“عيون مها” معرض تشكيلي ضخم من حيث عدد اللوحات كان باكورة المعارض التشكيلية التي حضرتها هذا العام، وحين وصلتني الدعوة من الفنانة التشكيلية مها الذويب كنت أشد الرحال لحضور المعرض والعودة باليوم التالي للوطن المحتل، وأنا أحمل بداخلي كمًّا كبيرًا من التساؤلات عن هذا المعرض وعلى ريشة الفنانة، فالمعرض والذي كان ليوم واحد في المركز الثقافي الملكي ضمَّ في جنباته 192 لوحة تشكيلية بأساليب فنية مختلفة ومدارس تشكيلية عديدة، ولكن الملفت للنظر أن الفنانة ركزت بمعظم أعمالها على المرأة بحالات نفسية عديدة وأوضاع مختلفة، والمرأة كانت وستبقى ملهمة للفنانين التشكيليين منذ الأزمان القديمة حيث كانت المرأة حاضرة بريشة الفنانين ونحت النحاتين، وفي نفس الوقت كان هناك عدد لا بأس به من الفنانات لجأن الى المرأة من خلال الريشة وكانت المرأة تمثل أفق وفضاء إبداعهن ومنهن الفنانات نجاة مكي من الإمارات العربية وفخرية اليحيائي وحفصة التميمي من عُمان وكلودين قمر وجينا نحلة من لبنان وملاذ حمشو من سوريا وسبأ جلاس من اليمن وعائشة الفيلالي وصفاء العطياوي من تونس وفريدة عوف ومرام بهاء من مصر وأميرة أشكناني وعطارد الثاقب من الكويت وملاك العبار من ليبيا ولا أنسى الفنانة العملاقة من مصر زينب السجيني والآن الفنانة مها الذويب من الأردن والأصول الفلسطينية وغيرهن الكثير.
مها الذويب كانت المرأة هي الفكرة الغالبة على أعمالها الفنية فركزت على الوجوه في معظم اللوحات مظهرة التأثيرات النفسية المنعكسة على الوجه للمرأة في الحالات النفسية المختلفة بين المعاناة والحزن والحلم والرغبة والعري والوطن واللوحات الرمزية للمرأة، إضافة لعدد محدود من اللوحات عن المكان والطبيعة، ويلاحظ أن رسم الوجوه هو الغالب على لوحات المرأة بينما لم تلجأ لرسم الجسد إلا في لوحات قليلة، وسأتناول الجوانب التي تحدثت عنها ووجدتها في لوحات الفنانة من خلال بعض اللوحات المعبرة عن كل حالة، وإن كانت كل اللوحات تستحق الحديث عنها وتحليلها، فهي تظهر أن الفنانة تحمل من خلال ريشتها رسالة تؤمن بها وهي ضرورة رفع الظلم عن المرأة، ولكن العدد الضخم من اللوحات لا يسمح بكل الحديث في مقالات محددة بل تحتاج إلى كتاب كامل.
المعاناة: في ست وعشرين لوحةرأيت فيها اعتماد الفنانة على اظهار تعبيرات المعاناة على الوجوه، ففصلتها عن باقي اللوحات للحديث عنها تحت فكرة المعاناة للمرأة حيث نلاحظ فيها حجم المعاناة التي تعانيها المرأة في مجتمعاتها باستثناء لوحتين ظهر جسد المرأة فيها، وقد اخترت خمس لوحات منها لأتحدث عنها وهي تعبر عن معاناة مختلفة للمرأة، وإن كانت كل لوحة من هذه المجموعة المعبرة عن المعاناة تستحق التحليق بمكنونانتها.
اللوحة الأولى: كانت لوحة من لوحات المعاناة نرى فيها امرأة تصرخ بقوة وتضع أصابعها بالقرب من خديها وهناك رباط أسود يحجب عينيها، ويجعلها في ظلام لا ترى شيئا والدموع تنسكب من تحت هذا الرباط الأسود، وهو تعبير عن معاناة امرأة شابة وجميلةوقد اعتمدت اللون الأسود دلالة على العتمة التي تعاني منها، بينما نجد أن الفنانة أحاطت وجه المرأة باللون الأحمر القاني بشكل أقرب للنيران المشتعلة، وهي إشارة رمزية لما يحيط بالمرأة ويسبب لها هذه المعاناة الشديدة، بينما ينساب خطين باللون الأحمر القاني على الرباط الملتف حول العينين وكأنهما دم يسيل من جبينها، وتخلو اللوحة من الألوان الأخرى إلا بعض من ضربات بالفرشاة لألوان الأبيض والأصفر في اشارة رمزية أن إشراقة النور ما زالت بعيدة عن واقع مظلم ومؤلم تعاني منه المرأة.
