“قد أعذر من أنذر”
محمد أبو رمان
في وقتٍ مبكّر من مقاربة الأردن للتعامل مع جائحة كورونا، قدّم وزير المالية، محمد العسعس، جواباً غير مألوف، ولا متوقع من رجل بموقعه، على سؤال الكلفة المترتبة على الإجراءات الأردنية لمواجهة الفيروس، فقال “التكلفة هي إصابة 56 إنساناً عزيزاً، نتمنىّ لهم الشفاء، والباقي تفاصيل” (كان ذلك في البدايات). حينها صفّق الجميع للوزير، ولسياسة الدولة التي غلّبت الاعتبارات الصحية على المالية والاقتصادية، وأعلت من قيمة الإنسان، وفضّلت (على قلة الحلة المالية والاقتصادية) أن تغمض العين عن الجوانب المادية وتحمي المواطنين. ولكن هذا الجواب لم يعد مطروحاً، في المرحلة الحالية التي تنتقل فيها الحكومة من سياسة “احتواء الفيروس” إلى “التكيّف معه”. في الأولى، أمسكت لجنة الأوبئة بقيادة وزير الصحة، سعد جابر، مقاليد الأمور، وقادت البروتوكول الرسمي، وأغلقت البلاد تماماً. ولكن بعد أسابيع، بدأت الآثار الاقتصادية – الاجتماعية خطيرة جداً، ليس فقط على صعيد الاقتصاد الوطني وقدراته، بل حتى على شريحة اجتماعية واسعة من المواطنين، ممن يعتمدون في دخولهم على العمل اليومي، من أصحاب المشروعات المتوسطة والصغيرة وعمال المياومة، وينطبق عليهم “خبزنا كفاف يومنا”، فإذا عملوا أكلت أسرهم، وإذا تعطلوا جاعوا.
لم ينجُ من هذه العواقب رجال الأعمال والشركات والمصانع المزارع، فبدأ الضغط على الحكومة لإعادة النظر في سياسة الإغلاق، وإنقاذ المجتمع والاقتصاد من انهيار اقتصادي – مالي، يجاريه بقوة انهيار اجتماعي، وتدخّل الملك في أكثر من مجال، مطالباً الحكومة باتخاذ إجراءات لإنقاذ مصير عمال المياومة، وفي إيجاد معادلةٍ توازن بين مواجهة الأخطار الصحية والاقتصادية، وما أصعبها وأعقدها من موازنة.
انتقلنا، إذاً، من الحل الأسهل إلى الأكثر صعوبة. واليوم هنالك جدال كبير وراء الكواليس في أروقة الدولة والحكومة، وحوارات مكثفة مع القطاع الخاص (بات مهدّداً بأزمة عاصفة) في كيفية الانفتاح التدريجي للمجال الاقتصادي، مع خشية انفلات الفيروس من عقاله، ما قد يهدد القطاع الصحي بالانهيار، إذا وصلت حالات الإصابة إلى الآلاف، فهنالك همس وراء الأبواب بأنّ إمكاناتنا غير مهيأة لهذا الوضع، وصراع “ناعم” بين موقف علماء الأوبئة والصحة من جهة والقطاع الخاص والاقتصاديين من جهةٍ أخرى.
بين المقاربة الصينية (الإغلاق الكامل) والإيطالية والإسبانية (التهاون والتراخي) مروحة متنوعة ومتعدّدة من التجارب الدولية، وهي الأخرى متقلبة بين “مناعة القطيع” و”الإغلاق الجزئي” والتوعية الثقافية، وغيرها، بين آراء تعلي من شأن تجربة كوريا الجنوبية وأخرى كندا، وثالثة شمال أوروبا، يجد الفريق الحكومي نفسه أمام حتمية الاجتهاد والتجريب والمحاولة، وإمكانية الخطأ الذي قد يؤدي، في مثل حالة الأردن، إلى عواقب وخيمة.
سؤال المليون اليوم، أردنيّاً، هل يمكن أن نراهن على ثقافة المواطنين بالالتزام بالمعايير الصحية، من التباعد الاجتماعي وعدم التجمع والنظافة الدائمة، وفي حال انفلت الجميع وتغلّبت العادات على النصائح والتوصيات، ماذا يمكن أن تفعل الحكومة، إذا ما تم القضاء على كل جهودها السابقة وانتشر الفيروس، فستكون العاقبة وخيمة صحياً، بعد أن نكون قد دفعنا الكلفة الاقتصادية مسبقاً؟
وعلى قاعدة “قد أعذر من أنذر” أطلق وزير الصحة المحبوب شعبياً، ثم رئيس الوزراء، عمر الرزاز، التحذيرات المتتالية: سنفتح البلاد لتعود عجلة الاقتصاد، ولكن إذا لم يلتزم المواطنون سنعود للإغلاق، لكن بعد أن تكون الكلفة عالية جداً.
هل نسلّم أمرنا لله، إذاً، ثم لوعي المواطن، ونأخذ كل ما نستطيع من إجراءات وسياسات تحفّز على اتباع البروتوكولات الصحية مجتمعياً؟ يبدو هذا الحل الوحيد المتاح حالياً. ولكن ثمّة حلقة مفقودة، يمكن أن تساعدنا هنا على بناء مناعة ثقافية مجتمعية ضد شروط انتشار الفيروس تخدم الإجراءات الصحيّة المطلوبة؛ وهي “القوة الناعمة” للدولة. وهذا المصطلح لم يكن هنالك اعترافٌ رسمي به، حتى واقعة كورونا، فالأمن والجيش والقوانين والسلطة الإكراهية هي قوة الدولة الصلبة، ولكن المطلوب قوة ناعمة، تتمثل بالدين والثقافة والشباب والمجتمع المدني تقوم، هي الأخرى، بتشكيل دعامة حقيقية وسند كبير للدولة في محاصرة المستهترين.
المفارقة أنّ هذه القوة التي تحتاجها الدولة اليوم هي التي أهملتها خلال العقود الماضية، فما هي موازنة وزارة الثقافة مثلاً؟ لا شيء يذكر، فالدولة تعاملت مع الصناعات الثقافية والفنية وكأنّها ليست أمراً ثانوياً، بل لا شيء.