المدنيَّة والدين والإحياء والوحدة.. أسئلة مرتبكة
منذ أن بدأت حركات الإحياء في العالم الإسلامي عقب سقوط دولة الخلافة العثمانية عام 1923 في الظهور، في البداية على يد جمال الدين الأفغاني ومن ورائه تلاميذه من رواد الفكر الإحيائي، وما يؤرق هذه الحركة ويحرجها في كثير من الأحيان- هو محاولات التوفيق بين ميراثها الثقافي والحضاري وبين منجزات الحضارة الغربية التي كانت في ذلك الوقت في أوج انتصاراتها السياسية والاجتماعية.
وكانت هذه المفارقة التي عايشها المسلمون بين “دولة إسلامية منهارة” و”دول غربية صاعدة” هي ما خلقت الضغط النفسي والاجتماعي الذي ولد هذا السؤال الطارئ في ذلك الوقت: هل ثمة تعارض بين منجزات الحضارة المدنية وبين الميراث الإسلامي من الناحية الدينية والثقافية، هل بإمكاننا التوفيق بين الميراث الحضاري المدني الغربي وبين ثوابت الفكرة الإسلامية اجتماعياً وسياسياً وعقدياً بالضرورة؟
ونعني بمنجزات الحضارة الغربية المدنية هنا أنظمتها الاجتماعية كالنظام الديموقراطي مثلاً بوصفه نظاماً للحكم وكنظام الدولة القومية بوصفه نظاماً لبنية الدولة والمجتمع، وكالفكرة الليبرالية بوصفها نظاماً اجتماعياً له تداعياته الاقتصادية وأصوله الفلسفية.
ولربما كان هذا السؤال في حينه هو سؤال المرحلة الأهم والأبرز، ولربما كان ضرورياً وحتمياً أيضاً، ومنذ ذلك التاريخ وإلى الآن، لا تزال عقول الأمة تحاول جاهدة الإجابة على هذا السؤال بالنفي، أي في محاولة لإثبات أنه ليس ثمة تعارض بين الفكرة المدنية الغربية ومنجزاتها، وبين ثوابت الفكرة الإسلامية، وذلك في محاولة إحيائية مهمة تطمح إلى أن تستعيد الأمة المكانة التي فقدتها بسقوط تجربة الخلافة.
لكني سأحاول هنا أن أطرح سؤالاً ربما يبدو متجاوزاً للسؤال التقليدي السالف الذكر وربما يتعارض معه أحياناً، والسؤال هو: هل نحتاج حقاً إلى ذلك التوفيق، هل نحتاج بالفعل إلى إثبات أنه ليس ثمة تعارض بين منجزات الحضارة الغربية ونماذجها وأنظمتها الاجتماعية من ناحية وبين الميراث الحضاري الإسلامي من الناحية الأخرى، أو فلنقل، هل نحن في الحقيقة ما زلنا في احتياج لأن نثبت أنه ليس ثمة تعارض بين الديمقراطية والإسلام، أو بين المواطنة والإسلام، أو بين الليبرالية والإسلام.. إلخ؟
هذه المحاولات “التوفيقية” في الحقيقة تأخذنا إلى سؤال مهم، فإذا كان الإسلام لا يتعارض مع كل هذه الأشياء، فما هو الإسلام إذن؟ أو لنقل، إذا كان الإسلام لا يتعارض مع كل هذه الأنظمة والبناءات، ماذا نأخذ إذن من الإسلام ولا نستطيع أخذه من كل هذه النظريات؟
أريد القول، إن الأمة الآن تمر بمرحلة من الإحياء تختلف إلى حد كبير عن المرحلة السابقة التي كانت تحاول فيها فقط أن تسترد توازنها بعد صدمة السقوط المدوي للدولة الأم، وأن تحافظ على أكبر قدر من الثوابت دون انفراط ربما كان من الممكن أن يصل إلى تفكك الفكرة العقدية ذاتها.
بينما ما نحتاجه الآن هو بناءات جديدة، لا تكون امتداداً للتجربة الإسلامية فحسب، بل تكون امتداداً للتجربة الإنسانية كلها، فتستفيد من منجزات الحضارة الغربية وتبني عليها، وتمضي بها إلى الأمام خطوة على درب التطور البشري الذي هو سنة كونية، لا يختلف فيها الكائن الاجتماعي عن الكائن البشري الفرد.
والنماذج المعرفية هي تلك البناءات الفكرية التي تمثل البنية التحتية للبناء الاجتماعي، وتتكوّن من العديد والعديد من الأجزاء والمفاهيم المحورية التي ربما تكون ذات مدى واسع مثل “شكل الدولة” و”وحدة بناء المجتمع”، “هوية الفرد”.. إلخ، وربما تتعلق بتفاصيل غاية في الدقة مثل “بناء الأسرة”، “نظام التنشئة الاجتماعية والتربية” و”غائية العلاقات”.. إلخ.
كل هذه المفاهيم تترابط مع بعضها في النهاية مكونة شبكة كاملة، تتسم بالتماسك والتكامل، ومن ثم تصبح جاهزة لأن يقوم عليها بناء اجتماعي كامل يختلف عن سابقه الذي قام على نموذجٍ معرفي أقدم.
وبناء هذه النماذج المعرفية لا يتم بالطبع بين يوم وليلة، وإنما يحتاج ربما إلى عقود من التجربة والتنظير والمحاولة، وكثير من الخبرة المتراكمة حتى يتكامل البناء المعرفي في النهاية ويبدأ المجتمع في استخدامه كأساس للحياة، يدخل فيها من أكبر التفاصيل الاجتماعية والسياسية إلى أصغرها، فيتغير بذلك شكل الحياة في هذا المجتمع ومن ثم يكتسب دفعة للحركة في اتجاهٍ آخر.
والنظريات ابنة سياقاتها الاجتماعية، كما تعلمنا في العلوم الاجتماعية، فالنظريات الليبرالية على سبيل المثال، بما تحمله من نموذج معرفي يتمحور حول “الفرد” هي ابنة للسياق الذي نشأت فيه، أي السياق الغربي برصيد إشكالياته وتجاربه، وهو أمر يتفق أو يختلف عن السياق العربي والشرقي ولذا فلا نستطيع أن نقول إننا بصدد “توفيق” بين النظرية الليبرالية والمجتمعات الإسلامية، وأنما نحن بصدد “إعادة بناء” للمفهوم والنظرية، مستندين إلى رصيد مختلف وطبيعة مختلفة من الإشكاليات.
وما أريد أن أضيفه هنا، هو أن السياقات الاجتماعية تختلف أيضا بين الدول العربية والإسلامية ذاتها، فكثيرون يحاولون التأكيد على فكرة أن المجتمعات العربية والإسلامية هي نماذج متشابهة أو بينها القدر الأعلى من المشتركات، وهو زعم في تقديري يحتاج إلى الكثير من التفنيد وإعادة النظر، ولا يشكك ذلك من إمكانيات هذه المجتمعات للوحدة أو التعاون في المستقبل، وإنما لا يكون ذلك بالتمني.
فلا يمكننا تناول مسألة “الوحدة” بين الدول العربية/ الإسلامية في تقديري إلا من خلال نفس المنظور الخاص بالنماذج المعرفية، فإذا ما نجحت الأقطار الإسلامية المختلفة في ابتكار نماذجها المعرفية الخاصة التي تتخطى الإشكاليات الحضارية القائمة لديها- والتي تختلف من إقليم لآخر- ومن ثم تقود عملية دينامية للتغيير، نستطيع حينها أن نتحدث عن خطوة تالية تتمثل في تقريب هذه النماذج المعرفية والبناءات الاجتماعية بشكلٍ فعال بحيث تعزز المشتركات وتفكك النقاط المتشابكة، ومن ثم يكون لدينا مشروع حقيقي لما يمكن أن نسميه “وحدة”.
ولا يعني ذلك أن مشروعات الوحدة تقف فقط عند “بناء” ثم “تقريب” النماذج المعرفية للأقطار المتنوعة، وإنما يحتاج بعد ذلك أيضا إلى توفيق المصالح الاقتصادية والسياسية للدول، حتى تكون الوحدة مشروعاً ذا جدوى لأطرافه، لا حلماً وردياً في الفراغ.
ومن ثم- وإذا كان حلم التكامل بين أقطار أمتنا الإسلامية واستعادة وحدتها وموقعها على الخريطة العالمية لا يزال يقودنا- فأعيد التأكيد على وجوب انتقالنا من مرحلة “التوفيق” إلى مرحلة “البناء” لأنظمة ونماذج معرفية جديدة تشمل جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وأيضا الدينية.
فإن كنا نتحدث عن “أعادة البناء” فبديهي إذن أن نبدأ بإعادة النظر؛ أعني إعادة النظر إلى “التجربة التاريخية الإسلامية” في البداية، ونقدها والتحرر من عقدها ومكبلاتها دون التورط في الدفاع عنها وكأنها جزء من الثوابت العقدية.
ثم إعادة النظر للتجربة الثقافية للأمة ونعني بالثقافة هنا القيم والأفكار المركزية المحركة للمجتمع، ونقدها بجرأة والفصل بين أجزائها المتعلقة بالمصدر العقدي الأصيل- القرآن الكريم- وأجزائها المتعلقة بالموروث الاجتماعي للجزيرة العربية وغيرها من المناطق التي دخلها الإسلام وتفاعل مع أهلها وأفرز أشكاله الثقافية المختلفة والمتنوعة بتنوع المجتمعات.
ومن ثم نحرر النظر إلى “الإسلام” بوصفه عقيدة ونظاماً قيمياً وبين “التجربة الإسلامية” بوصفها تجربة بشرية تاريخية وسياسية واجتماعية، وهو ما يعني إتاحة الفرصة أمام إعادة إنتاج التفاعل بين “الإسلام” و”المجتمع” الحديث بكل ما يحوي من تحديات واحتياجات، ومن ثم “إعادة بناء” النماذج المعرفية كما أسلفت.
ولا بد أن نؤكد أيضاً على أن ذلك لا يعني “إنكار” منجزات الحضارة الغربية أو “التنكر” لها، بل على العكس، فهي جزء من الواقع الذي ندعو إلى التفاعل معه ومحاورته، لكن ما ندعو إليه هنا هو ألا يقف عقل الأمة عند محاولات التوفيق المرتبكة، ويتخطى ذلك إلى محاولات أكثر جرأة “لإعادة البناء” تستفيد فيها من جميع التجارب السابقة دون عقد تدفعنا للتورط في “التنكر” لإحدى التجارب و/ أو “التستر” على عورات أخرى حتى لو كانت تجربتنا نحن.
ومثلما قامت الحضارة الغربية الحديثة على منجزات عربية وإسلامية في مرحلة سابقة، فلا حرج ولا ضير بالمرة أن تنطلق النهضة العربية والإسلامية اليوم على أرضية من المنجزات الغربية، فبهذا تكتمل دورة البناء الحضاري الإنساني، وتتقدم البشرية إلى الأمام خطوة أخرى تحقق بها سنة من سنن الله في كونه وهي “التقدم” و”التطور” لهذا الكائن النسبي الضعيف العنيد، ذلك المتجه بروحه دائما نحو الارتقاء.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) صدق الله العظيم. الانشقاق 6.
*المصدر: التنويري.