حظيت زيارة جون بول سارتر إلى مصر وغزة في آذار/مارس 1967 بترحيب كبير من مثقفي مصر وشرائح واسعة من المجتمع المثقف وخاصة الذي يوسم بالتقدمية ،وقد تمت هذه الزيارة بدعوة من جريدة الأهرام المصرية باسم توفيق الحكيم بوصفه الأكبر سنا والأكثر صيتا ومجلة الطليعة التي كان يرأس تحريرها لطفي الخولي ،وتاريخ الزيارة مهم لأنها جاءت قبل شهرين من نكسة حزيران 1967 ،وامتدت الزيارة لستة عشرة يوما، زار خلالها سارتر القاهرة والأقصر وأسوان وغزة التي كانت تابعة للقطر المصري، وقد كان الهدف من الزيارة هو المعاينة والاطلاع على التجربة المصرية والتعرف على الكفاح الذي يخوضه الشعب المصري في الجمهورية العربية المتحدة، وتقصي أوضاع بلد من بلدان العالم الثالث الذي يطمح إلى التقدم والتحرر وقد خاض تجارب كبيرة في القضاء على الطبقية والإقطاع وأنجز مشاريع تاريخية كالسد العالي كما أنه يمتلك حضارة عريقة تمتد لآلاف السنين وآثارها الشامخة شاهدة عليها تقاوم عاديات الأيام وصروف الدهر، والهدف الثاني هو أن يتعرف سارتر على المعلومات الدقيقة عن الشعب الفلسطيني ومشاكل اللاجئين من خلال زيارة ميدانية إلى غزة.
سارتر الذي اشتهر بمواقفه الداعمة لحرية الشعوب والتنديد بالاستعمار وفضح جرائمه وفضح نوايا الإمبريالية ومركزية فكرها الذي يهدف إلى تهميش الآخر ونهبه واستعباده .
ساند سارتر الكفاح الجزائري من أجل نيل الحرية والاستقلال وكان ينظم المسيرات في بولفار سان ميشيل انطلاقا من مقهى النخبة” فلور” تأييدا للقضية الجزائرية وقال جملته المشهورة بأنه مستعد لحمل حقائب جبهة التحرير أي المشاركة السياسية والفكرية في نضال الجبهة ،وتعرض لمحاولة اغتيال نظير تأييده للحق الجزائري الوطني ،كما دافع عن مصر خلال العدوان الثلاثي 1956 وكتب عنه(إن فرنسا ذهبت تنقذ قناة وتقتل شعبا ،هذا الشعب الذي قررت أن تقتله ليس الشعب المصري وإنما الشعب الفرنسي نفسه، فليس من حق أي رئيس لحكومة فرنسا أن يجرد الشعب الفرنسي كله من شرفه في حب السلام.
وهو يشير بذلك إلى وقوف قطاع عريض من الشعب الفرنسي ومن المثقفين مع حق الشعوب في الحرية والتمتع بخيراتها، كيف لا وفرنسا هي التي رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة خلال الثورة الفرنسية 1789، فكيف يسوغ ساسة فرنسا لأنفسهم استعباد الآخرين واضطهادهم ونهب ثرواتهم؟
وكان يصحب سارتر في رحلته العربية هذه سيمون دي بوفوار وكلود لانزمان اليهودي الشيوعي مدير تحرير مجلة “الأزمنة الحديثة” والتي كان سارتر يرأس تحريرها كما صحبه في زياراته لمختلف المؤسسات الثقافية والمدن المصرية كل من توفيق الحكيم ولطفي الخولي ومحمود أمين العالم وعلي السمان وعلي شلش وسهيل إدريس وغيرهم، مع وجود معارضة كذلك لهذه الزيارة فقد طلب الشيخ محمد الغزالي من طلاب الأزهر رميهم بالنعال خلال زيارتهم للأزهر الشريف والشيخ محمد أبو زهرة كتب (عجبت لشعب مسلم يصفق لرجل وعشيقته).
