الدولة: حلّ أم مشكلة؟
نشأت الدولة – بمعناها الحديث -في أوروبا كحلّ لمشكلةٍ قائمة، وهي مشكلة الاستبداد الكنسيّ والإقطاعيّ، حيث خلقت سلطة الكنيسة في مقابل سلطة الدولة إشكاليَّة “ازدواجيَّة السلطة” التي كانت تشطر وعي الفرد المواطن بين الولاء للدولة وقوانينها، والولاء للكنيسة وتشريعاتها، ولذلك كان تفويض السلطة بكاملها للدولة، كجهة مدنيَّة تستمدُّ سلطتها من الشعب مباشرة، حلًّا يفتح الباب أمام تطوّر المجتمع والدولة على كافة المستويات.
يقول جان جاك روسو: “وبما أنه وجد أمير وقوانين مدنيَّة دائما، نشأ عن هذا السلطان المضاعف وتصادم الحاكميَّة في الدول المسيحيَّة تعذر كل سياسة صالحة، ولم يوفَّق الناس قط لمعرفة أي الرجلين يلزمون بطاعته: السيِّد أم القسيس؟ […] وكانت لمحمد آراء صائبة جدًّا، فقد أحسن وصل نظامه السياسيّ، وذلك أن ظلَّ شكل حكومته باقيًا في عهد خلفائه، فكانت هذه الحكومة واحدة تمامًا، وصالحة إلى هذا الحدّ”[1]
كما يلاحظ روسو، لم يكن سياق نشوء الدولة في المنطقة العربيّة والإسلاميَّة مماثلا لما رآه في أوروبا، فالدولة في السياق الإسلاميّ كانت تنفرد تقليديًّا بالسلطة، ولا تنازعها أي مؤسّسة دينيَّة على ولاء الأفراد، وبالتالي لم تكن المشكلة التي تحدَّث عنها روسو – والتي جعلت من نشوء الدولة الحديثة في أوروبا حلًّا -قائمة في سياق دولة المسلمين تاريخيًّا.
ولكن ما تحدَّث عنه روسو بوصفه امتيازًا لدولة المسلمين، كان – من زاوية أخرى -مشكلة بحدِّ ذاته، فانفراد الدولة بالسلطة لم يكن بالضبط بسبب تحرّرها من سلطة المؤسّسة الدينيَّة، ولكن لأنها كانت تختزن بنفسها سلطة المؤسَّسة الدينيَّة ذاتها، أي أنها كانت تختزل في داخلها سلطتين لا سلطة واحدة، فقد كانت الدولة – ممثّلة في شخص الحاكم -تحمل صلاحيات الدولة السياسيَّة وصلاحيّات المؤسّسة الدينيَّة كذلك، ولذلك كانت سلطاتها مضاعفة[2]. وقد أدَّى هذا التضخّم في صلاحيّات الدولة إلى ضمور فعاليَّة “المجتمع” بما هو كيان مستقلّ وفاعل في مواجهة الدولة.
المجتمع المدنيّ
والوعي بفعاليّة “المجتمع” ككيان له وجود مستقلّ ومفارق للدولة، هو ما تطوّر لاحقًا في التجربة الغربيَّة تحت عنوان “المجتمع المدني”، بما هو إمكانيَّة المجتمع لتطوير آليّات وكيانات خاصَّة به بإمكانها التدافع مع الدولة لتحقيق مصالح وأغراض عامَّة.
بينما على مستوى تاريخ دولة المسلمين، مثّل “تدافع” المجتمع مع الدولة، “نزاعا” على شرعيَّة السلطة، وليس “تدافعًا” مقبولا بالمعنى الإيجابيّ، وبالتالي واجهته الدولة بشكل عنيف في أغلب الأحوال دفاعًا عن شرعيّتها ووجودها[3].
وفي أعقاب سقوط دولة الخلافة، سقطت المنطقة بكاملها في قبضة الاستعمار الأوروبيّ، وهو ما أدّى إلى نشوء كيانات سياسيَّة تتَّخذ من الناحية الشكليَّة شكل الدولة القوميَّة الحديثة، لكنها تفتقر إلى كل مقوماتها تقريبا، وخاصَّة في علاقتها بالمجتمع الذي لم تكن تمثّله بأي حال، ولا تستمدّ سلطتها منه، وبالتالي استمرَّت في صراعها معه حفاظًا على البنية الشكليَّة “للدولة”، بينما يحتفظ المجتمع بأبنيته الاجتماعيَّة التقليديَّة القبليَّة والعرقيَّة، والأهمّ من ذلك، انفصال مؤسّسة “الفقه” كنظام قانونيّ تقليديّ أصبح متاحًا للجميع –دون أي معالجة لدوره في بنية الدولة الحديثة- وبالتالي عدنا إلى نقطة الصفر التي تحدَّث عنها “روسو”، بحيث صارت الدولة تشرّع القوانين من ناحية، بينما من ناحية أخرى تتحدّث تيارات “الإسلام السياسيّ” عن تشريعات “إلهيّة” تتبنّاها بنفسها وتسعى لتطبيقها، وبالتالي عاد وعي الفرد/المواطن مشطورًا بين ولائه لقانون الدولة، أو ولائه لقانون “الإله” الذي يتحدّثون عنه!
كل هذه السياقات أدَّت في نهاية الأمر إلى عجز المجتمع عن إفراز آليّات مستقرَّة للتعبير عن مصالحه بالتوازي مع، أو بالشراكة مع الدولة.
وبطبيعة الحال، تختلف الظروف الراهنة نسبيًّا من دولة إلى أخرى في المنطقة العربيَّة، فالسعودية وإيران على سبيل المثال، أعادتا توحيد السلطتين في سلطة واحدة، وبالتالي انغلق الأفق تقريبا أمام التيارات الاجتماعيَّة للتعبير عن ذاتها بواسطة كيانات مستقلَّة ذات فعاليَّة، بينما دول مثل المغرب والأردن لا تظهر فيها هذه الإشكاليَّة بنفس الوضوح، ودول مثل مصر والجزائر تمتلك دولًا قديمة وراسخة نسبيًّا لكنها تمتلك في نفس الوقت حساسيَّة مفرطة تجاه منازعة السلطة من أي طرف معارض، وخاصَّة الأطراف التي تمتلك خطابًا دينيًّا، وبالتالي تلجأ للقبضة الأمنيَّة في الغالب للحفاظ على وجودها ضدّ “التهديد” القائم. وليس هناك أوضح من مثالي العراق وسوريا لتوضيح الإشكاليَّة، حيث تفكَّك الوضع تمامًا إلى أبنيته التقليديَّة بمجرَّد سقوط الدولة!
ولذلك، لا يمكننا في المنطقة العربيّة أن نتحدَّث عن “مجتمع مدنيّ” حقيقيّ كذلك الذي تعرفه الدول الغربيّة، فالسياقات مختلفة تمامًا، والإشكاليّات كذلك مختلفة، فبينما تستمدّ “الدولة” في الغرب قوّتها من نضوج وتطوّر الكيانات الاجتماعيَّة التي تمنحها الشرعيَّة، تستشعر “الدولة” في المنطقة العربيَّة تهديدًا كامنًا في هذا النضوج ذاته، وبالتالي تقاومه، لكن هل تستطيع الدولة الاستمرار في هذا المسار لوقت طويل؟ والأهمّ من ذلك: هل يعني ذلك أنه لا توجد أي مساحة فعالية للمجتمع على الإطلاق يمكنه العمل من خلالها؟
التعليم
تقليديًّا، اعتبرت الدولة أن احتكارها للتعليم هو أحد أهمّ وسائلها لتثبيت دعائمها وترسيخ الثقافة الخاصَّة بها، لكن ذلك لم يمنع المجتمع من خلق قنوات تعليميَّة خاصة به لتمرير ثقافته على تنوّعها، فالكتاتيب والطرق الصوفيَّة على سبيل المثال كانت تمثِّل تاريخيًّا بيئة تعليميَّة مستقلَّة نسبيًّا عن الدولة، يستطيع المجتمع من خلالها تمرير ثقافته بعيدًا عن قبضة الدولة، طالما نجحت هذه القنوات في تجنّب الصدام السياسيّ، وطالما نجحت في تحييد المناطق الفكريَّة التي يمكن أن تؤدّي إليه، وهي مناطق وإن كانت محدودة بسقف الدولة، إلا أنها كانت فاعلة لفترات طويلة من الزمن.
وتحت الضغط الطبيعيّ للحداثة، لم تعد الأشكال التقليديَّة من التعليم كافية للوفاء بمتطلّبات المجتمع، واعتمدت المجتمعات الشرقيَّة الشكل “الحديث” من التعليم المدرسيّ، وإن بقي بذاته هو محلّ النزاع بين “الدولة” التي تريد دائمًا احتكاره، وبين “المجتمع” الذي يطمح إلى سقف أعلى من سقف الدولة.
هذه المقابلة بين نزوع الدولة للاحتواء، ونزوع المجتمع للتجاوز، ازدادت حدَّة بعد الثورة المعلوماتيَّة الحديثة التي جعلت من غير الممكن إبقاء وعي الأفراد بعيدًا عن التطوّرات العالميَّة، وبالتالي وضعت كيان “الدولة” في المنطقة أمام تحدٍّ وجوديّ هائل، تجسَّد في موجات الربيع العربي، وهو ما لم تستطع “الدولة” مقاومته في البداية، لكنه ما لبث أن تراجع فزعًا من تداعيات التفكّك الاجتماعيّ الذي أظهر على السطح المشكلات البنيويَّة العميقة لمجتمعاتنا، وهي المشكلات التي تجد “الدولة” فيها مبررًا لوجودها على كل علّاتها واستبدادها المعروف، وبالتالي استطاعت الدولة في أعقاب الربيع أن تحتفظ مجدّدًا بكيانها الهشّ، إلى حين!
التعليم…مرَّة أخرى!
يظهر من العرض السابق إذن عدَّة أمور، أوّلها أنَّ الإشكاليَّة المركّبة في المنطقة بين الدولة والمجتمع، لا يمكن اختزال حلّها في “التغيير السياسيّ”، لا عبر الثورة، ولا عبر الانتخابات، فجوهر الإشكال يقع خارج الدولة في الحقيقة، وإن كانت الدولة تمثِّل أحد أوجهه القبيحة، لكنها ليست جوهره، وإنما فقط أحد أعراضه.
يكمن الإشكال في بنية الثقافة المعاصرة للمسلمين ذاتها، وفي مفاصلها الرئيسة[4]، أي في مفاهيم مركزيَّة مثل “القانون”، “العلم”، “الآخر”، “الإيمان”…الخ. تحمل بنية الثقافة الدينيَّة المعاصرة للمسلمين تعريفات لهذه المفاهيم ما تزال تنتمي إلى بنية اجتماعيَّة تراثيَّة، يعزّزها الخطاب الدينيّ، والخطاب السياسيّ على السواء، تضع الفرد المسلم في مواجهة مباشرة مع الحداثة، باعتبارها مناقضة “للدين”، ما ينتج عنه أسئلة مبدئيَّة – وشائعة مع الأسف-مثل: هل الديمقراطيَّة حلال؟ هل نظريَّة التطوّر حرام؟ هل يمكننا تعليم أولادنا الفلسفة؟ إلى آخر هذا النوع من الأسئلة، التي تجعل اللحظة الراهنة للوعي المسلم متوقِّفة عند لحظة تاريخيَّة سابقة على الحداثة، متوجِّسة من اقترافها باعتبارها خطرًا على “المسلّمات”، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على آداء المؤسَّسات التعليميّة، الرسميَّة منها وغير الرسميَّة، حيث تصطدم هذه المؤسَّسات بالثقافة ذاتها -إن لم تكن تصدر عنها في الأساس -وبالتالي تبقى دائرة التعليم مفرغة، لا تستطيع الخروج بوعي المتعلِّم خارج نفس الصندوق، إلا واصطدم بالمجتمع، أو بالدولة، أو كليهما.
مربط الفرس
وبالتالي، لا يمكننا الحديث عن دور فعّال للمجتمع المدنيّ في التعليم، دون أن يكون في صلب هذا الدور مواجهة الإشكاليَّة الرئيسة في عمق ثقافتنا، وهي إعادة تعريف المفاصل الأساسيَّة للثقافة الدينيَّة، وبناء ثقافة بديلة يمكنها أن تمضي بهذه المجتمعات خارج هذه الحلقة المفرغة من الصراعات، وهو ما يضع عبئًا مضاعفًا على الفاعلين الاجتماعيّين في هذا المجال.
فهذا الجانب من دور المجتمع المدنيّ – أعني جانب التجديد الدينيّ -لا يقع تحت البنود المتعارف عليها دوليًّا للمجتمع المدنيّ – مثلا لا يقع ضمن أهداف الأمم المتّحدة السبعة عشر للتنمية المستدامة -وبالتالي تصبح مهمّة الفاعلين الاجتماعيّين الراغبين في مواجهة هذه الإشكاليَّة من مؤسّسات المجتمع المدنيّ في المنطقة مهمَّة في منتهى الصعوبة، حيث لا يقفون فقط في مواجهة الدولة والمجتمع، ولكن منقطعين كذلك عن مساندة المجتمع المدنيّ الدوليّ الذي لا يدرك محوريّة هذا الجانب من الفعل الاجتماعيّ المطلوب في المنطقة[5]، ويركِّز جلّ اهتمامه على الأوضاع الإنسانيَّة والمادّيّة الملحَّة، كالجوع والفقر والتلوّث، أو مسائل تقع في مناطق فوقيَّة من التحديث – كالمساواة وحقوق المرأة- دون النظر إلى جذورها الثقافيَّة التي تؤسِّس لها. وحتى عند مناقشة قضايا مثل التعليم، ينصرف ذلك عادة إلى تعليم القراءة والكتابة للقطاعات المحرومة منها، بينما لا يرتقي النظر إلى إشكاليّة اكتساب “المعرفة” العلميَّة والحديثة وما يصطدم بها من مفاهيم ثقافيَّة محليَّة.
وبالتالي يبقى الرهان على المبادرات المحلّيّة والإقليميَّة، التي تتبنّى خطابًا تنويريًّا، بأدوات تعليميَّة ذكيَّة وفاعلة، وهي المعادلة التي لم تنضج بعد بالقدر الكافي في المنطقة، حيث تبقى كل محاولات التجديد الدينيّ حتى الآن، مشتغلة إما في مساحة الفكر النظريّ والبحث الأكاديميّ، وهي مساحة على أهمّيتها لا تجد لنفسها طريقًا للدخول إلى وعي الفرد العاديّ، أو مشتغلة – بإشراف الدولة في الغالب-في منطقة “تجديد الخطاب” الدينيّ، وهي مساحة سطحيَّة تمامًا، تعتبر أنّ حلَّ المشكلة يكمن فقط في تغيير “طريقة التقديم” لنفس المادَّة التي يتمّ تقديمها للمسلمين عبر مئات السنين.
[1] روسو، جان جاك (2013). العقد الاجتماعيّ. مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة. القاهرة. صفحة 165 [2] وذلك على المستويين السنيّ والشيعيّ، وإن كان على المستوى الشيعيّ يتَّخذ شكلا أكثر صراحة. [3] ولا يعني ذلك أن استبداد الدولة خاصيّة إسلاميّة حصرا، ولكن يدور الحديث هنا في سياق محدّد، وهو سياق تطوّر آليّات اجتماعيّة مقبولة للتدافع مع الدولة، وهو ما انتهى بالمجتمع الغربيّ – بعد الكثير من الصراعات بالتأكيد -بالقبول بمبدأ سيادة الشعب، وتطوّر النظام الديمقراطيّ، وهو المبدأ الذي لم يتمّ قبوله بالكامل حتى الآن في غالبيَّة الدول العربيَّة والإسلاميَّة، ما جعل الدولة الحديثة مشروعًا لم يكتمل حتى الآن في هذه الدول. [4] للمزيد حول إشكاليَّة الثقافة ودور الدولة والمجتمع، يرجى مراجعة مقال “من يصنع المعلِّم: لغز البيضة والدجاجة” للكاتب، في العدد الأول من مجلّة التنويريّ. [5] أو هو لا يستطيع مقاربة هذا الجانب لأسباب واعتبارات سياسيَّة في الغالب.*المصدر: التنويري.