ديستوبيا الاحتلال
إنَّ ما أحدثته القضيَّة الفلسطينيَّة من زلزلة للضمائر والعقول لهو أمر يعجب له ويضرب به المثل، فها هنا أصداء تُسمَع، ولافتات ترفع، وطبول تقرع، وآمال تتصدَّع، وأفئدة تتضرَّع، وقلوب تتقطَّع على ما آلت إليه الضمائر الإنسانيَّة، إلى حالة السكوت والوجوم، إلى واقع الصمت والهجوم، هو هجوم على كرامة الإنسان التي تلطَّخت بدماء الظلم والاضطهاد، قبل أن يكون هجومًا على شعب ضارب في جذور التاريخ أُريد له أن يباد، أن ينسف بتاريخه، أن يعصف بدينه، أن تخسف أرضه، وينمحي وجوده.
تتعلَّق كرامة الإنسان أساسًا بمبادئ لا يجب أن تخترق، وبمعايير لا ينبغي أن تحرق، من صداقة وتعاون ووئام، من تعاضد وتكامل وانسجام، من ودٍّ وحبّ وسلام، هذه تركيبة المبادئ التي ادَّعى الغرب أنَّه مؤسِّسها، وزعم أنَّه المرجعيَّة في ابتكارها، وها هو اليوم يتنكَّر ويتقنَّع لها باسم المصالح السياسيَّة والاقتصاديَّة التي يروم إلى تحقيقها، متحاشيًا عن كل ما يتدنَّس به الحرم الإنساني، متغاضيًا عن كل ما يتنجِّس به كبرياؤه البشري .
إنَّ الغرب وهو في حالة خمود وجمود لم ينسلخ فقط عن إنسانيّته، بل عن بشريّته، وقبل ذلك عن شخصيّته، وإن فحصنا هذا الواقع الذي باتت البشريَّة عامَّة، والشعوب المقهورة خاصَّة تكتوي به، فأبرز ما يمكن أن نخلص إليه، أنَّ أجواز الخيال التي كان الفلاسفة يحلِّقون فيها بنفس تشاؤمي وتعيس قد أضحى يتجسَّد، ولو حاولنا وصفه فلن نستطيع، وجل ما يمكننا أن نقول عنه إنَّه واقع ديستوبي، والديستوبيا يمكنها أن تجمل لك كل معاني الحزن والأسى، وكل دلالات الحسرة والتعاسة، وإنَّها معانٍ ودلالات لم تنبعث من الفراغ، وفقط من له ضمير ينبض بالحياة يمكنه أن يحسَّ بها، أمَّا الأعمى الجاهل فهو غارق بدون وعي في أهوائه وشهواته، وإنَّه لمعذور، لأنَّه أريد له ذلك، فإسرائيل لم تترك فجوة إلا وسدَّتها، ولا هفوة إلا ورتَّقتها، ولا بابا إلا وأوصدته، فكل وسائل القوَّة تمتلكها، وكل أدوات السلطة بيديها، من سلاح تستلّه على الأبرياء، وإعلام تراوغ به السفهاء، ورعب تدبّه في قلوب الجبناء، إلا أنها لا تمتلك شيئًا واحدًا، إنَّها الشهامة، فسلاحها مرتعد، وإعلامها متباكٍ، ورعبها مرتعش، وجل ما يشفع لها في أن ترتكب من الجرائم ما يحلو لها، أنَّها تملك السلطة، وهذا الأمر يشكِّل علامة على الديستوبيا، إذ إنَّ الحكومة الإسرائيليَّة الشموليَّة والديكتاتوريَّة إذا تحسَّست الخطر والتهديد هرعت إلى إلغاء الروابط والأواصر الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، لأنَّ المبدأ الذي تعمل به هنا هو مبدأ التشتيت والتفتيت،أم تشتِّت الآراء العامَّة في الفضاءات العموميَّة وتزرع التفرقة بين الناس، بين من يساند فلسطين ومن يساندها، وأن تفتِّت المفاهيم الإنسانيَّة وتمزِّق تشريعات حقوق الإنسان لكي تحجب عن الناس المجازر اللاإنسانيَّة التي تقترفها في حقِّ الفلسطيني خاصَّة وفي حقِّ الإنسان عامَّة .