لقد دأبت مصر على دعوة بعض رجال الفكر والأدب والفلسفة لزيارة مصر والاطلاع على أحوالها وتجاربها في التحديث والعصرنة والتقدم وزيارة أمكنتها الأثرية الخالدة والتي تشهد بعظمة الحضارة المصرية القديمة، وكان ممن وجهت إليه الدعوة وتمت الزيارة سومرست موم، روجيه غارودي، جاك بيرك، برنارد شو، أرنولد توينبي وغيرهم.
غير أن هذه الزيارة سببت حرجا لسارتر فسيكون مطالبا بإبداء رأيه في النزاع العربي الإسرائيلي وفي كتاب “المسألة الوجودية” تحدث سارتر عن ثنائية المضطَهد (بفتح الهاء)والمضطهد(بكسر الهاء) والنازية واليهود والخلفية السيكولوجية للمضطهد والتي تملي عليه كثيرا من التصرفات العدوانية ومحاولة جلب التعاطف والتأييد والتبرير لأفعاله الإجرامية ،غير أن اللوبي الصهيوني كان قد اخترق هذه الزيارة من خلال إقحام كلود لانزمان مدير تحرير الأزمنة الحديثة والذي لم يكن مدعوا، وقد لعب هذا الرجل دورا في إفشال الزيارة وتحويل مسارها لصالح إسرائيل ،فسارتر الذي أعلن حياد الضمير خلال الزيارة خضع لكلود لانزمان أثناء وجوده في مصر من خلال ما كان يقدمه له تفسيرا وتأويلا لما كان يراه في الواقع المصري والفلسطيني لينسجم مع الطروحات الإسرائيلية ضد العرب وعدالة قضيتهم، والمعروف أن سارتر بعد هذه الزيارة توجه إلى إسرائيل ولم يكن معه من يشرح له ويفسر ما سيراه في إسرائيل لاحقا من تزوير وظلم واغتصاب وتحايل وكله مبرر في الحق اليهودي في فلسطين واضطهاد اليهود والعداء للسامية ،ولذا أخفقت هذه الزيارة إلى مصر وحادت عن طريقها ،في حين استفادت منها إسرائيل كثيرا فقد دافع سارتر عن حق إسرائيل في الوجود مع حق العودة للاجئين الفلسطينيين .
انتبهت عايدة الشريف إلى وجود علاقة ثلاثية بين سارتر وسيمون دي بوفوار وكلو د لانزمان وأن سيمون دي بوفوار التي تحولت إلى عشيقة كذلك لكلود لانزمان ومتحمسة جدا لإسرائيل قد أثرا على سارتر وموقفه من الصراع العربي الإسرائيلي فقد كتبت سيمون دي بوفوار(لقد حررني حضور لانزمان إلى جانبي فقضى أولا على ألوان ضيقي، ثم أنعش الاهتمام الذي كنت أحمله للأشياء ،وذلك أن فضولي كان قد فتر كثيرا .رغم أنه كانت بي رغبة أن أراقب وأعمق وأتمم تجاربي القديمة ..ولقد كانت هذه التجارب بالنسبة للانزمان جديرة وكان يضيئها بنور غير متوقع ..وقد رد لي بفضله ألف شيء ،ألوان من البهجة والدهشة والانفعال والضحك ورطوبة العالم(.
تحول سارتر إلى متعاطف مع إسرائيل في الأزمنة الحديثة كما تحول إلى سياسي تحت تأثير سيمون دي بوفوار وكلود لانزمان وأشاد في صفحات “المسالة الوجودية” بما حققته إسرائيل من إصلاحات زراعية واستيطانية مما اضطر سهيل إدريس إلى حذف هذه الصفحات التي أشاد فيها بإسرائيل أثناء ترجمة الكتاب إلى العربية .
