إشارة:
كتبت هذه المقالة في الأول من ديسمبر الماضي، كرد فعل على الهجمة الإعلامية الغربية الضارية، تعرضت لها دولة قطر، مستهدفة قيمها وأصالتها، وعميق صلتها بماضيها وحاضرها، وصلاتها بأمتها وإنسانيتها. ونشرت في حينها باللغة التركية، ضمن مجموعة أخرى من المقالات، التي اجتهد في تجميعها مركز دراسات الشرق الأوسط “أورسام “، بالعاصمة التركية أنقرة.
الجوهر:
انخرطت المجتمعات البشرية في الرياضة قبل أن يكون للغرب سبق في مجال يُجْلِسُه في عرش الاستعلاء في هذا الضرب من النشاط البشري، إذ غالباً ما تكون تناقضات الغرب ظاهرة جداً عندما يكون هو المبادر والبادئ، أو المكتشف، أو المخترع، لنشاط حقيق بأن يكون موضوعاً للمباهاة، غير أن الرياضة قطعاً ليست من اختراعاته، ولا اكتشافاته، ولا هو من بادر بها وبدأها. فقد كان أول من مارسها هم السومريون والمصريون القدماء بقصد إعداد أنفسهم للحرب، واحتفوا بها لأسباب متنوعة؛ مثل؛ التسلية والعبادة الدينية وخلق حالة من الاستقرار السياسي في المجتمع. وبالمثل، اتسعت مجالات الرياضة في حضارة المايا في أمريكا اللاتينية حيث خدمت ألعاب الكرة خاصة أغراضاً دينية واجتماعية وسياسية؛ ولتوفير رابطة اجتماعية مشتركة، وذلك بالتقليل من أهمية الاختلافات والصراع الناشئ عن التنوع المحلي. وجاراهم في ذلك لاحقاً الإغريق والرومان القدماء، الذين كانت للرياضة عندهم دلالات دينية واجتماعية مهمة بالنسبة لهم، ومنها السعي للتميز وتحقيق الكمال الجسدي والعقلي، كأحد السمات الرئيسة الموحدة للمجتمع. وقد رأى أفلاطون وأرسطو الرياضة كعنصر أساس في التعليم، وبالتالي ازدهار الإنسان، إذ كان يجب أن يجتهد اليوناني المتعلم في خلق الانسجام بين الجسد والعقل من خلال المشاركة في المسابقات الرياضية، من بين أمور أخرى كثيرة، ليس من بينها رعاية حقوق الإنسان. وقد دعا توماس الأكويني، مثل أفلاطون وأرسطو، إلى ضرورة تنمية الجسد والروح ليزدهر الإنسان، خاصة عندما أصبح تعريض البشر لخطر الموت أمام الحيوانات المفترسة من أجل “الفِرجَة” والمتعة، فعلاً شائعاً في موروثات الثقافة الهيلينية.
وعلى الرغم من أن الروح الرياضية هي الفضيلة الجوهرية، التي كان يعتقد أنها مهمة للحياة المدنية والثقافية خارج دور الرياضة، والتي تتطلب أكثر من مجرد الامتثال للقواعد الرسمية. ومع ذلك، لم يلق هذا المفهوم سوى القليل من الاهتمام والالتزام كمفهوم موحد، أو مجموعة من الفضائل المتميزة تميزاً أخلاقياً، ينسحب حتى على ما يصاحبها من جوانب ترفيهية، ليتعادل المستوى الترفيهي مع المستوى التنافسي للألعاب. وليمتد هذا التعادل الأخلاقي الإيجابي لتحقيق التميز، الذي هو الغرض الأساس من المنافسة الرياضية. وإذا نحينا جانباً قضايا الصراع الحضاري بين الغرب وعالم الإسلام، بما في ذلك الخروقات المرتبطة بـ”الغش” في ميادين الرياضة، فإن الاعتراضات الأخلاقية على سلوكيات بعض الدول الغربية تتصل بحقيقة افتقارها للتوافق المنطقي، وإيغالهم في العمل بمبدأ أن الغاية عندها تبرر الوسيلة، التي لا تنسجم مع فكرة أن كسر كل القواعد الأخلاقية لا يتوافق مع ممارسة الألعاب الرياضية. إذ يتطلب التقيد الصارم بهذه القواعد حظر كل أشكال الممارسات المُعِيبَة، التي تنحرف عما تواضع عليه العالم من نُظمٍ وممارسات. غير أن ما شهدناه من مواقف بعض دول الغرب من مونديال قطر لا ينطوي على كسر هذه القواعد فقط، بل تعداها إلى انتهاك الاتفاقيات، أو المبادئ الرياضية العامة، والتعدي على مجموعة المعايير، التي كان يُتوقع من هذه الدول الحَضُّ عليها، ومن اللاعبين والمتفرجين الالتزام بها.
عنصرية:
لقد جرى لغط كثيف، قبل انتظام مونديال كأس العالم في دولة قطر، حول موضوعات جانبية وهامشية لا حصر لها، من بينها عدد العمال الذين لقوا حتفهم خلال العمل في منشآت هذا الكأس، تصدرته المحطات الإذاعية والتلفازية الألمانية التابعة لـ”دويتشه فيله”، ورافقته في الواقع صُحفٌ بريطانية؛ في مقدمتها “الغارديان”، التي تطوعت بنشر أرقام فلكية، من دون أن تقدم دليلاً، أو تستند على مصادر موثوقة، أو حتى “النبش” فيما يتعلق بإيراد هذه الأرقام من خلفيات، وما الذي له علاقة بها من تحيزات، التي غالباً ما تكون دوافعها عنصرية، وتاريخية، واستشراقية. وقد يتساءل القارئ: ما هي علاقة “الاستشراق” بمونديال قطر؟ والإجابة تستطبنها كثافة المعلومات المضللة، التي لا تفسير لها غير الدوافع العنصرية وميراث الاستشراق، الذي أشار إليه الرد القطري الرسمي حول أرقام وفيات العمالة الوافدة، متهماً وسائل إعلام غربية بـ”الإسلاموفوبيا والتأثر بكلام المستشرقين”. وفي رأي الباحث المقيم في قطر، مارك أوين جونز، والمتخصص في مجال المعلومات المضللة على منصات التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط، فإن “الأمر يتضمن شيئاً من ذلك. فأحد المبادئ الأساسية للاستشراق يتمثل في الاعتقاد بأن العالم غير الغربي، أو غير الأوروبي هو أكثر وحشية وبربرية، لذا، فإذا كان القارئ يعتقد أن هناك شيئاً من الوحشية في تلك المنطقة، فمن المرجح أن يكون أكثر قبولاً للاعتقاد بأن هذه الأرقام حقيقية”. لذلك، تأثرت تغطية كأس العالم بقوالب نمطية تعتبر إشكالية في فهم الغرب لغيره من الشعوب والأمم، متكئاً على تاريخ طويل من الاستعلاء وامتشاق أسلحة حرية التعبير، التي لا يهرع لتجريدها من غِمدها عندما يتعلق الأمر بحرية الآخرين في التعبير عن موروثاتهم الثقافية، وقيمهم الأخلاقية، أو حتى فروض دينهم الواجبة النفاذ.
وفي هذا الصدد، قد يكون لنا، ولغيرنا، رأي في سلوك الغرب؛ دولاً ومجتمعات، لا تجرؤ ألسنتنا على نعته بمفردات تلائمه؛ تأدباً وتحشماً لا تحسباً وانكساراً، رغم أن أفواههم والِغَةٌ في “بذاءات” تتجاوز مواضعات البلاغة ومسلمات اللياقة، التي ما انفكت تضبط ألسنة أهل الحق والخُلْق القويم. مع اعترافٍ باستثناءات تُبِيحُ فيها ضرورات الموضوعية محظورات التَرَفُّق في القول، التي قد تُلْجِئُ بعضهم لوصف الحال فيها بما يستحق من عبارات معيارية، وبألفاظ أقل ما يقال عنها إنها “سوقية”. فالاستعلاء الأجوف لا يقابل إلا بما ينزله بالمنطق إلى دركه الأسفل، أو حيث اختار لنفسه أن يكون، لا ما يقرره هو للآخرين من مظان سوء يدمغهم بها، ويدفعهم دفعاً ليَنْحَطُّوا إليها. ولكل عاقل أن يتخيل كيف حُقَّ لدولة كألمانيا، أن تجرؤ على تعليم العالم شيئاً عن حقوق الإنسان، وما زالت تنبعث من لظى أفران نازيتها أنات المعذبين، مختلطة برائحة شواء أجسادهم؟ وما تهمتهم، وقتئذ، إلا لأنهم كانوا مختلفين عِرقَاً ودِينَاً، ويُقال إنهم كانوا “يروجون للشذوذ بكل أنواعه”؛ قبل أن تتبنى ألمانيا والغرب حملات الترويج عنهم، وتصنع لهذا الشذوذ أسماء “دلع” ليبرالية بَرَّاقة، كـ”مثلية” ترفرف على ساريتها ألوان قوس قزح، التي يريدون لهخفقانها أن يُدَنِّس آفاق سمو أخلاق العرب والمسلمين. وحتى لا ينسى العالم سطوة النفاق، فقد انتقد وزير الخارجية الألماني الأسبق زيغمار غابرييل ما وصفه بـ”الغطرسة الألمانية” في التعامل مع قطر، واصفاً إياها بـ”المثيرة للاشمئزاز”، لأنها تفتقد اللياقة، وتفتقر لأدنى مواصفات التحضر، الذي يُقَايِّسُ فيه الناس قِيَمَهم بما تواضع عليه أسوياء الخلق من مسلمات. وقال غابرييل، في تصريحات لمجلة “شتيرن” الألمانية، إن “المثلية الجنسية كانت حتى عام 1994 جريمة في ألمانيا”، مُذّكِّرَاً بأن: “والدتي كانت لاتزال بحاجة إلى إذن الزوج لتعمل”. وتابع قائلاً: “عاملنا العمال الضيوف بشكل سيء وقمنا بإيوائهم بشكل بائس”، مضيفاً أنه بدلاً من الثناء على قطر للإصلاحات، يقوم الألمان بـ”إهانة” البلد كل يوم، رغم أن ألمانيا استغرقت عقوداً لتصبح “ليبرالية” متحررة من قيود القيم الأخلاقية.
وفي الختام:
لنتأمل في مثال آخر، إذا افترضنا أن غابرييل سياسي اشتراكي غاضب على تَصَنُّع المؤسسات الحاكمة للقوامة الحضارية على شعوب تؤمن بصواب ما تعتقد فيه، إذ كان الباحث الألماني سيباستيان زونس قد أشار في كتابه “حقوق الإنسان ليست للبيع” إلى التناقض في السياسات الغربية عامة والألمانية خاصة تجاه قطر. وكتب يقول “من ناحية، تتعرَّض انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق العمال في قطر لانتقادات شديدة من قِبَل السياسيين ووسائل الإعلام والمجتمع المدني الألماني، ولكن من ناحية أخرى فقد أبرمت الشركات الألمانية عقوداً مربحة مع دولة قطر لبناء بنية تحتية خاص بكاس العالم. وعلى سبيل المثال تم الإعلان في شهر أكتوبر 2022 عن أمور من بينها أنَّ صندوق الاستثمار القطري أصبح أهم مساهم في عملاق الطاقة الألماني شركة آر دبليو إي. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ ‘قطر تمتلك أسهماً في شركة فولكس فاغن، وكذلك دويتشه بنك، في حين أنَّ الخطوط الجوية القطرية هي الراعي لنادي بايرن ميونِخ. وقد يصعب عليهم الحديث علناً عما ورد ذكره من روابط اقتصادية إيجابية، إلا إذا زينوها بأنها “مثيرة للجدل”، “وكان الإنسان أكثر شيء جدلا”.
___________
* مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام)/الخميس 1 ديسمبر 2022/ أنقرة، تركيا.
*المصدر: التنويري.