وإنَّ إسرائيل أقبرت الإنسان وخدشت كيانه وطمرت وجوده، فإنَّها بذلك وبالضرورة، أعادت الحياة البشريَّة إلى حالة الهمجيَّة والوحشيَّة، وهذه العودة إنما هي عار على جبين الغرب قبل أي شعب آخر، لأن الغرب هو من استباح لنفسه أن يدافع عن حقوق الإنسان، وهو اليوم نفسه يدير ظهره لها، وإنه كذلك لمعذور، كونه مجرد عبيد مأسور للقوَّة الكبرى في العالم، قوَّة جعلتنا نعيش عصر الديستوبيا واقعًا، وعصر السورياليَّة افتراضًا .
إنَّ الاحتلال الصهيوني وهو يقتل ويهاجم ويضطهد ويتعسَّف ويسفك الدماء، قد خلع عن العالم الغربي ثوب البراءة وألبسه ثوب الهزيمة والخنوع والانبطاح، وسكوته خير دليل على ذلك، كما كشف عن زيف التصوُّرات المثاليَّة والأفكار الطوباويَّة التي كانت ترسم عالمنا بأحلى حلَّة، على أساس أنَّه أفضل العوالم، والواقع أنَّه حقا أسوأ العوالم، ما دام الإنسان فيه أسطورة لم تكن ولن تكون .
والمؤلم في الأمر، ليس أنَّ الإنسان كان ولم يكن، بل إنَّه كان حبيس الأفكار الطوباويَّة دون أن يتسلَّل إلى واقعنا، وضريبة ذلك أن ازداد هذا الواقع إيغالا في التوحُّش حتى احتلّ القوي الواجهة الجميلة المنمَّقة بينما سقط الضعيف في خنادق خلفيَّة مظلمة، والضعيف هنا هو في الحقيقة قوي، فأن تجابه الظلم وحدك في ساحة الوغى دون مساندة معنويَّة أو ماديَّة من أحد فهذه بحدِّ ذاتها قوّة وانتصار، وإنَّ فلسطين تمثِّل هذا المثال، فلا الغرب وقف بجانبها باسم الإنسانيَّة، ولا العرب دعمها باسم القوميَّة والإسلام، اللهم، إذا استثنينا الشعوب التي ناضلت واحتجَّت على المجازر الموبوءة والتي تقوم إسرائيل بالإشراف عليها، وقاومت كل السياسات الخداعة والمناورة والتي تسعى إلى إضلال الرأي العام وإذلال همم الشعوب، لكن صور التضامن والتكافل التي أبانت عليها الاحتجاجات في مختلف العالم تنمُّ عن وجود الإنسان في باطن كل كائن بشري، وأمَّا السياسة فلا مجال فيها للقيم الإنسانيَّة، إنَّ همَّها هو تحقيق مصالحها الخاصَّة دون أن تأبه للنتائج، وإن كان صمتها كفيلا بإغداق الثروة عليها، فلن تتوانى عن الصمت، والصمت في وجه الظلم لهو انحطاط وتدنٍّ إلى مستوى الوحشيَّة، والحقّ أنَّ هذا الظلم والاستبداد الذي تمارسه إسرائيل في حقِّ الشعب الفلسطيني ينبئ بانهيار محتوم داخل هذا الكيان، فالظلم هو سمّ فتَّاك يقتل كل من يستعمله، وكل سياسة تعمل على القهر والاضطهاد فأمدها ليس ببعيد ومحكوم عليها بالزوال، وأمَّا هذه الديستوبيا التي خلقتها، فإنَّها على حافَّة الأفول .
________
*إبراهيم ماين: طالب باحث في شعبة الفلسفة بسلك الإجازة في المدرسة العليا للأساتذة بجامعة محمد الخامس بالرباط المغرب ، حاصل على شهادة الدراسات العامَّة في شعبة علم الاجتماع بكليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة في جامعة ابن زهر أكادير .
*المصدر: التنويري.