صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الأخضر قريسي مدخل إلى المنطق التقليدي، وهو دراسة مبسطة، يركز على أهمية المنطق التقليدي من جوانب متعددة متنوعة، أبرزها: أنه إنجاز جسّد تدرّج الفكر البشري من مرحلة الميثوس إلى مرحلة اللوغوس، وكان أول محاولة لصوغ منهج عقلاني وعلمي لإصابة الحقيقة وتجنب الأخطاء والمغالطات، وفق مبادئ وقوانين وقواعد مقننة وضابطة للفكر والاستدلال، وهو يعدّ المحاولة الأولى في تاريخ الفكر البشري لصوغ مبادئ الحجاج العقلاني وقوانينه وقواعده.
منطق أرسطي
يقع هذا الكتاب (284 صفحة بالقطع الوسط، موثّقًا ومفهرسًا) في قسمين، فيهما ثمانية فصول. يضمّ القسم الأول، “المنطق التقليدي ومباحث التصورات”، ثلاثة فصول. في الفصل الأول، “المنطق الأرسطي”، مبحثان، يبدآن باصطلاح المنطق الذي عرض فيه المؤلف لجدل تعريفه، وبعدها لجدل تصنيفه بالنسبة إلى الفلسفة والعلوم. وفي المبحث الثاني، جاء بحث مبادئ العقل التي تحكم بصورة عامة العقل ذاته وتضبط تفكيره، وهي تؤسس المنظومة المنطقية التقليدية كلها. يقول قريسي: “الملاحَظ أن أصل مصطلح منطق غيرُ معروف على وجه الدقة واليقين، فنحن لا نعرف بدقة مَن استخدمه بالمعنى الحديث ولا في أي مرحلة جرى استخدامه. ويرجح بعض الباحثين في هذه المسألة أن إطلاق هذا الاصطلاح يعود إلى شرّاح أرسطو بغرض مقابلة الأورغانون الأرسطي بالدياليكتيك الرواقي، ويفترض أنّ هذا حدث في عهد أندرونيقوس الروديسي (القرن الأول ق. م.). والمؤكد أن هذا المصطلح أصبح كثير التداول بدءًا من الرواقيين، ونجد هذا عند كبير مناطقتهم كريسيب، وهو من أوائلهم، حيث المنطق أحد أنواع الفلسفة الثلاثة. إنها عند الرواقيين أشبه بحديقة، المنطق سياجها، وعلم النفس أرضها وغرسها، والأخلاق ثمرها”. وفي العربية، النطق والمنطق في المتعارف عليه هما كل لفظ يعبّر به عما في الضمير، مفردًا كان أو مركّبًا، وقد يطلَق على كل ما يصوّت به على التشبيه أو التبع.
تصورات وحدود
في الفصل الثاني، “التصورات والحدود وأنواعها”، تناول قريسي التصورات والحدود باعتبارها أصغر وحدة يُبنى بها الحكم وتصاغ بها القضية وتصير التصورات اجتماعية ومتداولة باللغة، ولهذا جاء بحث الدلالة وأنواعها، والحدود وأنواعها، والمقولات الأرسطية، والمحمولات والكليات. وفي رأيه، مبرر إدراج الدلالة بين التصور والحد هو أن الحد تعبيرٌ عن تصوّر؛ فاللفظ الذي له دلالة ويشير إلى معنى هو حد. ومن ثمّ، يكون الحد نقطة تقاطع بين اللغة والمنطق، ومن هنا جاءت ضرورة التعرض لدلالة الكلمات أو الحدود بتعبير المناطقة. والحد يعني الطرف أو المنتهى، والتسمية هذه في المنطق أُخذت باعتبارها ترد في القضية (التي هي وحدة التفكير الأساسية) منتهاها أو طرفها، سواء ورد موضوعًا، فيكون طرف القضية الأول وبدايتها، أو ورد محمولًا، فيكون طرفها الثاني، أو نهايتها من جهة المحمول. أما المقولة، فهي معنى كلّي يمكن حمله على موضوع ما، وقد صنفها أرسطو في عشر مقولات؛ حيث رأى أن كل ما يمكن أن يقال “قد يدل إما على جوهر، وإما على كم، وإما على كيف، وإما على أين، وإما على متى، وإما على موضوع، وإما على أن يكون له، وإما على أن يفعل، وإما على أن ينفعل”. والمحمولات الخمسة التي وضعها أرسطو هي التعريف، والجنس، والنوع، والخاصة، والعرض، “وفي الإمكان تناولها وفق مقاربة أرسطو من جانب كونها من الماهية، فهي صفة جوهرية لا يقوم الشيء من دونها، أو أنها خارجة عن الماهية، فهي ليست جوهرية بل عرضية”.
