قراءة في ” تعويذة قلب ” لبسمة المرواني
حين تحول مصادر الإبداع، الشعر إلى ترانيم مقدَّسة
– 1عتبات النص/ مداخل للفهم :
تقع المجموعة الشعرية الرابعة، للشاعرة بسمة المرواني ” تعويذة قلب ” في مائة صفحة وتحتوي على ثمان وعشرين قصيدة. وقد صدرت عن دار” يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع “، مصر، في حجم متوسط، في ديسمبر/ 2022 .
أ-الغلاف :
يعد الغلاف أولى العتبات لقراءة الأثر وقد استوى كتابا إن جاذبيته بصرية بالأساس ومكوناته: صورة مع ذكر جنس الكتابة وذكر اسم المؤلف. تحتل الصورة التي توشح الكتاب أهمية بالغة لا سيما في علاقتها بعنوان المجموعة الشعرية. يحمل غلاف الكتاب صورة لامرأة يبدو نصف وجهها الأيمن عين نجلاء وشعر يتدلى على كتفها منسابا انسياب البحور الشعرية، يتدلى من أذنها قرط،أنف لا يظهر إلا جانبه الأيمن وفم تخرج منه زهرة تعتلي أعلى الأذن اليمنى، داخل إطار الصورة كلمة ” شعر ” للدلالة على جنس الكتابة التي بين دفتي الكتاب، فوق الصورة عنوان المجموعة ” تعويذة قلب ” وأسفل الصورة اسم صاحبة المجموعة الشعرية. في الجانب الخلفي للكتاب مقطع من قصيد ” تعويذة قلب ” مع صورة للشاعرة .
ب – عنوان المجموعة:
يعد العنوان عادة مدخلا مهما في قراءة المجموعة لأنه جماع النصوص والخيط الرابط بينها كخيط العقد يجمع جواهره فتنتظم النصوص المكونة للمجموعة إنتظاما يخفي إختيارا واعيا من الشاعرة قد لا يكون إعتباطا. صحيح أن كل قصيد هو نص مستقل بذاته، له هويته وله مسار تحكم به من وجوده بالقوة إلى وجوده بالفعل حتى إستوى نصا إبداعيا محملا بشتى صنوف الدلالة. “ تعويذة قلب ” هو عنوان لقصيدة وهبت نفسها لكامل المجموعة بأمر من الشاعرة التي رأت أن هذا العنوان جامع للأثر في كليته ويختزل مصادر الكتابة وأغراضها وهي أن تكون القصائد تعاويذ والتعويذة كلام منثور أو مغنى أو مرنم يتلى في صلاة أو يكون دعاءا أو تفكيرا تستدعى به قوى خارقة لبعث تأثير سحري في السامع، أو للتوقي من شر قادم، أن يصبح الشعر تعاويذ بالمعنى المجازي عندئذ يحق لقصيدة ” تعويذة قلب ” أن تعطي إسمها للأثر كله. لقد نجح الرسام إسكندر تاج في رسم صورة الغلاف مستوحيا مكوناتها من القصيدة فما ينثال من فم الشاعرة نابع من القلب وهو رقية للعين.
ج– عناوين القصائد/ نوافذ للمعنى
تختلف القصائد الثماني والعشرون من حيث الطول والقصر وذلك في علاقة بالنفس الشعري الذي يقتضيه كل نص شعري، كما تختلف لفظا وتراكيب لغوية ما بين تعريف وتنكير وما بين الجمل التامة والمركبات والتراكيب شبه الإسنادية. وردت بعض العناوين في شكل مفردة نكرة مثل ” غبطة ” (ص 4) و” دهشة ” (ص 15 ) و” ملاك” (ص 45). إن التنوين الذي يلحق الأسماء النكرة يوجه المعنى ويؤثر فيه ويدل في حالات على المستقبل كما أنه في علم الشعر يدل على الترنم. إن القصائد التي عنونت بهذا الضرب من الألفاظ تشي بغلبة الموسيقى على مقاطعها وآنفتاحها على الآتي في تمش قائم على عشق الحياة من خلال الحب تلك هي مناخات قصيد ” غبطة ” . في قصيد ” دهشة ” نفس التمشي المنفتح على المستقبل يستثيره الحضور وآمتلاك الصباح مع إتساع الشوق في الأحداق، إيقاع القصيد المتولد من التنكير والمحيل على الترنم قائم على التملك الذي يوشح بداية كل سطر شعري (لي) ثم تستدعي لغة القصيد اللغة في فيض معانيها،متوجة بسوسن البلاغة. (ص16) .في قصيد ” ملاك ” عنوان يحيل على كائن مختلف، تنكيره لا يغير إنتماءه الجنس الملائكة والتي يتم إستدعاؤها لربطها بالطفولة والبراءة ” الطفلة ملاك أمام النار ” ملاك إخبار عن الطفلة التي هي بدورها كناية عن الحرية وهي تخفي تشبيها كأننا نقول طفلة كالملاك وهو تشبيه بليغ حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه.
أما الأسماء المعرفة فلنا ثلاثة أصناف، هي عناوين لقصائد : أولا الإسم المعرف بالألف واللام، ” المساء ” ص 41 و” البركان ” ص(55 )، يحتل المعرف بالألف واللام المرتبة الخامسة بين أنواع المعارف الستة وهي الضمير،العلم،إسم الإشارة، إسم الموصول والإسم المضاف. ويفيد التعيين والتحديد في إنتقاله من التنكير إلى التعريف وذلك بعد أن كان شائعا. نحن إزاء مساء وبركان معينين نتلمس ملامحهما في القصيدتين، لكأن العنوانين مبتدآن والقصيدتين إخبار – خبر – عن تلكما اللفظتين. إنه مساء مختلف عما نعرفه في تقسيمنا الزمني ترى كيف تمثلته الشاعرة ؟ ذاك ما سيكتشفه القارىء في ثنايا السطور الشعرية للقصيدة. كذلك الشأن بالنسبة إلى ” البركان ” تكشف القصيدة عن إنتقال من المعنى الذاتي la dénotation المتعارف عليه للكلمة إلى معانيها الحافة la connotation فتوظفها في سياقات مصطبغة بالتاريخ، المعاني الحافة هي تفجير للكلمة حتى يتلاشى المعنى فتضحى الكلمات على صدر خرس اللسان أشلاء (ص 56) ثانيا النوع الثاني من المعارف ” العلم ” وهو يحتل المرتبة الثانية في مراتب المعارف لذلك له قوته الدلالية، إنه يحمل ثقلا تاريخيا ” هيستا ” (ص 17) هي الدلالة في حلها وترحالها، فإذا كانت هيستا آلهة موقد النار في جبل الأولمب عند الإغريق وهي ربة عذراء تنازلت عن منصبها، فإن إستدعاءها في سياق حضاري مختلف ليتم توظيف تفاصيل حياتها تدريجيا ليقع في الأخير تقمص شخصيتها حد الذوبان تقول الشاعرة :” وأدركني أني مأخوذة بترف الحب والمعنى أجتاز لغات النار بأنساق المبالاة ” (ص 18 ) من المعارف التي تواترت في عناوين قصائد المجموعة الشعرية المركبات الإضافية وعددها خمسة وهي على التوالي حديث النبض (ص 13)، صاد الصمت (ص 27)، مطلق الممكنات (ص 30 )، أناشيد الزمن (ص 32)، يقين الجواب (ص 48).
وهي تفيد التعريف والتخصيص، ففي قصيد ” حديث النبض ” نحن إزاء مجاز يحول إهتزازات الجسد إلى لغة وبهذا الصنف من اللغة تتأسس صنوف من العلاقات مع الأشياء من قبيل الوقت والصمت والجسد. في قصيد ” صاد الصمت “،منذ السطر الأول تتحول الصاد إلى وسيلة بفضل حرف الجر ” الباء ” نلج بها عوالم القصيدة حيث وسائل التعبير صامتة الشعر، الجبين، الحدقتان، الوجه،…إيغال في الصمت وتكثيف للغة الجسد. في قصيد ” مطلق الممكنات ” يعاد ذكر العنوان في القصيد تقول الشاعرة : ” وترحل بي أفكاري سارية على رخام ومطلق الممكنات ” (ص 30) بعدها يتواتر حرف الشرط ” لولا ” يشرع لمطلق الممكنات الذي يفيض عن اللغة، لأن حرف الشرط المتواتر يدل على إمتناع شيء لوجود غيره فمثلا يمتنع كسر كل أبواب الألم وإنهماره لوجود الوهج في نقاء الياسمين لذلك يظل الوهج فتظل الغيمات الواعدة بالمطر ممكنا من الممكنات. في قصيد ” أناشيد الزمن ” تتواتر الأفعال في جل السطور الشعرية: أخيط، أصنع، أحث، أغشى، أحاول، أشدد، أنتشر والفعل حدث مقترن بزمن فمع كل فعل نشيد يتلى وأغنية يترنم بها. في قصيد ” يقين الجواب ” بحث لا يني عن اليقين / الصدق تستبد الأسئلة بالشاعرة وهي لا تجد أجوبة لا تشفي الغليل ربما وجدته في المطر ” وحده المطر لا يكذب…وحدها العيون لا تكذب “ص(50)، يتأجل يقين الجواب ” العبرة دوما في النهايات “(ص 51)النكرة المخصصة هي مرتبة بين التنكير والتعريف منزلة بين المنزلتين وهي بالصفة أو بالإضافة، في هذا الصنف من العناوين لنا أربعة قصائد: ” يد من رحيق الصفاء “(ص 12)، ذائبة في أعماق النور ” (ص 22)، ” تعويذة قلب ” (ص 37)، ” وجائرة كمنجاتك ” (ص 47 ) : في قصيد يد من رحيق الصفاء، تبدو اليد التي مصدرها رحيق الصفاء هي المؤهلة لإخراجنا من المنطقة الرمادية التي تلاعبت بها التناقضات ومن سوء الفهم بحثا عن وجه الشمس الساطع يطهر النفوس من أحقاد ذوي الأرحام.
في قصيد ذائبة في أعماق النور تستحيل القصيدة/ اللغة أذكارا نورانية تتلى ينبض بها القلب بحثا عن مدارات النور فبها نطل على عوالم يكاد سنا ضوئها يذهب بالأبصار حد الذوبان والتلاشي، يقول محمود المسعدي في حدث أبو هريرة قال: ” في كم تسبيحة تعمى العين ” . في قصيد تعويذة قلب مسار من الإنغلاق إلى الإنفتاح، يتوسل بتعويذة يجتاز بها القلب الوجع والجرح والدرب الحزين، ثم تنفتح أنا الشاعرة على ترف الحب والمعنى ” ليسري في القلب دم البساتين وتزهر براعم الأمنيات ” (ص39).في قصيد وجائرة كمنجاتك تتوسل الشاعرة بالكمنجة لكنها تجور عليها ولا تسعفها بما يروي غليلها ووجعها المنبعث من صوتها فقد ذكر الوجع ثلاث مرات في القصيد، لم يبق لها إلا أن تتماهى مع الحبيب ” أنا كأنت هروبا من أنياب الزمن ” (ص 47 ). قصيد واحد ورد في شكل ” مركب بالجر ” وهو ” في بياض الياسمين ” (ص 19) في هذا الشكل النحوي يكتسي حرف الجر” في ” قيمة كبرى لأنه يضبط المعنى،يجمع المجرور- المضاف والمضاف إليه- بين حاستي البصر ” البياض ” والشم ” الياسمين ” والبياض للمخاتلة لكأنه ستار لإخفاء إنعقاد الجمر وعناق مجرى الكلمات وفتح الضلوع وحمل الجراح…تبحث الشاعرة في مسارها هذا عن فصل جديد من فصول السنة هو الفصل الخامس – مستقره القلب تشع منه الحياة وتسعد الروح (ص 21). النوع الأخير من العناوين هي عناوين المركبات الإسنادية وهي نوعان جمل فعلية وجمل إسمية. في قصيد ” قالت العرافة ” (ص6) مقول القول يظهر في القسم الأخير من القصيدة، جاء ليعلن نذر الشؤم التي تكهنت بها العرافة إنه صراع بين الكهانة والشعر، انتصار الشعر يتجلى في تركيب الحصر : لن تظل إلا العيون الساهمة للشعراء يكتبون كلماتهم ..في قصيد ” لا تهرب من مراياك ” (ص 42)، قصيد قائم على النهي يحمل الخطاب على دعوة للثبات أمام المرآة حيث ترى حقيقتك كما هي ترى وجودك مشفوعا بسؤال الهوية ” تكون أو لا تكون ” والحقيقة الوحيدة هي الموت ” لا صوت في الأخير إلا للموت ” تزدحم الأسئلة الوجودية عن الكينونة / الذات في المرايا المعلقة على جدران الوقت الذي هو سجل تحفظ فيه أقوالك وأفعالك. في قصيد ” وطارت حمامتي ” (ص 52)، نحن إزاء جملة فعلية إستئنافية مقتطعة من القصيدة هي إهداء لروح أخت الشاعرة ” سنية ” مفعمة بالصدق وتنزف ألما على الفقد .هي مرثية تستلهم فراق النبي يوسف لأبيه يعقوب.(ص 54).في الجمل الإسمية إختارت الشاعرة ستا من قصائد مجموعتها لتكون على هذا الشكل النحوي وهو شكل يدل على الثبوت والإستمرارية. في قصيد ” لولا خمر الشعر “(ص 2 ) يكون تركيب – خمر الشعر- كناية عما إستقر في الصدر من تراث شعري توارثته الأجيال والصدر كناية أيضا عن ثقافة شفوية قوامها الشعر بآعتباره ديوان العرب يروي تفاصيل حياتهم .و لكن نلحظ أيضا إنفتاحا على التراث اليهودي – المسيحي تمتح منه الشاعرة ما يخدم القصيد ” أسفار داوود وخاتم سليمان ” (ص 2 ).
في قصيد ” الحديث صلاة الفراغ ” (ص 24 ) قصيد هايكوي قصير فيه تكثيف للمعنى بل للامعنى، للعدمية فما بين الهمس (الصلاة) والصراخ تأتي الكتابة لنسرج عليها نهاياتنا المؤلمة ولنعزف بصمت، وحده الحب يخرجنا من العدمية حيث يكتسي كل شيء معنى. في قصيد ” الصمت ذكر يتلى ” (ص 33) يتواتر إسم الإستفهام- ماذا- طلبا لماهية الأشياء المستفهم حولها، لتكون الإجابة أن الصمت أصدق إنباءا من الكلام عن حقيقة الأشياء إنه يختزل كل ما يجول بالخاطر.في قصيد ” نحن لا نموت “(ص 35) جملة إسمية لا تدل على الثبوت والإستمرارية لأن خبرها جملة فعلية تنفي الموت وتحيل على الحياة بما هي حركة وتحول وتجدد. فطرح الزيف والخداع والنفاق لأنها الموت الحقيقي والبديل هو عشق الحياة وعشق الوطن وعشق الأمل.في قصيد ” قلبي واضح على مفرق اللحظة ” (ص 36) الخبر هنا مركب شبه إسنادي قائم على إسم الفاعل ” واضح ” تتخذ الشاعرة من القلب وسيلة لمواجهة الغياب وإثبات الحضور: الروح / الصوت/ الهذيان.
إن القلب يجعل من صاحبة الأثر عنقاء تنتفض من رماد النسيان. في قصيد ” العمر شاشة عرض ” (ص 57) العمر الذي عاشته ممرات وعتمة وضياء وعلاقات تفتح لها نوافذ جديدة .لحظات العمر تحرسها الشاعرة بكثير من الأسئلة. يبقى دوما للقلب حضور في طقوس العبور من ضفة إلى أخرى بحثا عن سر الوجود.(ص59)
2- الحقول المعجمية وإحالتها على المخزون الثقافي للشاعرة
بعد أن قرأنا المجموعة الشعرية قراءة عمودية، إنطلقت من عتبات النص : عنوان المجموعة ثم عناوين القصائد بحثا عن العلاقة بين تلك العتبات ومضامين القصائد، نسعى في القسم الثاني من هذه القراءة إلى النظر في متون القصائد ضمن تمش أفقي يبحث عن طبيعة سجلات القول التي تواترت في شتى القصائد.لقد كشفت اللسانيات الحديثة أن فعل القراءة بما هو تفكيك للنص وإعادة بنائه، تتحكم به ثلاثة مقومات: المقوم الأول النص/الشاعرة موضوع القراءة وقدرته على توليد المعنى وإستنبات الدلالة بغنائه وثرائه، فتتبع الحقول المعجمية التي إشتغلت عليها الشاعرة يكشف خصوبة النص الشعري من ناحية والمخزون الثقافي الذي تمتح منه الشاعرة صورها الشعرية وعمقها الفكري. المقوم الثاني: القارىء / الناقد بما يحمله من خلفية فكرية ورؤية جمالية وجهاز مفاهيمي .المقوم الثالث: الظرفية التاريخية والإجتماعية التي يقرأ في سياقها النص وهذه الظرفية تحدد توجهات القراءة ومجالاتها وتضبط مسارها.
أ – الموروث الإسلامي – التصوف :
يحضر الموروث الإسلامي بقوة بآعتباره أحد أبرز مكونات الثقافة الأساسية للشاعرة التي تتأسس عليها صيرورة الفرد إنفتاحا أو إنغلاقا.هذا الموروث هو صورة للبيئة التي عاشت فيها ورضعته منذ الولادة .مما يلاحظ أن هذا الموروث لن يظل على حالته الأولى بل سيخضع لعملية غربلة وتشذيب، ومما نلاحظه في حضور هذا المخزون في المجموعة الشعرية هو نزوعه الصوفي حيث تتواتر فيه المفردات المتعلقة بالرؤية القلبية وبالنبض القدسي وبالعشق الإلهي، إن مركز الثقل في كل ذلك هو القلب الذي يستدعى ضمن سياقات هذا الموروث- آنظر قصيد ” لولا خمر الشعر ” – في بعض الأحيان يمتزج ذلك الموروث بحضور الموروث الإغريقي- قصيد ” هيستيا ” – فنعثر على ذكر للمئذنة الشاهقة ولطهر الصلاة وللمشكاة التي تنضح بالنور. في قصيد ” ذائبة في أعماق النور ” نحن إزاء روح تطوف بعوالم البرازخ حد إنصهار الشيء في عدمه. كثيرا ما تستشهد الشاعرة في تدويناتها بجلال الدين الرومي وبابن عربي وإبن الفارض..أقطاب التصوف، هؤلاء يحضرون رسما لا إسما من خلال تشبع الشاعرة بآرائهم، إنهم يملأون عليها وعيها فتنثال أقوالهم في صور شعرية تعمق بها الشاعرة رؤيتها للوجود وللإنسان في الكون. إن إنسانية الفرد تتأسس على الفطرة السليمة فالحفاظ على النقاء من لوثة إبليس هو مقصد من مقاصد الحفاظ على النفس، تقول الشاعرة في قصيد ” في بياض الياسمين ” : ” شوه إبليس النقاء والفطرة ” . لا مناص من الحديث عن القلب ذاك الخزان الذي يحيا بقطرة ماء وكثيرا ما كني عن الذكر بالماء بآعتبار كليهما يحييان، تقول الشاعرة في قصيد ” صاد الصمت ” : ” قطرة ماء …قذفتها في القلب ” تظل الروح المشرقة بالنور مطمحا يرنو إلى بلوغه الصوفي في عروجه متسلحا بالعرفان، تقول الشاعرة في القصيد نفسه : ” سيول النور تزيل الغمام، تزيل الظلام من كل روح .”
ب – الموروث اليهودي المسيحي :
إن الإشارات للتراثين اليهودي والمسيحي مصدرهما القرآن الكريم الغني بالقصص المتصل بأنبياء بني إسرائيل،يحضر أولئك الأنبياء بشكل فيه إجلال وإحترام مستمدين من إحترام الإسلام والقرآن لهم بآعتبارهم قد إصطفاهم الله لتبليغ رسالته ونشر عقيدة التوحيد. في قصيد ” لولا خمر الشعر ” توظف الشاعرة أسفار داوود ضمن سياق ما تعيشه من تحولات فتصبح الذات التي تعيش التجربة الوجودية تحتاج إلى المقدس، تأتي الأسفار لتعمدها تقول الشاعرة : ” رتلوني بأسفار داوود ” ثم لا بد للتجربة من زمان ومكان يحتضنها يأتي ” خاتم سليمان ” رمز للسلطة بآعتبار هذا النبي من الأنبياء/ الملوك ليضفي على التجربة شرعية، تقول الشاعرة : ” أرخوني بخاتم سليمان ” . لا ملجأ للشاعرة التي ترى الحقد يملأ العيون والحمم السوداء اللاظية تحيط بها، إلا الله الذي رأته بيقينها، فالكلام الدامس الذي يلفها يشبه ظلام البئر الذي رمي فيه يوسف، إلا أن خرزتها تلك ستكون نجاته من كل ما دبر له، تقول الشاعرة: ” فإني رأيت الله…واهب خرزة البئر ليوسف وهي له ناجية. ” في قصيد ” وطارت حمامتي ” الذي يمكن تصنيفه قصيدا رثائيا قائما على الحفر في ألم الفراق تستحضر الشاعرة علاقة النبي يعقوب بآبنه يوسف، فكلاهما قد إكتوى بألم البعد وعاشا ذلك إبتلاءا من الله آمتحن فيه يعقوب حتى إسودت عيناه فهو كظيم، نفس التجربة عاشتها الشاعرة عند فقدها لأختها إختبارا من الله لصبرها ولكن بأشكال مختلفة لذلك صاغت من إسم يوسف نسبة حولتها إلى صيغة الجمع تقول الشاعرة في قصيد ” وطارت حمامتي ” : ” فلا يوسفيات خيالك قد بدت ولم يأت يعقوبي فيغرسك مجددا في القرب”
ج – التراث الإغريقي / الروماني :
إن عصر التدوين العربي هو عصرالترجمة التي تعلقت بصنوف من العلوم كعلم الفلك والطب والفلسفة …ففي عهد المأمون شهدت هذه الحركة الثقافية عصرها الذهبي وعمل الخليفة على جلب الكتب اليونانية من بلاد الروم وحرص على ترجمتها. لامست الترجمة مختلف العلوم والمعارف الإغريقية والرومانية بآستثناء الشعرو المسرح الذي كانت نصوصه الشعرية تعج بأسماء الآلهة وبالأوثان مما جعل الضمير الديني المسلم يجد حرجا في ترجمتها لغلبة الميتولوجيا الإغريقية عليها ولكن مع ترسخ العقيدة الإسلامية – عقيدة التوحيد- توجه العرب إلى المسرح الإغريقي وترجموا نصوصه. وقد عملت الشاعرة على توظيف بعض أسماء تلك الآلهة المفعمة بدلالات رمزية في بناء صور شعرية تشي بآنفتاح الثقافة العربية الإسلامية وبقدرتها على تمثل تلك العناصر الإغريقية بغرض مد جسور التواصل بين الثقافات. لقد وفقت الشاعرة في توظيف بعض الأساطير الإغريقية والرومانية ضمن نسق بعض القصائد لتضفي على دلالاتها أبعادا أنطولوجية .ففي قصيد ” لولا خمر الشعر ” تشبه الشاعرة قلبها بقلب هيفستوس فكلاهما من نار وهو رب الحدادة والنار والصناعة رمز للقوة وللتعاطي مع المواد الصلبة تقول الشاعرة: ” وقلبها من نار مقال هيفستوس ” وتذكر هيستيا في القصيد نفسه آلهة موقد النار فبفضلها أدركنا أن النار تحرق، تقول الشاعرة: ” لولا هيستيا لم تلمس النار ذات عصور لما أدركت أنها تحرق ” .أن يتغنى القلب ببروميثيوس إله من آلهة الأولمب محب للبشر فذلك لأنه أعطى للبشر ما به يعطون لوجودهم معنى فقد سرق لهم من الآلهة فنون العمارة والبناء والنجارة وعلم الفلك وعرفهم الفصول والأرقام والحروف. تقول الشاعرة : ” فكيف للقلب…و يتغنى ببروميثيوس رافع الصوت بمذاق رذاذ البحر ليكون المعطف على الجسد…رسائل كالآيات تورق بالإعتماد عند الأمجاد ” من قصيد لولا خمر الشعر.
في قصيد ” غبطة ” توظف الشاعرة آلهتين إغريقية ورومانية كيوبيد ودينوسيوس وكلاهما يحيلان على نشأة الحياة وعلى شرط إستمرارها بيولوجيا ونفسيا، لذلك جمعت الشاعرة بينهما فذكرت في البداية كيوبيد من آلهة الرومان، إله الحب الجنسي إبن الآلهة فينوس رمز الشهوة الحسية ثم عطفته بدينوسيوس إله الخمر (باخوس) وهو ملهم لطقوس الإبتهاج والنشوة والجامع بينهما المتعة، تقول الشاعرة: ” وإني أحبك…مذ كانت الأشعار عند أصفياء الله خمرة وعند كيوبيد ودينوسيوس كلمة الحب متعة ” في قصيد ” شموخ بنفسجة ” ذكر للعنقاء التي تتخذها الشاعرة ديدنها في مراودة الأمنيات والمستحيلات .تقول الشاعرة: ” أطالع الأمنيات بنوازع العنقاء تستعذب ما يراد من المستحيلات ” ثم ذكر لطائر الفينيكس الذي ذكره هيرودوت المؤرخ الإغريقي اليوناني الآسيوي، هو طائر يعمر خمسة قرون ثم يقوم بإحراق نفسه ليعود منبعثا من جديد من رماده كما تذكر الأسطورة. ثم إستعملت الشاعرة في قصيد آخر ” تونس أدرى بشعابها ” لفظة الفينيق تقول الشاعرة: ” ينهض الفينيق وتزهر الأمنية ” فكلتا اللفظتين ترمزان للتجدد والشباب.
في قصيد ” يد من رحيق الصفاء ” وظفت الشاعرة أسطورة بينيلوب زوجة أوديسيوس الوفية لزوجها التي ظلت تنتظره وقد طالت غيبته بسبب مشاركته في حرب طروادة، إستدعتها الشاعرة لتعبر من خلالها عن وفائها لمبادئها ولنزوعها الفطري نحو الصفاء والنقاء، تقول: ” أشارت بينيلوب قبلي في غيم الأسفار العتيقة أن راقبوا هذه الأرواح الموقدة في وجه الشمس بالوفاء والنقاء. “
د – معجم الوجدان والمخيال :
في إطار البحث عن التوازن بين العقل والقلب أو بين المنطق والعاطفة تعمد الشاعرة إلى البحث عما يخرجنا من إحراجات تلك الثنائيات وهو ما يجمع بين تلك المتضادات، إنه الوجدان تلك القوة الباطنية المليئة بالأحاسيس والإنفعالات والعواطف والميولات إلا أنها تظل مسيطر عليها من قبل العقل الذي يحافظ على توازن الفرد وصلابته. لذلك يبقى مصطلح ” الوجدان ” جامعا للإنسان في كليته، فكثيرا ما تفيض قصائد بسمة المرواني بهذا النزوع فتتواتر ألفاظا وتراكيب من قبيل ” وتر الروح “، فيض قدسي ” ألمس الروح ” ” أنا أحبك ” ضمن قصيد غبطة، ثم ” إبتسام الطفل ” في قصيد قالت العرافة، و” الأرواح الموقدة..بالوفاء والصفاء ” في قصيد يد من رحيق الصفاء، ثم ” خرائط العيون ” و” زرقة قلبي ” و” صدق الإحساس ” و” رهافة الأمل ” في قصيد هيستا…إن المفردات التي لها علاقة بالوجدان إنما تقع ضمن رؤية تعمل الفلسفة من خلالها على رأب الصدع بين تلك الثنائيات القاتلة التي إذا إستبدت إحداها، قد تفقد الإنسان ما به يكون إنسانا. الوجدان كفيل بإرجاع التوازن المفقود للذات التي ظلت لقرون طويلة عرجاء بسبب إستبداد أحد قطبي التوازن : العقل/ القلب، العلم / الدين بمصير البشرية وإقصائه للطرف الآخر.
عن الوجدان ينبثق تصور جديد لا علاقة له بالمزدوجات البالية ولكنه موحد للإنسان بصفته ذاتا متكاملة مزودة بعقل وخيال في آن وبشكل لا ينفصم، لهما دور في فعالية الإنسان ونشاطه. هذا التصور يعترف بنصيب الخيال أو المتخيل من تركيبة الإنسان ولا يحذفها، والشعر أقدر الفنون والأجناس الأدبية على تليين شدة العقل وصرامته وتحريك الخيال من خلال الصورة الشعرية القائمة على المجاز وعلى الإستعارة لذلك لا تخلو قصيدة من المجموعة من ذاك المنزع الوجداني، فمثلا في قصيد ” في بياض الياسمين ” تتخيل الشاعرة فصلا خامسا من فصول السنة تضيفه للفصول الأربعة، فصل له نكهة خاصة مرساه القلب- يسار الصدر- ومنه الحياة وبه الروح تسعد. صورة شعرية تجمع بين الحسي ” القلب ” والمجرد ” الروح ” بينهما برزخ تجسده لفظة ” الحياة ” التي تجمع بينهما ويكون ذلك ممكنا بفضل التخييل. تقول الشاعرة : ” فيصيب بنكهة الفصل الخامس ذاك الذي مرساه عميق في يسار الصدر ومنه الحياة وبه الروح تسعد والبهجة تقيم .”
الخاتمة :
مجموعة ” تعويذة قلب ” لبسمة المرواني هي صدى لنصوص متداخلة، تعددت روافدها وتنوعت مصادرها، نحن إزاء نص بصيغة الجمع تسمع في أرجائه أصواتا لثقافات مختلفة تمثلتها الشاعرة وآستبطنتها من خلال تجاربها الشعرية السابقة. إن هذا التناص l’intertextualité الذي كشفت عنه القراءة الأفقية من خلال سجلات القول التي تواترت في المجموعة لم تعد في النقد الحديث نقطة ضعف في النص الإبداعي أبدا، بل هو شيء حتمي وجميل لا بد من وقوعه وبالإضافة إلى ذلك يعد إشارة إلى سعة إطلاع الشاعرة ومعرفتها الثقافية وثراء قراءاتها، بل إن الكاتب المتمكن هو الذي يستطيع إستحضار النصوص السابقة لنصه بالشكل الذي يخدم نصه. إن تاريخ الأفكار تاريخ هجرة لا إقامة، تاريخ ترحال وعبور وهو ما يمنح الثقافة أهميتها وخطورتها. إن نقل المعنى من لغة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى وهو ما فعلته الشاعرة بآقتدار يعني إثراءه بآنفتاحه على أبعاد جديدة وتوسيع دلالاته الممكنة والمحتملة وبذلك يتساوى ناقل المفهوم بمبتدعه، لأن النقل في هذه الحال يكون خلقا وتأسيسا. ( آنظر مقالنا : أسرار إنتاج المعنى أو الدلالة في حلها وترحالها، مجلة الجديد العدد 68، سبتمبر / أيلول 2020)
*المصدر: التنويري.