المقالاتفكر وفلسفة

النقد التأسيسيّ وتحرير قلعة المعرفة

المعرفة

لا أزال أتذكَّر حيرتي أمام مدرِّستي، في المرحلة الإعداديَّة، أنا اختلف معها في فكرة حول الإسلام؛ المساواة  والرِّقّ، أجابتني بكل بساطة: “ما زلتَ صغيرًا لتبدي رأيك”. وكأنَّ التعبير عن المواقف، والمساهمة الشخصيَّة، تنتظر “النضج”، أو الكهولة، للإفصاح عن وجهة النظر، ويمكن قياس ذلك على منظومة التعلُّم في مختلف مراحلها بأنها تبني “الآلة الحافظة”، والطالب المنضبط الذي يحفظ ويُعيد إنتاج ما تعلَّمه دون زيادة أو نُقصان، وتخلق ذاكرة تستنسخ المعرفة، وتتعاطى معها تعاطيًا ميكانيكيًّا، فالمدرسة لا تنحت مهارة أساسيَّة في الذهن والسلوك، وهي ملكة النقد، وتنسيب القضايا والمفاهيم، وهو ما يتنافى مع الثقافة المنهجيَّة والمفهوميَّة السائدة في حقول المعرفة المختلفة، وتتعارض مع قيم البحث التي ترسَّخت في عديد المقاربات النظريَّة، والتربويَّة، والفلسفيَّة. يمكن القول إن الفلسفة الحديثة هي التي أسَّست النقد كرؤية ومنهجيَّة، انطلاقًا من منهجيَّة الشكّ الديكارتيّ ونقد إيمانويل كانط العقل كأداة، مبرزًا من خلال تشريح العقل النظريّ، والعقل العمليّ، مجموعة من المقولات التأسيسيَّة للفكر، والأخلاق، وصولًا إلى نيتشه، الذي اعتبر أنَّ النقد مثل المطرقة تهوي على القديم فتهدمه.

  • استرجاع الذات وتأسيس النقد في المعرفة الإنسانيَّة:

ولمَّا كان النقد حركة  لولبيَّة غير متوقِّفة، فإنه لا يمكن التفكير في المعرفة الآن، وهنا، وفي عالمنا، إلَّا انطلاقًا من نقدولدت الحداثة مع فلاسفة الأنوار وتشكَّلت ملامحها خلال حقبة التصنيع المكثَّف وارتبطت إرهاصاتها النظريَّة ببروز نظام صناعيّ، ومنظومة اجتماعيَّة تعاقديَّة أكثر ثباتًا، وكلاهما قائم على عقلانيَّة تامَّة، وفي قطيعة مع الحقبة السابقة حيث كانت تسيطر اليقينيَّات المطلقة، وتجسَّدت الحداثة في عقلنة كل المظاهر العلميَّة والتقنيَّة والإداريَّة. ففي مجال العلوم قطعت مع المعارف الحَدسيَّة، وانخرطت في مناخ/ ابستمولوجيا الاختبارات العلميَّة، ومن ثمَّ نمت الطريقة التجريبيَّة، المؤسَّسة على محكَّات الموضوعيَّة والتكميم. أفضى هذا المناخ الابستيمي إلى إقصاء الذات، وإعلان موت الشخص، كما عبَّر عن ذلك “فوكو”، ولعل ذلك ما جعل “مأساة الحداثة” أنها” “نمت بمقاومة أحد نصفيها؛ أي مطاردة الذات باسم العلم” (1)، وأنَّهُ لكي ينتصر العقل والعلم، يجب التفريط في فكرة الذات، وتهميش جوانبها الشخصيَّة والشعوريَّة. يمكن القول أن طرائق التفكير في عالمنا العربيّ – الإسلاميّ تنتمي إلى عالم نظريَّات المعرفة التقليديَّة، حيث الحقائق جاهزة، والمعارف لا تتغيَّر، وأن المعرفة حالة قارَّة وليست عمليَّة متطوِّرة.