تعريفات
في الفصل الثالث، “التعريفات”، بحث المؤلف في هذه الحدود التي هي أدوات للتعريفات، مستطلعًا أهم أنواعها وقواعدها. وهو يرى أن التعريف هو أهم المباحث في منطق الحدود، وأهمها في المنطق كله، بعد الاستدلال. وحتى إذا كانت غاية المنطق كما قصده أرسطو هي القياس والبرهان، فإن أهمية التعريف تبقى قائمة معه، باعتباره ما يضبط المفاهيم والمعاني، ويجنب الالتباسات وما ينجر عنها من مراوغات ومغالطات. وهذا التعويل على التعريف في الفلسفة سبق إليه سقراط كما يخبرنا أرسطو نفسه؛ ففيلسوف الأخلاق سقراط كان يستنفد جهده كله في ضبط التعريفات. ولمحاربة السفسطائيين، والفوضى الفكرية التي أحدثوها من طريق استغلال الغموض والالتباس اللغوي، وما تفسحه من مجال واسع للمراوغات والمغالطات، قال سقراط بضرورة ضبط المفاهيم بصفتها خطوة أولى في السعي إلى أي حقيقة. وهو اجتهد في تحديد معاني الألفاظ والمصطلحات تحديدًا جامعًا، وكان يصنف الأشياء في أجناس وأنواع. لهذا، تتكرر في محاورات سقراط مقاطعاتُه لمحاوِره، مطالبًا إياه بهذا الضبط والتدقيق. وعند أهل العربية، التعريف هو جعل الذات مشارًا بها إلى خارج إشارة وضعية، ويقابلها التنكير.
قضايا
يضمّ القسم الثاني، “المنطق التقليدي ومباحث التصديقات”، خمسة فصول. في الفصل الرابع، “القضايا”، يدرس قريسي القضايا وأهم تصنيفاتها وأنواعها، بالتدرج من بسيطها إلى مركّبها. يقول: “يمكننا أن نتخذ الأسلوب الأدبي مدخلًا لحد القضية؛ فإذا كان الأدب يقسم عباراته إلى إنشائية لا تقبل حكمًا بصدق أو كذب، مثل الأمر والنهي والتمني والدعاء والرجاء، فعبارات مثل: افتح النافذة، لا تتأخر عن الحصة، أتمنى ألا يكون الاختبار صعبًا، اللهم حسّن خُلقي، هي كلها عبارات إنشائية لا تقبل التصديق والتكذيب. والصنف الآخر في العبارات الأدبية هو العبارات الخبرية الوصفية التقريرية أو الوجودية، التي تخبر عن الشيء، وتصف الموجود كما هو موجود، أو تقرره كما هو، كقولنا: العدد الزوجي يقبل القسمة على 2، السماء غائمة، أرسطو فيلسوف يوناني. بما أن المنطق في جوهره هو تمييز الصادق من الكاذب، فإن العبارات الإنشائية التي لا تقبل حكمًا بصدق أو كذب تُقصى بالضرورة من مجاله، بينما تبقى العبارات الخبرية وحدها في نطاق المنطق، بما أنها بطبيعتها الخبرية تقبل التصديق والتكذيب، وتسمى في المنطق ’قضايا‘؛ فالقضية في المنطق هي كل عبارة خبرية تقبل الحكم بالصدق والكذب”.
في الاستدلال
في الفصل الخامس، “الاستدلال المباشر”، بحث المؤلف في الاستدلال المباشر الذي هو الأبسط، ويعتمد مقدمة واحدة، وعرض لأهم أنواعه. وعند قريسي، الاستدلال في المنطق هو الانتقال من قضية واحدة أو قضايا عدة إلى ما يلزم عنها بالضرورة المنطقية. والقضية أو جملة القضايا التي ننطلق منها تُسمّى مقدمة أو مقدمات. والاستدلال في المنطق من طبيعة استنتاجية صورية؛ فهو مبني على الضرورة العقلية المنطقية، لا على المضمون المادي للحدود والقضايا. الاستدلال المباشر هو الذي نستخدم فيه مقدمة واحدة، ثم ننتقل منها إلى ما يلزم عنها بالضرورة المنطقية؛ “فإنْ نحن انطلقنا من افتراض القضية: كل الأعداد الطبيعية موجبة، صادقة. تكُن القضية: بعض الأعداد الطبيعية ليست موجبة، قضية كاذبة بالضرورة؛ فالقضيتان لا يمكنهما أن تصدقا معًا. وما دمنا انطلقنا من قضية واحدة كمقدمة للاستدلال، فإن هذا الاستدلال استدلال مباشر”.
في الفصل السادس، “الاستدلال غير المباشر”، يقول المؤلف إن الاستدلال غير المباشر هو كل استدلال ننطلق فيه من أكثر من مقدمة، “فإذا وظّفنا مقدمتين واستنتجنا منهما نتيجة لازمة عنهما بالضرورة المنطقية، سُمي هذا النوع من الاستدلال قياسًا”. ويتدرج المؤلف في بحث الاستدلالات غير المباشرة التي يمثل القياس فيها أنموذج البرهان، وجوهر المنطق وغايته، وباقي المباحث أدوات ووسائل له؛ فهذه المباحث – على ضرورتها كلها – تبقى متفاضلة القيمة، فمنها ما هو مجرد وسيلة، ومنها ما هو غاية في ذاته. لهذا، أخذت الاستدلالات النصيب الأكبر من الحجم والبحث، وهو حاول أن يشمل أنواعها المختلفة.
مغالطات مشهورة
في الفصل السابع، “المغالطات المشهورة”، يدرس قريسي المغالطات ويعرض لأشهرها وأكثرها تداولًا، “وتكمن ضرورة التعرض للمغالطات في أنه لا يكفي أن نعرف الصواب كي ننسج على منواله، بل من الضروري أن نعرف المغالطات حتى لا نقع فيها أو نوقع غيرنا فيها، وكي نكشف فساد الاستدلالات التي بُنيت عليها. لهذا جاءت المغالطات أو السوفسطيقا عند أرسطو في الكتاب السادس الأخير من الأورغانون، فهي من مباحث المنطق التقليدي”. وفي نظره، من جانب اللغة، تصنف المغالطات إلى لفظية، فتكون من طبيعة لغوية، ومغالطات لا علاقة لها باللغة. وبوجه عام، يصنف المناطقة المغالطات إلى صورية أو شكلانية وغير صورية أو لاشكلانية. والمقصود بالصورية تلك التي ترتبط بالشكل، والتي تُرتكب عند بناء حجج تتعارض مع قوانين المنطق أو قواعده، بينما لا ترتبط غير الصورية بقوانين المنطق وقواعده. يصنف أرسطو المغالطات إلى صنفين: منها ما يكون من الكلمة ومنها ما يكون خارجًا عن الكلمة، أي مغالطات فكر. وتنقسم مغالطات الكلمة إلى ستة أنواع: اتفاق الاسم، والمراء، والتركيب، والقسمة، والتعجيم، وشكل اللفظة. وتتنوع مغالطات الفكر أيضًا في سبعة: مغالطة العرض، ومغالطة حمل الإثبات النسبي على الإثبات المطلق، والعكس، وفي النوع الرابع يأتي التضليل من النتيجة التي تلزم، ويأتي التضليل الخامس من الدور، والتضليل السادس من وضع ما ليس بعلة علة، وأما السابع، فأن يجعل المُغالِطُ مسائلَ كثيرة مسألةً واحدة.
نقد وتطور
في الفصل الثامن والأخير، “ما بعد المنطق التقليدي: النقد والتطور”، انتقل المؤلف إلى ما بعد المنطق التقليدي من جانب النقد والتطور، حيث عرض لعينات من النقد الناقض الذي واجهه المنطق الأرسطي. وحتى لا يقطع الترابط، بالبدء بالفكر الغربي لينتقل إلى الفكر الإسلامي ثم يعود ثانية إلى الفكر الغربي، عرض لنقد مفكري الإسلام قبل الفكر الغربي، “إذ انشغل علماء الإسلام ومفكروه بهذا النقد، وشكل نقد شيخ الإسلام ابن تيمية مرجعية متميزة فيه”. بعده، عرض المؤلف لأهم الانتقادات التي تعرض لها المنطق التقليدي في الفكر الغربي، في العصر الوسيط وما بعده. يقول: “وبما أن هذا النقد للمنطق التقليدي صنفان: نقد نقض، وهو ما بحثنا فيه في الجزء الأول من هذا الفصل، كان من الضروري – لاستكمال الصورة – أن نخصص الجزء الثاني منه للصنف الآخر، وهو نقد إنقاذ؛ فهو يفترق عن سابقه في كونه استيعابًا وتطويرًا وتجاوزًا للمنطق التقليدي، والذي يشكل ميلاد منطق جديد، لا قضاء على المنطق”، تعرض المنطق التقليدي لنقد بعض المناطقة المحدثين والمعاصرين، لا للإلغاء أو إحداث قطيعة معدمة، إنما من أجل استكمال المشروع المنطقي، من خلال تصويب الأخطاء، واستكمال النقائص، وتدقيق التصورات والمسائل؛ “لهذا لا يحمل ليبنتز على منطق أرسطو وقياسه مثلما فعل فرانسيس بيكون، إنما يعتبره إنجازًا عبقريًا استثنائيًا في تاريخ البشرية، لا بد من استثماره وتطويره، ولا يطعن في قيمته ما يُسجل عليه من أخطاء، وما يُحسَب عليه من هفوات ونقائص”.
الأخضر قريسي:
أستاذ محاضر في قسم الفلسفة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة محمد لمين دباغين، سطيف 2. حائز دكتوراه العلوم في الفلسفة (2018)، جامعة الجزائر 2، والتأهيل الجامعي (2020)، جامعة سطيف 2. شارك في عدد من الندوات والملتقيات الدولية. له عدد من المقالات المنشورة في مجلات علمية محكّمة.
________
*المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
*المصدر: التنويري.