الفَوائدُ العلميَّة والأدبيَّة في كتابِ الحيوان، ودورها في تنمية ملكة الطِّفل
تعليم الأطفال
لَطالَمَا اُقترنت الأبحاث العلميَّة والأدبيَّة في مجال الطفل بما تُنتجُه العقول الغربيّة حَصرًا، ممّا أدّى إلى عُسرٍ في التّلقين والتَّعليم، وذلك نتيجة اختلاف العوامل البيئيَّة والثقافيَّة بين النَّص المرادِ تدريسهُ والمتلقي المشخَّص في الطفل العربيِّ.
عَدا عن الاِختلالاتِ المنهجيّة التي يتعرَّض لها، والتي سَتُؤثِّرُ مُستقبلا عَلَى مهاراتهِ في القِراءة، والتَّعبير والإنشاء وكَذا التَّفكير العلميِّ الرّصين، وبناءً على ذلك أضحَى اللُّجوء إلى الكتبِ التراثيَّة مع العملِ على تيسيرِ مضامينها، وتطويع لغتِها للتَّجاوب مع الفئاتِ العمريَّة المستهدفة، مِن أفضلِ الحلولِ الممكنة لترقيةِ ملكة الطفل العلميَّة والنّقدية.
يُعدُّ كتاب الحيوان للجاحِظ نموذجا ملائِمًا بإمكانهِ تلبية حاجيات الطِّفل العربيِّ، نظيرَ موادهِ التَّعليميّة اللَّطيفة وأسلوبه الماتع، وغزارة مواضيعهِ التي ترقى لأن تكون في محور الدِّراسات التربويَّة المعاصرة.
فَهو يختزل الأنواع الحيوانيَّة بناء على تفريعات وتقسيمات دقيقَة، يُنصح أن تُتَّخذَ كخريطة ذهنيَّة تُعين الطِّفل على ترسيخ مكاسبهِ العلميَّة القيِّمة، فيقول: “والحيوان على أربعةِ أقسام شيء يمشيّ، وشيء يطير، وشَيءٌ يسبح، وشَيء ينَسلِخ”[1] .
يتيح هذا التَّفريق تشيط مدارك الطفل لاِستيعابِ الخلافاتِ بين الأنواع، ومحاولة البحث عن الأجناسِ الحيوانيَّة التي تنضوي تحت كلِّ تصنيف، فتتوسَّع بذلكَ معارفهُ الثقافيَّة، وتمتدَّ ذاكرتُه الموسوعيَّة.
ويعقدُ الجاحظُ المقارنات بين الإنسان والحيوان بطرائق منهجيَّة حصيفة، حتى يتبيّن للطفل مكمن التَّفاضل بينهمَا فنراه في هذا الصدد يقول: “فالجميع ناطقٌ إلّا أنّ الحيوانَ لا يُفهمُ إرادتهُ من نُطقهِ، إلَّا نوعِ جِنسِهِ، أمَّا الإنسان مهما اِستخدم من لغةٍ غير لغتهِ، وإرادتُهُ مفهومةٌ للنّاطقين بِلغتهِ أو بغير لُغتهِ”[2].
هنا تتَّضحُ للطفل منزلة الإنسانِ في كونِ لغتهِ أصوات مقصودة، تنمُّ وعيٍّ وإرادة، بِخلافِ الحيوان الذي يُرسل أصواتًا بينَ الفينةِ والفينةِ تلبيةٍ لغرائزهِ واحتياجاتهِ في الأكل والشُّربِ والتَّكاثر، ولربَّما كانت هذه الأطروحة سابقة زمانها فهي لا تكادُ تحيد عمَّا جاءت به المدارس النّفسيّة الحديثة.
كما يُحرِّض الجاحظ القارئ على توخي المُلاحظة لأنّها مدخلٌ رئيس في البحث العلميّ:فالنَّاسُ مَثَلًا سَمَّت الأرض إمَّا مواتًا أو جمادًا إذا كانت لم تنبت قَديمًا”[3]، كذلك الإنسانُ يموت مجازًا إذا عجزَ عن إنتاجِ ما يُفيدُ بهِ مُجتَمَعهُ.
أفلا تكونُ هذه الملاحظة كفيلة بأن توقِدَ في الطِّفل مَلكةِ الرَّبط بين ما هو حسيِّ ومَا هوَ مجرَّد وهذَا للوصولِ إلى الحقِيقةِ من زواياها العلميَّة المختلفةِ.
ومنَ الرَّقائقِ الجميلةِ في هذا الباب “أنَّ العربَ كانت تطلق على الثّور أمير النَّحل، لأنَّ البقر تُطيعُهُ كطاعةِ إنَاثِ النَّحلِ لليعسوبِ”[4].
نفهم من ذلكَ أن هذا الكٍتابَ إنَّما ألف لإشَاعةِ المعرفةِ وتنشيطِ العقولِ على طرقِ العلومِ ولو بوسائِل تقليدية لأنَّها إذَا عمَّت في دورِ التعليمِ ومجالسِ التّلقين لاصطفينَا من هذا المجتمع نُخبًا قادرة على إدارةِ معتركاتِ الحياةِ.
والطفل أحوج في مدرستِهِ إلى تعليمهِ فنون التفسير، كي يَتسنَّى لَهُ الإجابة بِرويَّة على الأسئلة اليوميّة التي تعترضه، فَلننظُر في هذا السِّياق كيفَ تمَّ صياغة الإشكالِ على بداهتهِ: مَا سببُ اختيارِ اللَّيل للنّومِ؟
من شأنِ هذا التّساؤل أن يحفِّز الطفل لمُحاورةِ كونِهِ الفَسيحِ، وكَسرِ حاجزِ الصَّمت من خلال تنشيط مخيِّلتهِ علَى إطلاقِ الأجوبة المتنوعَةِ بمنحاها الفلسفيِّ والعلميِّ والدِّيني.
لعلَّ النموذج الذي قدَّمه الكتاب لهو أقدرُ على إرشادِ الطفلِ لِحاجتهِ، لكن دونمَا أن نَسلبَهُ حريّة النَّقد، فالنّاس للنوم ليلا إنَّما لوازعينِ:
. لأنَّ اللَّيلَ كانَ من طبعهِ الركودَ والبردَ والخثورةَ.
. لأنَّ اللَّيلَ موحشٌ، مخوف الجوانبِ منَ الهوامِ والسِّباعِ”[5].
توليِّ الإجابةُ أوليةً للمقصد الصحيِّ والأمنَ النفسيِّ، وعبر هذا المنوال بِاستِطَاعةِ الطِّفلِ نسجَ طرائقَ كلاميَّة تُشبعُ حاجياتهِ التَّعليميَّة.
وقد يُسرُّ المتعلِّمُ بقصص الجاحظِ لو تمَّ مُعالجَتُهَا في شكلِ سردياتِ لَطيفةٍ، ولها مَا يُقابِلها من ألوانِ طيفيَّة وصورِ تشكيليَّة عاكسةِ للمحتوى، ذلِكَ أنَّها تراعيِّ اللَّطافةَ البلاغيَّة والفائدةَ العلميَّة كما جَرى في هذهِ المسرديَّة الجميلةِ: مَن علَّم النَّسر الأنثَى إذَا خافت علَى بيضِها منَ الخفَافيشِ، أن تفرشَ ذَلكَ الوكرَ بورقِ الدَّلبِ حتَى لا تُقربُهُ الخفافيشِ وهذَا أَعجَب”[6].!
تتَّجِهُ البِنية الحاكيَّة إلى إثارةِ مخيِّلةِ الطفلِ بعديدِ الأسئِلةِ الشائكةِ التي تُغذيِّ فيهِ البحثَ والتَّدبر عن القوانينِ الكونيَّة الخفيَّةِ، التي تُديرَ مملكةَ الحيوانَ، وعن الذَّكاء الذي يتهادى إلى أنثى النِّسر كي تقمعَ خطورة الخفافيشَ، إنَّها بلا شك متواليَّة معرفيَّة بأنفاسِ حكائيَّة ترسِّخ في عقيدةِ الطفل بأنَّ وراء كلِّ أعجوبةِ حيوانيَّة خالقٌ مُسيِّر لهذا الكونِ العَجيب.
كما أن من شأنِ هذهِ القَصصِ أن تذكِّي في الطفلِ الملاحظةَ، وتقييدَ الوقائعَ العلميَّة من واقعهِ التَّجريبيِّ وكذَا الرغبةَ في اكتِشافِ ما يحيطِهُ من عوالم طبيعيَّة بَاهرة.
ومِن الشَّواهد العلميَّةِ البديعة التي يذكرها الجاحظ أنَّ حيوانَ “الأيلَ” إذا التهمَّ الأفاعيِّ، وبعدَ برهةٍ من الزَّمنِ شعر بوجودِ السمِّ يغليِّ في حلقهِ طافَ حولَ الماء ولم يشربِ فما العلَّة من ذلكَ يا ترى؟، هذا ما سنراهُ في تعقيبهِ الآتيِّ: وقد علَّمهُ عطبهُ بذلِكَ، ذلِكَ لأنَّ السُّمومَ تجريِّ مع هذا الماء، وتدخُلَ مداخلَ لم يكن الطَّعامُ بِنَفسِهِ لِيبلُغُها”[7].
هنا تتعزز قدرةُ الطفل على التَّحليلِ والاستنباط وربطِ المُقدِّماتِ بالنَّتائجِ، فحرارةِ السمِّ في حلقِ الأيلِ سبَّبت لهُ عطبًا جزئيًّا، ما دفعهُ لأن يستنكفَ عن شربِ الماء لأن السُّم يجري معهُ في الأوعيةِ الدمويَّة، فيعمَّ العطبُ في الجسدِ كُلِّهِ ويكونَ بالتَّالي حتفهُ بيدِهِ، إنه ولا شك تَطبِيبُّ ذاتيِّ غرزهُ الله في هذهِ الكائناتِ.
قد يَتأتَّى للطِّفلِ في ضوء هذهِ المشاهدةِ العلميَّة، فهمَ قاعدة كبرى، وهي أن لا اِجتماع لنقيضيِّنِ في حيِّزِ واحد، أو بالأحرى كلِّ داءٍ مردُّهُ اختلاط باردٍ مع حارِّ، والأعجبَ أنَّ التَعليماتِ الطبيَّة المعاصرة تمنعُ على المصابين بنزيفٍ داخليِّ شربَ الماء لكونِ الدّم مركَّب من خلايا الدّم البيضاء والحمراء، بالإضافةِ للصَّفائح الدمويَّة وهي كلُّها تتواجد ضمن سائل بروتيني يسمى البلازما، ولو مَنحنَا المصاب الماء على شُعورهِ بالعطشِ “فإنَّ ذلك سيُؤدي إلى حدوثِ تحلُّل دمويِّ نتيجةَ التَّمدُّد ما يعزِّزُ فرضيَّة الموتِ”[8].
ويجري في كتابِ الحيوان جملة من التَّجاربِ العلميَّة التي تؤكد أن الوسط البيئيِّ هو خيرُ علاجِ للحيوانِ إذا اعتراهُ الدَّاء، ومن ثمَّ فإنَّ ما عَلى الإنسانَ إلا استتباعُ تلك الطُّرقِ التي يَتَداوى بِها الحيوان أملًا في الحصولِ على مُستخلصاتٍ عشبيَّة تَقيهِ غوائل الأمراضِ والأوبئةِ فمثلا: “القنفدُ وابنُ عرس إذَا نهشا الأفعى والحياتِ تَعَالجَا بأكلِ عشبةِ الصَّعتر”[9].
إنَّ هذهِ المتواليةَ المعرفيَّة على فَرادتِها، فإنَّها تَرفع من مُستوى الإدراكِ لدى الطفل، بحيثُ يقتفي أثر هذهِ النبتةِ في محيطهِ لبيانِ لونِها وتجريبِ طعمهَا، ثمَّ تَحثُّهُ التَّجربة على مساءلةِ أجدادهِ حولَ فوائدِ تلك العُشبة، ولماذَا مَازالَت حاضرةً في المطبخ وتقدَّم كتوابل صحيَّة تعطِّر عديد الأكلاتِ الشَّعبيّة، وتتوسَّعُ المساءلة حتى تطالَ الأسرة بأكمِلها، كأن تجيبُه شقيقتُه مثلا وهي المختصَّة في علومِ التَّغذية بأنَّ الصعتر يحتوي على معادنَ نفيسة كالبوتاسيوم والمنغنيز تساهم في حمايةِ القلب، حيثُ يعملُ البوتَاسيوم على توسيعِ الأوعيةِ الدَّمويَّة، الأمر الذي يُقلِّلُ الضَغط على نِظامِ القلبِ.
وتتيحُ بعض الملاحظاتِ في الكتاب للطفل بأن يعرفَ الفروق البيولوجيَّة بينَ مختلفِ الحشراتِ والكائِناتِ المجهريَّة وفي هذا السياق يستوقِفُنا الجاحظ على مقارنةِ عجائبيَّة بين خرطومِ البعوضة والذُبَابَةِ:
وللبعوضةِ خرطومٌ يشبهُ الفيل، إلَّا أنَّ خرطومَها أجوف فإذَا طَعنَ بهِ في جوفِ الإنسانِ والبهيمةِ فاستَقَى منهُ الدَّم من جوفِهِ، فقذفَت بِهِ إلى جوفِها فهو لَها كالبلعومِ والحلقومِ، وللذُّبابةِ خرطومِ تُخرجهُ إذا أرادت الدَّم وتُدخِلُه إذا رويَت”[10].
بإمكانِ المعلم عبر هذهِ المقارنة تحقيق عديد المكاسب المعرفيَّة للطفل، نذكُر منها:
1/ تنبيهُ الطِّفل بالنِّظام البيولوجيِّ الذي غرزه الله في هذه الكائنات، من خِلالِ هندسة الخرطوم وتكوينهِ العجائبيِّ وخصائصهِ المتماثلِة في الفيلِ والذُّباب والبعوضِ.
2 / إلحاقِ هذهِ الملاحظة بالتجربةِ العلميَّة في المخبر للتَّدليلِ على براعةِ العربِ في الفحصِ والتَّحليل والتصنيف، بالرَّغم لافتقادهم آنذاكَ الوسائل العلميَّة المتطوِّرة كالمجهر الإلكترونيِّ، والعدَساتِ التصويريَّة اللاقِطة.
3/ التَّنبيهِ على أسبقيَّة القرآن الكريم في إثارةِ هذه المواضيع، لما لَها من فضلٍ في إثباتِ حجيَّة الخالقِ على المخلوق، فالله لم يستح من ضربِ الأمثالِ البيِّنةِ على وجودهِ بالبعوض والذُّبابِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}سورة البقرة، الآية:26.
جاء هذا الخِطابُ للتفريقِ بين المؤمنِ والكافر، كونَ المؤمن سينقادُ تحتَ ملكةِ التدبُّر لتوحيدِ خالقهِ ولو كانَ المثل صغيرًا، بينما الكافرُ فسيزداد إعراضا عن تلك الشذراتِ الربانيَّة والإلماحاتِ البيانيَّة على الرغمِ مِن دقائِقها الإعجازيَّة، ثمَّ ألم يُنبِئُنَا التَّاريخ عن مصرعِ مردةِ الكفر وعتاة الملوكِ والجبابرة، بالبعوض.!
وقد كانَ الذُّباب موضع إدهاشٍ لمنكري الله والطاعنين في شريعتهِ الغرَّاء، فهو لا ينفك عن إذلالِ آلهتهم كما في سياقِ الآيةِ الكريمةِ: {يأيهُّا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} سورة الحج، الآية: 73.
أي ألم يرو كيفَ يَتَنزَّلُ الذباب على آلهتهم فيسلبُ منهم الطِّيبَ المُزجى عليهم دونَ أن يَسترجِعُوهُ.
وفي كتاب الحيوان قصص معبِّرة، جديرة بالقراءةِ نظرا لما تسترفده من مغازيِّ وحكم قد يسترشدُ بها الطفل في حياتِه العمليَّة كقصة الذئب والأعرابيِّ، إذ يُروَى أنَّ أعرابيًّا أصابَ في طريقهِ جروَ ذئب، فربَّاه وأطعمهُ واعتَنَى به ولمَّا ألفهُ اتخذ مِنه حَارسًا لأغنامهِ فيكونَ له خيرًا من الكلابِ، بيد أنَّه غافله ذاتَ مرَّة ووثبَ على نعجةٍ من نِعَاجِهِ، فافترسَهَا وحينَ عاينَ الأعرابيُّ الحادثة لم يجد ما يقولهُ إلا هذا البيتَ الشِّعريِّ:
أَكلتَ شويهتيِّ وَربيِّتَ فِينَا فمَا أدراكَ أنَّ أبَاكَ ذِيب”[11].
من خلالِ القصَّة تترسَّخُ في ذهنِ للطفلِ عديدَ المسلَّمات منها: أنَّ الطبعَ إذا فسَد لا يُصلحهُ التَّطبع، فالأعرابيُّ حاولَ أن يجعل من الذِّمن نِعَاجِهِ،لطِّفلِئبِ خادمًا وفيًّا تألَفُه نعاجهُ، لكنَّه في لحظةِ ما انصاع لسجيَّته الأولى وعوضا أن يرتهنَ لتعاليمِ الأعرابيِّ انساق دون وعيٍّ لأصولهِ، فافترَسَ النّعجة وعاد لحقيقتهِ الأصليَّة.
علاوةً على ذلك فللقصة معاني عميقة مِنهَا أنَّ اللَّئيم مهما اجتهَدتَ في كرمهِ وإعلاء أصلهِ ونسبهِ فستأتي اللَّحظة التي يخونُك فيها ويَعُضُّكَ من اليد التي كنتَ ترعَاهُ بها.
كما على المتلقيِّ في ضوء مخرجاتِ هذا الحكي أن يحذر إذا عاشرَ صَديقًا خبيثَ المنبتِ، من سُرعَةِ تقلُّبهِ، ومرارةِ جفائهِ فهو لدمِ أقربائهِ أوفى ولشرِّهم أولعَ وأبقى.
ونجدُ في الكِتاب إطراء لعلم الحسابِ والدعوةِ لتعلُّمهِ اقتداء بما جاء في القرآنِ الكريم، فهو رافد من روافد المعرفة التي لا فكاك عنها إذا أردنَا للطِّفل بأن يبدع في مجالِ الفلكِ والهندسةِ والفيزياء، ويهتدي الجاحظ بهذه الآبية لبيانِ منزلة الحسابِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} سورة يونس، الآية رقم:5.
لا جرمَ أن يُقترنَ الحِسابُ بالبيانِ ويسيرَ في مَجراه، فلولاهُ ما درينَا منازلَ القمرِ، وعرفنَا حَالاتِ المدِّ والجَزرِ وكيف يكونُ حسابُ الأهلَّةِ وأنصاف الشُّهورِ وكيفَ يكونُ النُّقصانُ خلالَ ذلك.
ولمحاربةِ تلك الآفة التي باتت تُخيِّم على العالم العربيِّ وهي إعراضُ الأطفال عن القراءةِ وانشغالهم عن الكتابِ بالوسائط الإلكترونيّة المتطوّرة، أمكنَ للمعلم أن يُجفف منابع هذهِ الظاهرةِ السلبيَّة باستدعاء نصوصٍ بلاغية جَميلة من كتابِ الحيوانِ التي تُحفِّزُ على القراءةِ، ومعاشرةِ الكِتابِ باعتبارهِ الصَّديق الذي لن يخذلكَ بتَاتًا ولن يتآمر عليكَ إذا عاداكَ الجَميع: والكتابُ هو الذي يُطيعكَ باللَّيل، كطاعتهِ بالنَّهار، ويُطيعكَ في السَّفر، كطاعتِهِ في الحضَر، وهو المعلِّم الذي إن افتَقرتَ إليهِ لم يحرِمكَ، وإن قَطعتَ عنهُ المَادة لم يقطِع عنكَ الفائدةَ، وإن عُزلتَ لم يَدع طَاعتكَ، وإن هبَّت ريحُ أَعاديك لم ينقلب عليك”[12].
لعلَّ ما يدعُ الطفل يتعلَّق بالكتابُ هو أسلوب الجاحظ المغريِّ الذي يجعل المجرَّد في ثوب المحسوسِ بما يتوافقُ مع الفئةِ العمريَّة للمتلقيِّ ومستوى إدراكهِ، فالكِتابُ في النَّص صارَ بمنزلةِ الصديق الذي يردُّ عنك كيدَ الأعادي، والمعلِّمَ الذي يستردُّ لك عوزك المعرفي إذا افتقرتَ، والابنَ البارَ بأبيهِ إذا مسَّهُ نصبٌ أو وصب، وهكذَا يكون عقدُ المشابهاتِ كفيلٌ باسترضاء طموحِ الطِّفلِ واِستِمَالتهِ.
ولا تكادُ أطروحاتُ الجاحظ أن تزيغ عمَّا نصَّت عليهِ النظرياتُ التعليميَّة المعاصرة، والقاضية بتنميةِ مهاراتِ الطِّفل في القراءةِ، والسَّماعِ والكتابةِ، والمحادثة، أين نجدُ موضوعًا في الكتابِ موسومٍ بالسَّماع والكتابة، حيثُ يلقي الضَّوء فيهِ على أهميَّة الإنصاتِ الجيَّد لترقيَة الملكة اللغويَّة، وتمتينِ الأداء التعبيريِّ الذي تترجمهُ الكتابةُ، “فالإنَسانُ لا يعلمُ حتَّى يَكثُرَ سَماعهُ، ولا بُدَّ من أن تكونَ كتُبهُ أكثَرَ من سَماعهِ”[13].
أي أنَّ المعرفة مقرونة بحُسنِ الاستِماع، بيدَ أن المعرفة نفسَهَا قد تذهبُ أدراجَ الرياحِ مالم تُقيَّد بالكتابةِ، وتصونَ في بُطونِ الكتبِ والصَّحائِفِ.
أَمَّا عن كيفيَّة اصطفاء الضروبِ المواتيةِ لتحصيلِ العلمِ، فالمتلقي منوط بهِ اختيار إحدى الطَّريقتين تقليلٌ مع حفظ أم تكثير مع استيعاب وحصافة رأيٍّ، وهذا ما تؤكِّده عبارة الخليل بن أحمد الفراهيدي التي حصَّلها الجاحظ في كتابِهِ: تكثَّر منَ العلمِ لِتعرف، وتَقلَّل مِنهُ لِتحفظ”[14].
صارت هذه المقولة أشبه بالترياق السحريِّ الذي يقدّم لطالبِ العلم لتجاوزِ معضلتهِ إذا اِعتوره لبسٌ في كيفية انتقاء الكتبِ المفيدة والآلياتِ المتاحة لمصادرةِ أفكارهَا، وعليه فالمراوحةُ بين الحفظِ المرتكز على القضايا المحوريَّة في الكتب وسعةِ الفهم لهو الحل الأمثل لتكوينِ شخصيَة المتعلِّم، فالتنويع في مقاماتِ المعرفة، يؤدِّي إلى التَّحصيل الوفير لمادة العلم.
ولا يفتأ الجاحظُ في كتابهِ يزجيِّ عديدَ الملاحظاتِ الفنيَّة التي تساهم في رفعِ التجربةِ الجماليَّة عند الطِّفلِ كالإماءةِ إلى نظرية تضادِ الألوانِ، فالسَواد يُضادُ البَياضَ مُضَادةً تامة، وصارت الألوانُ الأُخر فيمَا بينَها تتضادُ عادةً، وصَارت الطُّعوم والأَراييحُ والملامِس تُخالِفُهَا ولا تُضادِها”[15].
تُحيلُ مسألة التضاد اللونيِّ إلى نظرية فنيَّة هامة في ميدانِ الجماليات التشكيليّة حيث تبلورت سَنة 1874م على يدِ عالم وظائف الأعضاء الألمانيِّ إفالد هيرنج، إذ افترض أنَّهُ يوجدُ في منطقةٍ ما في أعصابِ العينِ والدِّماغ آليَتانِ للاستِجابةِ تَحتوي كلٌّ منهما على زوجٍ من الألوانِ المتضادة”[16]، ما يدلُّ على أنَّ الجاحظ عالمٌ موسوعيِّ سبقَ زمانهُ بأشواط.
وتفطَّن الجاحظ إلى أنَّ الطبيعة هي مزاجٌ من الألوانِ وكلَّما أمعنُ الطفلُ في خصائصها الشَّكلية وتمثُّلاتِها اللَّونيَّة أغنى مخيَّلته بالصورِ الجماليّة الباهرة، التي تساعدهُ في يوم ما على رسمِ ما يحلو له من مشاهدَ سواء من خلالِ المحاكاةِ أو عن طريق الانعكاسِ التفاعليِّ، حيثُ تتداعى على الطفلِ جملةٌ من الأشكالِ التي صادفها، فيُعيدَ توضيبها ضِمنَ مَسارٍ فنيِّ طافح بتلاوين خلَّابة تَقِيسُ مَدى مخيِّلة الطِّفل وعمقَ إِحسَاسهِ الفنيِّ.
ولذلك نجد في كتاب الحيوان تفسيرٌ إدهاشيِّ لعلَّة تغاير ألوانِ السَّحابِ : فلونُ السَّحابِ يكادُ مُختلفًا في الحُمرةِ والبياضِ على قَدرِ المُقابلاتِ والأَعراض، ونجِدُ السَّحابةَ بيضاء إذَا قَابلت الشَّمسَ بَعضَ المقابلة، فإن كانت السَّحابة غربيَّة أُفقيَّة والشَّمسُ منحطَّة، رأيتَهَا صفراء ثُمَّ سواد تَعرضُ للعينِ بعضَ ما يُدخلُ عَليهَا”[17].
وباستِطاعةِ المعلِّم تأكيد هاتهِ الفرضيَّاتِ الفيزيائيَّة للطِّفلِ بالعودةِ إلى النَّشراتِ العلميَّة التي تعدُّها المُنظَّمة العالميَّة للأرصادِ الجويَّة، فقد نرى في إحدى تفاسيرها العلميَّة لظاهرةِ تغيُّر الألوانِ مَا يُدعِّمُ مقولةَ الجاحِظِ، ذلكَ “أنَّ لونَ السُّحبِ عادة يعتمدُ أساسًا علَى الضَّوءِ السَّاقطِ، نظرًا لأنَّ جميعَ أطوال الموجاتِ المنبعثةِ من السُّحبِ يَكونُ شِبهَ مُتساوٍ، ووجودُ عِجاج بينَ الرَّاصد والسَّحابِ قد يُغيِّرُ ألوان السَّحابِ”[18].
وبناءً عَلَى ما تقدَّم ذكره نقول إنَّ الالتجاء إلى الكتُبِ التراثيَّة وتوسيع مَدَاهَا التربويِّ والبيداغوجيِّ مسايرةً لعصر تكنولوجيِّ متطور لهو الحلُ الأمثل لبناءِ شخصيةِ الطِّفل العربيِّ، وفقَ محاذير أخلاقيّة وعلميّة تمزجُ بين الأصالة والحداثةِ فلا تفريطَ في المكاسبِ التراثيَّة التي خلَّفها الأسلافُ، ولا إفراطَ في المناهج الغربيَّة لحدِّ التُّخمةِ والتَّشبُّع.
[1] الجاحظ عمرو بن بحر، كتاب الحيوان، ج1، تح: باسل عيون السُّود، دار الكتب العلميَّة، بيروت، ط2، 1424 هجري، ص24.
[3] الجاحظ، المصدر السّابق، ج1، ص24.
أوراق الدّلب: نبات زهري واسع الانتشار في القسم الشمالي من أوروبا وآسيا، مفيدٌ للكثير من الأمراض كالروماتيزم والَّصرع، ويعالج مشاكل النوم والأرق
[7] الجاحظ، المصدر السابق، ج7، ص17.
حيوان الأيل: ينتمي لفصيلة الغزلان، يتميّز بألوانهِ الزاهية، وفرائهِ النّاعم، تعيشُ بعضها في الصَّحاري الجافة والبعض الآخر في المناطق الباردة.
[8] ينظر: زياد حمد القطارنة، إدارة الكوارث، الأكاديميون للنّشر والتوزيع، ط 1، 2013، ص71.
[10] الجاحظ، المصدر السَّابق، ج7 ،ص103.
[13] الجاحظ، المصدر السّابق، ص 41.
[16] محمد كذلك، تعلّم فن الرّسم، مكتبة ابن سينا للطبع والنّشر، ط1 ،2018، ص 28.
[17] ينظر: الجاحظ، المصدر السّابق، ص34.
https://cloudatlas.wmo.int/ar/home.htmlالمنظّمة العالميّة للأرصاد الجويّة: /2
*المصدر: التنويري.