لماذا لم تسقط حركة الإخوان المسلمين بعد في البلدان العربية؟ يبدو هذا التساؤل غير المدهش لي ولكثيرين من المستقرئين لتاريخ وشاهد تنظيم حسن البنا في عشرينيات القرن المنصرم، لكن يظل تساؤلا ملحا على كثيرين أيضا غيرنا، وحتى حينما قام الرئيس التونسي قيس سعيد بتقويض البرلمان وإزاحة وزير الدفاع وباقة من وزراء الحكومة برزت على سطح المشهد السياسي هناك حركة النهضة وهي إحدى الكيانات السياسية التابعة لحركة الإخوان المسلمين مثل حزب الحرية والعدالة في مصر الذي تم تدشينه عقب انتفاضة يناير 2011 واستمر حتى العزل الشعبي الاستثنائي والتاريخي لممثل الجماعة في الرئاسة الدكتور محمد مرسي ومن بعده انمحاء الأثر السياسي الرسمي لهذه الجماعة.
وخروج آلاف التونسيين في شوارع العاصمة واعتلاء هتافاتهم المناهضة لحركة النهضة الإخوانية وممارساتها كذلك استيلاء أعضائها على مقاعد مجلس نواب الشعب التونسي واقتحامهم مقار الحركة بمعظم أرجاء تونس الخضراء يعيد إلى الأذهان فكرة عدم انصياع ملايين المصريين الوطنيين لكافة محاولات الاستلاب والاستقطاب التي مارستها جماعة حسن البنا في مصر طيلة عقود طويلة واشتعلت ذروة الاستلاب ومن بعده الإقصاء والتهميش خلال سنة حكم الجماعة البلاد والعباد كذلك.
ويكثر تساؤل الشباب الذي اعتاد عدم القراءة لماذا هذا الظهور المتجدد لجماعة الإخوان خلف أذرع سياسية متباينة وكيانات اجتماعية غير مشروعة رغم أن الحكومات العربية المتعاقبة كانت ولا تزال على حذر من التصاعد غير الطبيعي أو الصحي لهذا الكيان الذي تمرس في خلط السياسي بالديني؟
وإذا تكاثرت الأسئلة وتناثرت التساؤلات حول التنظيم الذي أسسه أستاذ اللغة العربية حسن البنا وانتشر بصورة مدهشة وربما فاقت خيال وتصور مؤسسيها فإن الإجابات تبدو سهلة وبسيطة ولا يمكن تأويلها من جديد أو إعادة تلقي ردود بعينها ونحن بصدد الإجابة عن السؤال الذي تصدر المقالة الحالية.
إن انتشار الجماعة وظهورها من جديد في كل مرة ويعقبها أيضا سقوط كبير وفضائح تتصل بأصحابها وقياداتها ورموزها يعود لأسباب منها اعتماد الجماعة على نصوص الولاء التي لا يمكن الإفصاح عنها بل كل المستندات والمراجع والوثائق التي تتصل بحركة الإخوان المسلمين هي مجرد موضوعات إنشائية تصلح للمدارس الإلزامية عن الفضائل والصبر والجهاد وتكوين الأمم ومواجهة العدو والقضاء على الاحتلال والاحتكار سواء كان سياسيا أم اقتصاديا، لكن زعمي أن هناك نصوص أشبه بنصوص ولاية الفقيه في إيران والتي هي في كنهها بيعة لا يمكن الفكاك من شراكها القوية والمتينة إلا بالموت.
السبب الثاني يبدو بحق بسيطا جدا في استلاب الجماعة المنحلة سياسيا وقانونيا وقضائيا ثم شعبيا في كافة الدول العربية يعتمد على المهمشين، وقصة المهمشين تعود بنا طوعا وكرها إلى معظم كتابات رائد القصة القصيرة يوسف إدريس، حيث إنه أجاد في امتهار عميد الرواية العربية نجيب محفوظ في تصوير المهمشين ليس فقط من حيث المظهر وطبيعة الوظائف التي يشتعلونها، بل أيضا تجسيد الحالة النفسية والطبيعة الاجتماعية لديهم وكيف أن هؤلاء المهمشين هم بحق في حالة امتعاض مستدامة وشعور بالاضطهاد والقمعية من كل البشر على سطح الكرة الأرضية وأنهم بحق يمتلكون الكفاءة والمقدرة والقدرة على إصلاح الكون لكنها تصاريف الزمان التي منعتهم من قيادة الأمم والشعوب.
ومن هذه اللحظة الفارقة يصبح المهمش فريسة سهلة القنص والاصطياد ومن ثم الانقياد طواعية لفكر الجماعة حيث إنها طالما لعبت على وتر الأشخاص الذين يعانون تهميشا ما في مجتمعاتهم لظروف شتى ليس من بينها الدين أو السياسة وهي حرفة تنظيم حسن البنا، لكن هذا الشعور بالتهميش والفقر المجتمعي في الانخراط والتواصل تجعل مهمة قيادات الجماعة سهلة وميسرة من حيث التحكم بالطاعة والتنفيذ والعصيان والاعتصام والإضراب وأخيرا القيام باغتيال كل من يخالف فكر جماعة الإخوان.
حتى لحظة استقطاب سيد قطب منظِّر الجماعة في النصف الثاني من القرن العشرين تم استقطابه تلقائيا وبغير جهد أو بلاء أو كلل وقتما استشعر مؤخرا أنه مجرد رقم لا أكثر ولم يملك كاريزما الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر، أو المفكر والأديب العبقري الدكتور طه حسين، أو الإصلاحي المجدد محمد عبده، فشعوره بالتهميش من الطبيعي أن يجعله صوب البروز والظهور على ساحة مشهد الأحداث بصورة تمكنه من الاستشفاء النفسي الداخلي عن طريق تأييد حفنة من المنغلقين على أنفسهم فكريا واجتماعيا.
وسيد قطب هذا وصل بنفسه إلى ادعاء جاهلية المجتمع المصري، مصر بلد الأزهر الشريف حفظة القرآن ورواة الحديث وفقهاء المنطقة، لكن تهميشه أوصله كرها إلى المناداة ليل نهار بفكرة الحاكمية التي أعتقد وهو الآن في دار الحق لم يعي قصد الحكم لله كما تم وروده في القرآن الكريم النص المحكم القاطع ذي الأسرار، لكن هو بادعاءاته كمفكر مصري رأى وجوب الخروج على الحاكم بوصفه ومجتمعه وشعبه وأمته وربما المنطقة العربية كلها كافرة لا فائدة مرجوة من صلاحها إلى بالقتل والتدمير والتخريب، ولعل هذا ما أورده بعد سنوات الحكم عليه بالإعدام شنقا إلى التحليلات النفسية والسيكولوجية لعقله وفكره وطروحاته التنظيرية التي تنم عن عقل مريض.
نفس الأمر حدث حينما نجح الأخير في استقطاب السيدة زينب الغزالي للتنظيم وأن تكون الصوت النسائي المعبر عن الجماعة بصورة مغايرة، فالسيدة وإن فارقت الحياة إلى بارئها لا يمكن أن نتغافل حالات التهميش الأسري والعائلي لها وكونها زوجة ثانية لرجل ليس بالمفكر أو الزعيم أو الأديب.
وماذا عن بقية أسباب هذا الانتشار الواسع للجماعة أيضا في كافة البلدان العربية، إن قيادات الجماعة ومنظريها الذي يرون أنفسهم قادة الرأي والفكر رغم فقرهم في إدارة بلد عظيمة مثل مصر المحروسة دوما يجعلون المجتمع صوب أعينهم، ليس بالضرورة جعل أفراد المجتمع الطبيعي والسليم بالفطرة ينتمون إلى كياناتهم السياسية كالأحزاب، بل عن طريق مبادرات ومشاركات اجتماعية مشبوهة، نعم هي مبادرات مشبوهة وإن كان ظاهرها بريئا طاهرا نقيا كماء النيل، لكن باطن تلك الممارسات المشبوهة هي مجرد استقطاب أكبر عدد ممكن من الشباب إلى تنظيم الجماعة من خلال مسابقات رياضية أو لقاءات تثقيفية عامة تحت مظلة موضوعات يراها البعض عادية لكنها هي في جوهرها تستهدف استمالة الشباب فقير الثقافة والتعليم إلى أفكار وآراء ومعتقدات فكر الجماعة الدموي الذي لم ير شيئا في القرآن سوى الحاكمية مع إن ذكر الحكم لله ورد في سياق مخالف لعقول أولئك الفقراء ذهنيا ودينيا وسياسيا بالقطعية.
ثم ماذا بعد؟ المرأة، تظل المرأة سلاحا ناجحا وناجعا وقويا في أجندة تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، وهذه السطور المقبلة لن تتحدث عن السيدة المعروفة إعلاميا بأم أيمن فلها ثمة مقالات ليست بالقصيرة عن دورها السري والأكثر غموضا داخل أروقة الجماعة المحظورة والمنحلة قضائيا، لكن السطور هذه تتحدث عن مبادرات وسعي حثيث خبيث وممارسات جامعية وطلابية مستمرة لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الفتيات والسيدات المسلمات وضمهن تحت ستار الدين والعفة والفضيلة إلى التنظيم الدموي المتطرف.
فالحكاية تبدأ من أختي الفاضلة، وإني أراك درة الجنة وفخر للإسلام وأنك جوهر الحكاية والرواية والفصل والمبدأ والمنتهى، ثم حكايات طويلة في سرعة واختزال للسطور عن الفضيلة والعفة والسفور والحجاب والنقاب وأن الإسلام ازدهر عن طريق النساء الصالحات وأنت منهن طبعا وأنك رافد النجاح والتفوق والامتياز البشري، ثم سلسلة مستمرة من الإسطوانات الصوتية لكبار شيوخ وأئمة الجماعة الذين لم يتفقهوا في الدين فقط هم يمتلكون لحى طويلة ويرتدون جلابيب قصيرة ويدعون للجنة.
وحينما نصل إلى جنة الجماعة، نراها جهادا آخر، مرة نكاح المجاهدين الأبرار من وجهة نظرهم بالتأكيد، ومرة جهادا بالحب من خلال مبادرات الانضمام للجماعة بصور مشبوهة تبدأ بجمع معلومات وبيانات هي في الحقيقة شخصية وغير مهمة لكن عن طريقها يقوم أعضاء الجماعة وخلاياها النائمة والعائمة على وجه المجتمع في فترات ركوده أو انشغاله بقضايا مهمة وحيوية كمشكلة سد النهضة وغيرها، فيقوم هؤلاء بترويض عقل الفتاة وقيادته ـ العقل ـ نحو الانصياع المطلق للجماعة وإقناعها بأنها خليفة طبيعية للصحابيات الجليلات، وأن قيامها بالمهام الموكلة إليها هي أقرب للجنة.
الأكثر دهشة في هذا المشهد، أن هذه الفتاة الصغيرة تقع مباشرة في الحب صوب شيخها أو أميرها أو الشخص الإخواني المسئول عن تجنيدها عقب الحصول على كافة بياناتها الشخصية فإما أن يتزوجها تحت مسميات كثيرة؛ أنها يتيمة أو فقيرة أو مسكينة أو ضعيفة أو بحجة تأهيلها لقيادة الفتيات المجاهدات. أو تزويجها لرجل آخر ينتمي إلى الجماعة، وسرعان ما تكتشف الفتاة أنها وقعت دون قصد في شراك عجيبة وأن الجنة طارت وأن الجهاد صار جسديا وأن العقل لا يصلح لقيادة الأمة.
لذلك يتعين على الحكومات الرشيدة ومنها مصر ألا تواجه تنظيم حسن البنا بالسلاح فقط فهذا أمر سهل وبسيط لكنها تقضي فقط على الكيانات الصغيرة والشابة والمستقطبة دون الكبار والقيادات والزعماء الذين يمتلكون دهاء الذئاب ومكر الأفاعي، بل الأقوى هو المواجهة الفكرية لهؤلاء الشباب، المشكلة لا تكمن في القيادات لأنهم بالفعل يجيدون التخفي وارتداء نقاب السيدات والاختباء وسط المجتمع في حرفية ومهنية في التنكر، لكن الشباب المسكين هو الذي ينبغي التوجه نحوه ومواجهته بحقائق ومشاهدات تنظيم الجماعة الذي فسد في الأرض وطغى..
_____________
الدكتور بليغ حمدي إسماعيل
أستاذ المناهج وطرائق التدريس(م)
كلية التربية ـ جامعة المنيا.
_________
**يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة عن رأي التنويري.
*المصدر: التنويري.