقود في المجتمع البورجوازي. كما خصص جانب كبير من المخطوط الثالث لتحليل نقدي للجدل الهيجلي وفلسفة هيجل ككل([2]).

تركز المخطوطات الثلاثة على “اغتراب العمل” أو “انسلاب العامل” في المجتمع الرأسماليتحدث فيها ماركس عن “اغتراب” العامل أو “انسلابه”. وهو يضفي مضموناً اقتصادياً وطبقياً وتاريخياً جديداً تماماً على مفهوم “الاغتراب“. ويعني ماركس “بالاغتراب” أو “الانسلاب” العمل الذي يقوم به العامل مجبراً للرأسمالي، وتملك الرأسمالي لناتج عمل العامل، وانفصال العامل عن وسائل الإنتاج التي تواجهه – وهي في حيازة الرأسمالي- كقوة غريبة مستعبدة. وهنا يقترب ماركس من عرض السمات المميزة للاستغلال الرأسمالي([3]).

برر ماركيوز اهتمامه بهذه الكتابات من خلال سعيه للكشف عن الأبعاد الإنسانية التي تتجلى بها، فانصب اهتمامه على مقولة الاغتراب التي كانت تشكل محور هذه الكتابات، وهي مقولة تتضمن بالفعل ملامح إنسانية وفلسفية واضحة.

سعى ماركيوز في هذا الصدد إلى الكشف عن الكيفية التي وظّف بها ماركس مقولته عن الاغتراب والتي تبين لنا كيف ربط بين تحليله الاقتصادي، وبين بعض المقولات الفلسفية الهيجلية، مما أكد على تأثر ماركس بظاهريات هيجل التي يكمن فيها سر الفلسفة الهيجلية كلها([4]).

أكد ماركس أن تقسيم العمل الاجتماعي لا يتم على أساس عمل أي حساب لمواهب الأفراد ومصلحة الكل، بل يحدث وفقاً لقوانين الإنتاج الرأسمالي للسلع فحسب. وبمقتضى هذه القوانين يبدو أن ناتج العمل، أي السلعة هو الذي يتحكم في طبيعة النشاط الإنساني وغايته. فالمواد التي ينبغي أن تخدم الحياة الإنسانية تصبح أداة للسيطرة على مضمونها وهدفها، ويصبح وعي الإنسان ضحية لعلاقات الإنتاج المادي تماماً([5]).

شرح ماركس اغتراب العمل كما يتمثل أولاً في علاقة العامل بنتاج عمله، ثانياً في علاقة العامل بنشاطه الخاص. فالعامل في المجتمع الرأسمالي ينتج سلعاً. ويقتضي إنتاج هذه السلع على نطاق واسع، رؤوس أموال ضخمة تستخدم لزيادة وتيرة الإنتاج، حيث تنتج هذه السلع بواسطة أصحاب رؤوس الأموال المستقلين بهدف الربح. بهذا يصبح العامل أجير يعمل من أجل الرأسمالي حيث يستسلم له استلاماً تماماً عن طريق عقد الأجر. ومن ناحية أخرى يشكل رأس المال قدرة على التصرف في منتجات العمل، فكلما ازداد ما ينتجه العامل، ازدادت قوة رأس المال، وبالوقت نفسه تضاءلت قدرة العامل ذاته على تملك منتجاته. مما يؤدي إلى أن يصبح العمل ضحية قوة خلقها هو ذاته([6]).

يفسر ماركس من هذا المنطلق أن اغتراب العامل في ناتجه لا يعني أنه يوجد خارجه مستقلاً عنه كشيء غريب بالنسبة له. بل إنه يصبح قوة بذاتها تواجهه، وهذا يعني أن الحياة التي منحها للموضوع تواجهه كشيء معادٍ وغريب([7]). وبذلك يشير مفهوم الاغتراب إلى أن وعي الإنسان أصبح ضحية العلاقات الإنتاجية المادية في المجتمعات الرأسمالية([8]).

وتتمثل خطورة الاغتراب عند ماركس في أن العامل المغترب عن نتاج عمله، هو في الوقت نفسه مغترب عن ذاته لأن ماركس ينظر إلى العمل في شكله الصحيح على أنه وسيط، يستخدمه الإنسان في تحقيق ذاته وتنمية ملكاته الإنسانية، أما العمل المغترب فإنه يشّل كل الملكات الإنسانية، ويحول دون إشباعها، فالعامل في العمل المغترب لا يؤكد على ماهيته بل يسعى إلى نفيها، وبدلاً من أن ينمي طاقاته الجسمية والذهنية الحرة، يكبت جسمه ويدمر فكره، من هذا المنطلق نجد أن العامل لا يشعرانه مع ذاته إلا عندما يتحرر من العمل المغترب، وعلى العكس من ذلك يشعر بأنه منفصل عن ذاته وهو يعمل. بمعنى آخر أي أنه يشعر بكيانه حين لا يعمل، ولا يشعر به حين يعمل. فالعمل الذي يقوم به العامل في النظام الرأسمالي أشبه ما يكون بعمل السخرة لأنه ليس إشباعاً لحاجة بل هو مجرد وسيلة للإشباع رغبات خارجة عنه. وبهذا لا يشعر العامل بأنه بحريته إلا عندما يؤدي وظائفه الحيوانية، كالأكل والشرب والتناسل… أما في وظائفه الإنسانية فإنه ليس إلا حيواناً. فالحيواني يصبح هو الإنساني والعكس هو صحيح([9]).

إن الإنسان عندما يغترب عن عمله، وعن ناتج عمله، وعن ذاته. يغترب أيضاً عن رفاقه من أبناء إنسانيته، فهناك علاقة جدلية بين اغتراب الإنسان عن ذاته واغترابه الآخرين، وفي هذا الصدد يقول ماركس “إن النتائج المباشرة لحقيقة الاغتراب أن الإنسان يغترب عن ناتج عمله، عن نشاط حياته، عن وجوده كنوع، أي اغتراب الإنسان عن الإنسان”([10]).

وهكذا كان تحليل ماركس للعمل في ظل الرأسمالية متعمقاً إلى حد بعيد كما بيّن لنا ماركيوز. فهو يتجاوز نطاق التركيب المميز للعلاقات الاقتصادية، ويصل على مضمونها الإنساني الفعلي. فهو ينظر إلى العلاقات التي تقوم بين رأس المال والعمل، وبين رأس المال والسلعة، وبين العمل والسلعة، وكذلك الأمر العلاقات بين السلع، ينظر إلى هذه العلاقات على أنها علاقات إنسانية، أي علاقات في حياة الإنسان الاجتماعية([11]).

يحاول ماركيوز عند دراسته لمفهوم الاغتراب عند ماركس أن يبين تحليله النقدي للمجتمع الطبقي، وأن تحليله للمقولات الاقتصادية لم يكن غايةً بحد ذاتها، إنما كان الغرض الأساسي من هذا التحليل هو تجاوز الضياع الإنساني الشامل الذي يقاسي منه البشر في ظل المجتمع الرأسمالي. كان هدف ماركس على حد تعبير ماركيوز من وراء دراسة مقولات علم الاقتصاد البرجوازي، هو الكشف على ما تنطوي عليه تلك المقولات من موضوعية خادعة وزائفة من حيث إنها تتناول موضوعات مثل قوانين العرض والطلب وتحديد القيمة والأسعار والدورات الاقتصادية. باعتبارها قوانين ووقائع موضوعية بصرف النظر عن تأثيرها في حياة الإنسان([12]). كما حاول ماركس في دراسته لهذه المقولات أن يجردها من حيادها المريب تجاه الواقع الرأسمالي اللا إنساني، فلقد كان يدرس الاقتصاد وهو يضع في ذهنه السؤال التالي: هل حقق الاقتصاد الماهية الكلية للإنسان؟([13]). كانت إجابة ماركس على هذا السؤال بالنفي لأن قضايا الاغتراب والانعتاق الإنساني وتحقيق ماهية الإنسان كلها تتجاوز مقولات الاقتصاد السياسي في صورتها البرجوازية التقليدية.

