الفكر البدوي الرحّال؛ الحداثة الغربيَّة ضحيَّة مكبوت المرض السقراطي والخطيئة المسيحيَّة
في قراءة (نيتشويَّة) لفكر نيتشه -ونادرًا ما يتحقَّق ذلك- تمكَّن الفيلسوف الفرنسي “جيل دولوز” عبر حفرياته بين طبقات المتن/المنهج النيتشوي من الكشف عن مركز التفلسف النيتشوي الذي يمتلك خصوصيته ضمن تاريخ الفلسفة الغربيَّة.
النموذج الحداثي الغربي راكم أوهاما إيديولوجيَّة عن الإنسان (المتحضِّر) الذي حقَّق طفرة بيولوجيَّة عن الإنسان البدائي نتجت عنها قطيعة ابستملوجيَّة مع الفكر ما-قبل الحداثي. لكن، العبقري “نيتشه” كان فطنًا ولم ينطل عليه التزييف الحداثوي، لأنَّه يدرك نفسيَّة الإنسان الغربي، ذلك المسيحي المحروم، ماديًّا ورمزيًّا، الذي يتصوَّر الحياة مرضا يسعى إلى التخلُّص منها/منه بتناول السمّ على الطريقة السقراطيَّة.
العبقري نيتشه يدرك، كذلك، تلك اليقظة المتأخِّرة (فاق معطل) للإنسان الغربي، التي حدثت على وقع رجَّة الإصلاح الديني البروتستانتي، يقظة غير طبيعيَّة، بالتأكيد، (فاق مخلوع وجوعان !!!)
لنحك الحكاية مع العبقري نيتشه كي نفهم، جيدا، كيف أسَّس الإصلاح الديني البروتستانتي لمنظومة الرأسماليَّة، كما نظر لذلك “ماكس فيبر” في كتابه المؤسّس “الأخلاق البروتستانتيَّة وروح الرأسماليَّة”:
“إنسان جائع محروم مكبوت.. فلسفيا يتصور الحياة مرضا على الطريقة السقراطيَّة، ودينيًّا يتصوَّر الحياة خطيئة على الطريقة المسيحيَّة.. هذا الإنسان المختل (العدمي/المنحط بتعبير نيتشه ) يستفيق متأخِّرا على رجَّة الإصلاح الديني البروتستانتي ليكتشف الخديعة الكبرى التي كان ضحيَّة لها طوال مساره التاريخي. خارج الخديعة، الحياة ليست مرضا بل عافية، وليست خطيئة بل منحة !!!
الخلل الذي رافق هذه اليقظة المتأخرة، واكتشفه نيتشه بعبقريَّة فذة، هو أن اليقظة لم تجبّ ما قبلها بمعنى أنها لم تتمكن من تخليص النفسيَّة الغربيَّة من الكبت ولم تخلصها من ذاكرة الحرمان، المادي والرمزي، لذلك بالغ الإنسان الغربي في مراكمة الكلأ وجمع الأخصر واليابس فأسس منظومة الرأسماليَّة على قاعدة مراكمة الإنتاج/الربح دون حاجة استهلاكيَّة، لكنه لا يدري أنَّه يصفِّي الحساب مع ماضي الكبت والحرمان ليس إلا ! فهو يتوهم أنه بمراكمة الإنتاج/الربح سيقتل في نفسه النزوع الفلسفي السقراطي الذي يتصوَّر الحياة مرضًا، والنزوع الديني المسيحي الذي يتصوَّر الحياة خطيئة.. وأنى له ذلك !!!
العالم، منذ بزوغ فجر اليقظة/الحداثة الغربيَّة، يؤدِّي ضريبة الكبت/الحرمان الغربي، دافع الشراهة لتغذية الحرمان/الكبت دمر الحياة الإنسانيَّة على كوكب الأرض، فعمَّ الاستغلال والاستيلاب، استغلال الموارد الطبيعيَّة بشراهة مفرطة تتجاوز الحاجة، واستيلاب (Aliénation هذا المصطلح لماركس) الإنسان، أفرادا وشعوبا، بهدف توظيفه في سلسلة الإنتاج.
لنعد، مرَّة أخرى، إلى القراءة النيتشويَّة التي قدَّمها “جيل دولوز” لفكر نيتشه والتي تدعم تحليلنا وتؤكِّد مُخرجاته. صاغ جيل دولوز مصطلح الفكر الرحّال/ Pensée Nomade، ولم يكن يقصد به التحرر الفكري كما قرأت ذلك في الكثير من التأويلات (الفلسفيَّة) التي قدمها بعض الكَتَبة (les écrivants بتعبير) R.Barthes ، بل كان يحيل به على نموذج الإنسان ما قبل الحداثي/البدائي الذي عاش مرحلة ما-قبل تدشين المدن/الحياة الحضريَّة (حياة البداوة/الترحال ). هذا الإنسان هو نموذج فكري/رؤية للعالم في نفس الآن.
ستسألون وما علاقة ذلك باكتشاف نيتشه ؟
نيتشه، حسب قراءة دولوز، لم ينطل عليه التزييف الإيديولوجي الحداثوي الذي ينظر للإنسان الغربي (المتحضر) صنيعة الحداثة كما وجد تجسيده الأسمى في الفكر الكانطي ( ق 18)، بل كشف عن حقيقة الإنسان الغربي الذي لم ينفصل عن نفسيَّة البدوي الرحّال الذي يجد تجسيده في النموذج الفكري الميكيافيلي (ق15).
______
*د. إدريس جنداري – باحث في سوسيولوجيا الثقافة.
*المصدر: التنويري.