تصوف الحُرِّيَّة وتصوُّف الاسْتِعْبَاد
صورةُ الله لدى الإنسان هي ما تصنعُ تديُّنه، نمطُ التديُّن الرحمانيّ الأخلاقيّ تنتجُه صورةُ الله الرحمانيّ الأخلاقيّ، نمطُ التديُّن العنيف تنتجُه صورةُ الله المُحارِب. إن كانت صورةُ الله مضيئةً فإنها تبعثُ المحبةَ والسلام والتراحُم بين الناس، وإن كانت هذه الصورةُ مظلمةً فإنها تبعثُ كراهيات وحروبَ الأديان. الناسُ يعبدون الصورةَ التي اجتهد في رسمها مؤسِّسو الفِرَق الكلاميَّة ومجتهدوها، واكتسبت الصورةُ ألوانَها وملامحَها من الواقع الذي يعيشه الإنسانُ فردًا وجماعة. حاول العرفاءُ رسمَ صورة مضيئة لله، إلا أن مسالكَ الاسْتِعْباد في التصوف أطفأت أنوار تلك الصورة.
نشأ التصوُّف بوصفه محاولةً لاسترداد الدِّين لوظيفته بوصفه نظامًا لإنتاج معنى روحيّ وأخلاقيّ وجماليّ للحياة، وليَسْترِدّ الدِّينُ المعنى الذي تتطلَّبه حياةُ الإنسان، غير أن ذلك المعنى ضاع من أكثر المُتصوِّفة. في بدايته كان التصوف بصيرةً مُلهِمةً، لكن انطفأ ضوؤها لاحقًا، عندما ضيَّع المُتصوِّفةُ دِّينَ المعنى في زوايا العُزلة والهروب من المجتمع، والخضوع وانقياد المُريد الأعمى لشيخه.
ظهرت النواةُ الجنينيَّة للتصوف المعرفيّ مبكرًا في نصوص أبي يزيد البسطامي “ت 261 هـ”، والحسين بن منصور الحَلاَّج المصلوب سنة “309 هـ”، ومحمد بن عبد الجبار النفّري “ت 354 هـ”، وفي شيء من آثار متصوِّفة بغداد. وأسهم في بناء أسسه حكماءُ وعرفاء أمثال شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي المقتول سنة “586 هـ”، وعبد الحق بن سبعين “ت 669 هـ”، وصدرُ الدين القونوي “ت 672 هـ”، وجلالُ الدين الروميّ “672 هـ”، وعبد الكريم الجيلي “ت 805 هـ”، وعبد الرحمن الجامي “ت 898 هـ”… وغيرهم، كلُّهم طبعوا بصمتَهم في إنتاج تراث معرفيّ وروحيّ وأخلاقيّ ثمين، على تنوّع تعبيراتهم بتنوّع اجتهاداتهم، خارج نظام الاعتقاد المغلق الذي صاغه المتكلمون لبناء المقولات الاعتقاديَّة لفِرَقهم. كما تعدَّدت رؤيَّة أولئك الحُكماء والعرفاء للوجود بتعدُّد خبراتهم الدِّينيَّة وتجاربهم الروحيَّة وتكوينهم المعرفيّ. كلٌّ منهم رسمَ لوحتَه الميتافيزيقيَّة لله وعوالِم الغيب، وفي ضوئها رسمَ معالِم طريق أسفاره إلى الله.