حظيت زيارة سارتر كما أسلفنا بدوي واسع وترحيب منقطع النظير اللهم إلا من بعض الأوساط – والتي كانت لها مبرراتها – غير أن المثقفين في مصر لم ينجحوا في التأثير عليه وتحويله إلى جهة الحق العربي أو على الأقل التحلي بشيء من الموضوعية والاتزان في الطرح ،في حين نجحت إسرائيل في ذلك كثيرا من خلال كلود لانزمان خاصة الذي رافقه في هذه الزيارة ،فقد كان المثقفون العرب يسعون إلى سارتر العدمي والوجودي والمتشائم ويبالغون في الحفاوة والترحاب إلى درجة امتعاض الضيف من ذلك فقد قد م في كل مكان ومحفل على أنه البطل الرائد ،الحر، الإنسان وضمير العصر، مما جعله يسخر من هذا التوصيف الأخير ويقول لعلي السمان مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط في باريس: أنا ضمير العصر؟أنا لست حتى ضمير نفسي! كما استمع إلى قصيدة إشادة من الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة وخصته مجلة الفكر المعاصر بعدد ممتاز ،وتنافس الكتاب على تقديم أنفسهم ومؤلفاتهم وإظهار معرفتهم بالفكر الأوروبي والوجودية والاغتراب والقلق حتى إن توفيق الحكيم أهدى سارتر مؤلفاته المترجمة إلى الفرنسية لما زاره بمكتبه بجريدة الأهرام ،ولما سئل سارتر عن رأيه في أدب توفيق الحكيم المسكون بمجد الفراعنة لزم سارتر الصمت وهو الذي يقول” قد يكون الصمت موقفا “مع ما انتقد كثيرا أدب الحكيم من لدن محمد مندور ويحي حقي ومحمد يوسف نجم ،لكن سارتر كان يشيح بوجهه عن الأدباء الكبار والمشهورين ويريد لقاء الأدباء الشباب ،ولما كان في مصر وجه إليه سهيل إدريس دعوة لزيارة بيروت لكنه اعتذر وفضل زيارة إسرائيل .
كتبت عايدة الشريف أنها لما أخبرت توفيق الحكيم بوجود عشرة ثلاثية بين سارتر وسيمون دي بوفوار وكلود لانزمان وأن الأخيرين أثرا عليه في مواقفه من فلسطين والعرب فرد عليها الحكيم محتجا(كيف تتطاولين أنت على هؤلاء الفلاسفة العظام العمالقة النصعاء سيرة ؟هل هم أناس عاديون حتى تخوضي – وأنت في هذه السن- في سيرتهم هكذا ، وبهذه الطريقة المشينة غير الصادقة والأمينة).
وواضح من خلال هذا التوصيف من الحكيم مدى الانبهار بسارتر ورفعه فوق درجة البشر وكونه لا ينحاز ولا يغلبه هوى أو تنقصه معرفة، وهو موقف عرف عن الحكيم في التحمس فرط المبالغة للكتاب والفلاسفة الذين يعجب بهم.
سجل سارتر أثناء زيارته لمصر ومن خلال تطوافه في القاهرة وجامعتها وخان الخليلي والأزهر ثم الأقصر والسد العالي وأسوان إعجابه البالغ بالحضارة المصرية القديمة العظيمة، وأشاد بالفلاح المصري وصبره وبسالته في تحصيل قوته خلال زيارته لقرية كمشيش ،كما سجل إعجابه بتجارب مصر في التحرر والانعتاق والتقدم والعصرنة من خلال مشاريع كبيرة كالسد العالي بينما كانت سيمون دي بوفوار تتحدث عن النسوية وقضايا المرأة وكأنها لا تعرف اختلاف الجغرافيا والتاريخ والأنساق الثقافية واختلاف مطالب المرأة المصرية والعربية عن نظيرتها الأوروبية، ولم يكن هذا شأنا كبيرا في ذلك الوقت بالقياس إلى قضية فلسطين والتحرر من أطماع الاستعمار والإمبريالية والتحرر من الفقر والجهل والاستبداد.
لقد انتبه سارتر إلى أنه صار موضة في العالم العربي فأثناء محاضرة له في كلية الآداب غصت القاعة بالحاضرين إلى درجة لم يجد المحاضر موطئا لقدميه وتساءل أهولاء كلهم قرأوا مؤلفاتي ، لا أظن انا لست إلا موضة).
وأثناء زيارته إلى غزه مع مرافقيه والوفد المرافق له لمعاينة أوضاع اللاجئين أبدى سارتر تعاطفا مع محنتهم ،وحين أعطاه طفل فلسطيني علم المقاومة الفلسطينية ثار سارتر في وجه المصور الذي التقط الصورة وطالبه بإتلاف الفيلم، وحين سأل المزارع عز الدين الشوا هل الفلسطينيون وحدهم الذين سيحررون بلادهم أم أنهم سيطلبون مساعدة الدول العربية الأخرى؟ رد عليه (إن الفلسطينيين هم أنفسهم الذين سيقومون بتحرير وطنهم ، بينما قالت عصام الحسيني حين تتحرر فلسطين سيبقى اليهود القادمون من الدول العربية ليعيشوا مع الفلسطينيين بينما يعود اليهود القادمون من الدول الأوروبية إلى أوطانهم التي جاؤوا منها.
لم تحقق زيارة سارتر إلى مصر النتائج المرجوة منها فقد كان لفيف من المثقفين يهتمون بإظهار أنفسهم على أنهم مثقفون تقدميون مطلعون على الوجودية أو يساريون ملتزمون أو كتاب روائيون ملمون تماما بتقنيات الكتابة الروائية يسعون إلى الكسب المعنوي من هذه الرفقة وزيادة نجوميتهم ،اللهم إلا إعجاب سارتر بحضارة مصر القديمة وكفاح الرجل المصري الفلاح بصبر واستماتة وشرف من أجل تحصيل لقمة العيش، أو مشاريع مصر الكبرى التقدمية كالسد العالي مثلا ،ومع دفاعه عن حق العودة للاجئين إلا أنه وقف مع إسرائيل ودافع عنها بتأثير من سيمون دي بوفوار وكلود لانزمان الذي كان عشيقا كذلك لبوفوار وكتبت هي في مذكراتها(في هذه العطلة كان لانزمان قد قام برحلة إلى إسرائيل.. وعاد إلى باريس بعد أسبوعين من وصولي وشملنا شعور بالفرح الغامر.. وبدأنا نبني مستقبلنا وكل منا يروي ماضيه للآخر وبالرغم من أن لانزمان كان يصغرني بسبعة عشر عاما ،فإن هذا الفرق لم يكن يرعبنا وقد كنت بحاجة إلى زمن لألزم قلبي بهذه العلاقة ، لأنه لم يكن ورادا أن أستبدل بتفاهمي مع سارتر تفاهما آخر… واتفقنا أن يجيء لانزمان كل صيف ليقضي عشرة أبام مع سارتر ومعي.
لقد أدرك سارتر قبل رحيله أن قدميه غرقتا في الوحل الصهيوني وأنه تلطخ بالفضيحة فكف عن توقيع البيانات المؤيدة لإسرائيل ،بينما استمرت سيمون دي بوفوار تفعل ذلك وتحدث نساء العرب عن النسوية وتقول عن المرأة أنها لا تولد امرأة بل يجعلها المجتمع كذلك ، ويكتب سارتر بعد ذلك بما يشبه الاعتراف الذي يريحه ربما من تبكيت الضمير (قد يسقط إنسان مادامت الظروف لا تسمح غالبا بأي تجاوز آخر غير الخضوع).
*المصدر: التنويري.