إن رغبة ماركيوز العارمة لاستخلاص الأبعاد الإنسانية في المفهوم الماركسي للاغتراب، جعلته يفسر مفهوم اغتراب العمل على أنه السلب الكامل للإنسانية([14])، وسلب هذا السلب أو نفي النفي، سيتمخض عن طريق إلغاء العمل المغترب. ويذهب ماركيوز إلى أن الملكية الخاصة هي أعم شكل قد اتخذه هذا الاغتراب، فإن آلية القضاء على هذا الاغتراب سيكون عن طريق إلغاء الملكية الخاصة، إلا أن ماركيوز ينبهنا إلى أن إلغاء الملكية الخاصة عند ماركس ليس غاية بحد ذاته، وإنما هو وسيلة لهدف أسمى وهو إلغاء العمل المغترب، فليس المقصود إذن بإلغاء الملكية الخاصة ونظام التأميم هو إحلال نظام اقتصادي مكان آخر إذ لا يمكن أن يؤدي إلغاء الملكية إلى نظام إنساني جديد، إلا إذا أصبح الأفراد الأحرار – لا المجتمع- هم الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج المؤممة([15]).

قدم ماركيوز تحليلاً لمقولتي (الاغتراب، والملكية الخاصة) عند ماركس، فأضفى عليهما بعداً إنسانياً، كما أنه في ذات الوقت تطرق إلى مقولة ماركسية أخرى ألا وهي مقولة (الطبقة)، محاولاً أن يتقصى في هذا المفهوم الماركسي عن (إلغاء الطبقات) بعداً إنسانياً آخر يستهدف تحقيق حرية وماهية الإنسان في المجتمع الرأسمالي([16]). فوجود مفهوم الطبقات من حيث هي واقع فعلي أمر يناقض حرية الإنسان، ويحول فكرة الحرية إلى فكرة مجردة، ففي النظام الطبقي يكون كل فرد حراً بقدر ما تكون طبقته حرة، ونمو فرديته مقيد بحدود طبقته، أي أنه ينكشف باعتباره فرداً طبقياً، فتصبح الطبقة في النظام الرأسمالي الوحدة الاجتماعية والاقتصادية الفعلية. وهي التي تحقق وجوداً مستقلاً يعلو الأفراد، بحيث إن هؤلاء الأفراد يجدون أوضاع حياتهم مقدرة مقدماً، ومن هنا فإن طبقتهم هي التي تحدد لهم مركزهم في الحياة الاجتماعية ومقدار ارتقائهم الشخصي، بحيث يصبحون مندرجين مندمجين تحت هذه الطبقة. ولا يستطيع الوضع الراهن للمجتمع أن يحقق نظاماً شاملاً إلا عن طريق سلبه للفرد، إذ يصبح الفرد الشخصي فرداً طبقياً([17]). وإذا كانت الشيوعية هي إلغاء للملكية وإلغاء للطبقات فإنها تكون من هذا الجانب تحقيقاً لحرية وماهية الإنسان الفرد فالشيوعية كما يقول ماركس “الشيوعية باعتبارها التخطي الإيجابي للملكية الخاصة، أو لاغتراب الذات الإنسانية، وبالتالي باعتبارها التملك الحقيقي للماهية الإنسانية من جانب الإنسان وللإنسان، وبذلك يمكن اعتبار الشيوعية بمثابة عودة الإنسان الكاملة إلى ذاته ككائن اجتماعي (أي إنساني)، عودة تصبح واعية ومكتملة في إطار كل ثروة التطور السابق. وهذه الشيوعية – كطبيعة مكتملة التطور– تساوي الإنسانية، وكإنسانية مكتملة التطور تساوي الطبيعة، إنها الحل الحقيقي للنزاع بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان– الحل الحقيقي للصراع بين الوجود والماهية، بين التموضع وتأكيد الذات، بين الحرية والضرورة، بين الفرد والنوع. الشيوعية هي لغز التاريخ وقد حل، وهي تعرف نفسها باعتبارها هذا الحل”([18]). أي أنها حسب تعبير ماركس هي الحل الصحيح لصراع الإنسان مع الطبيعة ومع الإنسان، وللنزاع بين والوجود والماهية، وبين التشيؤ والاستقلال الذاتي، والحرية والضرورة، والفرد والنوع([19]).

– بالمقابل رفض ماركيوز قد ” فكرة الحتمية التاريخية كحتمية آلية “ عند ماركس. وعلى خلفية هذا الرفض يصر ماركيوز التعرف على طبيعة الجدل الماركسي في سبيل رفض تلك الحتمية.

يشكل الطابع السلبي للواقع حقيقة معطاة تشكل القوة الدافعة الأصيلة للنظرة الجدلية إلى الواقع عند كل من هيجل وماركس حسب رأي ماركيوز، على اعتبار أن هذه السلبية هي التي أدت في الواقع الاجتماعي، إلى ظهور متناقضات المجتمع الطبقي، على أنها هي القوة المحركة لمسار العملية الاجتماعية. فقد انجذبت كل واقعة وكل حالة منفردة إلى هذه العملية بحيث لم يعد من الممكن الوصول إلى دلالتها إلا عندما ينظر إليها في إطارها الكلية، لأن الحقيقة عند كل من هيجل وماركس لا تكمن إلا في الكل أو في الكلية ذات الطابع السلبي. فالعلم لا يصبح كلاً ذا طابع سلبي إلا من خلال التجريد الذي يفرض نفسه على المنهج الجدلي، ومن خلال تركيب الموضوع الذي يطبق عليه هذا المنهج وهو المجتمع الرأسمالي. فيقول ماركيوز أن التجريد عمل الرأسمالية ذاتها، وأن المنهج الماركسي إنما يكتفي بمتابعة هذه العملية([20]). لذا يرى ماركيوز أن هناك ثمة اختلاف بين المنهج الجدلي الماركسي والمنهج الجدلي الهيجلي على اعتبار أن المسار الجدلي عند هيجل هو مسار أنطولوجي يتخذ فيه التاريخ نمط المسار الميتافيزيقي. أما عند ماركس فإنه يفصل الجدل عن هذا الأساس الأنطولوجي، ويحيل سلبية الواقع إلى وضع تاريخي لا يمكن تجميده بجعله حالة ميتافيزيقية، بعبارة أخرى إن سلبية الواقع تصبح لدى ماركس وضعاً اجتماعياً مرتبط بنمط التاريخي الخاص بالمجتمع، لأن السلبية التي تكمن وراء متناقضات الجدل وتشكل مضمونه هي سلبية العلاقات الطبقية([21]).

وهكذا أصبح المنهج الجدلي الماركسي، بطبيعته ذاتها، منهجاً تاريخياً وليس أنطولوجياً. فالطابع التاريخي للجدل الماركسي يشمل السلبية السائدة فضلاً عن نفي هذه السلبية. فالحالة الراهنة سلبية، ولا يمكن أن تصبح إيجابية إلا من خلال إطلاق الإمكانات الكامنة فيها. هذا الإطلاق أو التحرر، هو نفي النفي، ويتحقق بإقامة نظام جديد للأشياء. فالسلبية ونفيها مرحلتين مختلفتين في نفس العملية التاريخية، ويتحكم فيها السلوك التاريخي للإنسان. ويمكن اعتبار الحالة الجديدة هي حالة قديمة، ولكن هذه الحالة لا تنشأ بصورة مطردة وآلية من الحالة الأسبق عنها، بل إنها لا يمكن أن تنطلق من عقالها إلا بعمل مستقل يقوم به الناس، ويلغي الحالة السلبية القائمة بأسرها([22]).

يذهب ماركيوز إلى أن السلبية التي يبدأ بها الجدل الماركسي هي السلبية المميزة للوجود الإنساني في المجتمع الطبقي. والصراعات التي تزيد من حدة هذه السلبية وتؤدي بنهاية المطاف إلى القضاء عليها هي صراعات المجتمع الطبقي، وتتضمن مقولات الجدل الماركسي ذاته على القول بأن الانتقال من مرحلة ما قبل التاريخ التي يمثلها المجتمع الطبقي، إلى تاريخ المجتمع اللا طبقي، سيؤدي إلى تغيير بنية الحركة التاريخية بأكملها. فعندما تصبح البشرية هي التي صنعت تطور وعيها([23]). لن يعود من الممكن تلخيص تاريخها من خلال أشكال تنطبق على مرحلة ما قبل التاريخ. فالمنهج الجدلي الماركسيبرأيماركيوز سيظل يعكس سيطرة القوى الاقتصادية العمياء على مجرى المجتمع. فالتحليل الجدلي الماركسي للواقع الاجتماعي إنما يدل من خلال تناقضاته الكامنة وسلبها على أن هذا الواقع تحكمه آليات موضوعية تمارس تأثيرها بالضرورة نفسها نفس القوانين التي تحكم الطبيعة والفيزيائية، والقوانين الجدلية هي المعرفة النامية المتطورة للقوانين الطبيعة للمجتمع، ومن ثم فهي خطوة نحو إلغاء هذه القوانين الأخيرة([24]).

يصل ماركيوز إلى أن المرء يشوه الدلالة الكاملة للنظرية الماركسية لو استدل من الضرورة المحتومة التي تحكم تطور الرأسمالية، على وجود ضرورة مماثلة في موضوع التحول إلى الاشتراكية. فعندما تنفي الرأسمالية لا تعود العمليات الخاضعة لحكم القوانين الطبيعية العمياء، وهذا بعينه الذي يميز الجديد عن القديم([25])

وهكذا يؤمن ماركيوز بأن الحتمية التاريخية تنطبق على مرحلة الرأسمالية، أما الاشتراكية فتلك المرحلة لا تخضع لقوانين مماثلة لقوانين الطبيعة، لأنها تخضع في رأي ماركيوز لإرادة الإنسان وقدرته الخاصة على صنع مستقبله، ويعبر ماركيوز عن حقيقة موقفه هذا من خلال تفسيره الخاص لمسألة الحتمية التاريخية حين قال “يمكن لنا أن نصّف النظرية الماركسية بأنها رؤية للعالم إلا أن عالم الماركسية هو عالم (ما قبل التاريخ) عالم المجتمع الطبقي، وبخاصة المجتمع الرأسمالي. إن النظرية الماركسية تحلل وتنتقد هذا العالم في جميع مظاهره، وفي ثقافته المادية والذهنية. ولا وجود لنظرية ماركسية يمكن أن توصف بأنها “رؤية للعالم” بالنسبة لمجتمعات ما بعد الرأسمالية، سواء كانت هذه المجتمعات اشتراكية أو لم تكن. ولا وجود لنظرية عن الاشتراكية لأن القوانين الجدلية المتناحرة التي تحكم تاريخ ما قبل الاشتراكية لا تنطبق على تاريخ البشر الأحرار. ولأن النظرية لا تستطيع أن تحدد بطريقة قبلية قوانين الحرية. ولأن النظرية الماركسية لا يمكن أن تتنبأ بما وراء الاتجاهات التي يمكن إثباتها في المجتمع الرأسمالي”([26]).