تكاملت وتعمَّقت معالمُ الأركان النظريَّة للتصوف المعرفيّ في آثار محيي الدين بن عربي “ت 638هـ”، واتضحت بعد أن رسمَ لوحةً ميتافيزيقيَّة يُمهِّد فيها لخارطة طريق تُوصِل وجودَ الإنسان بالله. طريقٌ يسافرُ فيه الإنسانُ إلى الله من دون أن يتلوَّث بالكراهيَّة والدماء، طريقٌ يحتفلُ بتحويل الإيمان حُبًّا والحُبَّ إيمانًا، طريقٌ يحمي الإنسانَ من العنف والشرِّ المقيم في الأرض. لا أريد أن أُبشِّر بذلك، ولستُ داعيَّة للانخراط في عرفان محيي الدين وأمثاله، لأني أعرفُ أن كلَّ تصوُّف يعكسُ تجربةَ المتصوِّف ونمطَ ارتياضه الروحيّ، وأن التصوُّف مرآةٌ للأفق التاريخيّ الذي كان يعيشُ فيه المتصوِّف. ما أنشده يتمثَّل في أن هذا التراثَ يمكنُ أن يجري توظيفُ شيء من عناصره الحيَّة لإعادة بناءِ رؤيَّة ميتافيزيقيَّة للتوحيد، تحمي حياةَ أهل الأرض وعيشهم المشترك من رؤيَّة علم الكلام القديم للتوحيد، التي تحتكرُ الخلاصَ والنجاةَ في الدنيا والآخرة بمن يعتقد بها خاصة، وتحرّر المسلم من آثار ما ينتجه هذا الاحتكارُ من فشلٍ لجهود العَيْش المشترك في وطنٍ واحدٍ بين المختلفين في المعتقد.
نقرأ في مؤلَّفات التصوف المعرفيّ ما لا نقرأه في غيرها من تراثنا، فهذه المؤلَّفات أنتجت رؤىً لم تتقيَّد في تراثنا بمنطق التَّفْكِير العقائديّ الانحصاريّ للمتكلمين، الذي يختزل النجاةَ بمن يؤمن بمقولات فرقته الاعتقاديَّة. بعضُ الرؤى في التصوف المعرفيّ يمكن أن تصير منطلقات لما يتطلَّبه عصرُنا من فهمٍ للدِّين ينبثق من رسمِ صورةٍ لله يضيئها الحقُ والخيرُ والعدلُ والإحسانُ والرحمةُ والمحبةُ والجمالُ والسَّلام. ولا أظن أننا، خارج إشراقات صورة الله هذه، نستطيع أن ننتج تديُّنًا يداوي جروحَ أرواح شبابنا الذين اختنقوا بتديُّنٍ متوحشٍ، ويحمي مجتمعاتنا من القتل العبثي، وينقذ أوطاننا من الانهيار.
يصعبُ جدًا وربما يتعذَّرُ الاعتمادُ على بعض مفاهيم ابن عربي وأمثاله لبناء رؤيَّة توحيديَّة تنفتح على المختلف في المعتقد، لأن مقولات الفِرَق الاعتقاديَّة شديدة الرسوخ في تراثنا وواقعنا اليوم، وتغذّيها باستمرار شبكات مصالح متنوعة. مضافًا إلى تسلُّحها بالمواقف التكفيريَّة المضادة، إذ كان الشيخُ محيي الدين بن عربي ضحيَّة العشرات من فتاوى التكفير، وكُتِبت عِدَّة مؤلَّفات في تكفيره، فمثلًا ألَّفَ برهانُ الدين البقاعي: “تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي“، وأفتى أبو زرعة ولي الدِّين العراقيّ في المسألة الحاديَّة والعشرين من فتاواه المكّيَّة: “لا شَكّ في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شَكّ فيه، وكذلك فتوحاته المكّيَّة، فإن صح صدورُ ذلك عنه واستمر إلى وفاته، فهو كافر مخلَّد في النار بلا شَكّ”. وتضجّ مؤلَّفاتُ خصوم محيي الدِّين بمختلف الاتهامات له، ولا تتردَّد بتكفيره، على الرغم من أن آثاره وأمثاله تخلو من تكفير أي أحد مهما كان موقفه مناهضًا له وللعرفاء.
ما ألَّفه هؤلاء المتكلمون والفقهاء من ردود على محيي الدِّين بن عربي كتبوه بلغةٍ غريبةٍ على لغة النظام المعرفيّ الذي يكتب فيه، وانطلقوا من رؤيَّة ميتافيزيقيَّة للتوحيد على الضدّ من رؤيته، ونقدوه بمغالطاتٍ لا تفكّر بمنطقه الخاص، وناقشوه بطريقةٍ لم تستوعب طريقةَ تفكيره. قرأتُ كتابات لمتكلمين وفقهاء يجادلون محيي الدٍّين بكلماتٍ لا تشترك مع كلماته إلا باللفظ، ولا تنطق بمعجمه ومصطلحاته الدقيقة. مصطلحات محيي الدين وأمثاله خاصة، لا يصحّ الدخول عليها ومحاكمتها بلغةٍ تتنكَّر لها، وإن كانت تشترك معها لفظًا، غير أنها غريبة عنها مضمونًا. أحيانًا المصطلحات والكلمات المشتركة في معجم محيي الدِّين تختزن دلالات على الضدّ مما يستعملها المتكلمون وغيرهم في مؤلَّفاتهم.
بعض كتابات محيي الدين والعرفاء فاضتها لغةُ القلب، لغةُ القلب واحدةٌ في الأديان. العرفانُ يتحدثُ لغةً واحدة، جوهرُ الأديان يتكلمُ لغةً مشتركة تغذّيها الحياةُ الروحيَّة. الكتابةُ بلغة العرفان ناطقةٌ بأسرار القلوب، عندما يتكلَّمُ القلبُ تصمت كلُّ اللُّغات. تكمُن أهميَّة لغة الحلاج والنفري ومحيي الدِّين بن عربي وجلال الدِّين الروميّ وأمثالهم من العرفاء في أنهم يتكلَّمون لغةَ الإيمان الحُرّ، هذه اللغةُ عابرةٌ لكلِّ المعتقدات. الإيمان الحُرّ يتكلَّمُ لغةً واحدة يتجلَّى فيها المضمونُ المشترك للأديان، المعتقدات تتكلَّم لغاتٍ متعارضة وأحيانًا متهافتة.
عَلاقةُ الإيمان بالاعتقاد عَلاقةٌ عضويَّة تفاعليَّة تبادليَّة، بمعنى أن الإيمانَ يولد في فضاء الاعتقاد، ويكون من جنسه، فلو كان الاعتقادُ حُرًّا ينتجُ عنه بالضرورة إيمان حُرّ، ويوفِّر هذا الإيمان مناخاتٍ يكتسب فيها الاعتقادُ مزيدًا من الانفتاح والحُريَّة. وكما ينشأ الإيمان الحُرّ في فضاء الاعتقاد الحُرّ، تتطوَّر معتقداتُ الحُريَّات والحقوق في فضاء إيمان الحُريَّة، في حين تترسَّخ في فضاء إيمان الاسْتِعْباد معتقداتُ العبوديَّة.
العقلُ الكلاميّ يُنتِجُ معنى للدِّين على شاكلته، لذلك يعجزُ هذا العقلُ عن إنتاج معنى روحيّ وأخلاقيّ وجماليّ للدِّين كما نقرأه في آثار العرفاء. رؤيَّة المتكلِّم للوجود تختلفُ عن رؤيَّة العارف للوجود، لكلٍّ منهما لغتُه في التواصُل مع الوجود والحضور فيه والتعبير عنه. قلبُ العارف يسافرُ في عوالِم الميتافيزيقا ويغترفُ من إشراقات الأنوار الإلهيَّة، ويتحدَّث عنها بلغةٍ لا تبوح بها إلا أسرار القلوب، وإن كانت هذه اللغة لا تبدو منطقيَّة على وفق منطق تَّفْكِير المُتكلِّم.
معادلةُ إنتاج معنى لوجود الإنسان وحياته ملتبِسة لدى المُتكلِّم، ينشأ الالُتِبَاسُ من اختلال التوازن بين متطلبات العقل والروح والقلب وتعارضها. تحقيق التوازن صعب جدًا، أحيانًا يكاد يكون متعذّرًا، في مجتمعٍ قلما يحضر فيه التَّفْكِير العقلانيّ النقديّ. متطلبات الروح كثيرًا ما أطاحت بتَّفْكِير العقل وحُجَجه، وطالما كانت أشواق القلب على الضد مما يهتدي إليه العقل. ينهار التوازن حين يغرق الإنسان في متطلبات الروح ويُعطِّل العقل، وقد ينتهي ذلك إلى الغرق في اللا معقول والخرافة، وهو مصير سقط فيه كثيرٌ من المتصوِّفة. حين ينسى الإنسانُ متطلبات الروح والقلب ينتهي إلى اغتراب وشعور مرير بوحشة الوجود.
العقلُ هو المرجعيَّة في إصدار أي حكم على أيَّة قضيَّة في الدِّين والدنيا. الأديانُ والمقدَّسات تتضخَّم في المُتخيَّل باستمرار، لا يضع هذا التضخُّم في حدوده إلا العقل. يظلُ العقلُ هو المرجعيَّة الوحيدة في اكتشاف المُتخيَّل وبيان حدوده وآثاره.
أودّ تذكير كلّ من يهتم بالكشف عن القيم الروحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة المُلهِمة في ميراث المتصوفة إلى أني نبهتُ أكثرَ من مرةٍ إلى أن تراثَ التصوُّف سيفٌ ذو حدَّين، وذلك يفرض على الباحثِ أن يتنبَّه للثغراتِ المختلفة في كُتُب المتصوِّفة، والوهنِ الذي يتغلغل في طياتها، وأن يتعاطى بيقظةٍ مع آثارهم، فهي اجتهاداتٌ بشريَّة وليست نصوصًا مقدَّسة.
على الباحث في التصوف أن ينتبه إلى أن تراثَ المتصوفة لا يمكن استئنافُه كما هو في عالَمنا اليوم، لأنه كأيّ تراث آخر صنعه البشرُ ينتمي للأفق التاريخي الذي وُلِد فيه، وهو مرآةٌ للعصر الذي تكوَّن فيه، إذ ترتسمُ في هذا التراث أحوالُ ذلك العصر ومختلفُ ملابساته وشجونه. وهو تراثٌ يتضمَّن كثيرًا من المقولاتِ المناهِضة للعقل، والمفاهيمِ التي تعطِّلُ إرادةَ الإنسان وتشلّ فاعليتَه، وتسلبه حُريَّة العودة إلى عقله واستعمال تَّفْكِيره النقديّ.
بعضُ أنماط التَّرْبيَّة الروحيَّة في التصوف تتنكَّرُ للطبيعة الإنسانيَّة، فتسرف في ترويضِ الجسد، باعتمادِ أشكالٍ من الارتياض يكون الجسدُ فيها ضحيَّة الجوعِ والسهرِ والبكاءِ والعزلةِ والصمتِ، وممارسةِ بعض التمارين القاسيَّة العنيفة لترويض الإنسان. هذه الأساليبُ من أهمّ أركان تَّرْبيَّة السالِك لدى أغلب الطُرق الصوّفيَّة. لا يطيقُ الإنسانُ التقشُّفَ الشديد والتنازلَ عن معظم الاحتياجات الأساسيَّة للجسد، ولا يتحمَّل الإكراهَ القسريّ لطبيعته على ما لا تُطيقُه. التنكُّرُ لهذه الاحتياجات أحدُ منزلقات التَّرْبيَّة لدى كثيرٍ من المتصوِّفة والرُهْبَان في كلِّ الأديان، وقد كانت وما زالت سببًا لانشطار شخصيَّة بعض هؤلاء واضطراب سلوكهم. الارتياضُ العنيف الذي يتنكَّر لاحتياجات الإنسان الجسديَّة والنفسيَّة والعاطفيَّة والعقليَّة، طالما فرضَ على المتصوف الانسحابَ من المجتمع والانطواءَ على الذَّات، وأحيانًا أنتج أمراضًا نفسيَّة وأخلاقيَّة مزمنة.
الأركانُ الأربعة المعتمَدة في الطريقة الأكبريَّة مثلًا، هي: (الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر). هذه الأركان تقودُ الإنسانَ للانطواء على الذَّات، والانسحاب من الحياة والعزلة، شاء أم أبى. ابنُ عربي يستغرق في تأويلات تفصيليَّة لكلِّ واحد منها، فهو يشترط مثلًا أن تكون الخلوةُ للسالك مختلفةً عن طريقة الرُهْبَان المسيحيين والبراهمة، لكنا لا نفهم كيف يعتزل المتصوِّفُ الناسَ في خلوته، وينشغل بالصمت والجوع والسهر، من دون أن تكون تلك رهبنة. أليس ذلك الاختلافُ شكليًّا، ولا يعدو إلا أن يكون اختلافًا في التسميَّة فقط؟ يتحدَّث أحمد بن سليمان النقشبنديّ عن سبعٍ صيغ للأذكار في طريقة ابن عربي، وهي: “لا إله إلا الله” تكرر 1100 مرة، “الله” تكرر 100000 مرة، “هو” تكرر 90000 مرة، “حي” تكرر 70000 مرة، “قيّوم” تكرر 90000 مرة، “رحمن” تكرر 95000 مرة، “رحيم” تكرر 100000 مرة. يحتاجُ الإنسانُ إلى تفرغٍ ووقت وطاقة هائلة لتكرار الكلمات والعبارات نفسها آلاف المرات، بشكل أقرب للميكانيكي الذي قلّما يلامس القلب. تكرارُ هذا النوع من الذكر لا أظنه الطريقَ لوثبة الروح، ولا أخاله يعملُ على إيقاظ القلب. وثبةُ الروحِ وإيقاظُ القلبِ يتطلبان كثيرًا من التدبُّر الصامت والهدوء والطمأنينة، والتفكُّرِ في خلق السماوات والأرض: “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”. لا يُنكَر أن تكرارَ الكلماتِ والعبارات ذاتها بأنغام وألحان وإيقاع جماعي مثير، يمكن أن يُشعلَ المشاعر، ويوقِدَ العواطف، ويُلهِب الحماس، وربما يبعثُ شيئًا من الانشراح. إلا أن ذلك لا يوازي ما تورِّثه هذه الفعاليَّة من إهدارٍ لوقت الإنسان، واستنزاف لطاقته، وتعطيل لعقله، وإغراق تفكيره في حالة غَيْبُوبَة.
هذا النوعُ من الانصراف عن الحياة المجتمعيَّة ينتهي إلى منفى اختياري، لا يتناسبُ إلا مع حياة رهبان يعيشون عزلةً عن الناس، لا يستمعون في عزلتهم إلّا لصدى أذكارهم. يستسلمون لتعاليم جاهزة تستنزفُ طاقتَهم، لا يفكرون في آثارها، ويغفلون عن ضياعهم في الانهماك فيها. لا يتناسبُ هذا الانخراطُ في العزلة مع حياة الإنسان الذي يهمُهُ إعمارَ الأرض والعملَ والبناء والإنتاج، ويتعارضُ مع مَنْ ينشدُ العَيْشَ في الواقع الذي يضجّ بمختلف التحديات والمشاكل والآلام. ولا يتقبَّله مَنْ يتحمَّلُ مسؤوليَّة أخلاقيَّة تجاه الإنسان وقضاياه العادلة، ولا يتخاذلُ أو يتهرَّبُ من وظيفة الاستخلاف في الأرض، وتسخيرِ الطبيعة واستثمارِ مواردها فيما ينفعُ الناس.
التشديدُ على تقليد أقطاب التصوف في سلوكهم، والحثُّ على تقمُّصِ حياتهم الخاصة، والوقوع في أسرِ تعاليمهم يمسخُ الإنسانَ فيصيّره كائنًا شبحيًا، يفتقد أيَّة ملامح شخصيَّة يختصُ بها ويتميزُ عن غيره. تصوُّفُ الاسْتِعبَاد يؤكِّدُ على الاستسلامِ والسمعِ والطاعة، والتخلّي عن الإرادة الذاتيَّة. الطاعةُ بهذا الفهم تعني انقيادَ الإنسان ورضوخه وخضوعه الكامل للشيخ، وتنازله عن ذَّاته وحقوقه وحريَّاته، وقد يصلُ ذلك إلى استعداده للتنازل عن كرامته. ربما يوصي بعضُ شيوخ التصوُّف المريدَ بشيءٍ من الممارسات المبتذَلة مما يستبشعها الذوقُ السليم. بعضُ الطُرق الصوفيَّة ترى التنكيلَ بالنفس ضرورة تربويَّة للسالِك، حتى لو لجأ للتسوّل والتسكُّع في الطرقات.
شيوخُ التصوف بشرٌ تورَّطَ مريدوهم في تقديسِ آرائهم، وتوثينِ سلوكهم، وتحويلِ شخصياتهم إلى أصنامٍ. تمادى المريدُ في سجن نفسه بعبوديَّة طوعيَّة لشيخه، وتعالتْ تعاليمُ الشيخ في وجدان الأتباع فصارت سجنًا لهم، بنحوٍ صار المريدُ يرضخُ لها حدّ محو شخصيته ونسيان ذاته، وانتهت إلى تكبيلِهم وعجزهم وشلِّ حركتهم. المشكلةُ العميقة في تصوف الاسْتِعبَاد أنه يبرع في نحت أوثان البشريَّة، بنحو صار جلالُ الدِّين الروميّ المتخيَّل مثلًا في وجدان الكثير من أتباعه وثنًا. هنا انقلبت وظيفةُ التَّرْبيَّة في التصوُّفِ، فأضحت تنتج عُبَّادًا لأوثانٍ بشريَّة. الله يدعو إلى التوحيد، وألا نتخذ أحدًا من دون الله إلهًا، ولن نعبد سواه أبدًا. “إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”.
حتى عبادة الله يمكن أن تتحوَّل إلى صنمٍ يَسْتَعبِدُ بعضَ المتصوِّفة. سُئِل أبو يزيد البسطامي: “ما لنا نعبدُ اللهَ ولا نجدُ لذةَ العبادة؟ قال: إنكم عبدتم العبادةَ، ولو عبدتم اللهَ لوجدتم لذةَ العبادة”. ميكانيكيَّة العبادة، والإسرافُ في تكرار الأذكار باللسان، والولع بالكم، وانفصال القلب عن اللسان يعبث بروح الإنسان، وربما يكون أثرُه عكسيًّا يُهشِّم الإنسان.
يتعاملُ المريدون مع شيخ الطريقة بوصفه صنمًا، لذلك تنطفئ شعلةُ أرواحهم، ويمسون رقيقًا لا يمتلكون شيئًا من ذاتهم. يصادر مشايخُهم حُريَّاتِهم، ويتسلَّطون على حياتهم الخاصة أحيانًا، ويحاولون التحكُّمَ بتفكيرهم وعواطفهم وسلوكهم. بمهارةٍ يبتكر شيوخُ بعض الطُرق عملياتِ تدجينٍ للأتباع، يتنازل فيها المريدُ لهؤلاء عن حُرياته طوعًا، ويسمح لهم بالتسلُّط على كلِّ شيءٍ في حياته. هنا تنقلب وظيفةُ التصوُّف، فبدلًا من أن يكون امتلاكًا للذَّات عبر وصالها بالحقّ، والاستغناء عن كلِّ شيءٍ سواه، يتعرَّض المريدُ إلى انسحاقٍ مُهينٍ للكرامة أمام مشايخ الطُرق.
تصوُّف الاسْتِعبادِ يعني أن يتطوَّعَ الإنسانُ بوضعِ كلِّ شيءٍ في حياته تحتَ وصايَّة شيخِه. هذه بدايَّة محوِ الذَّات الفرديَّة، وإنتاج نسخ متماثلة من المتصوِّفة، تظهر متطابقةً في الخارج، تتشابهُ في كلِّ شيءٍ كأنَّها روبوتات. نشأ تصوُّفُ الاسْتِعباد من إساءةِ فهمِ وتطبيقِ معاني القضاءِ والقدرِ، والتوكُّل والتسليم لله، والصبر وتحمُّل الألم، وغير ذلك من اعتقاداتٍ أنتجتْ تعطّيلَ إرادةِ المتصوِّف، وشلَّ فاعليته وحركته، وغفلتَه عن استعمال عقله، وتقييدَ حُريَّة تفكيره النَّقْديّ، وجعله إنسانًا مُسْتَلَبًا رَاضِخًا.
تضخُّمُ الصورُ المتخيَّلة في ذهن المريد يعمل على تنازله عن كلِّ شيءٍ في حياته لشيخ الطريقة، وإذْعَانِه وانْقِياده وخضوعه له مختارًا. متخيَّلُ المريد لا يكفُّ عن ابتكارِ المواقف الخارقة والأحوالِ المدهشة والهالةِ المقدَّسة للشخصيَّة الروحيَّة الاستثنائيَّة. يظلُ المريدُ يراكمُ الصورَ المتخيَّلة بشغفٍ، إلى أن تصلَ الصورُ المتخيَّلة حدًّا تمحو فيه الطبيعةَ البشريَّة لهذه الشخصيَّة، وتصيّرها في ذهن المريد كائنًا مجردًا من المادة وشئونها، لا تشبه في عيشها وأحوالها حياةَ الناس في الأرض بشيء. الصورُ المتخيَّلة تتوالد باستمرار، كلُّ صورة تولِّد صورةً أوسع منها، تواصلُ هذه الصورُ تمدّدها وتوليدها لصورٍ أخرى بكثافة حتى تستبدّ بالذهن، وتنتزع تلك الشخصيَّة من عالَمها الأرضي وترفعها إلى العالَم الربوبيّ. تفرضُ الصورُ المتخيَّلة حضورَها فتأسر ذهنَ المريد وتخفي عنه الواقع. إذا تضخَّم متخيَّلُ المقدَّس توارى العقلُ النقديّ واحتجبَ الواقع. لو لم يضع العقلُ النقديّ حدًّا لتضخُّم هذا المتخيَّل يغرقُ الذهنُ في اللا معقول.
من أمراض التصوف المتأخرة تفشي التوريث من خلال الانتساب إلى مؤسِّس الطريقة، الذي يمنح الأبناءَ مشروعيَّة على أساس الدم، وإن كان بعضُ هؤلاء الأبناء بلا علم، وبلا حياة روحيَّة، وبلا ضمير أخلاقيّ يقظ. مثلًا المولويَّة لم يتوقفوا عند جلال الدِّين الروميّ الذي صار معبودَهم، بل انصاعوا لسلسلة من أحفاده وذريته، ممن أضحى بعضُهم لا ينتمي لجلال الدِّين إلا بالدم. تفشَّى هذا المرضُ الروحيّ والأخلاقيّ في حياة المريدين، إلى الحدّ الذي أضحى يصعبُ شفاءَ أكثرهم منه.
بعد أن صارَ النسب معيارًا محوريًا في توريث زعامة طُرق التصوف، لم يكترث الأحفادُ كثيرًا بالتعليم الدينيّ، ولم ينفقوا جهودَهم باستيعاب التراث والتوغلِ في حقوله المتنوعة الواسعة، كما فعلَ العرفاءُ من أسلافهم. أهملوا دراسةَ آثار محيي الدِّين بن عربي، مثل كتاب فصوص الحكم وغيره، ولم يهتموا بدراسة مثنوي جلال الدِّين الروميّ، والنظر فيه بتفْكِيرٍ وتأمُّلٍ دقيق، ولم يستلهموا وثبته الروحيَّة اليقظة. استبدلَ الأحفادُ تقاليدَ التعليم الدينيً الرصين بالانشغال بالأنساب وغيرها، والإعلاءِ من قيمة النسب وترسيخِ مكانة الانتماء بالدم، بوصفها بديلًا مجانيًا عن العلم والعمل والتقوى. الأنسابُ وغيرها من موضوعات ربما تبدو شكليَّة، غير أنهم يدركون تأثيرها السحري في إثراء رصيدهم المجتمعي، وانقياد المريد الأعمى لهم، وتكريس سطوتهم على حياته.
كما انشغل بعضُ أحفاد مؤسِّسي الطُرق الصوفيَّة ببناء التكايا والخانقاهات والزوايا، بدوافعٍ في أغلبها ليست روحيَّة ولا أخلاقيَّة ولا إنسانيَّة. دوافعُ تشبه بناءَ المساجد لدى أكثر الخلفاء والسلاطين والحكَّام المُسْتَبدين، الذين يبحثون عن مشروعيَّة دينيَّة. الطاغيَّة صدام حسين انشغل ببناء المساجد المدهشة سنوات الحصار المريرة، وهو يتفرَّج على المَشاهِد المريعة لموت أطفال العراق، وانتهاك كرامة المواطنين وتجويعهم بسبب مغامراته وحروبه الطائشة. كلُّ سُّلْطَةٍ تفتقرُ إلى مشروعيَّة الأرض تسعى لاستعارتها من السماء.
_____
*المصدر: المحطة.
*المصدر: التنويري.