كورونا وأسطورة “الخرافات الدينية”
لا تقتصر الأساطير على بعض رجال الدين هنا وهناك، أو روافد متبقية لثقافاتٍ شعبيةٍ تربط الأمراض بأرواحٍ شرّيرة وبخرافاتٍ أو عقوباتٍ إلهيةٍ مطلقة، فهنالك، على الطرف الآخر تماما، أساطير وخرافات ما تزال أسيرة أحكام مسبقة وصورة نمطية ترفض الدين، وتضعه في منزلة معادية ومتناقضة مع العلم والعقل، ولذلك تنزلق مباشرة إلى تلبيس الوعي الديني للمجتمعات بأوصافٍ وتعميماتٍ تربطه بالخرافات واللاوعي.. إلخ. يمكن ترجمة ذلك بوضوح، من خلال النظر إلى الخطاب الديني تجاه كورونا، فوجدنا أنّ بعضهم مباشرة، من دون عملية استقصائية أو موضوعية، قفز إلى القول إنّ التفسير الديني لكورونا مسكون بالخرافات، أو ربطها بأسباب العقوبات أو التأويلات غير العقلانية والمنطقية.
بالضرورة هنالك خطابات دينية متطرّفة، وربما ثقافات شعبية متلبسة بالدين تذهب بهذا الاتجاه، ليس فقط في الموقف من كورونا، بل في أمور أخرى كثيرة أيضا، لكن الخشية هنا من التعميم أو تكبير الظاهرة وتضخيمها، أو عدم النظر إلى الجانب الآخر، وهو تطوّر الخطاب الديني وتغير أنماط التديّن في مجتمعاتنا، وأصبح الخطاب الديني العام السائد هو المعتدل المتصالح مع العلم والعلماء، الذي يقرّ لأهل الاختصاص والعلم بمسؤولياتهم ودورهم، وفي المقابل يوجّه الوظيفة الدينية إلى خدمة المجتمعات، وتحقيق مقاصد الشريعة، ومن أبرز أولوياتها، كما يقول الإمام الشاطبي، حفظ النفس.
ما يمكن أن أرصده، وإنْ من زاوية رصد أولي مبدئي، من خلال المشهد الأردني، أنّ هنالك تطوراً ملحوظاً على مستوى الخطاب الديني في المجتمعات، وعلى صعيد الوعي المجتمعي الديني العام أيضاً، وحتى في أنماط التدين الشعبي. ولولا ذلك لما شاهدنا تأييداً كاملاً لقرار الحكومة الأردنية إغلاق المساجد والكنائس ومنع صلوات الجماعة في المساجد، حتى الأحزاب الإسلامية جميعاً، بمن فيها المعارضة، قدّمت خطاباً مؤيداً للإجراءات الحكومية، ولم تصدر عنها تفسيراتٌ توحي بأنّها تذهب نحو المسار المضاد لذلك. ولم يتخلف تيار إسلامي أردني عن هذا الموقف، السلفيون والزوايا والطرق الصوفية والإخوان، وكذلك الأمر جميع الكنائس المسيحية، فالجميع أيدوا ذلك، ودعوا أتباعهم إلى الالتزام بالإجراءات الصحية، ربما خرجت مجموعات هنا أو هناك ترى خلاف ذلك، ولكن لم نسمع عنها، لأنّ حجمها وحضورها محدود جداً وغير مقبول اجتماعياً!
وأعرف في الأردن أطباء وعلماء كثيرين يعملون في مكافحة المرض واحتوائه، وتقديم النصائح والمساعدة النوعية، وجميعهم من خلفية إسلامية، ومتدينون، وهم متخصصون بالطب والأوبئة وفي العلوم الطبية المساندة. وهنالك فيديو انتشر وذاع في أوساط الأردنيين عن الفيروسات من منظور ديني، وهو (يا للمفارقة) مقطع من فيلم سوفييتي أنتج منذ عقود طويلة عن العالم الإسلامي ابن سينا (980 -1037)، عن رؤيته إلى الطاعون، ويصف الفيروسات وصفاً دقيقاً، ويتحدث عن الإجراءات المطلوبة للتعامل معها، من خلال العزل الصحي والتباعد الاجتماعي ومنع صلوات الجماعة، وكأنّها نفسها البروتوكول الصحي المطبق حالياً مع كورونا، وقد اجتاح هذا الفيديو مواقع التواصل الاجتماعي بين الناس.
بالنتيجة، من الضروري أن نكون حذرين من التعميم والإطلاق والتضخيم لبعض الظواهر، والاستسلام للأحكام المسبقة والأفكار المعلّبة، بل لو ذهبت أبعد من ذلك؛ لا ترى نظرية المؤامرة التي تنتشر لدى أوساط ثقافية وسياسية معينة شيئاً خارج هذا المنظور، وكانت أقوى انتشاراً لدى شريحة اجتماعية واسعة، وغذّت ذلك نخبة معتبرة من المثقفين العرب، مثاله أنّ كورونا هو مؤامرة صينية، وفي أحيان أميركية، وأنّه مجهّز مسبقاً كجزء من حربٍ بيولوجية، واتخذ فيلم “عدوى” (Contagion) الذي أنتج قبل قرابة عشرة أعوام للإشارة إلى أن كل شيء معدّ سلفاً ومسبقاً. وقد دلّل بعضهم على موقفه من كلمات للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أو نبوءة قبل أعوام لمالك “مايكروسوفت” بيل غيتس، وهي عقلية عربية، أكثر تموضعاً لدى النخب السياسية والمثقفين، دأبت على ربط كل ما يحدث بالمؤامرة، فتنظيم داعش مشروع أميركي – صهيوني لتفتيت الدول العربية، وأبو بكر البغدادي تربّى في الموساد الإسرائيلي… إلخ.
وهكذا نجد أن هذه “العقلية المؤامراتية” تربط كل الأحداث السياسية بمؤامرةٍ وخيانةٍ ومخططاتٍ خطيرة (طبعاً لا ننفي بالجملة أن هنالك مخططات ومؤامرات وغيرها، لكن الإصرار على أن كل شيء هو نتيجة ذلك أقرب إلى الوسواس القهري)، ولا نجد أنّ هنالك من يلتفت إلى هذه الآفة، بينما نريد أن نضخّم كلمة هنا أو سلوكا هناك لرجل دين، للقول إنّ الوعي الديني مناقض للعلم، وأنّه يغرق مجتمعاتنا في بحر الخرافات والأساطير!
إنّما أصل هذه الأسطورة المرتبطة بربط الدين بالخرافات هو موقف مسبق، يتبناه مثقفون وسياسيون عرب من الدين، متأثراً بمدرسة الحداثة الأوروبية وبالرؤية الوضعية للأديان، وهي مدارسُ تجاوزتها مدارس علمية عديدة في الغرب اليوم نفسه، سواء في العلوم الإنسانية، بخاصة في علمي النفس والاجتماع، التي تتحدث عن أدوارٍ إيجابيةٍ ومهمةٍ ومطلوبة للدين في المجتمعات، تساعد على بناء السلم المجتمعي، وعلى تحفيز الناس نحو العمل والإنتاج والتكافل الاجتماعي، وغيرها من قيم ومفاهيم وجدنا انعكاساً لها واضحاً في تعامل مجتمعاتنا اليوم مع وباء كورونا.
أمّا الخطاب الديني الذي وجد أرضاً خصبة له في دول عربية ومسلمة عديدة فهو المعتدل الذي يطالب بالإفادة من العزلة الصحية، ومن حظر التجول، ومن توقف حركة العمل والإنتاج والنشاط الاقتصادي والضغوط اليومية المرهقة في العمل من أجل التفكر والتدبّر ومراجعة النفس والتفكير في الوجود والكون والمجتمع، وفي ضرورة التكافل الاجتماعي والتساند والصبر على الابتلاء والبلاد والمحنة، وفي ضرورة مراجعة عاداتنا الاستهلاكية، وموقفنا من القيم المادية التي اجتاحت الإنسان، وأخلّت بتوازنه وبتوازن المجتمعات اليوم. ومثل هذا الخطاب الديني الراشد هو الأقرب إلى العظة والتذكير والنصيحة، وهو الذي وجد له قبولاً كبيراً في مجتمعاتنا، بخاصة مع ازدياد منسوب الوعي الديني والمجتمعي، سيما مع وجود طبقة وسطى تكنوقراطية متدينة، تمتاز بدرجة عالية من التعلم والثقافة.
وثمّة جوانب أخرى مهمة في مناقشة الأبعاد الدينية في فيروس كورونا، مثل لجوء أغلب الحكومات العربية إلى الدين لإقناع المواطنين بضرورة الالتزام بالتعليمات الصحية، ومثل أنماط التدين وتحولاتها في زمن الأوبئة الخطيرة، ما يستحق فعلاً مجالاً واسعاً من الدراسة والتحليل.
*المصدر: العربي الجديد.
*المصدر: التنويري.