بناءً على ما تقدم يرفض ماركيوز أن تكون هناك قوانين تحكم الفترة التالية للمجتمع الطبقي، حيث يرى أن الحرية تظهر في بداية هذه المرحلة الجديدة كعملية نفي، أما في التحديد الموجب للحرية فسيظل مجهولاً وتغيراً مفتوحاً بلا حدود([27]). فالحرية في المرحلة الاشتراكية برأي ماركيوز لا يمكن أن تخضع لحتمية تاريخية مماثلة لتلك التي تحكم الظواهر الطبيعية لأن الظروف والأحوال السائدة هي من جانب معين ذات طابع موضوعي، ومن ثم فإن الحتمية في التحليل النهائي مسألة تتقرر بواسطة البشر لأن الشروط الموضوعية التي تحدد هذه الحتميات ليست أبداً ذات اتجاه واحد هذا من جهة، ومن جهة أخرى هي لا تطرح بديلاً واحداً وإنما العديد من البدائل الممكنة، فالاختيار التاريخي يتضمن الاشتراكية أو البربرية والفاعل التاريخي لديه حرية الاختيار. وفي هذا الاختيار للممارسة التاريخية الممكنة التي تتجاوز الممارسة القائمة يكمن جوهر الحرية الإنسانية([28]).

يشير ماركيوز إلى أن الرأسمالية ذاتها سعت إلى توسيع نطاق وقدرة العمليات العقلية إلى حد كبير، على أن        ” القوانين الطبيعة ” التي تحد مسار الرأسمالية قد ظهرت في مقابلها اتجاهات من نوع آخر، عملت على إعاقة تأثير العمليات الضرورية، وبذلك أطالت أجل النظام الرأسمالي. ففي مجالات معينة استحدثت الرأسمالية تنظيمات سياسية وإدارية واسعة النطاق كالتخطيط الاقتصادي على سبيل المثال، ويرى ماركيوز أن التخطيط الرشيد في النظام الرأسمالي لا يقلل من صحة القوانين الأساسية التي اكتشفها ماركس في هذا النظام وهي القوانين التي تؤدي حتماً إلى فناء هذا النظام أي انهيار الرأسمالية. ولكن العملية يمكن أن تحتاج إلى فترة طويلة من الوحشية والبربرية. ولا يمكن تلافي حدوث مثل هذه الوحشية إلا من خلال العمل الحر الذي تمارسه الثورة ذاتها. غير أن الثورة تتوقف على مجموعة من الظروف الموضوعية منها:

الثورة تقضي بلوغ مستوى معين من الثقافة المادية والعقلية.

  • طبقة عاملة منظمة واعية بذاتها على نطاق عالمي.
  • صراعاً طبقياً حاداً.
  • تحويل الظروف السابقة إلى ظروف ثورية من خلال نشاط واع يرمي إلى تحقيق الهدف الاشتراكي. ومع ذلك فليس هناك أدنى قدر من الضرورة الطبيعية أو الحتمية الآلية يضمن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية([29]).

خلاصة القول، يفسر ماركيوز المقولة الماركسية القائلة بأن الوعي الإنساني يتحدد بطريقة حتمية من خلال وجوده الاجتماعي، على أنها تخص حياة المجتمع الطبقي. فعلاقات الإنتاج التي تقيد إمكانات الإنسان وتشوهها، تتحكم حتماً في وعيه، لأن المجتمع لا يسلك بحرية ووعي. وما دام الإنسان عاجزاً عن السيطرة على هذه العلاقات واستخدامها في إشباع حاجات الكل ورغباتهم، فإنها ستتخذ شكل كيان موضوعي مستقل. والوعي الذي تسيطر عليه هذه العلاقات وتطغى عليه يصبح بالضرورة إيديولوجيا([30]).

ولكن عندما يتم إلغاء النظام الطبقي ويحدث الانتقال من النظام الرأسمالي إلى الاشتراكي، وعندما تصبح العمليات المادية تحت سيطرة الإنسان، يمكن القول إن العمليات المادية قد أصبحت عاقلة، ويختفي الاعتماد الأعمى للوعي على الظروف الاجتماعية. فالعقل حين تتحكم فيه الظروف اجتماعية عاقلة، لا يكون قد خضع إلا لذاته. والحرية الاشتراكية تضم طرفي العلاقة بين الوعي والوجود الاجتماعي. وهكذا فإن مبدأ المادية التاريخية يؤدي إلى نفي ذاته. وبذلك تصبح الماركسية منافية للحتمية القدرية حسب رأي ماركيوز([31]).


[1] – Herbert Marcuse: Reason and Revolution, – Hegel And The Rise Of Social Theory, London, Ruotledge and kegan Paul LTD, 2 Edition,1955, p.(273).

* المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844، ويشار إليها أيضاً باسم (مخطوطات باريس(: هي سلسلة من الملاحظات التي كتبها كارل ماركس بين نهاية مايو وأغسطس 1844 وهي من ” كتابات ماركس المبكرة “. كتبت هذه الملاحظات للاستخدام الذاتي وليس بهدف نشرها. بعض أجزائها لم تحفظ بشكل كامل. اكتشفها ديفيد ريازانوف وسيغفريد لاندشوت في أرشيف الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في نهاية عشرينات القرن العشرين ونشرت لأول مرة عام 1932 ضمن مجموعة ” كتابات ماركس المبكرة “.

[2] – كارل ماركس: مخطوطات الاقتصادية والفلسفية عام 1844، ترجمة: محمد مستجير مصطفى، الحوار المتمدن، العدد: 7211، 5/4/2022.http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=188885

[3] – كارل ماركسمخطوطات الاقتصادية والفلسفية عام 1844، ترجمة: محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ط1، 1974، ص (6).

[4] – Herbert Marcuse: Studies in Critical Philosophy, Beacon Press, Boston, 1972, p. (3-4).

[5] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة، (هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية)، ترجمة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية للعامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1970، ص(267).

[6] – المرجع السابق نفسه، ص(270).

[7] – Karl Marx : Economic and philosophic Manuscripts of 1844, Translated By: martin Milligan, Published By Prometheus Books,1988, p.(29). 

[8] – حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر – دراسة تحليلية- نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص(136).

[9] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة، مرجع سبق ذكره، ص(271).

[10] – Karl Marx: Economic and philosophic Manuscripts of 1844,op.cit ,p.(32). 

[11] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة، مرجع سبق ذكره، ص(272).

[12] – Herbert Marcuse: Reason and Revolution, op.cit, p.(281).

[13] – Ibid, p.(275).

[14] – Ibid, p.(281).

[15] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة، مرجع سبق ذكره، ص(276).

[16] – حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(138).

[17] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة، مرجع سبق ذكره، ص(282).

[18] – Karl Marx: Economic and philosophic Manuscripts of 1844,op.cit, p.(43).

[19] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة، مرجع سبق ذكره، ص(279).

[20] – المرجع السابق نفسه، ص(302-303).

[21] – المرجع السابق نفسه، ص(303).

[22] – Herbert Marcuse: Reason and Revolution, op.cit, p.(315).

[23] – حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(140).

[24] – Herbert Marcuse: Reason and Revolution, op.cit, p.(316).

[25] – Ibid, p.(317).

[26] – Herbert Marcuse: Soviet Marxism, -A Critical Analysis, Colombia University press, New York, 1958, p.(142).

[27] -Herbert Marcuse: Study in Critical Philosophy, Beacon Press, Boston, 1972, p.(214).

[28] – Ibid, pp.(215-216).

[29] – هربرت ماركيوز: العقل والثورة، مرجع سبق ذكره، ص(307).

[30] – المرجع السابق نفسه، ص(308).

[31] – المرجع السابق نفسه، ص(307-308).
_________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات