عزيزي القارئ: هل أطلب منك طلبًا بسيطًا، ركز معي ثم اغمض عينيك وراجع تسلسل يوم مشيت فيه في الشارع، هل لاحظت شيئا في وجوه الناس، خاصة الرجال ممن هم لديهم أسر، ستجد الحيرة تملأ وجوههم، اختفت البسمة والضحكة، ولك أن تقارن هذا المشهد بمثيله من سنوات ليست ببعيدة، ستجد وجوهًا إما حائرة أو باسمة أو تلقي نكتة ساخرة، ومن عقود ليست ببعيدة عرف أهل مصر بخفَّة الدم، إنَّ اختفاء النكتة في مصر والضحكة من وجوه المصريين، أمر يحتاج إلى دراسات اجتماعيَّة ونفسيَّة عميقة، هذا ما يفسِّر من وجهة نظري الموت المفاجئ في أعمار صغيرة خاصَّة لدى الشباب والرجال متوسّطي العمر، إمَّا بسبب أزمات اجتماعيَّة أو إقتصاديَّة أو نفسيَّة، فتحدث سكتات دماغيَّة أو سكتات قلبيَّة أو ارتفاع حادّ في ضغط الدم تؤدِّي إلى الوفاة، فهل نحن في حاجة إلى الضحك أو النكتة في حياتنا، في حقيقة الأمر: نعم، لأنَّها تلعب دورًا في التنفيس عن حالات الغضب في داخلنا وبالتالي تعطينا القدرة على الصمود في ظل الأزمات، أمَّا أن نكون تحت ضغوط قاسية في حياتنا اليوميَّة دون ما يرفع عنا ولو معنويًّا عبء هذه الضغوط سيكون هناك حالات انفجار داخلي ثم انفجار مجتمعي في مرحلة لاحقة، وقد تعود أسباب اختفاء النكتة في مصر إلى انتشار الخوف داخل المجتمع المصري، وهو ما يجعل الانسان حذرًا في التعبير عمَّا بداخله ولو بالنكته، هذا ما دفع فرويد عالم النفس المشهور إلى تأسيس قواعد دراسة النكتة في كتاب نشر له في عام 1905 م، ومقالة نشرت في عام 1928 م، يري فرويد للنكتة شقين: محتوى ظاهر وهو غطاء كلامي أو لغوي للتعمية على الهدف الأساسي، محتوى باطني وهو ما يضمره قائل النكتة.
النكتة قديمة فأقدم نكتة في التاريخ تعود إلى 3900 سنة عندما استخدم السومريون النكتة للتعبير عما يعانونه مع الزوجة النكديَّة، واستخدمها قدماء المصريون في حياتهم اليوميَّة للسخرية من كل شيء، حتى تأصلت روح المرح والفكاهة في الشخصيَّة المصريَّة حتى صرنا نرى أن من يطلق النكات (ابن نكتة) وهو شخص لديه القدرة على التلاعب بالألفاظ ليثير ذهول من حوله، سخر المصريون القدماء من الغزاة المحتلين مثل الفرس واليونانيين والرومان، فلم يتركوا فرصة تمر بهم دون أن يصيبوهم بسهام تهكماتهم فأطلقوا على بطليموس الحادي عشر لقب الزمار لكثرة ولعه بالمزمار.
ما هي النكتة؟
النكتة هي نقد موجه نحو شخصيَّة أو مجتمع أو عادات أو تقاليد أو سياسات، تصاغ بأسلوب ساخر أو هجاء صريح أو رسالة مشفرة يتناقلها الناس همسا أو يتداولونها في المقاهي أو التجمعات أو على خشبة المسرح. النكتة قد تكون قصة قصيرة جدا، فهي قد تتألف من جملة واحدة، وتتضمَّن أحيانا: بداية وحبكة ونهاية.
هي هنا موقف صاغة عقل جمعي مجهول بمفردات بسيطة قوامها المفارقات المكثفة التي تقع في إطار الوقائع الحياة اليوميَّة، بسخرية لاذعة تنفذ إلى الأعماق، فهل أصبح العقل الجمعي المصري مشلولا لكي لا ينتج نكاتًا تبلور الحياة اليوميَّة وتسخر منها، هذا ما يتطلَّب البحث عن المعطيات التي أدَّت لذلك، هناك بعد غائب عنا وهو أنَّ النكتة أيضا ناتجة من موروث شفهي عبر العصور تتناقله الأجيال جيل بعد جيل، لكنَّنا تجاهلنا الثقافة الشفهيَّة الموروثة على أهميتها، فصارت الذاكرة الوطنيَّة الشفهيَّة لا تخزن موروثاتها بأشكال مختلفة، هذا ما أدركه الشيخ عبد العزيز البشري حين قدَّم وصفًا لمن يستطيع صناعة النكتة على النحو التالي: (من لديه القدرة على إبداع النكتة يجب أن يكون لديه خلال منها: الذكاء اللَّماح، سرعة الخاطر، وقوَّة اللسان، والتي تقوم على دقَّة التصوير والتخييل باللسان، والعلم بأحوال الزمان والبيئة والأشخاص، وشيء من الجراءة، وشيء من قلَّة الحياء، وأخيرًا لا بد خفَّة الروح ) في مصر النكتة لها قوالب متعدِّدة منها: الألغاز، والدعابات، وتحمل رموزًا وتمويهًا وروحًا فيها تهكُّم.
فلسفة الضحك هي أبرز ما يعكس ما وراء النكتة، وقد تحمل سخرية من شخص ما بسبب عمله مثل: واحد كهربائي تجوز أربعة جابلهم مشترك، أو تعكس النكتة انحدار القيم مثل: نذل بنى مسجدًا لقي ناسًا كثيرين يروحوا يصلوا فيه قلبه مطعم.
النكتة لا تطلقها المجتمعات فقط، بل الحكَّام العرب استخدموا النكتة فروجوا نكاتا سياسيَّة تستهدف إلهاء الناس عن التفكير بوضعهم المعيشي المتردِّي وبؤسهم الحياتي وللتنفيس عن المكبوت، والنكتة السياسة تلعب أحيانا دور المهدئ للناس وأحيانا دورًا دعائيًّا لصالح السلطة وأحيانا تكون أداة من أدوات المعارضة، وهو ما شهدته مصر بصورة مكثَّفة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر حتَّى أنه كان حريصًا هو والرئيس أنور السادات على تتبُّع النكات حتى التي كانت تسخر منهما، وهذا أيضا كان ذات الوضع مع العراق في عهد صدام حسين حتى أنَّه في عام 2003 كلَّف كل من الدكتور قاسم حسين صالح والدكتور موفق الحمداني من جامعة بغداد بدراسة النكت في العراق خاصة السياسيَّة وتحليها والتي وصلت لحد لم يكن يتخيّله أحد في العراق حتَّى أنَّ أحد المسجونين في سجن أبو غريب حلم بموت الرئيس صدام حسين، فوصل الخبر إلى مدير السجن وتم استجوابه وتعذيبه وقال له (اشلون تحلم بالسيد الرئيس ميت!) ولم ينفعه تبريره ( أن الذي يموت في الحلم يعني عمره طويل ) صارت هذه الحادثة مثار عدد من النكات في العراق، لكن تحت القمع تبلَّد الأحساس في العراق فاختفت النكتة، ويرى عالم النفس العراقي الدكتور قاسم حسين، أنَّ هذا يعود إلى أنَّ حكَّام العراق ما عادوا يهتمُّون بالنكت السياسيَّة التي تقال ضدّهم لسببين: سياسي كونهم ما عادوا يخافون الشعب، وأخلاقي: كونهم اعتادوا عليها وما عادوا يخجلون.
هل في حاجة لاستعادة النكتة، نعم حتى ولو كانت لاذعة، لأنَّها تعطي مجالا ومساحة لاستيعاب الناس وتكشف عن المشكلات، هذا ما حدث مع الرئيس جمال عبد الناصر حين سمع النكتة التالية: سمع رجلا من القاهرة أن الأرز وهو سلعة صعب الحصول عليها، متوفر في الإسكندريَّة، فسافر في القطار كي يحصل على قوت عائلته، فسأله محصِّل التذاكر إلى أين تسافر؟ فأجابه إلى الإسكندريَّة لأشتري الأرز، ولمَّا وصل القطار إلى طنطا وتبعد عن الإسكندريَّة مائة كيلو متر، قال له الكومسري: انزل هنا! فسأله لماذا ولم نصل بعد الإسكندريَّة؟ فأجابه: مش إنت رايح عشان تشتري الأرز؟ انزل الآن هنا لأن الطابور يبدأ من هنا. سمع الرئيس جمال عبد الناصر هذه النكتة فسارع باتِّخاذ إجراءات لحلِّ أزمة الأرز.
كانت النكتة محل العديد من الكتب فكتب عادل حمودة كتاب “كيف يسخر المصريون من حكّامهم” ركَّز فيه على حقبة كل من الرئيس عبد الناصر والرئيس السادات ولم يتناول فيه حقبة الرئيس مبارك الذي صدر الكتاب في عهده ربما تفاديا للاشتباك السياسي، لكن النكتة كان لها أساطينها ومنهم بيرم التونسي وكامل الشناوي الشاعر المرموق، لكن أيضا دخلت مع فن المونولج على المسرح، وهو ما يستدعي مقالا آخر عن الفنون المندثرة من مصر والتي صاغت المرح في حياة المصريِّين.
*المصدر: التنويري.