لم أكترث ولو قليلا حينما شاهدت عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورا وإعلانات عن بيع عشرات الأسر الأفغانية لأطفالهم بسبب الفقر وتردي الحالة الاقتصادية بالبلاد، تماما مثلما كنت على موعد مع تمام اليقين بأن أفغانستان 2021 غير مؤهلة للديموقراطية لثمة أسباب وعوامل أبرزها أن مفردة الديموقراطية ذاتها من المفردات المحرمة التي ينبغي على من يقطن كابول عدم الاقتراب من شجرتها خوفا وخشية من الطرد واللعن المطلق كما يرى زعماء وأمراء ومجاهدو حركة طالبان التي انتزعت السلطة وحكم البلاد والعباد على السواء. وكم هو مثير للدهشة أن يتم تناول المسألة الأفغانية من زاوية سياسية ودينية بعيدا عن رصد الحالة الوبائية التي تشهدها البلاد والتي ليس من تفاصيلها الجائحة الكونية كوفيد ـ 19، بل أوبئة أخرى نتيجة الاضطرابات السياسية والوضع الاقتصادي المصاحب للحالة الصحية العامة للمواطنين، وكأن أفغانستان خرجت من دائرة فيروس كورونا الوبائي أو أن الجائحة نفسها قررت التنازل عن الفتك بالشعب الأفغاني تاركة لهم الصراعات السياسية كبديل لتقويض الحياة هناك.
وبعيدا عن كل التحليلات السياسية التي أرهقت الحالة الأفغانية نفسها بتأويلات لم تخرج عن أن الفساد في كابول صناعة أمريكية محضة، وأن الأمريكان إدارة وجنودا وثقافة وافدة غذَّت الروح الأفغانية بالتسليم المطلق لكافة مشاهد الفساد هناك، كذلك التأويلات المتعلقة بالصراع الخفي حينا والمعلن أحيانا كثيرة وطويلة بين أفغانستان وباكستان حول قضايا تبدو وهمية للرائي، فضلا عن النزاع الشرعي لتأسيس تنظيم القاعدة الذي تأرجح بين البلدين بغير وجود ثقافي يمكن ملاحظته أو تكريس ثقافة دينية نوعية يمكن رصدها، فقط ثمة مظاهر دموية متطرفة .
ومن ضمن التأويلات التي قفزت على مشهد تحليل الحالة الأفغانية هو الدعم الباكستاني العلني لحركة طالبان ؛ فلقد حظيت “طالبان” كما يذكر الكاتب أجمل أحمدي بدعم باكستاني بغير انقطاع وتقديم كافة التسهيلات والإمكانات لدوام الحضور في المشهد السياسي، لاسيما من هيئة الاستخبارات الداخلية التابعة لباكستان. ويشير أجمل إلى أنه نُقل عن محمد ضياء الحق، الرئيس الباكستاني السابق، قوله : ” إن باكستان تسعى دائماً إلى الإبقاء على حالة من الغليان في أفغانستان ” .
وتأويل المشهد الباكستاني السابق تجاه حركة طالبان لا يدعو إلى التسليم والتصديق بالنية الصافية والتعاون الصادق لخدمة الشعب الأفغاني، بل إن دعم هيئة الاستخبارات الباكستانية لحركة طالبان ـ كما يشير الدبلوماسي السابق بدر الدين زايد في تقريره عن الحالة الأفغانية الراهنة ـ ورعايتها المتواصلة لـ”طالبان” ستمكنها من القضاء على “القاعدة”، وتمكين نظام حكم تابع يدعمها في صراعها الطويل ضد الهند، رغم أن ما حدث كان خلاف ذلك، إذ ما لبثت التفاهمات والتحالفات أن أصبحت عنوان علاقة “طالبان” بـ”القاعدة”، بل تحالفت معها للقضاء على المنافسين على الأرض من ميليشيات مسلحة اكتسبت طابعاً عرقياً مرتبطاً بتلون المجتمع الأفغاني، وكان أهمها حركة شاه مسعود في إقليم بنجشير، فضلاً عن ميليشيات أخرى من الشيعة.
ومن الطبيعي أن تفشل كل أنواع التحالفات بين نظام استخبارتي وأي كيان سياسي عسكري ذي صبغة أو مرجعية دينية لاسيما وإن كانت أكثر تطرفا وراديكالية وأقل ديموقراطية؛ لأن تلك الكيانات هي بطبيعتها تأبى ظل الحضارة وتنزح بعيدا عن تكريس الثقافة القومية الشعبوية فهي مؤسسات لم تصل بعد إلى التخطيط الاستراتيجي بل تسير بفقه يشبه منطق صائد السمك في رحلته اليومية التي يمكن توصيفها باللهجة المصرية الدارجة ( رزق يومٍ بيوم ) وليس التخطيط واسع المدى أو اعتناق فكر المؤسسات والتنظيمات القوية التي تسير وفق منظومة محددة من التنظيم والتحليل وإعادة التخطيط وتقييم الحالة والتنبؤ بالنتائج، وهذا ما أدى أيضا في مصر إلى السقوط التاريخي والشعبي لتنظيم جماعة الإخوان لأنها حركة لم تتدبر كافة أبعاد المنظومة السياسية والاجتماعية بمصر فكان قدرها الحتمي العزل والطرد الشعبي من ذاكرة تاريخ مصر.
وبالرغم من أن هناك أنباء متناثرة تفيد بوجود مباحثات بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان من أجل الاعتراف بشرعيتها وسيادتها في حكم باكستان إلا أنني من هؤلاء الذين لا يؤمنون بفقه سلامة النية الأمريكية نظرا لتغلغل اللوبي الصهيوني في صناعة قرار الولايات المتحدة الأمريكية بعيدا عن تقاليد الثقافة العربية السائدة التي تحاول تكريس الانتقام المؤجل بحجة انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان .
لأن الواقع يشهد ويفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تسحب قواتها تماما من أفغانستان كما تصوُّر وكالات الأنباء والقنوات الفضائية ذلك وكذلك تصريحات قيادات حركة طالبان، لأن سيطرة الحركة على باكستان جميعها جوا وبرا وبحرا وفضاء لم تتحقق بالحتمية لأن حركة طالبان تواجه حتى لحظة الكتابة هذه مقاومة مستمرة بشتى الصور السلمية والناعمة والمسلحة أيضا، هذا فضلا عن أشرس مقاومة يمكن أن تواجهها حركة طالبان التي تتمثل في محورين ؛ الأول هو الوضع الاقتصادي الذي يوشك على انهيار أفغانستان اقتصاديا، والثاني هو ما يمكنني تناوله في السطور المقبلة ألا وهو كيفية ترويض العقل الأفغاني لقبول تفاصيل فقه طالبان ومنهجها الراديكالي بعد سنوات طويلة عاشها الشعب الأفغاني من الليبرالية المزيفة .
ولقد أعجبتني عبارة ” هموم التخلف واحدة” التي قرأتها وأنا أطالع تقرير حالة حقوق الإنسان في الوطن العربي منذ سنوات ليست بالبعيدة، والذي تناول تدهور حقوق الإنسان العربي الأربعة بدءاً من حق الحياة، وحق التعبير، وحق الاعتقاد الديني، وانتهاءً بحق تكوين الجمعيات. وسرعان ما اجتهدت في الربط بين هذا التقرير وما يتضمنه من آراء لعل بعضها جادة ومحترمة، وبين حق أغفله التقرير نفسه والذي يتناول حكم المرجعيات الدينية المتطرفة للدول، ألا وهو حق التأويل.
ولكني أدركت أن التأويل في حد ذاته لم يعد حقاً يطلبه الإنسان، بل أصبح فريضة يؤديها ليل نهار على كل ما يمارسه من سلوكيات وقيم وأفكار،هذا إن يفكر من الأساس، وقراءاته هذا إن كان يقرأ في الأصل، وعلى ما يسمعه ويشاهده وأظن أنه لا يفعل ذلك أبداً، أقصد تأويل ما يسمعه. المهم أن التأويل بدلاً من أن يكون حقاً مكتسباً، صار شهوة موروثة بعلة وحجة أن صحة التأويل مرجعها الإجماع المطلق. ويظل التأويل وفق منطقه الأكاديمي هاجسا يؤرق حكومة طالبان التي أظنها لا تبدو بخير حينما تؤكد كل ساعة أنها حكومة انتقالية وليست نهائية وأنها تضم الوزير ونائبه ونائب نائب الوزير والقائم بالأعمال وهذا التزاحم في الظهور الإعلامي تارة، وذاك التناحر السلطوي بينهم تارة أخرى، في حين أن شعبا يقاتل الفقر بضراوة بنفس القدر الذي يأبى استلاب عقله وتغيير مظانه العقائدية تمهيدا لقبول مرجعية طالبان الدينية .
ومعظم رجال الدين اتفقوا على ضرورة التأويل في المواضع التي تثير الشبهات فقط، وهذا يجعل الناظر ( أي الذي يرى الأشياء بنظرة ثاقبة وروية) لقضية التأويل ملتبساً بعض الشئ، فكيف يقضي رجال الدين بشئ ولم يتفقوا وتجتمع آراؤهم عليه اجتماعاً وإجماعاً مطلقاً. وهذا يذكرني بما صنعه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” حينما كفر الفارابي وابن سينا لأنهما خرقا الإجماع في التأويل، رغم كونهما من أهل الإجماع أي أن رأي الغزالي فيهما لا يعتد به شرعاً، وهما (أي الفارابي وابن سينا) أكدا على توجه التربية إلى الاهتمام بالإنسان من جميع جوانبه، وأبعاده الروحية والعقلية والجسمية وغرس الفضائل والعادات السليمة.
وهذا التكفير يجعلنا ندير البوصلة من جديد صوب افغانستان، فحركة طالبان بالضرورة لا تفطن كنه التأويل بحجة كونه حراما ومفسدة للعقل والروح، فالكيانات السياسية عادة التي يمكن ردَّها إلى مرجعيات دينية تؤمن بفقه السمع والطاعة دون إعمال العقل، أو ترجيح القدرات الهائلة للمخ البشري، فهي مرجعيات سلطوية بحكم تكوينها، كذلك تلك الكيانات السياسية ذات المرجعيات الدينية هي في الأصل غير اجتماعية أي لا تقرُّ بفكرة المجتمع الصغير أو المحلي بل ترمي بشباكها ومطامحها إلى مظلة الأمة دون أدنى اكتراث أو عناية بقضية القومية أو الوطن الأصل .لذا فهي كيانات تكفِّر كل معارضيها وتعلن تفسيق الخارجين عن إحداثياتها أو حتى ذلك الرجل البسيط الذي لا يقرُّ بشرعية طالبان في مخيلته دون الإفصاح عن ذلك، وربما تشبه حركة طالبان محاكم التفتيش التي كانت سائدة في أوروبا بعصورها الأكثر ظلامية وأنه ليس للمرء حق في التفكير أو الاجتهاد ومن ثم إعمال العقل بأية ظاهرة محيطة.
حسنا، ماذا يؤكد هذا الزعم السابق ؟ يؤكده ما تم نشره على موقع أندبندنت عربية من أن أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة الذي لم يعد هو أو تنظيمه مطلبا ذا أهمية لدى الإدارة الأمريكية كما كان الحال مع القيادي أسامة بن لادن، فلقد ظهر الظواهري مؤخرا عبر تسجيل يشير إلى أن أفغانستان هي بوابة العبور إلى فلسطين وتحريرها من الاحتلال الصهيوني، وأن أفغانستان التي استطاعت أن تحرر العقول والقلوب من الأفكار الشيوعية والتخلص من ظلال الثقافة الصهيوأمريكية بها، فإنها قادرة أيضا على تحرير القدس من الغاصب الصهيوني .
وحينما نجتهد في تأويل ما سبق، فإن ثمة ملامح أخرى تعكر من صفو إدارة حركة طالبان للبلاد ؛ كان منها البزوغ المفاجئ لتنظيم الدولة ( داعش ) وإن كان ظهورا متقطعا ليس بمستدام، لكن ظهور أيمن الظواهري بفكره القمعي ونزوعه الدائم للاستبداد المقترن باستخدام السلاح في وجه معارضيه سيشكل صداعا مزمنا بعقل حركة طالبان لأنها لم تعد اليوم بحاجة إلى وجود وصي عليها أو أنها نجحت بالفل في الخروج من عباءة الولاية.
إذن قضية التأويل لم تكن حديثة العهد بواقعنا الراهن، بل هي ضاربة في جذورنا الثقافية وكم من مفكر صارع وصرع من أجل إثبات هذا الحق للمواطن العربي قبل أن يصبح اليوم مشاعاً. وإذا راهنت نفسك بسؤال أحد الأفاضل الذين امتلكوا وحدهم حق التأويل عن شروط التأويل، وشروط القائم بالتأويل ستكسب رهانك لأنه سيسرد لك عبارات عامة عن القراءة والاطلاع والثقافة وامتلاك ناصية اللغة، ولو أن أحداً من هؤلاء بذل جهداً بسيطاً أقل مما يبذله في إعداد ما يقوله إما للصحف أو للفضائيات الفراغية لما ببعض البلدان الإسلامية إلى حالة الفكاك المستديمة تلك التي تعانيها منذ أمد ليس بالقريب.
ولو أنه خرج قليلاً من عباءات الضيق والجمود الفكري التي يعاني بعضهم منه وقرأ كتاباً مهماً للقاضي ابن رشد وهو “مناهج الأدلة في عقائد الملة” لاستطاع أن يعبر بعقله أولاً ثم بعقول أبنائنا وشبابنا إلى المستقبل، وإلى خلق جيل أكثر تفكيراً ووعياً من سابقيه. فلقد حدد القاضي الفقيه ابن رشد شروطاً للقائم بالتأويل أبرزها أن يكون من العلماء أصحاب النظر البرهاني، أي الذي يبني على مقدمات يقينية، وليست فقط أن تكون مشهورة بين الناس.وفرغ ابن رشد من حديثه إلى أن الشريعة الإسلامية تؤيد التأويل وتحث عليه، بحجة أن النظر في الموجودات المصنوعة تدل على صانعها.
ونرى من العلماء الأجلاء كالرازي والآمدي وابن الحاجب وأبي الحسين البصري أنهم أكدوا على أن الأمة إذا اختلفت في تأويل آية كانوا على قولين، وأجازوا لم بعدهم إحداث قول ثالث، هذا بخلاف ما إذا اتفقوا في الأحكام على قولين فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وهكذا كانت سماحتهم ووعيهم الديدني بالتأويل وقبول الرأي الآخر ما لم يكن مخالفاً للشرع.
وخلاصة القول والرأي في هذا أن التأويل والحمد لله لم يعد حقاً يطالب به بنو البشر على السواء، لأنه بالرغم من أنه أصبح مشاعاً، إلا أن فئة من العلماء أصحاب العقول الراجحة الجانحة اغتصبوا هذا الحق لهم وحدهم، وتركونا منفردين على حالات ؛إما نخاف على هيبتنا واحترامنا الثقافي والفكري لأنفسنا فالتزمنا الصمت، وإما أننا أكبر من كل هذا الذي يقولونه ويبثونه بثاً فيصير هباءً منثوراً، أو نقبله كما تورد الإبل نحو الماء، فاللهم لا تجعلنا إبلاً تورد للماء طوعاً وقسراً وكراهية.
وهذا الاستلاب غير الشرعي للتأويل اقتنصه زعماء حركة طالبان ومن قبلهم رجال القاعدة وبينهما الكثير من الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية مثل جماعة الإخوان وجماعة التكفير والهجرة والشوقيين والجماعات الإسلامية الجهادية التي قتلت الزعيم البطل محمد أنور السادات . فهؤلاء يظل التأويل لديهم في حدود قصوره بحجم قصور التفكير لديهم الذي لا يمكن إخراجه عن الهوس المطلق واللانهائي بتحجيم حياة المرأة وأنها خُلقت فقط كجارية لا تصلح للتعليم أو العمل أو أن لها حق الوجود كإنسان بل هي مجرد كائن ميت وُجد إما لإشباع غريزة أو إسقاط كافة العقد النفسية والأمراض العصبية عليها.
لكن الأمر الذي يبدو خطيراً ونحن بصدد الحديث عن دعوات إقامة دولة دينية سلطوية في أفغانستان ـ رغم أنها بالفعل دولة دينية في أساسها ـ هو مسألة الغلو، والغلو ملمح رئيس لا يمكن أن ينكره أحد على المنتمين للتيارات الدينية المتشددة، أو تلك التي لا تدرك مرونة الإسلام والتعددية التي هي سمة أصيلة فيه، بل إن قضية الغلو تلك تجد صدىً واسعاً وقبولاً طيباً لدى الشاب المنتمي لتلك التيارات حيث إن تاريخه كله مصبوغ بفكرة الغلو تلك. فهو في المنزل طفل يعاني من قمع السلطة الأبوية المتمثلة في الأب والأم، وهي النواة الأولى لخلق التعصب والتمذهب الفكري تجاه بعض الأفراد والآراء والقضايا. ومن منا لم يسمع يوماً ما من أبويه كلمات سلطوية بعينها مثل هذا فاسق، وذلك فاجر، وهذا كذاب ، وغيرها من الكلمات التي تؤسس مرجعية فكرية تصيب صاحبها بورم مزمن لا شفاء له. وهو إصدار وتعميم الأحكام وإطلاقها بشراسة.
وسجلات التاريخ المعاصر تحديدا منذ سقوط حكم الشاه في إيران والصعود الديني بولاية الإمام الخوميني الذي فجر الجيوب الصغيرة التي تحولت بعد ذلك إلى كيانات سياسية احترفت الإرهاب والتطرف والقتل والاغتيال زاخرة بالقضايا السياسية والجنائية، والتحقيقات الصحافية التي تؤكد حضور مرجعيات دينية ممزوجة بالعصبية والاستبعاد للآخر بل ومحاربة أي فكر يحمل كلمات مثل التنوير والاستنارة والاجتهاد والمدنية وحرية التعبير، رغم أن هذه الكلمات وغيرها من أبجدية النهضة ضاربة في أبد وأزل التاريخ الإسلامي منذ أربعة عشر قرناً وأكثر . ولكن قمعية بعض الجماعات والتيارات للرأي الآخر هي التي تدفعنا للتحذير من مغبة الأيام المقبلة والمرهونة باحتمالات تسيد بعض التيارات السياسية ذات الصبغة الدينية أو التيارات الدينية ذات التوجه السياسي الحالة والمقام السياسيين في الوطن العربي .
وخطورة هذا التسيد لا تأتي من الحضور الإسلامي على جميع مجالات ونواحي الحياة المجتمعية، فهذا الحضور موجود بالفعل وقديم، بل ولا يحتاج إلى شخص أو مؤسسة أو تيار يمثله أو يدعو إليه، فالإسلام حدد منذ أربعة عشر قرناً هوية هذه الأمة في صورتها الجمعية دون الالتفات إلى بقية الديانات الأخرى التي لاشك تدخل تحت مظلة الهوية القومية بصفة عامة . ولكن الخطورة هي أن من المنتسبين لهذه التيارات ذات المرجعية الدينية قد ينتابهم شك شديد الحضور والشهود وهو أن المجتمع الإسلامي يبيت على ضلال مستباح .
وهم في ذلك لا يستشهدون إلا بملامح ودلالات شديدة الخصوصية لا تصل إلى حد التعميم، مثل وجود رواية تستبيح محرمات نهى عنها الإسلام، وهذا الأمر في حد ذاته يجعلنا نتساءل هل هذا الشعب حقاً يعتبر من الأمم القارئة ؟ أنا شخصياً لا أظن لأنه أصبح اليوم المواطن العربي هو الذي يذهب إلى المعرفة بصورة قصدية بدلاً من أن كان قديما المعرفة قطاراً يصل إلى كل بيت متمثلة في اللغة واستخدامها الرقيق، وطريقة التعامل الاجتماعي، واحتراف الذوق الذي غاب عن واقعنا في الفن والموسيقى والرياضة أيضاً .
وهم ـ أعني التيارات الدينية السياسية ـ لا يستندون أيضاً إلا على فيلم مبتذل لمخرج أو ممثلة أكثر ابتذالاً لا فكر فيه ولا رؤية ولا عناصر إبداع تحتويه، فمن حقهم أنهم يقفون متوشحين بسيف الفضيلة أمام هذه النماذج، ولنا الحق نحن أن نلوم أنفسنا لأننا شجعنا هؤلاء المنتسبين للفن ظلماً بإنتاج أعمال رخيصة مبتذلة .
وهذا ما ستسعى إليه حركة طالبان في تقويض التنوير من ناحية، وتدعيم وبسط نفوذها وسطوتها من ناحية أخرى، فهي لن ترهق نفسها بتأويل الفن إلى داعم وبناء وآخر فوضوي وهدام ومبتذل، ولن تفجر طاقاتها الذهنية بتأويل الشعر إلى كونه حياة وطاقة إبداع أو إلى أنه مدعاة للفجور والسفور، كذلك لن تفكر أبدا في أن المرأة كائن حي يماثل الرجل في حقه الإنساني والمجتمعي بل هي بوابة الفتنة .
لذلك كله فإن طالبان كمثيلاتها من التنظيمات والكيانات السياسية المسلحة ذات المرجعيات الدينية المتطرفة ستكمل مسلسل السقوط الحتمي لها، لا لأنها رجعية لا تتصل بالواقع الراهن، بل لأنها ضد حركة الكون الذي يؤمن بالتجديد والاجتهاد الذي أقرهما الدين الإسلامي الحنيف، ولأن أفكارها باتت منتهية الصلاحية، ولكونها رجعا للصدى وليست صوتا صادحا.
__________
*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل /أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية(م) / كلية التربية ـ جامعة المنيا.
*المصدر: التنويري.