إذا شاهدت فيلم ” Parasite ” فستعلق في ذهنك بعض من الجُمل. مثل: “السيدة ليست لطيفة وثريَّة، بل هي لطيفة لأنَّها ثريَّة. ولو كنتُ محلَّها لصرتُ لطيفة أيضًا”، “المال كالمِكواة تمامًا؛ لذا لا تظهر التجاعيد على وجوه الأغنياء أبدًا”، “إنْ فاجأنا الغنيُّ ونحن جُلُوس في بيته فسيكون موقفنا كموقف الصراصير عندما نفاجئها في بيوتنا الفقيرة .. كلانا لا يملك إلا الهروب”، “أتعرف ما هي الخطة التي لا تفشل؟! هي الخطَّة التي لا تخطط لها؛ لأنَّك كلما خطَّطتَ لشيء سار على غير تخطيطك!”.
هذه وغيرها من الجُمل المؤثرة القويَّة ستشهدها في فيلم الكوميديا والدراما والجريمة الكوريّ الجنوبيّ “طُفيليّ” أو “كائن طُفيليّ” -على الوجه الأدقّ-. وستعرف ساعتها جزءًا من الأسباب التي جعلته يفوز بـ”السعفة الذهبيَّة” من مهرجان “كان السينمائيّ”، وجائزة “جولدن جلوب” لأفضل فيلم أجنبيّ، ويفوز بعدها بأربع جوائز “أوسكار” هي أفضل فيلم، أفضل فيلم أجنبيّ، أفضل إخراج، أفضل سيناريو أصيل. وهي المرة الأولى في تاريخ “الأوسكار” التي يحصد فيها فيلم أجنبيّ (أيْ غير ناطق باللغة الإنجليزيَّة بجائزة أفضل فيلم).
فيلمنا يتناول قصة ثلاث عائلات جمعت بينها خطوط الفيلم؛ لتقدم لنا دراما قويَّة التأثير والفاعليَّة عن الطبقات الاجتماعيَّة والماديَّة وصراعها، وعن معنى فلسفيّ آخر أو قضيَّة -بصيغة أدقّ- هي: هل تنبعث أخلاق الفرد من طبقته الاجتماعيَّة ومن وضعه الماديّ؟! كل هذا يُقدم من خلال أداء تمثيليّ مميز وفعَّال، ومهارة في استغلال الموسيقى. ولأنَّ الأسماء الكوريَّة صعبة فسنكتفي بالوصف لا الاسم.
العائلة الأولى هي عائلة فقيرة كادحة، تعيش في قبو أحد المنازل في منطقة شعبيَّة شديدة الفقر. تتكوَّن من الأب والأم وابن شاب وابنة شابة. يجمعهم كلَّهم رغبة الطموح الماديّ، والارتقاء الاجتماعيّ والصعود الطبقيّ. لكن يفرِّق بينهم فارق جوهريّ هو الفارق بين الأجيال؛ فالوالدان نمطيَّان في نظرتهما إلى فكرة الكسب أو الصعود الماديّ، لا يريان الفرص لهما إلا عن طريق المادة فقط الطعام، الشراب، الأموال. وعلى خلافهما الشابان اللذان يمتازان بالكثير من الذكاء والمهارة والبُعد عن التقليديَّة في سبيل الخروج من حالتَيْهما الماديَّة والاجتماعيَّة. ففي يوم من الأيام يأتي إلى بيتهما صديق الشاب ليعطيه حجرًا يدعي أنه يجلب الحظّ، ويخبر الشاب أنه رشحه ليكون مدرس اللغة الإنجليزيَّة لابنة إحدى العائلات الغنيَّة. مما يراه الشاب فرصة عظيمة عليه ألا يضيعها منه. فيذهب الشابّ إليها بعد أن زوَّر شهادة من جامعة أمريكيَّة.
وهنا تبدأ العائلة الثانية في الظهور. وهي على عكس الأولى تمامًا غنيَّة غنًى واسعًا. مكونة هي الأخرى من أربعة أفراد رجل الأعمال الجادّ الذي لا يعنيه إلا عمله وسعيه الدؤوب لإكمال مسيرة النجاح؛ وهو الأب، والمُرفَّهة التي تدَّعي التحضُّر وتمارس التباهي المُقنَّع والصريح؛ وهي الأم، وابن طفل لديه عقدة نفسيَّة، وابنة شابة سريعة الانقياد للآخرين رغم إبدائها ما يشبه الاحتقار أو المجافاة لعائلتها. وظهر من موقفَيْن في الفيلم أنّ العائلة مُحدثة الغنى؛ أيْ أنَّها تحوَّلتْ من الفقر إلى الغنى. تعيش العائلة فيما يشبه القصر لكنَّه شديد الحداثة في معماره. وفي ظلّ انبهار الشاب الفقير بما يراه في القصر الحداثيّ هذا، وبعد أول اختبار تدريسيّ له من قِبل الأم نتعرف على العائلة الثالثة.
العائلة الثالثة هي عائلة مديرة المنزل بالغ الفخامة هذا. وهي مكونة من الخادمة وزوجها. وهما من الطبقة الفقيرة جدًّا كما الحال في العائلة الأولى، لكنَّها عائلة مختلفة رغم انتمائها للطبقة نفسها. فالخادمة مُنمَّقة ومهذبة وتتسم بالنظام والترتيب، وقد اكتسبت ثقة أهل البيت. والزوج نرى في مَخبئه عشرات الكتب، وعلى الجُدران ملصقات من جرائد ومجلات، فضلاً عن معرفته بأمور كشفرات الاتصال.
وسأترك لك الاستمتاع -لأنّ الفيلم ممتع حقًّا- بكل المُلابسات والمُفارقات التي شبكت علاقة العائلات ببعضها، وكيف جمهم الفيلم جمعًا ليصنع هذه الدراما. سأترك هذا كي لا أفسد عليك متعة مشاهدته، ولأنَّ الفائدة ليست في هذه الملابسات والمُفارقات بل فيما دلَّتْ عليه، وما أشارت إليه من واقع ومعانٍ.
فيلمنا الممتع المثير للاهتمام والتقدير في أثناء وضعه أمامك قضية صراع طبقيّ -كما قد يظهر من النظرة الأولى- يخترق هذا الجدال -الذي يبدو سطحيًّا- إلى قضية أعمق منه. وهي تأثير المادة والطبقيَّة المُجتمعيَّة على أخلاق الإنسان. فمثلاً نرى مع العائلة الأولى مظاهر الفقر المدقع الذي يكتسح جزءًا من المجتمع الكوريّ. ومنه ينتقل إلى أن أساس أخلاقهم هو “المنفعة” أو مذهب “اللذة والألم” في الفلسفة الأخلاقيَّة؛ ومعناه أنّ الإنسان يحاول الاقتراب من كل لذة، ويحاول الابتعاد عن أيّ ألم. لا يرى في أيّ شيء أمامه إلا فرصة سانحة للاستغلال والكسب. نرى كيف يسوقهم الفقر إلى سلوكيات مشينة، وإلى تقبُّل هذه السلوكيات المُشينة؛ في مثل تبوُّل بعض السابلة أمام شباك العائلة، وعدم اكتراثهم لهذا أو بدقَّة إحساسهم بعجز عن تغيير الواقع؛ لإحساسهم بالضآلة المُجتمعيَّة والإنسانيَّة التي تقوِّي في الإنسان الرغبة في الانصياع للواقع، وعدم التفكير إلا في تقبُّله -رغم قدرته على تغييره-. وكذلك نرى الفيلم يعمل بالمثل العاميّ المصريّ القديم “الفقير ريحته وِحشة” فيجعل للفقراء رائحة تميزهم عن الأغنياء كالرائحة التي تميّز بعض العاملين في مجالات معيَّنة. فيتعدى الفيلم الأخلاق إلى حيِّز المادة؛ وكأنَّ الفقر أصبح يقدُّ أجساد الفقراء.
ونرى أيضًا أناسًا أظهروا كفاءة في خداع الآخرين هذه الكفاءة نفسها هي التي كانت مطلوبة منهم كي يحصلوا على الأمور نفسها من طريق شرعيّ. وعندما تسأل: لماذا لمْ يمارسوا مهاراتهم ابتداءً في النجاح الشريف؟ تجد أمامك أن ضغط الفقر عليهم والصورة التي يضعهم فيها أمام الآخرين الأعلى مكانةً يشعرهم بالعجز عن النجاح. وإنْ سألت: لِمَ نجحوا بالمهارات نفسها عن طريق الخداع؟ وجدت الإجابة نفسها؛ الفقر هو الذي دفعهم للخداع بغرض الهروب من لعنة الفقر، والارتقاء الماديّ والمجتمعيّ. وهذا إنْ دلَّ يدلّ على أن الفقر ليس ميزةً أو عيبًا، بل هو ظرف من الظروف كالغنى تمامًا. ظرف أنتَ فيه فلتفعل بعدها ما يمليه عليك اختيارك.
وفي العائلة الثانية نرى الأب الذي على إثر صعوده الماديّ والطبقيّ لمْ يعد يُطيق رائحة الفقر والفقراء الذين كان يجاورهم في القطار أيام الفقر. لكنَّه رغم هذا معتدل في المعاملة، بل منصف وسخيّ في رواتب العاملين لديه. ونرى الزوجة وهي المثال الحقيقيّ الذي اختاره الفيلم لأخلاق الغنى. فهي سيدة تعشق التعالي المُقنَّع أيْ أن تتعالى على غيرك في سياق الحديث والتعامل وكأنَّك لا تقصد إظهار التعالي. وهي فوق ذلك لديها مرض احتقار للذات؛ الذي نراه في مجتمعاتنا العربيَّة دومًا. فهي تحتقر الصناعات المحليَّة، ولا تثق بها، وهي تحتقر الشهادات الكوريَّة لكنّ شهادة أمريكيَّة مُزوَّرة تجعلها تبذل المبالغ الضخمة. ويظهر لديها ضعف غريب نابع من الغنى وعشقها للاتصاق بكل مظاهره. فنراها -وهي الغنيَّة ذات النفوذ الماليّ الواسع- تقف ذليلة أمام نصابة أقنعتها أنها متخرجة في جامعة أمريكيَّة، ونراها تنفذ طلبات غريبة عجيبة صادرة من سيدة تظنّ أنّها موظفة لدى شركة ضخمة. وها هو الغنى يدفعها هي الأخرى إلى الضعف أمام كل مظاهره؛ بالرغم من أنَّها تظنّ أنه مصدر قوتها الوحيد!!
ولكنْ هنا يجب أن نسأل: هل يقول الفيلم بعرضه للعائلتيْن أن الطبقة الماديَّة والاجتماعيَّة تصنع الأخلاق وتصوغها؟! وأن الأخلاق مُنتج يصنعه ويغلِّفه ويصدِّره الفقر أو الغنى؟! .. كانت الإجابة نعم لولا وجود العائلة الثالثة. فهي التي جمعت بين الاثنين. جمعت بين فقر الأولى، ورقيّ الثانية. بين الكدح والعمل من الأولى، وحسن المظهر وطيب الرائحة من الثانية. حتى إنها انفردتْ من بينهما بالاتجاه المعرفيّ والذوقيّ. ففي الحين الذي سنحت فيه الفرصة للعائلة الأولى بالعيش في القصر سارعت إلى السُّكر والعربدة، أما هي عندما سنحت لها الفرصة فلجأتْ إلى الاستمتاع بجمال الطبيعة، والاستماع إلى الموسيقى والأنغام. مما يدلّ على أنّ الإنسان هو كلمة السرّ لا الظرف الذي فيه -الغنى أو الفقر- بل هو الإنسان واختياره. فها هو القدر يجمع عائلتَيْن فقيرتَيْن أن تعيشا كالكائن المُتطفَّل أو الطُفيليّات التي تستوطن جسد الإنسان .. وها هو الإنسان قد اختار اختياره في كل ظرف منهما.
الفيلم لا يتوقف عند هذه المعاني وحسب. بل يعرض معاني أخرى مثل التي تتعلق بحجر الحظّ، ومثل فكرة الانسلاخ من الذات والأمركة (أن ترى أمريكا هي الحلم الأعظم للإنسان) وهي فرصة جيَّدة ليرى المجتمع العربيّ أنَّه ليس وحده الذي يتعرض للغزو الفكريّ، وليس وحده الذي استطاعت أمريكا أن تُمنِّيه بما كان يُسمَّى في التسعينيات بـ”الحُلم الأمريكيّ”.
والغريب أن السيد القارئ سيمضي إلى هذه الكلمات مُعتقدًا أن فيلمنا مأساويّ من المعاني العديدة التي حرص على مناقشتها. والحقيقة عكس ذلك فالفيلم في معظم دقائقه فيلم كوميديّ بامتياز. استطاع المخرج أن يُدير هذه الكوميديا من خلال عوامل كثيرة منها سرعة إيقاع الفيلم في نصفه الأول، ومن خلال الأداء التمثيليّ البارز لكل الممثلين (مما يدلّ على أنَّه عمل المخرج) وكلَّهم يستحقون الإشادة. أدار هذه الكوميديا مستندًا إلى ما امتاز به تأليف الفيلم من كوميديا الموقف، لا كوميديا القول المنفرد (ما يُسمَّى بالأفِّيه). وقد استطاع التأليف أن يصنع فيلمًا كوميديًّا عماده المفارقة في الموقف الكُليّ لا المواقف الجُزئيَّة. ليقول لنا: ها هي الكوميديا سهلة لمَنْ يستطيع كتابتها عن موهبة وإدارة ذكيَّة.
ولعل أبرز ما في الإخراج هو قدرته على إخراج المعاني القاسية كما أخرج الكوميديا في مستوياتها المتعددة. ففي الثلث الأخير من الفيلم، خاصةً مشاهد الأمطار وغرق المنازل فنيات إخراجيَّة جيدة. من أوَّل اختيار الحركة المشهد والممثلين؛ حيث يمضي -طوال مشاهد- الممثلون والأمطار هبوطًا في طُرقات تهبط باستمرار، وكأنَّها تُماثل الهبوط من الغنى إلى الفقر. وحركات الكاميرا في مشهد دفع الأب الفقير لحاجياته في طرقات تحوَّلتْ إلى أنهار سائلة كانت في غاية التميُّز. في فيلم ستخرج منه سعيدًا من الكوميديا، غاضبًا من حماقة الإنسان، حالمًا مع حُلم الشاب الفقير، متذكِّرًا بعض الجُمل التي من الصعب نسيانها أو نسيان وقعها على قلبك وعقلك.
*المصدر: التنويري.