ديكارت” أنَّ الحقيقة الوحيدة التي يمكن نحن البشر التأكُّد منها هي التي “نستطيع فعلها أو تكوينها”، وأنَّ محكّ الحقيقة وقاعدتها هي ما يصنعه الإنسان بذاته،  بمعنى  في “قابليَّة الإنجاز”، أو” قابليَّة الإنشاء”. 

يبيِّن تتبُّع إنتاج المعرفة، أنَّ الخطأ ليس مجرَّد نقص، وأنَّ الجهل ليس مجرد فراغ معرفيّ كما كانت تقول نظرية المعرفة التقليديَّة، “فالمعرفة لا تصدر عن الجهالة كما ينبثق النور عن الظلمة، بل هي حصيلة جهد مقاومة العوائق الابستمولوجيَّة” (2). فالمعرفة المعاصرة تدين فكرة الحدس الأوَّل القائمة على فكرة المباشرة أو أن للأفكار طبائع مطلقة، وأنَّ النقد هو الأصل في تطوُّر المعارف الحديثة، وعُدَّ كلّ خطاب في المنهج العلميّ دومًا مجرَّد خطاب ظرفيّ. العقلانيَّة الكلاسيكيَّة، وإبراز “تحوّلاتها” وتطوّرها، لتقوم على الحوار بين العقل والتجربة، وترفض الانطلاق من مبادئ قبليَّة، أو ربط الفكر بالمعطيات التجريبيَّة فقط. كشفت عمليات النقد أنَّ الخطأ لم يعد عيبًا، بل أصبحت كل معرفة تتكوَّن “كمجموعة من أخطاء تمَّ تعديلها” (3)، فكلّ حقيقة جديدة تولد من رحم القديم وتتجاوزه وتبنى عليه، إن المعرفة فعل مراكمة وتفاعل ونقد؛ فالأفكار الجديدة أو التجديديَّة لا تولَد من العدم بل هي وليدة إعداد منهجيّ ونظريّ، وأنَّهُ لا يمكن قيام موضوعيَّة، إلَّا إذا تمَّ التخلُّص من الأفكار التي تقتصر على الملاحظات الأوليَّة، فقد بلغت المعرفة مستوى أصبحت فيه الموضوعات العلميَّة ما يصنعه الإنسان لا أكثر ولا أقل. وبيَّن “فيكو” في كتابه “خطاب في المنهج ضدّ. 

أثبتت الفيزياء المعاصرة، أنَّ فكرة التقيُّد بقواعد معيَّنة لتوجيه العقل فكرة متناقضة، لأن الانسان ملزم بإعادة النظر وبصورة دائمة في المفاهيم التجريبيَّة، فالعلم بالمعنى الباشلاري يتحدَّد بمقدار رفضه لماضيه كما يتحدَّد بمدى تماسك مفاهيمه، ويرى أنَّ  كلَّ (خطاب في المنهج) لن يكون دائمًا، إلَّا خطابًا ظرفيًّا ومؤقَّتًا ولا يشكِّل بناءً نهائيًا للتفكير العلميّ، ولذا فهو يتحدَّث عن “ابستمولوجيَّة لا ديكارتيَّة”؛ بمعنى أنَّهُ ينقد فكرة البساطة والوضوح والتمييز. 

لا يمكن للعقل التربويّ التنويريّ، أن لا يدرك هذه التحوُّلات وأن لا يتفاعل مع المناخ الثقافيّ لبعد الحداثة ونقدها سلطة الحقيقة وادِّعاء “المعرفة اليقينيَّة”، ومقاربة معيار الحقيقة والممارسة العلميَّة بمحكَّات “النجاعة وليس ادِّعاء الحقيقة”، وانبنت على نبذ اليقين المعرفيّ القائم على تطابق الأشياء والكلمات، وعلى رفض الشموليَّة والنظريَّات الكلِّيَّة التي مثَّلتها الفلسفة الهيغليَّة.

  • نقد العقل المغلق وتحرير العقلانيَّة:

تعدَّدت المحكّات العلميَّة وتنوَّعت منتقلة من العقلانيَّة المفتوحة إلى الابستمولوجيا المركَّبة مشكِّلة شرط إمكان بروز عقلانيَّة تركيبيَّة، والدرس الأساسيّ من التحوُّلات المعرفيَّة تنوُّع المرجعيَّات الابستمولوجيَّة، والمغزى الأوَّليّ لتعدُّد المناهج أن الفكر الأحاديّ لم يعد مقبولًا، يُعَدُّ الفكر المركَّب منوال التفكير الوحيد القادر على الإجابة عن ثراء الظواهر وامتداداتها. فمنذ تطوَّرت تيَّارات التفكير حول طبيعة المعرفة وإعادة طرح سؤال الأسس والمعايير والقواعد والغايات، سمحت بإعادة التفكير في “وحدة العلم”(الصلبة والرقيقة) و”معرفة المعرفة” ووضعت أسس ابستمولوجيا تركيبيَّة تبلورت من خلال كتابات “إدغار موران” و”جون لوي لوموان” التي قدَّمت مؤاخذات حول إدراك المعرفة كمعطى موضوعيّ خارجيّ، وأنَّها ينبغي أن تتَّصف “بالوضوح والتميُّز والبساطة”(القاعدة الديكارتيَّة الثانية). يقابلها الفكر التركيبيّ الذي يتَّصف بأن عليه “مواجهة” أسطورة البحث عن الوضوح التامّ والشامل للكون، ويعلن “حداده” لمُثل اليقين المطلق، ويسعى لإدماج المُقصى والمنفي والمستثنى من العلم في معرفة موَّحدة، أي تحرير العقلانيَّة من اختزالها في القواعد الصارمة. وأنَّهُ إلى جانب النظام يوجد موضوعيًّا اللانظام، وأنَّ حتميَّة الظواهر لا تمنع وجود اللاحتميَّة والموضوعيَّة العلميَّة دائما ملوَّنة بذاتيَّة الباحث، ومع السببيَّة التي تأخذ الوقائع مجالا لها تتواجد الصدفة والموضوعيَّة جاعلة من إعادة إنتاج التجارب إمكانيَّة عبثيَّة. 

اهتمت الابستمولوجيا الكلاسيكيَّة “بالشموليَّة” كمنهجيَّة و”ترى الكلّ قبل رؤية الأجزاء”، فإن ابستمولوجيا التركيب تباشر الظواهر ضمن منطق الاتِّصال، ويوجد معنى الكلّ المندمج لا مجموع عناصر يمكن إحالتها بالتجزئة لمكوِّناتها، وهي لا تعطي فرصة لما هو بسيط أو لعدّ الأجزاء ولكن لتركيبها، والتركيب نسيج من مكوِّنات غير متجانسة ومترابطة وهي لا تحطِّم الحقيقة بل تنوِّع التركيب الذي تنتجه. ويبرز التركيب ابتداءً استحالة البسيط، حيث اللانظام واللا يقينيَّات يشوِّش ويربك الظواهر، وبالتالي فليس ثمَّة ظاهرات بسيطة، فكل ظاهرة هي نسيج علاقات، ولا يعني ذلك نفيًا للبسيط، بل تُعَدّ الأفكار البسيطة “فرضيات عمل” و”مفاهيم عمل” لا بُدَّ من إعادة النظر فيها باستمرار. وهو ما تحتاجه أنماط التفكير في فضائنا العربيّ في سجلّاته الفكريَّة بما فيها التفكير الدينيّ المحافظ بامتياز والذي يستنكف من مبادرات التجديد والتطوير والتحديث ويعتمد على نفس الخطوات المنهجيَّة ونفس المفاهيم، وظلَّ يراوح ضمن ما يطلق عليه العالم القديم ويتردَّد في ولوج العالم الجديد، فالتفكير الدينيّ يحتاج إلى جرعات من النقد والتنوير والمراجعات وتحريره من الخرافات والأساطير ذات الطابع التاريخيّ والتي تنتمي الى مرحلة سابقة من النظر والإدراك. ونستأنس بفكرة “باشلار” الذي يرى أنَّ الوضوح السريع “فتنة عظمى”، وأنَّ العادات الفكريَّة، والمنهجيَّة، والتحليليَّة، التقليديَّة، كانت مجدية في مراحل سابقة، إلَّا أنَّها تحوَّلت إلى “عائق  للبحث”، ولذا يقترح أنَّهُ لا بُدّ  لكلِّ معرفة من البدء بجراحة فكريَّة وعاطفيَّة، وثقافتنا في حاجة عميقة لهذه الجراحة النقديَّة.

لهذا يرفض المنهج التركيبيّ كلّ عقل مغلق، ومكتفٍ بذاته في النظر إلى الواقع وتتجاوزه، بل إنَّ النظرة التقليديَّة لعقل مطلق وثابت ليست إلا تفكيرًا فلسفيًّا “انتهت مدَّة صلاحيّته”، ويُترجم التركيب بإعادة إنشاء معرفة متعدِّدة الأبعاد تعيد الاعتبار للمعنى الضائع والروابط المقطوعة، والانفصال المطبق بين الكائن والأشياء فهي تعني الرتق والربط. وينبذ القواعد الثابتة، وإنما هناك مستويات تمكِّن من تطوير المعرفة وإثرائها، كلّ منها ضروريَّة وكلّ منها غير كافية مثلما أشار إلى ذلك الفيلسوف الفرنسيّ “ادغار موران”. 

تقترح عقلانيَّة “موران” في ثرائها “مشروعيَّة ممتدَّة” مفتوحة متمحورة حول الفعل، بتبديل ما يعرف عن العالم، فإن الإنسان يغيِّر العالم الذي يعرف، وحين يغيِّر العالم الذي يعيش فيه، فإنَّ الإنسان يغيِّر ذاته. فمجال المعرفة لا يتحدَّد بموضوعها وإنَّما بمشروعها، وبالمناهج التي تستثمرها، ذلك أنَّ الحقائق أشياء للفعل لا للاكتشاف، بل إنَّ البحوث المعرفيَّة “لا تستحقّ عناء ساعة إذا لم يكن لها سوى هدف نظريّ” (4). 

يبيِّن “موران” في  نفس السياق أنَّ نظريَّات التركيب تقدِّم دعمًا للثورة الكوبرنيكيَّة الكانطيَّة، وتثبت فعلًا أنَّه لا يوجد في فعل المعرفة ذات عارفة تجاه موضوع معروف خارجيًّا عنها، فالذَّات والموضوع، كلاهما، يحمل أثر الآخر فيه، والموضوع يختزن داخله بصمة الذَّات. لذا فنحن في حاجة إلى منهجيَّة تترجم تعقُّد الواقع الإنسانيّ والواقع التربويّ والبحث عن مداخل تجديديَّة طريفة “لبلوغ النقطة التي لا تعرفها عليك سلوك الطريق الذي لا تعرفه”. ولا يقدِّم “موران” منهجيَّة وإنما ينطلق للبحث عن منهجيَّة ولا ينطلق من منهجيَّة بعينها، وإنَّما المنهجيَّة تتكوَّن من خلال البحث ومن خلال “ذهنيَّة النهر” التي تُعَدُّ “فكرة الذات رئيسيَّة فيها”. لهذا يرفض “المفهوم-السيِّد” والخطاب الخطيّ من نقطة انطلاق ونقطة وصول، ويقرّ بالدائريَّة لفتح إمكانات أمام معرفة تفكِّرُ في المعرفة.

تحتاج ثقافتنا في المدرسة وفي المسجد إلى التهيئة المنهجيَّة بفتح العقل المطلق وتنسيب الحقائق والتخلِّي عن منطق البداهة والبسيط في تمثُّل الأفكار، والمعارف، والموروث المجتمعيّ، والتعاطي معه كمنتجات تاريخيَّة وبشريَّة قابلة للتحسين، والتغيير، والتبديل.

  • الانفتاح على المناهج الإنسانيَّة وأدواتها:

إنَّ التفكير في معقوليَّة المعرفة الإنسانيَّة أو المحليَّة لا تسمح لنا بتجاهل الاستنارة بتطوّرات العلوم الإنسانيَّة، والألسنيَّة، والفلسفيَّة، والأنثروبولوجيا، التي يمكن استثمارها لفحص فكرنا التقليديّ، والسعي إلى تحديثه ليواكب التطوّرات المعرفيَّة بالمعنى العام، ممَّا يعني ثراء الإمكانات المنهجيَّة وتنوُّع التمشيات وتعدُّد أدوات التحليل، بما يلائم انفتاح المعقوليَّات على رحابة المعرفة.

فإذا كانت المعرفة في طابعها العلميّ، والابستيمولوجيّ، تعني تكرار المعطيات، والنتائج للوصول إلى نتائج عامة متَّفق حولها، فإنَّها في طابعها التاريخيّ والمجتمعيّ، والتربويّ، والفكريّ، تجربة لا تتكرَّر، بحيث لا يمكن معاينة التجارب السابقة بنفس المقاصد، وبنفس الخصوصيَّات. ولو تفحَّصنا بدقَّة العنصرين الكبيرين اللذين يبدو أنهما أكثر تشخيصًا لابستمية التفكير الحديث، وهما: الذَّات، والعقل الموضوعيّ، فالرجوع إلى الفرد باعتباره فاعلًا ومنشئًا، لا يعني بأيِّ حال رفض النظرة العقلانيَّة، بل تكمن في أفق تفاعل ممكن وضروريّ، ومتنامٍ، بين الفرد والعقل، وبين الذاتيَّة والموضوعيَّة، وليست المسألة هنا في تفضيل هذا البُعد أو ذاك بل في جعلهما يتحاوران. فهي لم تعد تقابل بين الأشياء، بل تقيم بينها صلات وتدمجها، وتفترض بروز منهجيَّة جديدة أقلّ ثباتًا وغير مريحة، ولكنَّها واعدة بخير عميم. وبوجوب إفلات المعارف من ربقة الفكر المشوِّه والمُشوَّه معًا، وصولًا إلى نماذج تفسيريَّة مركَّبة تغذِّيها التناقضات، يبعد في آن الأقطاب المتمايزة ويقرِّب بينها في نفس الوقت الذي يجعلها تتفاعل فيه، وذلك باللعب على المصالحة فيما بينها ونسج صلات بين عناصرها المتناقضة.

ولا يتعلَّق الأمر كذلك بإرادة التجديد عن طريق القطع مع الماضي، فلم يعد أحد يحلم بتدمير الكلّ لإعادة بنائه، إنَّما يتعلَّق الأمر بتحسين النسق باستخدام المعارف الحاصلة، هذا النسق محصِّلة  لكل المعارف، وخاصيته إدماج تدريجيّ للمعارف على اختلافها، باعتبار ذلك من قبيل التصحيحات والتحسينات، ممَّا يسهم في انعتاق كلّ الاختصاصات، ويكون النسق أحسن أداء عندما يصير أكثر تركيبًا. ولا يمكن اختيار نموذج فكريّ بعينه يقضي على آخر آليًّا، ولا يمكن الإقرار بكليانية بعض النظريَّات المفرطة في القوّة، كل النظريَّات مختزلة لكن كلا منها يأتي بإسهاماته الخاصَّة، ويتَّسم هذا النسق بانفتاحه و”باللعبة” التي تبقى فيه بشكل جوهريّ، ولم يعد هناك إذًا نموذج مفروض، بل على العكس من ذلك، هناك بناءات جديدة، غير متوقَّعة تتولَّد من الحوار ومن المفاوضات المتعدِّدة. 

بمعنى أنَّ الثقافة العربيَّة-الإسلاميَّة تحتاج إلى استثمار المعطيات المفهوميَّة الجديدة لبناء مناهج تجعلنا نفكِّر بطريقة مختلفة في فهم وتفسير “عاداتنا الذهنيَّة” وتنويرها بانفتاحها على ما هو جديد ملائم ومناسب لبيئتنا دون خشية، فالانفتاح على الجديد يدعم جديد معرفتنا، والانفتاح على الحديث يقوم بتحديث أفكارنا، ويجعل قناعاتنا تنبض بالحياة وبالحيويَّة الفاعلة. من الملح إذن البحث عن أدوات فكريَّة مناسبة لمواجهة هذا الواقع المركَّب مع استعمال مكتسبات الفترة الحديثة، وهكذا فإن التفكير الراهن يحمل على نحو مميَّز علاقة وثيقة بصياغات ابستمولوجيَّة جديدة وأدوات تحليليَّة ومنهجيَّة عصريَّة. وما نودُّ إبرازه أنَّ التقليد الفكريّ صيغ من سلاسل من التناقضات والازدواجياَّت مثل العقل مقابل المادَّة والهويَّة مقابل الاختلاف والتراث والحداثة والنصّ مقابل الواقع. والعمل النقديّ ليس مجرد أداة، بل قيمة ترسّخ في التربية، ووسيلة للتنوير في الفضاء العموميّ، ومهمَّة العقل النقديّ تهيئة مناخ قبول التنوُّع، والاختلاف في الآراء والاتِّجاهات. 

وأن دور المثقَّف، أو التربويّ التنويريّ ممارسة “الفكر الضعيف” كما أسماه “فاتيمو” والذي يعني نهاية المفاهيم القصوى وبداية الكتابة الإستراتيجيَّة في وصف الظواهر والتعامل مع الخطابات والنصوص. والسعي لإيجاد الحلول لمتطلَّبات الحداثة ومقتضيات التراث الفكريّ، وإيجاد صيغة ناجعة في علاقة المعارف المحليَّة والخاصَّة مع الثقافيَّة الكونيَّة، وابتكار آليَّات تجسير الصلات بين القديم والحديث والعبور السلس من المعرفة التقليديَّة التي تعشِّش فيها اليقينيَّات المطلقة إلى المعرفة المركَّبة التي تحرِّر فكر المجتمع والأفراد. وتتحدَّد ماهيَّة الإنسان كحرِّيَّة وكمشروع، وأنَّ الوجود الإنسانيّ يتطوَّر بمعايشة التجارب المنهجيَّة والقيميَّة الثرية في الفكر والمجتمع والمؤسَّسة، توفِّر الأرضيَّة الملائمة للإبداع والتجديد وإنتاج المعاني والقدرة على النقد والمراجعات وتدوير الزوايا، كمحمولات لا غنى عنها في الفعل التنويريّ.

ينعكس ذلك في الحقل التربويّ بإدراج جرعات تنويريَّة في المناهج والطرائق البيداغوجيَّة وتدريب الطلَّاب على أصول النقد ورفض الامتثاليَّة، وعدم الخوف من كشف المسكوت عنه أو ولوج عالم اللامفكَّر فيه، تنشئ يافعين يتميَّزون بحضور البديهة والمبادرة والسؤال بعيدًا عن كلِّ خنوع. وتجعل الطالب متيقِّظًا لكلِّ الإشارات التي تجعله يساهم في بناء المعرفة ولا يكون أداة تنفيذيَّة صماء، عبر استعمال العقل، وإدراك المشاكل ومعالجة القضايا بحسٍّ نقديّ متميِّز بعيدًا عن استجابات الحسِّ العامّ. فالتربية المدرسيَّة تفتح الأذهان بالتفاعل مع كل المكتسبات الحديثة مع الاستفادة من الأصول التنويريَّة، وتعليمه مهارات الفرز بين ما هو إيجابيّ وما هو سلبيّ وبين المفيد وغير المفيد وبين الشرّ والخير، والمطلق والنسبيّ، وهي ثقافة تمكِّنه من الشعور بالثقة، وتسلِّحه بعتادٍ فكريّ ووجدانيّ يرسِّخ فيه ملامح المواطنة الفاعلة.

_________________________________

1- TOURAINE,A, (2001), Critique de la modernité, Paris, Fayard.
2- BACHELARD.G (1937),Le nouvel esprit scientifique,؛Paris,Vrin, p8.
3- BACHELARD,G (1993),La philosophie du non, Tunis, CERES, Editions, p11.
4- DURKHEIM.E(1967), Les règles de la méthode sociologique, Paris, PUF .

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات