المقالاتثقافة وأدب

ثناء على الجيل الجديد

سبعينية الرفاعي

(يترجم القلب كلمات الحب بمعنى واحد …)

قحطان الفرج الله[1]

صدر حديثا للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي كتاب: (ثناء على الجيل الجديد)، وهو سياحة ممتعة في عوالم المعرفة وتأملات في الفكر والزمن، في هذا الكتاب نلتقي بكاتب يتحدث عن رحلة شاقة بين التضحيات والتحديات بين الجمال والألم بين الخيبات والنجاحات.

يروي المؤلف قصصًا تشكلت منذ نصف قرن تقريبًا، ويفتح لنا بابًا للتفكير في التحولات الجذرية بين جيله وجيل أبنائه. إنها رحلة في الحياة والفلسفة، حيث يسعى الفيلسوف لاكتشاف التباينات والتداخلات بين الأجيال، محاولًا أن يجد طرقًا للتفاهم في عالم متغير ومتسارع.

نادراً ما نجد من يثني على جيل تالي لجيله، فغالبًا ما تعتد الأجيال بنفسها وثقافتها ورموز جيلها، وتعد الأجيال اللاحقة متمردة وأقل حيوية وأكثر عبثية. لكن الفكرة التي طرحها المفكر الرفاعي ممتازة وواعية وفي غاية الدقة، إذ تتجلى من منظور أبوي لجيل يحمل جذورًا ثقافية متنوعة وأدوات معرفية مدهشة.

إن القفزات العلمية والتكنولوجية الهائلة المتاحة الآن أمام هذه الأجيال تمثل تحديًا كبيرًا وخطيرًا؛ فهل سيتمسكون بما تمسك به اجيال سابقة من تقاليد وأعراف وقيم دينية واجتماعية، أم أنهم سيتخذون على عاتقهم مهمة تحديثها وتطويعها وفق معطيات الزمن المتغير والمتسارع التحديث؟

إنني أرى أن هذا الجيل لديه كم هائل من الخزين التراثي، وأعتقد أنهم لن يقتصروا على ما سبق، بل سيصنعون تاريخًا يحترمه الجيل السابق والأجيال القادمة. قد أكون طموحًا بعض الشيء، لكنني أجد في تجربتي الجامعية وفي طلابي ما يمكن استثماره لعالم أفضل بكثير مما عشنا.

يتحدث المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، عن تجربته الشخصية ويبدأ بالتوضيح أنه لا يتحدث نيابةً عن أي أحد؛ يقول: “أحاول في هذه الأوراق تقديم رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفًا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق بالكلام نيابة عن أي إنسان في الأرض”. فهو يسرد رؤيته بصفته أبًا لأبناء عاشوا في عالم مختلف، مشيرًا إلى أن العائلة تتألف من أم وأب وابنتين وأربعة أبناء، وقد تجاوز جميعهم سن الثلاثين وأكملوا تعليمهم العالي.

يوضح كيف أنه “لا يفتقر لمعرفة الجيل الجديد، أغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، هم أقرب إلي، يعرفون جيدًا قربي لهم وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد”. إنه ينظر بعين حكيمة وخبيرة يراقب التغيرات ويتفهم التحديات التي تواجه أبناءه في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، ولكنه يعترف بأن هذه التغيرات قد فرضت فجوة بين رؤيته التقليدية للعالم ونظرة أبنائه الواقعية.

يشرح فلسفته التربوية بقوله: “التربية السليمة تعتمد الحصانة لا المنع، الأبناء ينتمون إلى عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي، يتعذر علينا إرجاع الزمن للوراء والهجرة العكسية من زماننا إلى الماضي مهما فعلنا”. لم يسعَ إلى منع أبنائه من الانخراط في جيلهم، بل شجعهم على التجربة واكتشاف العالم بأنفسهم، موضحًا: “كنت لا أمنع أولادي من اللعب في الشارع والاندماج بجيلهم، والتعرف على الواقع ميدانيًا… حرصت على أن يكون أولادي كما هم لا كما أنا، كل منهم يشبه ذاته، ما أكرهتهم على محاكاتي، ولم أحثهم يومًا على استنساخ صورتي”.

إن اختلاف الأسئلة والقناعات بين الأجيال: “أسئلتهم صعبة تشبه عالمهم، أما أسئلتنا فكانت مبسطة تشبه عالمنا”. قناعات أبنائه لا تُبنى بسهولة كما كانت قناعاته، ويميلون إلى التشكيك فيما يُقال ويُكتب، بينما كان جيله يتشبث بالأحلام ويصدق ما يُروى من وعود وأوهام. هذه الفجوة الفلسفية، التي يسميها الأب “بارادايم” معرفي، تعبّر عن التحولات في نظرة الجيلين إلى العالم، حيث يقول: “رؤية الآباء للعالم تقوم على مرتكزات ميتافيزيقية لم تعد تلهم رؤية الأبناء للعالم، وتستقي من روافد نضبت منابعها”.

ويتابع الدكتور الرفاعي وبعيون فيلسوفٍ، متأملًا في طبيعة الإنسان وتبدلات عواطفه وتناقضاته، مؤكدًا أن الإنسان “كائن يمكن أن يختلف يومه عن أمسه”، وأن ما يشعر به اليوم قد يتغير مع مرور الزمن. يشير إلى أن الفلسفة تفسر هذا التباين في إطار “الحيثية” حيث “كل زاوية نظر تقودنا إلى نتيجة، ومن مجموع زوايا النظر تتعدد وتتنوع المواقف الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم”.

يتناول مسألة مهمة وفي غاية الدقة الا وهي التناقضات العاطفية التي قد تنشأ من تداخل “زاوية النظر الواعية لإنسان مع زاوية النظر اللاواعية في باطنه”. يوضح ذلك بقوله: “أحيانًا تختلط المحبة بالكراهية فتتناوبان”، ويشير إلى أن هذه التداخلات النفسية قد تجعل الشخص الواحد يحمل مشاعر متناقضة تجاه الآخر، مستشهدًا بحالات حب الرجل للمرأة، حيث “يحدث تناوب للحب والكراهية باضطراد مضجر”.

في النهاية، يقدم الكاتب تأملاته كحكاية لجيلين، لكلٍ منهما رؤيته الخاصة للعالم، ويؤكد على أهمية “التربية التي تعتمد على الحصانة لا المنع”. الأبناء اليوم يملكون أسئلة تتطلب إجابات أعمق ومعرفة تواكب تحديات عصرهم، بينما جيل الآباء يتأمل بحنين لعصره ومعطياته. هذا الصراع بين الميتافيزيقية والواقعية هو جوهر العلاقة المعقدة بين الأجيال، حيث يتكامل كلٌ منهما مع الآخر، في محاولة لإيجاد “دروب للخلاص لا تكرّر متاهاتنا”، كما وصفها الرفاعي، الذي اختار أن يمنح أبناءه حرية التعبير عن ذواتهم، وحقهم في صناعة حكايتهم في عالمهم.


[1] أستاذ جامعي وأديب وناقد عراقي.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات