اجتماعالمقالات

جدليَّة التَّاريخ/الأسطورة

الأساطير

 بعد نجاح فيلم الأنمي ICAKE الذي تناول واحدة من أشهر الميثولوجيا الإغريقية الضاربة في أعماق التاريخ، وبالتحديد أسطورة الملك مينوس والوحش مينوتور (نصف ثور ونصفه الآخر بشري)، صدر مؤخرا فيلم أنمي آخر NOAH، يتناول قصة الطوفان وكيف تمّ إنقاذ كل حيوانات العالم بجمعهم داخل سفينة، وبعيدا عن الأسلوب الساخر المستخدم في هكذا أفلام وهو ما أدى إلى احتجاج بعض المؤسسات الدينية، وحظر بثّها عبر بعض المنصات الرقمية العربية، إلاّ أن السؤال الذي يتسلل إلى الأذهان، لماذا لا تزال الأساطير الدينية بل وحتى الخرافات الشعبية تحتّل مكانة مهمة في العقل الغربي، رغم تشبّع هذا الأخير بالفكر العقلاني والعلمي حتى النخاع ؟

تعّد الأساطير ذلك الرحم الذي أنجب الأديان القديمة منذ فجر التاريخ البشري، حيث الهروب إلى المتخيّل الغيبي وإلى فكرة الخوارق (قوة فوق الطبيعة)، هو الحلّ لعقل لا يستطيع فهم وتفسير ما يحيط به وما يقع له، فالاستئناس بكل ما هو paranormal، وبمجموعة من التخيّيلات الميتافيزيقية غير الواقعية، يمنح الإنسان السكينة والراحة بسبب ما يخلقه سيكولوجيا من إذعان وقبول المصير المحتوم، ولا تزال الخرافة تتواجد في كل المجتمعات، بما في ذلك تلك المنتمية للعالم المتقدم، ولكن مجال تأثيرها محدود جدا إذ لا تتجاوز مكانتها كعنصر من العناصر المُكّوِنة للتراث الثقافي والهوياتي لا أكثر، فلم يعّد لها أثر سلبي يمّس حياة الإنسان إذ نادرا ما يلجأ المواطن الغربي للخرافات من أجل العلاج والاعتناء بصحته، أو للنجاح في عمله، أو دراسته، أو تفسير فشله في مشروع ما، أو تعليق ما يقع عندهم من كوارث وجرائم على عوالم الغيب عِوض تحميل المسؤول مسؤوليته ومحاسبته … وفي ضوء هذا الاتجاه الفكري العقلاني، يمكننا فهم اهتمام السينما الغربية بالسرديات الميثولوجية وقصص الأبطال (سوبارمان، باتمان، إيرونمان …) كإبداع فني يتّم من خلاله إشباع فضول الإنسان، لأنّ هذا الأخير ورغم تطوره مادياً إلاّ أنه من الناحية النفسيّة دائما يشعر بالنقصان، وله رغبة دفينة تدفعه للبحث عن الكمال (يكون الأقوى والذي ينتصر في الأخير على كل من يقف في طريقه)، فمثل هذه الأفلام هي نوع من العزاء لهذا الإنسان الطموح والحالم بتحقيق المعجزات، أو بتعبير آخر، يمكننا القول أن الأساطير بما في ذلك الدينية منها، تحولّت في المجتمعات المتقدمة علمياً إلى مواد ثقافية وفنيّة تساهم في خلق السعادة والراحة النفسيّة، ومن دون أن تخدّر العقول أو تغيّبها عن واقعها الحقيقي.

أما فيما يخّص المجتمعات المتخلفة، ونظراً لفشلها الرهيب في المجالين العلمي والسياسي وعدم ركوبها قطار الحداثة، فقد توّلدت فيها ردّة فعل عنيفة على المستوى الخارجي، وهي كراهية العالم الغربي واعتباره الشيطان والمسيح الدجال والماسونية الشريرة، وهو سبب تخلفها، ولا حلّ سوى شحذ السيف عليه، ورفض ركب قطار الحداثة الذي صنعه بل السعي إلى تفجيره بعملية انتحارية، إذ لا حياة تستحق الحياة سوى تلك التي في عالم ما بعد الموت، وعلى المستوى الداخلي، بقيّت فكرة العود الأبدي جاثمة على الأذهان، وخاصة العودة إلى أساطير الأولين وخرافات الدجالين والمشعوذين، فأمام عجز هذه المجتمعات في حلّ مشاكلها وأزماتها الكثيرة والمتنوعة، صار الركون إلى الخرافات والأوهام هو الملاذ، وأضحى الجهل تحت غلاف المقدس هرمون السعادة، والأفيون الذي يحجب آلام الشقاء والحياة البائسة، ولهذا لا تزال هذه المجتمعات لم تفصل في موضوع جدلية التاريخ/الأسطورة، إذ لا يزال يصّر رجال الدين فيها على عدم الفصل بينهما وبمساندة الطبقة المثقفة من الناس والأميّين، فعوض أن نسمع حلولا علميّة حقيقية وعملية، لا نزال نسمع القصص والأساطير على أنها حقائق رغم لا معقوليتها، وتصادمها مع المنطق والعلم، بل صارت عقائد وقناعات يتّم الدفاع عنها في الملتقيات العلمية والمدرجات الجامعية …

في الأخير، تعتبر الأفكار بصفة عامة، والأساطير بصفة خاصة، بضاعة كسائر البضائع التي لها سقف زمني وتنتهي صلاحيتها، فإما إعادة تدويرها ورسكلتها وفق تغيّرات العصر ومستجداته، وهكذا يتّم الحفاظ على منافعها، وإما التعرض للتسمّم الفكري نتيجة الاستمرار في استهلاكها وهي مادة خام (منتوج عقلي تخيّيلي يعود للمراحل الأولى من مراحل نضج العقل البشري).

_______
العفيفي فيصل، باحث دكتوراه في أصول الدين (جامعة تلمسان – الجزائر) وأستاذ اللغة الفرنسية.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات

شاهد أيضاً
إغلاق