في الحاجة لتسامح حضاري إنساني ينبذ كل أشكال العنف والإقصاء
عندما أخبر الله عز وجل ملائكته أنّه جاعل في الأرض خليفة له، ردّ الملائكة مستغربين، لماذا اختار الله جل شأنه هذا الكائن المليء بالشرّ والعاشق للقتل وسفك الدماء؟ فيما هم يعبدون الله تعالى بنقاء وصفاء لا نظير له، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ورغم ذلك اختار الله أن يكون هذا الإنسان خليفة له وليس مخلوقاً آخر غيره، تهمة الملائكة للإنسان بسفك الدماء وقتل الإنسان لأخيه الإنسان تأكّدت منذ الزمن الأول، عبر قصة ابني آم، الجيل الأول في الأرض، القصة التي يسردها القرآن بتفاصيلها، حيث أقدم أحد ابني آدم على قتل أخيه، مؤكِّداً تخوف الملائكة من أنَّ هذا الإنسان سيكون قاتلاً مؤكداً لأخيه الإنسان.
منذ ذلك التاريخ والبشرية تعيش في بحار من الدماء، بعضهم يقتل بعض، قتل بكل الأنواع وتحت مسمّيات كثيرة، حتى قضى ملايين الناس لا لشيء، إلا أنَّ أناساً آخرين لا يحبّون أن يروهم على أرض الوجود، فسعوا لقتلهم وسفك دمائهم بكل الطرق، وللأسف الشديد لم تسلم الديانات السماوية الثلاث من ممارسة أتباعها لأشكال كثيرة من العنف والإقصاء، كانت وبالاً على أتباع هذه الديانات قبل غيرهم، فقتل آلاف اليهود على يد أبناء ديانتهم، وتفرّقت المسيحيَّة إلى طوائف عديدة سعت كل طائفة إلى القضاء بكل ما أوتيت من قوة على الطائفة الأخرى، وما حروب إيرلندا بين البروتستانت والكاثوليك التي أبيدت فيها أجيال بكاملها منا ببعيدة.
أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يسلموا بدورهم من ممارسة العنف، فقد شهد تاريخ الإسلام حدوث عنف شديد، أدّى إلى مقتل عشرات الآلاف من الناس، تحت عناوين كبيرة ما زال المسلمون يدفعون ثمنها حتى اليوم، لقد كانت للخلافات السياسيَّة التي برزت مباشرة بعد وفاة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، الأثر الكبير في تشكيل خارطة العنف فيما سيأتي من فترات تاريخ الإسلام اللاحقة، فقد قُسم المسلمون منذ الوهلة الأولى إلى مهاجرين وأنصار، وانقسم الناس إلى أتباع لهذا الطرف أو ذاك، وما زاد الطين بلة الخلافات السياسيّة والدينية التي برزت منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان والتي كانت تطوراتها ذات طابع كارثي على الأمّة بأكملها، قسمتها إلى أكثر من فئة وطائفة، خاصَّة إلى فئتين أساسيتين: السنة والشيعة، فكان العنف شديداً بين الطائفتين، والصراع محتدماً إلى يومنا هذا بين أتباع هؤلاء وأولئك، وما زالت دماء غزيرة تسيل كل يوم نتيجة فهم خاطئ لمذهب معيّن أو فكرة معينة في مذهبٍ ما، يقدّم مخالفو هذه الفكرة أو هذا المذهب الثمن من أرواحهم.
إنَّ البشريَّة للأسف الشديد رغم كل ما حقّقته من تقدم كبير، إلا أنها لم تتخلص بعد من ممارسة العنف الديني والسياسي وبصور تقشعر لها الأبدان، فهناك من يمارس عنفاً يسمّيه “مقدّساً” ضدّ المخالفين، ويفصل رؤوسهم عن أجسادهم وكأنّه ينحر الخرفان من دون أي شعور من الدهشة أو التأثّر، وفي أماكن أخرى يقتل الرصاص الناس بالآلاف وكأنهم حشرات لا فائدة منها، وهي صور للأسف تؤكِّد أن الإنسان لم يتقدّم كثيراً في مواجهة العنف السياسي والديني، وأنه ما زال يعيش لحظات من التخلّف الشديد في هذا الجانب، بل ويسجّل العقلاء من بني البشر أن الإنسان يبدو مع إطلالة أي يوم جديد أكثر نزوعاً على العنف والقتل وسفك الدماء من دون رحمة ولا شفقة، وهو بذلك يسير بخطى ثابتة نحو تأكيد مقولة نيتشة ” بإنَّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” ينتظر اللحظة الحاسمة للانقضاض عليه وقتله وسفك دمه وحرمانه من حقّ الحياة الذي وهبه الله تعالى له.
الحديث عن العنف وأشكاله وصوره التي يمارسها الإنسان ضدّ أخيه الإنسان، حديث لا ينتهي، ويمكن أن نكتب فيه آلاف المجلّدات، وبما أن العنف سمة ملازمة للإنسان منذ قديم الزمان، فالمطلوب الآن هو البحث عن أرضيَّة مشتركة وميثاق سلام عالمي يحتكم إليه الجميع، ويلتزمون من خلال بنوده، بعدم ممارسة العنف ضدّ بعضهم البعض تحت أي عنوان كان، فقد كان الناس يظنون أن العنف الذي يقومون به مشروع وأنّ مصوغاته مشروعة أيضاً، وتأكّد بعد ذلك أن لا شيء يشرعن ممارسة العنف من طرف الإنسان ضدّ أخيه الإنسان، بل إنَّ الممارسة السلميَّة لها نتائج أكبر وأكثر نجاعة في إنهاء الحروب والعنف، فسلوك ابن آدم بعدم مد يديه لأخيه بعد أن مدّ هو يده إليه ليقتله، كانت نتائجها إن إحساس الضياع والنهاية هو من تملك أخاه الذي سفك دمه، وندم ندماً شديداً أشار إليه القرآن للتدليل على أن المنهزم فعلا ليس هو المقتول بل القاتل، وهو ما تبيّن عندما أراد أن يواري سوءة أخيه فلم يعرف كيف، فكان أسفه كبيراً وشديداً ومريراً، فقد دون القرآن هذه القصَّة ليطّلع عليها الناس إلى أن تقوم الساعة ويتّعطوا بها ويكبحوا جماح نفوسهم التواقة لممارسة العنف، يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز: ” لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (سورة المائدة 28-30).
إنَّ الإنسانيَّة الآن تتهدّدها أخطار كثيرة، قد تصل حدّ إبادة العرق البشري بكامله، ممّا يجعل أمر محاربة العنف وتزكية نعراته مطلباً ملحّاً، خاصَّة وأن العالم الآن مدجّج بأفتك أنواع الأسلحة التي يمكن أن تبيد كل سكّان الكرة الأرضيَّة في دقائق، إنّه واجب الآن من الجميع، الوقوف مع الذات من أجل تجاوز كل الأفكار التي تجعل الخلافات السياسيَّة تتأجّج، وتجعل العنف يكبر ويسيّطر على القلوب والعقول في آن، فإذا تمادت الإنسانيَّة في غيّها فالله تعالى سيظل يذيقنا من نتائج أفعالنا.
لقد وصلنا من النضج العقلي ما يجعلنا نفكّر فعلاً في أفكار ذات طابع عالمي متسامح نقبل من خلالها بعضنا البعض، ولا نسعى للقضاء على بعضنا، وشعارنا في ذلك أننا كلنا بنو آدم وأننا متساوون فعلاً في الحقوق والواجبات، فدون ذلك سنظل نؤكّد تلك الصورة المتوحشة عن الإنسان التي وصفتنا بها الملائكة في اليوم الأول، وليس مشرفاً أن نكون خلفاء الله تعالى في أرضه ونسعى لنقتل بعضنا ونقصي بعضنا، ونعيش في قانون غاب لا يتطور… وفي بحار من الدم لا تنضب.
لنعمل إذن على الاجتماع والالتفاف على تلك الكلمة السواء التي يجب أن تكون مرجعاً للجميع في نبذ القتل والعنف، إنها تلك الكلمة التي تجمعنا على التآلف والتراحم والتسامح مهما كانت اختلافاتنا أو مذاهبنا أو توجهاتنا، لأنه في اجتماعنا نحمي أنفسنا جميعاً، وفي عودتنا للعنف والإقصاء ننتهي جميعاً نهاية مأساويَّة، الله وحده من سيعرف شكلها وحجمها، فلا طعم لحياة الإنسان في هذه الأرض عندما تكون البهائم والأنعام أفضل منه وأرحم، فلا مناص إذن للإنسانيَّة من هذه الكلمة السواء، لأنها من ستحميهم وتبقيهم حقاً خلفاء لله في هذه الأرض.
*المصدر: التنويري.