اللوحة الثانية: معاناة أخرى حيث نجد أن وجه الفتاة مكمم على شفتيها وعلى أنفها بحيث أنها تحت المعاناة ترى ولكن لا تستطيع الكلام وتمنع حتى من التنفس الكامل، ومن عينيها تسيل الدموع بلون الدم برمزية كبيرة لحجم المعاناة، والغضب يظهر بعينيها وعلى وجهها، وصورة الوجه تملأ مساحة كبيرة من اللوحة وراء الأفق والجبال بإشارة لمساحة المسافات التي تمتد عليها المعاناة التي تعانيها النساء، وفي أعلى يسار اللوحة بالنسبة للمشاهد يظهر كف بلون أسود يرمز بوضوح لمن يمارسون اضطهاد المرأة من المتمسكين بعادات مظلمة تكرست عبر العصور ومن ظلاميين لا يرون بالمرأة إلا جسدًا لإفراغ شهواتهم، ومع كل المعاناة إلا أن المرأة في اللوحة كما كل من يعانين من المعاناة تعيش الحلم، فنشاهد في أسفل اللوحة أمام الجبال رأس فتاة وكأنه منبثق من بحر أو أرض بنظرة حالمة وفي رأسها فكرة لمشهد امرأة عارية تجلس على ظهر حيوان ورأسها ويديها على ركبتيها وكأنها تخشى الحلم أيضا، وفي هذه اللوحة نرى الفنانة لجأت للرمزية كثيرا للتعبير عن فكرتها مستخدمة ألوان الأبيض والأسود، مع إشارات بألوان أخرى على شكل خطوط باللون الأصفر لعلها تشير بها لبدايات اشراق بعيد يزيل المعاناة، إضافة للون الأحمر بلون الدم للدمعات المنثالة من العينين، ولون الشعر المفرح لرأس الفتاة الحالمة.
اللوحة الثالثة: لوحة متميزة رغم المعاناة بها، فهي لشابة بشعرها الطويل المتناثر ترتدي قميص النوم الأبيض، وإن كان طويلا بشكل غير معتاد كما ملابس الزفاف ذات الذيل الطويل، تدير ظهرها للهاوية على أعلى جبل في لحظة سقوط ووجهها للأعلى، وهذا يشير أن هناك من دفعها للهاوية ولم تلق نفسها، فهل أرادت أن ترمز للمجتمع الذي يلقي بالنساء في رحم المعاناة فالهاوية؟ أم أرادت بفكرتها الإشارة لما يسمى ظلما وعدوانا جرائم الشرف؟ مستخدمة قميص النوم الأبيض والذي يكشف عن ساقها في لحظة السقوط، فاللون الأبيض رمزا للطهر والنقاء وطبيعة الثوب وشكله تشير لوضع مادي معقول، والألوان المستخدمة في اللوحة كانت جميلة وابتعدت فيها الفنانة عن ألوان الدم والعنف حيث كان اللون النهدي الجميل المتموج مع الأبيض والأصفر الذي رمز للشمس خلف الغيوم وحول المرأة وكأن الفنانة تريد أن تقول: رغم كل المعاناة فستشرق الشمس من قلب هذه المعاناة.
اللوحة الرابعة: هذه اللوحة ابتعدت فيها الفنانة مها الذويب عن باقي اللوحات، فكل الوجوه في لوحات المعاناة كانت وجوه شابة باستثناء هذه اللوحة المرسومة بالأبيض والأسود، فاللوحة لامرأة في سن الكهولة تملأ وجهها التجاعيد على الجبين والخدين واليدين، ترتكز بجبينها على كفها والكف الآخر على الخد، والفم مغلق باللون الأسود والحزن يملأ قسمات وجهها، فواضح أنها عانت وما زالت تعاني منذ عقود من الزمن، فاللوحة تشير بوضوح أن المعاناة للمرأة ليست مرتبطة بفترة الطفولة والشباب فقط بل تستمر طوال العمر.
اللوحة الخامسة: وتظهر باللوحة امرأة تحمل ملامحها قسمات الجمال لامرأة في سن النضج، شعرها الأسود منسدل على كتفيها بدون اهتمام، المعاناة تتركز في عينيها بقوة ولكن بصمت، شفاه منفرجة وكأنها تريد أن تقول شيئا تروي به حكاية المعاناة لكنها لا تستطيع، ملامح الوجه تشير لمعاناة نفسية كبيرة تركت أثرها على روحها وعلى ملامح وجهها، الفنانة لجأت لممازجة اللون الأحمر مع ألوان أخرى كالأبيض والأخضر والأصفر على الوجه فأضافت للألم الظاهر بالوجه تعابير لونية كبيرة تثير تساؤل القارئ للوحة والمشاهد عن هذه المعاناة لهذه المرأة التي تمثل النساء.
في اللوحات الحادية والعشرين المتبقية من مجموعة المعاناة للمرأة نرى المعاناة في كل لوحة من اللوحات بتعابير تشكيلية مختلفة، فما بين الرمزية بمشهد الدبابير التي تهاجم وجه المرأة الجميل برمزية واضحة للمجتمع المحيط، إلى انقسام الوجه الخارجي الصارخ بقوة الى قسمين تظهر من بينهما وجه أشبه بالجمجمة وكأنها رمزية أن المعاناة مستمرة حتى الموت، وكل لوحة حملت رموزها وإن كانت الدمعات سواء بلون الدمعات الفعلي أو بلون الدم عامل شبه مشترك باللوحات إضافة للألم الشديد الذي يظهر على ملامح الوجوه المستخدمة في اللوحات، إضافة لألوان العتمة وتكرار استخدام اللون الأحمر الداكن والأسود والأبيض، ولكن في كل المجموعة نجد معاني الخوف والوحدة والألم النفسي بشكل إبداعي قوي يترك تأثيره على نفسية المشاهد للوحات.
الحزن: الفنانة مهابحثت عن طرق عديدة لتعابيرها الفنية في لوحاتهافكان التعبير الآخر الذي وجدته في واحدة وعشرين لوحة هو الحزن فوضعتها في مجموعة واحدة لقرائتها والخيط المشترك بينها والتعابير فيها، ولعلنا سنلاحظ من خلال كل مجموعة من مجموعات المعرض أن الفنانة تسعى بريشتها للتعبير عن حالات المرأة، وهي دعوة غير مباشرة للمرأة لرفض هذا الواقع والتخلص من الهيمنة الذكورية المرتبطة ذهنيا وعبر عصور بالنساء والنظرة اليهن بنظرة دونية من خلال تصوير معاناتها الداخلية بريشتها، وهذا ما سنلاحظه من خلال الحديث عن خمس لوحات اخترتها كنماذج لريشة الفنانة بالتعبير عن الحزن الذي يلف حياة المرأة.
اللوحة الأولى: في هذه اللوحة نقف أمام فتاة شابة مشرئبة العنق، جميلة الوجه وتقاسيمه وشعرها منسدل على كتفيها، لكن الحزن يطغي على وجهها فيمازج الجمال بالحزن والألم، ويظهر الحزن جليا في عينيها بحيث يشعر المشاهد أن الدمعات ستنثال بين لحظة وأخرى، ويلاحظ أن الفنانة استخدمت ممازجة وصهر لألوان الوجه مازجت الأحمر بتدرجاته بالأصفر والأبيض، مما أضاف شحوبا على وجه الفتاة وأضافت هالات داكنة حول العينين تشير للتعب والألم وقلة النوم مما ضاعف من الحزن على قسمات الوجه، والفنانة جعلت الجانب الأيمن بالنسبة للمشاهد داكن اللون من خلال شعر الفتاة، لكن التناظر على الجانب الآخر كان بين الأحمر والبرتقالي وتوشيحات صفراء مما يشير من خلال الألوان الحارة لحجم المحيط الذي يسبب لها كل هذا الحزن مع قلة الانفراجات فيه.
اللوحة الثانية: امرأة تعيش الحزن بصمت في لوحة مرسومة باللون الأسود على خلفية من مشتقات اللون البرتقالي الموشحة بالأصفر يمنح اللوحة كآبة تزيد على الحزن حزنا، تضع المرأة الشابة يدها تحت ذقنها وتظهر في حالة كبيرة من التفكير والسرحان، اتقنت بها الفنانة تعابير الحزن الصامت.
اللوحة الثالثة: وفي هذه اللوحة صورت وجه امرأة من منظور جانبي والدمعات تنثال من عينيها والحزن يغمر وجهها، ولكن هذه اللوحة أظهرت سبب الحزن ففي قلب دماغها رسمت الفنانة السبب، فهناك شخص قرر الفراق ويقف على صخرة في البحر في قلب الماء بصمت وظهره للفتاة، فقد يكون مفارقا أو مهاجرا وهو الأغلب فأفق المشهد أمامه احتوى اللون الأصفر والنجوم البراقة، ينظر اليها غير عابئ بمن خلفه تاركا الفتاة بحزنها ودمعاتها.
اللوحة الرابعة: وهذه اللوحة من اللوحات القليلة التي تظهر فيها الفنانة جسد المرأة وليس الوجه فقط كما غالبية اللوحات، ونقف باللوحة أمام امرأة تجلس على الأرض على ساقيها الملتفين تحتها وتسند يد على الأرض ويد على ركبتها، واضح انها ببيتها حيث الجزء العلوي من ملابسها بلون أزرق وشيالات على الأكتاف، والجزء السفلي باللون الوردي بقطعة واسعة تسمح لها بالجلوس على الأرض براحة وأمامها فنجان القهوة، مغمضة العينين وشعرها الطويل متناثر وكأن هناك عاصفة تهب عليها، والحزن يملأ قسمات الوجه، وقد اعتمدت الفنانة الخطوط لتظهر ما يحيط الفتاة ويؤدي بها إلى هذه الحالة من الحزن.
اللوحة الخامسة: وهي لوحة منجزة في أواخر 2018م باللون الابيض والأسود، لإمرأة من حجم التجاعيد على وجهها تظهر أنها كبيرة في السن، تلبس على رأسها قطعة قماش والتي تغطي نصف وجهها وعينها، ومن خلال ذلك ولباسها فهي امرأة تحافظ على التراث بملابسها، تضع يدها على خدها في لحظة تفكير واستذكار وتحمل على قسمات وجهها حزن متوارث وقديم.
ونرى في اللوحات الباقية والتي بلغت ست عشرة لوحة مشاهد مختلفة من الحزن والألم، مثال ذلك اللوحتين لنساء كبيرات بالسن بلباسهما التقليدي البدوي والفتاة التي تغطي فمها بكلتا يديها بحزن يسود وجهها، وفتيات رسمت بالفحم ممتلئة بالحزن والألم بعدة لوحات ولوحات اعتمدت الرمزية الواقعية للإشارة للحزن، وفي كل هذه اللوحات كان هناك فضاء قاتم يحيط بالوجوه وفي بعض اللوحات كان الفضاء باللون الأحمر بتدرجاته ولوحات اعتمدت قتامة اللون الأسود وخاصة باللوحات المرسومة بالفحم، لكن كان الحزن الظاهر على قسمات الوجوه هو المسألة المشتركة في هذه اللوحات في تركيبات متبينة ومختلفة، وتعابير تكشف ما يوجد في أعماق هذه الوجوه من تأثيرات نفسية مختلفة تاركا تأثيرات غامضة من الحزن والألم على الوجوه، عاكسة فكرة ورسالة التزمت بها الفنانة مع نفسها وريشتها مبتعدة عن استخدام المرأة من ناحية جمالية مجردة واستخدامها كمساحات تشكيلية تكشف الوجه الآخر الذي تحياه المرأة في مجتمعاتها بتأثير غامض وقوي في نفس الوقت على روح المشاهد والمتلقي للوحات.
وفي هذا الجزء من دراستي لأعمال الفنانة مها ركزت على المرأة والمعاناة والمرأة والحزن، وسأكمل في فضاءات أخرى في الجزء الثاني إن شاء الله لي ذلك، ولكن لا بد من الإشارة قبل أن انهي هذا الجزء أن أي عمل فني أو ابداعي تختلف النظرة والفهم له من شخص إلى آخر، فكل شخص سيرى به شيئا مختلفا عن الآخر، ولكن من وجهة نظري يبقى المفهوم العام للوحات الفنية مرتبط بإسلوب الفنان وقدرته على إدخال ما يريد من أفكار من خلال ريشته، ويبقى تفسير اللوحة معتمدا على القارئ لها فمن يقرأها يستنتج ويفهم ويحلل من خلال الخطوط والألوان والرمزيات، وربما ابتعد أو اقترب مما أراده الفنان ولكن بالتأكيد لن يتطابق معه بالكامل، مختتما قراءتي والجزء الأول منها بمقولة للمؤلف والمحاضر الامريكي برنارد مايرز: “أي عمل فني هو في النهاية لغز كبير، وفي التحليل النهائي فأي تفسير لفظي غير كاف، ولكننا نبقى في مقدمة العمل بانطباعاتنا”.
“عمَّان 25/7/2022م”
____________
*بقلم وعدسة: زياد جيوسي.
*المصدر: التنويري.