اجتماعالمقالات

السِّيَادَة المُنْتَهَكَة: ماذا أبقت العولمة للدولة؟

السيادة

مؤشرات:

يتبلور لدى الأوساط العلمية شبه إجماع على وجهة النظر، التي تقول إن الفترة الزمنية الانتقالية المضطربة، والتي ندخلها بسرعة خارقة، تنافس في أهميتها فترة الثورة الصناعيَّة، إن لم تكن تتفوق عليها بما لا يُقاس من سرعة التقدم. ففي عالم جديد تحت ظلال العولمة، هنالك مؤشرات كثيرة دالة على التغيير يقول بإن الساحة الدولية، التي تميزت بصورة درامية بالكارثة السياسية، التي أصابت التجارب الشيوعية، من ناحية، وبتصاعد ثورة المعلومات، من ناحية أخرى، تجري فيها حركة تغيير جذرية لكل المسلمات القديمة. كما أن التطورات المفاجئة في الاتصالات الهاتفية، واستخدامات الكومبيوتر، والإعلام العالمي، تقوم بتغيير عميق في الطرق، التي تدير بها الحكومات علاقاتها الداخلية والدولية. فنموذج العلاقات الدولية الجديد يأخذ في الحسبان: تزايد الممارسة الديمقراطية بين الأمم؛ لا مركزية الارتباط الدولي؛ والتمايز الثقافي؛ والإحلال الإيديولوجي، والثورة المتصاعدة في مجال التقنية الرقمية.

إنَّ ظاهر الأمر يبدو وكأنَّ حمى العولمة قد تباطأ دفعها، وخَفَّت سُخُونتها، بعد أن كانت مؤشراتها تنمو بسرعة في عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، ولكن ما يؤكد أنها ما تزال فاعلة هو وجود العديد من المنظمات المكونة لها، التي ما تزال قائمة وتتوسع، أو تلك التي هي الآن في طور التَشَكُّل. وهنالك العديد من المنظمات والأفراد العولميين؛ الذين يعتنقون العولمة، يمثلون القوة الدافعة “لعالم ذي حكومة واحدة”؛ حيث تمثل قوتهم الدافعة هذه ما يُشبه “الأيديولوجية الكونية”، التي تسعى للتحكم في مجريات الأمور الهامة حول العالم، ويهدفون من وراء ذلك إلى السيطرة على السياسة الدولية؛ عبر القوة الناعمة والصلبة، بما فيها الثقافة والإعلام، والاقتصاد والسلاح، وحشد عناصر القوة الأخرى. وبما أنهم يعلمون بحدود ما كَسِبُوه حتى الآن، فإنهم يقرّون بصعوبة إمكانية اجتياح بلد ما والطلب من أهله التخلي عن سيادتهم الوطنية. بدلاً عن ذلك يقومون باستخدام الأمم المتحدة للقفز ببراعة فوق القانون الدولي وتجاوز الشعوب، من خلال ترتيبات ومعاهدات تفقد فيها الدول سيأدتها عن طريق التجزئة. كما قاموا أيضاً بخلق منظمات غير حكومية، وهي عبارة عن مجموعات مواطنين على نطاق العالم، تم تصميمها للترويج لبرامج وأهداف الأمم المتحدة الساعية للتحكم في شعوب العالم. وهكذا، فإن إستراجيتهم عبارة عن زحف تدريجي ناعم نحو حلم العولمة حتى لا يتنبه الكثير من الناس لما يجري من حولهم، ولا يفيق النائمون من ثباتهم.

ولا شك أن بعض المؤشرات يمكن العثور عليها في منطق العولمة اليوم، كما كانت بالأمس، إذ إن هنالك مجموعة إحداثيات لنموذج الدبلوماسية الجديد بدأت في الظهور من خلال ديناميكيات السياسة الخارجية وممارسات العلاقات الدولية المعاصرة. ورغم أنها ما زالت في أطوارها المبكرة، إلا أن انفجار المعلومات الماثل الآن قد ظل لسنوات في طور الإعداد لما بلغته الآن من مراحل الفعل العابر للتقاليد القديمة، مثلما هو عابر للقيود والحدود، وأن ثمار تلك السياسة قد بدأت في الظهور للتو، إذ بدأ صوت الدبلوماسيين الأجانب؛ من الدول الكبرى، يعلو يعلولدول الكبرىلحدقديمةلمتحدة لفي التعبير عن القضايا الداخلية للدول الصغرى. وفي السنوات الأخيرة، رَكِبَت كثير من مصادر السلطة موجة العولمة بصورة درامية، وجرى إيداع السلطة الاقتصادية للدول في مؤسسات العولمة، مثل منظمة التجارة العالمية، وتم إنفاذ السلطة السياسية العالمية من خلال مؤسسات الدولة المحلية، بينما يتم حمل السلطة الثقافية السائدة من خلال وسائل إعلام العولمة وإمبراطوريات الترفيه العابرة للفضاءات والخصوصيات. حيث ذابت أيديولوجيات الليبرالية، التي كانت تتحدث عن احترام الفوارق الثقافية، تحت شعارات “التنافس في ظل العولمة” الجديدة، واضعة “ممثلي السوق” فوق الجميع. ونتيجة لذلك، فقد أصبحت الفواصل الجغرافية الحالية بين “الشمال” و”الجنوب” مبالغاً فيها بدرجة كبيرة، إلا أنه في ذات الوقت، بدأت مجموعة أخرى من الفواصل الانتقالية في الظهور. فقد بدأ الفاصل الرقمي Digital Divide يأخذ دوره تدريجياً كعامل فاصل. وهنالك هوة متسعة بين مصادر ومواقع سلطة المعلومات في العالم المتطور وبين أولئك الذين يعيشون في الدول النامية كمستهلكين لها، مانحة فرصاً واسعة وثروة هائلة للذين يملكون القدرة على انتاج المعلومة والحق في الاتصال. وتقوم العولمة بالإتيان بالمبدأ المنظم الضروري الجديد، وهو مبدأ ثابت بدرجة تُمَكِّنُه من خلق وتدعيم نظام عالمي جديد؛ في الوقت الراهن على الأقل. وهذا المبدأ الجديد هو عبارة عن هيمنة رأسمالية/مؤسسية، تمثل مجموعة المؤسسات الإنتقالية فيها البنية التحتية، التي تدعمه بمصادرها المالية الفلكية، والتي تهدف للسيطرة المطلقة على الاقتصاد العالمي.

هل انتهت الدولة؟

لقد فتحت السنوات الماضية في تحولاتها الكبرى سؤالاً جوهرياً عن النهايات، نهاية التاريخ، نهاية الوظيفة، نهاية الدولة، وبدأ الحديث عن هذه النهايات يملأ العالم، وسيكون جائزاً استمراره على نحو يستدعي القلق ما دامت نهايات العصور غالباً ما تثير شعوراً بالرهبة، مثلما بَيَّنَت “كورونا”، أو “كوفيد-19” ذلك على مستوى الأوبئة المعولمة. وقد ظهر بوضوح أن مقولة الدولة/الأمة، التي برزت بقوة بعد الحرب العالمية الثانية، أصيبت بالتراجع والضمور مع صعود رأس المال اللامتناهي بعد نهاية الحرب الباردة. إذ ساهم ازدهار التدفقات العابرة للأوطان في عرقلة النموذج، الذي أطلقته تلك المقولة على امتداد تجربتها الطويلة نسبياً، إذ يتزايد عبور موارد السلطة من مكان إلى آخر متجاهلاً الحدود، ساخراً من سيادات الدول، بل مُلْتَفَّاً حول هذه الدول مُطَوِّقاً إيَّاهَا بأغلالٍ لم تعهدها من قبل، وسواء كانت هذه التدفقات ثقافية، أو اقتصادية، أو دينية، أو سكانية، أو إعلامية، أو حتي عسكرية، فالأشكالية في الأساس واحدة لا تتغير، إنها محملة أكثر فأكثر بموارد سلطة تتهرب بحكم طبيعتها من سيادة الدولة. ولكن أيَّاً كانت الأسئلة والأفكار الجديدة، فقد تبين أن الجغرافيا والتنازع فيها وعليها وحولها هي الحقيقة المؤسسة للتاريخ الجديد، حيث ظهر من أرض البلقان، إلى أفغانستان، إلى العراق، إلى أوكرانيا، أن العالم سينعطف إلى ما لا يمكن وصفه بأنه أمر عادي، وبدأ كما لو أن الإمبريالية القديمة تعود عن طريق الغزو والاحتلال المباشر لتمسك بزمام عالم القرن الواحد والعشرين.

سياسة المكان:

عادة ما يتم الربط بين الفيدرالية الديمقراطية الحديثة، أو ما يسعى الاتحاد الأوربي لبلوغ كمالاتها، وبين العولمية؛ جزئياً، لأن الفيدرالية تقوم بتشتيت القوة والأماكن، التي تعادل الحدود على سلطات الحكومات. وتساعد هذه الحدود في حماية حقوق الملكية إلى جانب حقوق أخرى. إضافة إلى أن العولمة، مثل النظام الفيدرالي، تعمل بطريقة غير مركزية.[1] إن الانتشار المعاصر لاقتصاديات السوق، وتقنيات الاتصالات، والمعلومات الرقمية قد تخلق ظروفاً موصلة ومؤهلة للفيدرالية والعولمية، لأن المميزات المفتاحية للفيدرالية تُكمِّل مميزات العولمية.

وبالمثل فقد لاحظ “بروفيسور جيمس بوكانان”: أن “التقدير والفهم الأولي للفيدرالية السياسية يتم تسهيله بواسطة فهم وتقدير مقارن للوظيفة السياسية لاقتصاد منظم على مبادئ السوق.”[2]  ويمضى “بوكانان” مضيفاً: “أن القوة الكامنة لممارسة الحرية الفردية ترتبط مباشرة بالحجم النسبي لقطاع السوق في اقتصاد ما.”[3] والاقتصاد العالمي المفتوح ذو القدرة على المنافسة والفيدرالية متناسبان، نظرياً، إذا توفرت ثلاثة مظاهر أساسية للنظام الفيدرالى:

1. حدود دستورية واضحة للمناطق، التي يمكن للحكومة أن تتدخل فيها. وعلى الولايات، التي تكون النظام الفيدرالي أن تكون لها مصادرها الذاتية من عائدات الضرائب حتى تكون هنالك حوافز للإبتكار والكفاءة. في هذه الظروف تكون الولايات بمثابة معامل للتجارب الاقتصادية والاجتماعية.[4]

2. يكون المواطنون في إحدى الولايات لديهم الحرية للتحرك لولاية أخرى، الأمر، الذي يضع ضغوطاً على الولايات “لملاقاة الخدمات العامة والأولويات العامة،” وتوضع الولايات باختصار في منافسة مع بعضها.[5]

3. الانفصال، أو التهديد به، تمثل الوسيلة النهائية، التي يمكن من خلالها اختبار قوى التمدد في الحكومة المركزية،[6] وتُمَثِّل دول القرن الأفريقي؛ بما فيها السودان وإثيوبيا والصومال، صورة شاخصة لهذه الحالة، وربما يتم تمثلها في دول أخرى كالعراق وليبيا، وغيرهما.

لقد أدت الآثار المترتبة عن النظام الفيدرالي في السودان مثلاً، إلى جانب كل العوامل الداخلية الأخرى، إلى الإعتراف بظهور واقع حقيقي عالمي ضاغط، وضرورة وطنية ألجأها العجز للقبول بمبدأ الانفصال، الذي أقَرَّته كل القوى السياسية ثمناً للسلام، وكان التصميم السياسي لميلاد دولة جديدة متوقعاً بصورة ما، إذ لم تتكيف جنوب السودان مع ذاتها على نسق الحلم الموعود، فسرعان ما أدركت الكثير من الجماعات الإثنية الأصغر من قبيلة “الدينكا” صحة نصيحة الدكتور على مزروعي، التي شكك فيه في جدوى الإنفصال قائلاً ما معناه إن “القبائل الصغيرة في الجنوب تشعر بالإطمئنان أكثر في السودان الكبير أكثر من جنوب يحكمه الدينكا”.[7] وكان هنالك تركيز متزايد للسلطة على المستوى الفيدرالي؛ فيما تَبَقى من السودان، في بعض المسائل، وفقدان السيادة القومية لصالح المنظمات العالمية في مسائل أخرى. رغم أن سيادة السودان، ومطلوبات السياسة الخارجية كانت حاضرة في الذهن، فقد تم وضعها بوضوح في منشور وزارة الشئون الخارجية “أسس وأهداف السياسة الخارجية”، إذ جاء فيها أن “على الدبلوماسية السودانية أن تتواصل مع الوضع الداخلي السائد”؛ في اعتراف واضح بالمكان، “والواقع السياسي الموجود في حريات التعبير، والتنظيم وتبادل الآراء، التي تم النص عليها في الدستور الدائم”. ومضت في مناداة كل السودانيين بالقول إن “على القوى السياسية المشاركة النشطة في بناء سودان جديد متوافق مع الأسس القومية المضمنة في الدستور،” بما في ذلك النظام الفيدرالي”، وفي إطار عمل من الوحدة الوطنية الشاملة”.[8] والأمر الأكثر أهمية، في كل الحالات، أن الولايات الست والعشرون قد أضاعت السلطات الممنوحة لها بواسطة الدستور، بما في ذلك حقوقها في اللوائح المالية؛ وفي مقاطعاتها، ومعتمدياتها، أو محافظاتها. كما تفقد الدولة كلها الآن هذه السلطات، وغيرها، لقوى خارجية أتت بها “القابلية” للتدخل الخارجي، في حال الركون إلى الوساطات المتعددة والمبعوثين الأجانب، و”تعدي” السفراء على الشؤون الداخلية، متجاوزين كل القيم، التي تحكم وظيفتهم الدبلوماسية، أو “المطالبة بها”، كما في حالة “اليوناميتس”، وسفراء “الترويكا”، أو “المجاهرة” بالتناصر بدعم القوى الخارجية، كما من الظهور اليومي، والهجرة المتكررة لعواصم الجوار القريب والبعيد.

ففي السابق ظن المتابعون للمتغيرات السياسية في بنية الدولة وتماسك سيادتها أن مجرد الانضمام للسوق المشتركة لشرق وجنوب افريقيا (كوميسا) قد يكون مثالاً للكيفية، التي يمكن أن يتم بها خفض سلطة الدولة/الأمة، والأقاليم الفيدرالية داخل الدولة، نسبة لعولمة الاقتصاد. وما لم يتوضحه أولئك أن هنالك فرص واسعة في زيادة التجارة بين السودان والدول الأعضاء، ستتمخض عنها فرصة حقيقية للاقتصاديات القومية لدعم قدراتها أمام المنافسة العالمية، أي أن الدول تنازلت عن جزء من سيادتها لإطار إقليمي غير مهيمن لتكسب في في واقع عولمي أكثر هيمنة. وقد قاد الدخول في “الكوميسا” لزيادة في للتجارة واستيراد البضائع “عبر الحدود” بين الدول الأعضاء، وما في ذلك من أنشطة يبدو ظاهرياً أنها انتهاك لمحددات سيادتها. مثال آخر، تُؤشرُ عليه الاتفاقية الدولية للقضاء على إنتاج الكيمائيات، التي قرر العلماء بإنها تضر بطبقة الأوزون في الغلاف الجوي الأرضي. وفي هذه الحالة، لم تفقد الولايات فقط حقها في تحديد المنتجات، التي يمكن ولا يمكن للمستهلكين استعمالها، بل أن الحكومة المركزية قد وقعت اتفاقيات عالمية تقوم بتحجيم سلطتها في تنظيم التجارة داخل الولايات، وفي المستوى المركزي، ومثال الولايات السودانية ينطبق بتفاصيله بالطبع على كل الدول، التي عليها الإلتزام الصارم بهذه القوانين المتعدية لخصوصيتها.

لقد كانت النية الأصلية تحت الدستور السوداني تكمن في الحد من سلطات الحكومة المركزية بطريقة تجعلها في حدود ضيقة، والاحتفاظ بالسلطات المتبقية للولايات، أو الشعب، فيما أُصْطُلِحَ عليه “بتقصير الظل الإداري”، أو تقريب “منافذ” اتخاذ القرار إلى حيث يوجد المواطن؛ وقد تم وضع ذلك بوضوح في الدستور.[9] بالرغم من ذلك، ونسبة للسلطات الدستورية للحكومة المركزية في تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية وبين الولايات المختلفة، فإن الحكومة المركزية كانت بصورة متصاعدة تُشارك في وضع السياسات، التي تتعلق بمنتجات الاقتصاد العالمي الناشئ، الذي أدى بدوره إلى تقليص جزء من سلطة الولايات المختلفة.

وكما أشير عاليه، فإن طبيعة النظام السياسي السوداني، بالرغم من شموليته، يهدف إلى وضع معمم للنزاعات في إطار الدستور. فليس مستغرباً إذن بأن نقل السلطة المتنامي إلى الولايات والشعب من الحكومة المركزية لم يمض من دون مقاومة. فالنقاط الساخنة التقليدية للنزاع الدستوري قد تم التركيز عليها بواسطة قضايا جديدة تم تحريكها بواسطة عولمة الاقتصاد السوداني، خاصة بعد إكتشاف البترول وجهود الحكومة في الانضمام لمنظمة التجارة العالمية. وذلك واضح في كل المجالات الرئيسة للاقتصاد السوداني، وبصورة أخص بشأن حقوق الولايات في مقابل حقوق الحكومة المركزية؛ وحقوق الملكية الخاصة في مقابل حقوق المجتمع. وكان هذا بالنسبة لمعظم الناس تأكيد إضافي أن العولمة جاءت لتبقى. فالعالم الآن مختلف عما كان عليه الحال، وقد تغير إلى غير رجعة؛ ليس فقط أن هذا التغيير لا يمكن عكس تياره، إلا أن اتجاهه نحو عولمة شاملة في زيادة مستمرة، ونهاية عصر “المكان” الخاص والشأن “المحلي” تبدو حتمية. وقد يبدو الأمر كذلك بعدة مؤشرات، إلا أنه قد أصبح واضحاً جداً أن طرق تفكيرنا حول هذه القضايا معيبة بصورة أساسية. فهي رغم تقوقعها في محلية مُقْعِدَة إلا أنها ذات صبغة عولمية، وتقودها مركزية عولمية. فهي ذات مركزية عولمية لإنها تفترض وجوداً مسبقاً للحقائق من دون تمحيص؛ وجود هيكل للسلطة يكون فيه العالمي مسيطراً بالضرورة على المحلي. وهي ذات صبغة عولمية لأنها تدعي بأن التدفقات والعمليات عبر الأمم تحدد المبادرة المحلية للتغيير.

في المقال الرئيس لمجلة “ديفلبمنت”، أو “التنمية”، إصدارة جمعية التنمية الدولية، وضع “آرف درلك” من جامعة ديوك، درهام – تمييزاً مهماً بين “المكان” و”المحلي”. يحتج “درك” ضد مسح “المكان” من نظرياتنا ومفاهيمنا عن العالم تحت ظلال العولمة، إذ أوضح أن هنالك عدم تناسق جذري في النظريات عن هذه العولمة تقوم بتهميش “المحلي” ومسح “المكان” كموقعين مهمين في الحياة، والمعرفة، والإنسان، والممارسة الثقافية البيئية. ويقترح “درك” مقياس عام للدفاع عن “المكان”، ولفهم المكان باعتباره مشروعاً، داعياً القراء للنظر في مفهوم”العولمحلية”كطريقة لإعادة التفكير في التنمية.[10]

فهل حقيقة أن الأماكن ضرورة داعمة للكينونة العولمية؟ هل عدم التناسق، الذي يميز الخطاب المركزي العولمي يمكن عكسه؟ وهل يمكننا الدفاع عن “المكان” عن طريق المفاهيم المسيطرة للعولمية؟ هل من الممكن استعادة إسهام صور المعرفة المبنية على “المكان”، وممارسة العلاقات الدولية لتشكيل العالم، حتى تحت ظروف العولمة؟، أو هل السكان المحليون قد تمت إدانتهم واستبعادهم؛ كعدم تناسبهم المتزائد في النقاشات حول العولمة؟ إن هذه، وغيرها، أسئلة للتذكير بأهمية رأي الجميع فيما يستهدفون به من محاولات إزاحة قسرية من “المكان” و”المحلي”، ووضعهم في “بوتقة” عولمية لاغية للخصوصيات. وفيما يلي، يمكن الإقتراح بأنه من السهل إعادة تدريب التفكير على التَذّكُّر عبر هذه الأسئلة، حتى تكون أفعال الناس في مجتمعهم “المحلي”، أو “مكانهم” الطبيعي قوة دافعة لا يمكن الاستغناء عنها، ويمكن أن تُسْتَعاد مرة أخرى ليتم النظر فيها، ومن خلالها، باعتبارها أدوات قيّمة وفعالة للتغيير؛ داخلياً وخارجياً. ومما يبعث على الارتياح أن الفترة الأخيرة قد شهدت انفجاراً في الوعي بالمكان في التحليل الاجتماعي السياسي. فالوعي بالمكان كما اقترحت إحدى البحوث الفلسفية مؤخراً عامل تكاملي للوجود الإنساني، لأنه من المستحيل تصور ماذا سيكون الأمر إذا لم تكن هنالك أماكن في العالم. في الجانب الآخر، فإن الأماكن لا تُعطَى، بل يتم إنتاجها بواسطة النشاط الإنساني، الأمر، الذي يعني بأن الطريقة، التي نتخيل ونستوعب بها الأمكنة هي مسألة تاريخية. والوعي بالمكان يرتبط بشدة مع العولمة، ويبدو كمنافس راديكالي لمحاولات تنميطها للمتخيل الحضاري.

وفي هذه الدراسة، فإن العلاقة بين العولمية والوعي بالمكان، وإنعكاسات هذه العلاقة على الطرق، التي نفهم بها العالم قد تم اختبارها بالالتفاتات المختصرة إلى بعض الأمثلة الحية من السودان وغيره. وتهدف المناقشة في هذا الفصل، أولاً، إلى الإتيان بشيء من الوضوح المصطلحي للنقاش حول “المكان”، والتي قد تثير الخلط في مقابلاتها بين العولمي والمحلي، أو الفضائي الافتراضي والمجال الوجودي المبني على المكان. ثانياً، من المفيد أيضاً الاحتجاج لصالح الوعي المبني على المكان، عن طريق إعتبار إنعكاسات المكان على مفاهيم التنمية، ولمجموعات التحليل الاجتماعي مثل الطبقة، والنوع الجنسي، والإثنية، وللطرق، التي نتعامل بها وفيها مع قضايا الثقافة، والاتصالات الثقافية العالمية، والدبلوماسية وإدارة العلاقات الدولية من خلال سياسة خارجية مستنيرة.

لهذا، يلزم مناقشة حاجة الدبلوماسيين وصانعي السياسة الخارجية لاستيعاب الأماكن والمعرفة المبنية على المكان، في بلد كالسودان، أو غيره، ليس باعتبارها إرثاً تاريخياً، أو جغرافياً، ولكن كمشروع يمكنه إنشاء سياقات جديدة للتفكير السياسي وإنتاج المعرفة. فالدولة والنظام الفيدرالي للولايات ليست خالدة، فهي في حالة سيولة وإنسياب مستمر. فكيف يمكن إذن التفريق بين التكيف المشترك والتغيير الجذري في مفهوم الدولة القومية؟ إذ إن أساس مفهوم الدولة هو مفهوم السيادة، الذي يُدرَك من خلال مبدأ القانون الدولي.[11] فالسيادة ليست استقلالاً ضيقاً، وليست حرية مطلقة من القيود العالمية. وطالما كان هنالك نظام للدول، فلن تكون هذه الدول حرة عن تأثيرات النفوذ الخارجي في الاقتصاد والاجتماع والثقافة وصناعة السياسة الخارجية. واليقين أن السيادة ستبقى حجر الزاوية في العلاقات الدولية، كما أنها تحدد السلوك الضروري لمجتمع الدول. وسيحدث التغيير الجذري في مجتمع الدول فقط إذا إنهارت سيادة الدولة؛ كما كان الحال في الصومال، أو تراضت على اتحاد جامع تتنازل فيه عن خصوصياتها. ومن الوهلة الأولى يبدو ممكناً بأن ذات النمو السريع للشبكات العالمية والتكامل الاقتصادي قد خلق القاعدة لمجتمع عالمي متخَيّل ليحل مكان الدولة/الأمة، حتى أنه يبدو مغرياً الزعم بأن العولمة تقود لوعي ناشئ بعالم جديد. وهنا، يزعم “ديفد إلكنز” بأنه تحدث الآن عملية نشطة لتفكيك الهويات قد تقود إلى تغيير في أهمية هذه الهويات الخاصة. وبناء على “إلكنز”، فقد كانت الدولة/الأمة فيما مضى على قمة المؤسسات، التي عملت على تكوين الهوية، غير إنها أصبحت الآن عنصراً واحداً في نظام من الولاءات والهويات المتعددة.[12]

ولهذا، فإن فكرة الهويات المتعددة ليست جديدة، كما اعترف “إلكنز” نفسه. فهو يحتج بأن تجميع الدولة قد أدى إلى هرمية من الهويات الممأسسة. وفي حالة السودان، يمكن القول بأن تعددية الهويات، التي تم تعريفها سياقياً، كانت دائماً ما تحدد الطريقة، التي يُعَرِّف بها الناس أنفسهم. ففي معظم الحالات، يُعرِّف السودانيون أنفسهم داخل ثنائية العروبة والأفريقية، مسلمين-مسيحيين، شمال-جنوب، شرق-غرب، وفي بعض الأحيان، قد يقوم أشخاص بتعريف أنفسهم بصورة أساسية من خلال النوع الجنسي، وفي حالات أخرى من خلال المواطنة، والقبلية، والطبقة، واللغة، وهكذا، وهو في هذه التعدديات لا يختلف جوهرياً عن غيره من الدول ذات التنوع، والتي تمثل الأغلبية في هذا العالم. فالهرميات المتعددة، التي يراها “إلكنز”، قد ظهرت في القرن العشرين موجودة من قبل زمان طويل، وسابق لنشأة الدولة الوطنية، وأن الدولة/الأمة هي واحدة فقط من عدة أسس للهوية، وحتى لو إفترضنا هوية أولية واحدة فقط لكل فرد، فليس هنالك ما يشير إلى أن تلك الهوية ستكون بالضرورة عالمية بطبيعتها.

وهذا يقودنا، مرة أخرى، للقول إن عمليات التحلل في العولمة تبدو قوية، وفي نفس مستوى عمليات التكامل. ففي اعتقاد الكثير من المنظرين أن أيام الدولة ككيان ذي مساحة جغرافية قد أصبحت معدودة، ذلك بسبب التدفق غير المسبوق للمعلومات، وطرق تبادل الأفكار، والثقافة الشعبية، التي يؤسس لها الإعلام الاجتماعي، وانتشار الإرهاب، وتوسع دوائر الجريمة، وكثافة تعاطي المخدرات، والمخاطر البيئية والأوبئة. وهم يزعمون، بطريقة خاطئة، بأن التحديات للحدود وتماسك بعض الدول، يشير إلى نهاية كل الدول والسيادة كمبدأ. فقد أصبح واضحاً بأن نظام العالم الاجتماعي غدا أقوى تكاملاً وترابطاً، غير أنه، وبينما تزداد التدفقات الثقافية الاجتماعية والاقتصادية، فإن النموذج المثال المسيطر في العلاقات الدولية يبقى مرتبطاً بالمساحة الجغرافية. وفوق ذلك، فإن الدول نادراً ما توجد ككيانات منعزلة، فدائماً ما كانت حدودها تنتهك من خلال الحروب، والهجرة القانونية وغير القانونية والتجارة، حيث تتداخل السياسة الخارجية والدبلوماسية باستمرار مع قضايا المعترك المحلي والمكان.

يحدونا القول إنه بالنسبة للدبلومسين وصناع السياسة الخارجية التقليديين، فإن التبادل السريع نسبياً وغير المقيد بصورة متزائدة للأفكار، والمعلومات والبضائع ما زال عليه أن يتحدى الأساس المساحي الجغرافي “المكاني” لمفهوم الدولة. وبينما كان يقال بأن الأسواق العالمية وإعلام الاتصالات الحديثة قد خفّض من هيمنة الدولة الشاملة على المساحة “المكانية” الجغرافية، استمرت الدولة في تنظيم السكان، ولأيزال الناس أقل مرونة في التنقل من العملات، والبضائع، والأفكار. وقد استمرت سلطات الدول في الإعتماد على الجوازات، والتأشيرات، والقوانين، التي تتعلق بالإقامة والعمل.[13] الأمر الذي يؤكد أن دور الدولة كمالك، ومدافع، ومنظم لمساحة جغرافية محددة تمنحها الشرعية الدولية والمسؤلية في التحدث والتصرف بالنيابة عن مواطنيها ومصالحهم. وعلى المستوى العالمي ليس هنالك من وكالة، أو مجموعة، يمكنها إدعاء هذا الحق، إلا إذا تم منحها وضع دولة الأمر الواقع، الذي هو أشبه بوضع منظمة التحرير الفلسطينية الخاص كـ”سلطة”، أو “شبه دولة”، في الأمم المتحدة. وتبقى الدولة/الأمة مكان يشعر فيه معظم الناس بالإرتباط ببعضهم؛[14] إنها سياسة ضمير جمع المتكلمين “نحن”، يُنظر للدولة بأن لها الحق في التحدث نيابة عن الناس، لإنها تمثلنا هذا الـ”نحن”.

ديناميكية وضع الأجندة:

بناء على ما سبق، فقد رأينا كيف تركزت كثير من التحليلات النظرية والعملية على فهم الطريقة، التي تصل بها قضايا السياسة الداخلية “المحلي” إلى الأجندة المؤسسية والتنظيمية في السياسة الخارجية، والتأثيرات المتبادلة بينهما.[15] وبالرغم من ذلك،  فإنه ليس هنالك بعد من تحليل سياسي منظم لاستكشاف ديناميكية وضع الأجندة في السياسة الخارجية السودانية، إذا ما قرر باحث أن يتخذها كمثال. وهذا الإغفال للسياسة الخارجية بواسطة دارسي السياسة لم يكن محض صدفة، ولكن يعود لأسباب عملية تتعلق، في معظمها بِعِلَّة أن هذه السياسة الخارجية لم تناسب القالب النظري، الذي يقترن عند معظم المختصين بالقضايا الداخلية. فدائماً ما تركز تحليلات ونظريات وضع الأجندة في السياسة الداخلـية على مفاهيم مثل: فهم القضايا، وتحديد الموضوعات، وتحريك الإهتمامات، وتكوينات النظام التحية، واستطلاع “المكان”،[16]والإهتمام المؤسسي بما هو “محلي”.[17] والمفهومان الأول والأخير، هما بالتأكيد مناسبان لوضع أجندة السياسة الخارجية، فيما لا يمكن أن يقال ذلك على وجه التأكيد إن مجموعات المصالح، والتكوينات التحتية، أستطلاع الأمكنة، ذات أهمية كبرى في هذا الصدد. والحكمة المتداولة لدى الدبلوماسيين تقول إنه بالنسبة للكثير من قضايا السياسة الخارجية، فإن النظم التحتية لا تتطور، لأن هذه القضايا لا تضم بصورة واضحة المنافع المادية المطلوبة لإستثارة مجموعة المصالح، التي عادة ما تعتبر ذات نفوذ أقل في السياسة الخارجية من تأثيرها في السياسة الداخلية. وفوق ذلك، فإن الرئيس هو الموقع الأول، الذي تدخل من خلاله قضايا السياسة الخارجية الجديدة إلى النظام، وهو منفعلٌ ومنشغلٌ دائماً بضرورات وتحديات السياسات الداخلية.[18] لكن، رغم ذلك، فمن المؤكد أن الرئاسة قد نمت وتطورت عبر الزمن كفاعل أعلى مسؤول عن السياسة الخارجية، ويمثل هرمها الدبلوماسي. لكن، يلعب الدبلوماسيون، في أحيانٍ كثيرة، دور الأجنبي في عدم التماس المباشر بـ”المحلي” من شؤون “المكان”، ومع ذلك، فهم يظهرون على المسرح بصورة فيها تعجل واندفاع نتيجة لأزمة ما، أو لوقائع مثيرة أخرى، وبمجرد ظهورهم على المشهد يتدفق الإهتمام بواسطة تيار متصل من حوادث السياسة الخارجية. ونحن نُقِرُّ بأنه بينما تكون الحوادث مهمة أحياناً في دفع الإهتمام نحو القضايا المحلية، فهي أيضاً ذات أهمية أكبر في دفع ذات الإهتمام نحو قضايا السياسة الخارجية.[19] لذلك، فكلما أبدى الجمهور إهتماماً نحو موضوع ما، كان على الرئيس بدوره أن يهتم أكثر بذلك الموضوع، وكذا الدبلوماسيين.

إن ما ينطبق على السودان قد يتبدى بوضوح أكثر، أو أقل، في غيره، وهذا شأن اختلافات الممارسة بين النُظم، التي ربما تقصرها هذه المماثلة على الأنواع الشمولية. وقد يكون مريحاً أن نعلم بأن المفكرين الديمقراطيين الليبراليين أنفسهم ليس لديهم المصادر داخل هذا الإطار النظري، الذي اخترناه، لتفسير ما يدور من اشتباك حتمي بين “المحلي” والعالمي، خاصة بعد اتسعت رؤيتهم إلى “المكان” بحجم “القرية الكونية”، التي أسست لأيديولوجية العولمة. وما يرونه في هذا الصدد، يتم بواسطته وضع التنظير الحاكم لإنعكاسات علاقات القوة للاقتصاد العالمي الجديد، رغم أن استجابتهم في الغالب كانت ببساطة تجاهل هذا الموضوع والمضي قدماً في تضييق تعريفهم للديمقراطية، حتى لا تشتمل على ما نَتَقَصَّدُه من أمثلة. وقد يقول قائل إنه لهذا السبب كان على هذه الدراسة، وللضرورة، أن تأخذ مسألة البنية الاقتصادية الاجتماعية بطريقة أكثر جدية باعتبارها قيداً على الآمال في تحول ديمقراطي ذي معنى، على الأقل، في سياق السودان الإنتقالي. والرد على استدراك كهذا هو العودة لتبيان أن هذه النقطة تحديداً ليست محوراً رئيساً للدراسة. لكن، في الوقت نفسه، نتساءل نحن بدورنا: هل علينا أن ننزوي متشائمين في هذا الخصوص؟ بالطبع، للوهلة الأولى، علينا الإعتراف بأنه ليس هنالك من طريق مباشر لتطوير سياسة اقتصادية متقدمة، في السودان، أو في أي مكان آخر بخصوص تلك المسألة تحت الظروف العالمية الراهنة. ليس هنالك من أحد، ربما بخلاف بعض المتحمسين اليساريين الدوغمائيين، في السودان، أو غيره، يمكنه توقع بديل ثوري للظهور مكتمل النمو، أو بسرعة التمني، في أي مكان في العالم؛ منعزلاً عن ما أحكمت قياده سياقات العولمة. ومن الطبيعي أن التغطية الإعلامية المكثفة لموضوع ما، بما في ذلك احتمال تحقق مثل هذا التوقع، يمكن أن تمد من تطلعات الإهتمام الشعبي والرسمي، لذلك الموضوع لفترة زمنية أطول، من خيال تنتجه شعارات مظاهرة عاطفية. وإذا تم فهم موضوع في مجال باعتباره أكثر أهمية، فإن القيود المفروضة بواسطة محدودية الزمن والمصادر تعني بالضرورة أن مواضيع أخرى في مجالات أخرى تحظى باهتمام أقل.

صراع الثنائيات:

تشهد الساحة الدولية صراعاً محتدماً بين الثنائيات؛ وبشكل ينفي عنها أن تكون خصيصة سودانية، كما أشرنا آنفاً، فيه هنا بين التنوع ووحدة الشكل؛ بين الثقافة الليبرالية والأصولية؛ بين الديمقراطية والشمولية، إنه صراع حول مظاهر كل ثقافة منفردة. ولكن أي المظاهر جَدِيرٌ بأن يتم الإحتفاظ به، وأيها يمكن التخلي عنه حتى يترك مساحة لشئ جديد مثرٍ لحياة التنوع والتعدد، الذي يقوي مظاهر الوحدة. إذ إن كثير من الدراسات تناولت النتائج المترتبة على أثر العولمة في ثقافات العالم، وما تواجهه هذه الثقافات من خطر التنميط، كما واجهت الأسئلة المرتبطة به من زوايا مختلفة، جعلته يدور في فضاء الحوار العام بين صور العالم الذهنية، التي تتيح لكل إنسان أن يقدم منظوره الخاص في الصراع الثقافي، الذي خلقته عمليات العولمة، أو تحاول أن تقسر الناس عليه أيديولوجية العولمة. وها هو “صمويل هنتغتون” في تصوره، يحتج بأن مصدر الصراع الأساس في هذا العالم الجديد لن يكون أيديولوجياً، أو اقتصادياً في المبتدأ وإنما هو ثقافيٌ محض.[20] وستكون الإنقسامات الكبرى بين الجنس البشري والمصادر المهيمنة على الصراع ثقافية كذلك. وستظل الدولة/الأمة فاعلاً قوياً في الشؤون الدولية، إلا أن الصراعات الرئيسة للسياسة الدولية ستقع بين الأمم وجماعات من ثقافات مختلفة. وسيسيطر الصدام بين الحضارات على السياسة في ظل العولمة؛ وأن خطوط التماس بين الحضارات ستكون خطوط معركة المستقبل. ويجوز للقارئ أن يسأل “هنتغتون” عَمَّا كانت الحرب الروسية الأوكرانية قد فاجأته، وتحت أي مسمىً يمكن أن يُصنفها، وطرفاها مسيحيان أورثوذكسيان، ولن نخطئ إذا قلنا إنهما نتاج قولبة ثقافية واحدة، لا تبتعد بهما كثيراً عن الغرب الثقافي. فلا شك أن “هنتغتون” يعي أن مُفردة “الحضارة”، التي يريد أن يقحمها في آتون الصراع العالمي، تُعرَّف بواسطة عواملها الموضوعية المشتركة: كاللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، إضافة إلى الهوية الذاتية للمواطنين، وستكون للهوية الحضارية الإنسانية الجامعة أهمية متزائدة في المستقبل، وسيتم تشكيل العالم، إلى حد بعيد، عن طريق التفاعل بين سبع، أو ثمأن ثقافات رئيسة تشمل: الثقافة الغربية، والكونفوشية، واليابانية، والإسلامية، والهندوسية، والأرثوذكسية السلافية، والأمريكية اللاتينية، وربما الأفريقية. وليس حتماً أن معظم صراعات المستقبل ستقع على خطوط التماس الثقافية، التي تفصل هذه المكونات الحضارية عن بعضها البعض.

لقد حان الوقت لفهم البيئة الثقافية المُعَزِّزَة لرؤية “المكان” وفكرة “المحلي” على حقيقتها؛ فهي موضوع الأمن القومي لبواكير القرن الحادي والعشرين، وستكون الآثار المترتبة على تزايد السكان، وإنتشار الأمراض والأوبئة، وإزالة الغابات، وأنجراف التربة، وتناقص المياه، وتلوث الهواء، وربما ارتفاع مستوى سطح البحر في مناطق مكتظة بالسكان كدلتا النيل وبنغلاديش وجزر المالديف. فالتطورات، التي تتسبب في هجرات جماعية، التي تشعل بدورها صراعات بين الجماعات، ستكون التحدي المركزي للسياسة الخارجية، الذي ستنطلق من تقاعسها عن مجابهته التحديات الأخرى. وبينما ستنعم أقلية بشرية، كما قال “فرانسيس فوكوياما” بالحماية الكافية، التي ستمكنها من الدخول في نطاق “ما بعد التاريخية” حيث تسكن المدن والضواحي، والتي تمت السيطرة فيها على البيئة، وأُخمدت فيها العداوات الإثنية بواسطة الرفاهية البرجوازية، فإن أعداداً أخرى متزايدة ستجد نفسها واقفة على قارعة التاريخ بلا حراك، تعيش في مدن الصفيح والكرتون حيث أن كل محاولة للإرتفاع فوق مستوى الفقر، والعجز الثقافي، والمعاناة العرقية ستمنى بالفشل؛ بسبب نقص الماء للشرب، والأرض للحرث والمساحة “المكان” للمحافظة على حياتها فيها، وسيضع الضغط البيئي سكان العالم النامي أمام خيار يدفعهم بصورة متزايدة نحو الشمولية، كما في حال الدويلات المنبثقة عن يوغسلافيا كالبوسنة والهرسيك وكسوفو والصرب وكرواتيا، وفي ثقافات القراصنة قطاع الطريق، كما في الصومال.[21]

لقد قام توماس فريدمان بالتصوير الدرامي للصراع بين “الليكزس وشجرة الزيتون”، الذي يجسد التوتر بين أجهزة العولمة وبين القوى القديمة للثقافة، والجغرافية، والتقاليد والمجتمع. إن إيجاد التوازن المطلوب بين اللكزس وشجرة الزيتون هو أعظم دراما لعصر العولمة. إن نظام العولمة، على غير نظام الحرب الباردة، ليس نظاماً جامداً، بل يجري في عملية ديناميكية مستمرة. وتستدعي عملية العولمة تكاملاً حتمياً متصلاً للأسواق، والدول/الأمم، والتقنيات بدرجة غير مسبوقة، وبطريقة تمكن الأفراد، والمؤسسات، والدول/الأمم من الاتصال حول العالم بطريقة أبعد مدى، وأكثر سرعة وعمقاً، وبأقل تكلفة من ذي قبل؛ وذلك أيضاً بطريقة تنتج رد فعل سلبي قوي من قبل المطحونين، أو الذين تركهم النظام من خلفه. إن القوة الدافعة للعولمة هي الرأسمالية ذات السوق الحر، التي تقول لك: كلما تركت الحبل لقوى السوق للتحكم، وفتحت اقتصادك للتجارة الحرة والمنافسة، كلما ازداد اقتصادك كفاءة وازدهاراً. وللعولمة أيضاً مجموعة قواعدها الاقتصادية الخاصة بها، التي تدور حول الإنفتاح، وتخفيف القيود، وخصخصة الاقتصاد. كما أن للعولمة ثقافتها المهيمنة، مما يفسر إتجاهها لأن تكون موحدة منسقة ومنمطة. لذلك، فإن العولمة من الناحية الثقافية تعني بدرجة كبيرة، وأن لم تكن كلية، نشر الأمركة، من مكدونالدز إلى ميكي ماوس، على نطاق عالمي.[22]

إن العولمة، في نظر فريدمان، أمر حتمي وغير قابل للإلغاء، أو الإرجاع، ويؤكد ذلك التقدم التقني الهائل، الذي يسابق قدرة الناس على تتبعه. فلم يعد بإمكان الحكومات السيطرة على تدفق المعلومات، في وقت وصلت فيه الهواتف النقالة والفضائيات التلفزيونية إلى مجاهل أفريقيا، وغابات أمريكا الجنوبية، وأبعد قرى أندونيسيا، المنتشرة في آلاف الجزر الصغيرة والكبيرة. كما لم تعد القرارات الاقتصادية اليومية تنتظر قرارات فوقية من مؤسسات الدولة، أو من وزراء التخطيط الحكومي، في وقت أصبحت فيه الأسواق تنمو بطريقة مخيفة. ولم يعد التمويل تحت سيطرة البنوك التجارية “ذات الأحذية البيضاء”، أو موظفيها ذوي “الياقات البيضاء” حيث أصبح في مقدور كل فرد أن يصبح تاجراً، ووسيط تحويل عملات. ولم يعد في إمكان رأس المال التراكم داخل حدود معينة؛ في وقت أصبح فيه ممكناً تحويل مليارات الدولارات بضربة على لوحة مفاتيح هاتف ذكي. وفي وقت جعلت فيه الاتصالات الآنية المباشرة شركات برامج الكومبيوتر الأمريكية أن ترسل لتطوير برامجها في الهند؛ وأن المشاركة في أسواق العالم تمنح الدول الفقيرة، كالسودان، فرصاً لم يسبق لها مثيل.

فالعولمة عبارة عن رحلة؛ لكنها رحلة إلى غاية لا يمكن الوصول إليها بسهولة، وهى “العالم المتعولم”. فالاقتصاد المتعولم يمكن تعريفه بأنه ذلك، الذي لا يمكن أن تعترض طريق معاملاته المالية المسافات، أو الحدود السياسية. وهو عالم تنخفض فيه تكلفة المواصلات إلى درجة الصفر، وتختفي فيه الحدود، التي خلقتها السيادات القومية المتنافرة. هذا مع التنويه، أو ما تستوجب الدقة الإشارة إليه، بأن الكثيرين مايزلون بعيدين كل البعد عن مثل هذا العالم. وبما أن كثيراً من الأشياء، التي ننقلها، بما في ذلك أنفسنا، مادية فيزيائية، فإن البعض مِنَّا قد لا يصل أبداً.

وتجدر الإشارة إلى أن رحلة العولمة هذه ليست بالجديدة؛ ففي القرون الخمسة الماضية أدى التغيير التقني إلى خفض مضطرد في الحدود أمام التكامل العالمي. وقد ارتقت المواصلات عبر الأطلنطى، على سبيل المثال، من الطاقة الشراعية، إلى البخار، إلى التلغراف، والتلفون، والطيران التجاري، حتى وصلت الآن إلى الإنترنت. ورغم ذلك، فلم تعد الدول أكثر ضعفاً، أو أقل أهمية خلال هذه الرحلة الملحمية. على العكس من ذلك، ففي الدول ذات الاقتصاد المتقدم المتكامل عالمياً، فإن قدرة الدولة على فرض الضرائب، وإعادة توزيع الدخل، وتنظيم الاقتصاد، والإشراف على نشاط مواطنيها، قد ازدادت إلى أبعد مما هو متصور، وكان ذلك واقع حقيقي، خاصة في نهايات القرن الماضي. ولكن، يبقى السؤال الآن؛ إلى أي مدى سيكون شكل العولمة المطروح اليوم مختلفاً عن ذلك، الذي كان في القرن الماضي؟ ولا حاجة بنا للإجابة في هذه الفاصلة من زمن الرحلة، لأنه بالتأكيد ستكون هنالك عدة عوامل تميز رحلة العولمة الماثلة اليوم عن الرحلات السابقة، كما يمكنها إنتاج مردود مختلف عَمَّا ألفناه. وهذه الميزات تشمل اتصالات أكثر سرعة، وتحرير السوق بالكامل، وتكامل عالمي لإنتاج السلع والخدمات أوسع. وبالرغم من ذلك، وعلى عكس كل الإفتراضات الشائعة، فإن الشكل الحديث لحركة العولمة لن يعلن نهاية الدولة/الأمة الحديثة.[23]

إن خروج الماركسية – اللينينية التدريجي من الصين أولاً، ثم من الإتحاد السوفيتى وانهياره، يعني موتها كأيديولوجية حية ذات أهمية تاريخية عالمية. وقد لا يزال هنالك بعض المؤمنين الحقيقيين بها، المعزولين في الوقت الراهن، إلا أن الحقيقة تبقى بأنه ليس هنالك من دولة واحدة كبرى تجعل محور إهتمامها الإدعاء بإنها في طليعة التاريخ الإنساني. إن موت هذه الإيديولوجية يعني إزدهار أسلوب “السوق المشتركة” في العلاقات الدولية، وإنهاء الصراعات واسعة النطاق بين الأمم، لكنه لا يعني بأية حال من الأحوال نهاية التاريخ. وذلك لا يعني نهاية الصراع العالمي كما هو، بل يحيله إلى أنواع أخري، قد تكون مختلفة في الدرجة، أو المقدار. إلا أن الصراع واسع النطاق يستوجب أن يشتمل على دول كبيرة لاتزال في قبضة التاريخ، التي يبدو إنها في طريقها للخروج من المسرح. ولاشك في أن نهاية التاريخ؛ إذا قُدِّرَ لها أن تقع بالفعل، ستكون لحظة حزن عميق، لأن الصراع من أجل إبراز الهوية، والرغبة في أن يضحي الفرد بحياته من أجل هدف تجريدي بحت، والصراع الأيديولوجي العالمي، الذي يستدعي الشجاعة الجسورة، والخيال والمثالية؛ كل ذلك ستحل مكانه العمليات الحسابية الاقتصادية، وحَلُّ المشكلات التقنية اللامتناهية، والقضايا البيئية المتفاقمة، وتلبية حاجات المستهلكين المعقدة.[24]وكما حدث لعدة مرات في الماضي، فإن خلط المصادر، التي تؤدي إلى إنتاج القوة العالمية آخِذٌ في التغيير. والأمر الذي لم يسبق حدوثه من قبل هو أن دائرة الصراع من أجل الهيمنة المصحوبة بحروب عالمية قد لا تعيد نفسها بشكلها القديم، إذا توقفت روسيا في حدود ما أسمته بـ”العملية الخاصة” في أوكرانيا. فالولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بمصادر القوة التقليدية الملموسة أكثر من أي قطر آخر. وهي أيضاً تمتلك مصادر البرامج الأيديولوجية والمؤسسية، التي تمكنها من الاحتفاظ بموقعها القيادي في المجالات الجديدة للتعاون الدولي الإنتقالي. إلا أن المشكلة، التي ستواجه الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين لن تكون تحديات جديدة من أجل الهيمنة، بل تحديات التعاون الدولي الإنتقالي الجديدة.

ومع كل ذلك، يبقى السؤال المهم: هل في إمكان أي دولة بمفردها، بما في ذلك الولايات المتحدة، إمتلاك القيادة السياسية والرؤية الإستراتيجية لتحويل مصادر القوة تلك إلى نفوذ حقيقي في فترة إنتقالية للسياسة الدولية. إن الإشارات الدالة على الإستقرار في العصر النووي كثيرة جداً، وأية إسترتيجية، أو إدارة إنتقال لتعاون دولي معقد في السنوات القادمة، يتطلب من الولايات المتحدة أن تستثمر مصادرها في تدعيم التوازن الجيوبولتيكي؛ الجغرافي وااـسياسي، في توجه منفتح نحـو بقية العالم، وفي تطوير مؤسساتٍ دولية جديدة، وفي اصلاحات كبيرة لاستعادة مصادر القوة الداخلية. إن الخطرين التوأم، الذان يواجهان الأمريكيين، هما القناعة السلبية حول الأجندة الداخلية، وعدم الرغبة في الاستثمار من أجل دعم الثقة في قدراتهم لقيادة العالم. وكلاهما غير ضروري، لأن الولايات المتحدة تبقى أكبر وأغنى قوة، وتمتلك إمكانية عظيمة لتشكيل المستقبل.[25] فقط، يقبع خلف أفق الأحداث المعاصرة مستقبلان سياسيان لبقية العالم؛ كلاهما غير محبب، وليس فيهما احتمال ديمقراطي. أولهما، إعادة التشكيل القبلي لقطاع واسع من الناس بواسطة الحرب وإراقة الدماء؛ وتتبدى هذه الحالة في أوكرانيا بأسوأ صورها، التي هي نوع من البلقنة والصوملة المهددة للدولة الوطنية حيث تحترب الثقافة ضد الثقافة، والبشر ضد البشر، والدين ضد الدين، تحت أسماء مئات من الأيديولوجيات والشعارات، والتي تم استيعابها من زوايا ضيقة؛ ضد كل شكل من أشكال التعاون الدولي، وكل نوع من أنواع التعاون الاجتماعي المصطنع، والمصالح المدنية المشتركة. وثانيهما، تمت ولأدته في الولايات المتحدة عن طريق تدفق قوى البيئة والاقتصاد، التي تتطلب التكامل وتوحد الشكل، والتي أذهلت العالم بالموسيقى الصاخبة المزعجة، وأجهزة الكومبيوتر المتطورة، والوجبات السريعة، إلى جانب محطات التلفزيون، ومطاعم مكدونالدز، والإنترنت، التي تضغط الدول عبرها لإيجاد شبكة عالمية متناسقة تجارياً: إنه بعبارة أخرى عالم كبير “بق ماك”، الذي يرتبط مع بعضه بواسطة التقانة، والبيئة، والاتصالات والتجارة. فالعالم بهذه الصيغة التحررة يسقط متجزئاً بسرعة، ويأتي متردداً إلى بعضه في ذات اللحظة.[26] ولعبة التوازنات والتوجهات تعمل هنا بقوة متساوية في إتجاهات متعاكسة: أحدهما مدفوع بتحيزات أنآنية ضيقة الأفق؛ والآخر يَعِدُ بفتح أسواق العالم على بعضها؛ أحدهما يعيد من الداخل خلق الحدود الإثنية دون القومية القديمة، والآخر يجعل الحدود القومية كثيرة الثقوب من الخارج.

وفي كتابهما “القوة والتعاون الدولي”، الذي صدر في العام 1977، يدعم روبرت كوهين وجوزيف ناي، الفكرة القائلة بأن التعاون الدولي يرفع من شأن السلام ويضع حدوداً لاستخدام القوة، محتجين بأن التعاون الدولي البسيط قد أصبح معقداً يجمع الاقتصاد، وبالتالي المصالح السياسية للدول، إلى بعضها بصورة أقوى من ذي قبل.[27] ونسمع الآن من جهات مختلفة بأن التعاون الدولي قد وصل ذروة أخرى متجاوزاً الدول، وصانعاً “عالماً بلا حدود”، وهو الفكرة المحورية لعنوان كتاب بنفس الإسم “لكونيشا أوماه”، صدر في عام 1990؛ فقد أصبح البشر، والمؤسسات الاقتصادية والأسواق، أكثر أهمية من الدول. فكل شَدَّة على العمود الاقتصادي ترفع من منافع التبادل الاقتصادي، وتجعل من الحرب بين الدول الأكثر تقدماً أمراً عالي التكلفة. إن النظريات البسيطة والمقبولة منطقياً تقول بإنه كلما ارتفعت المنافع الناتجة عن السلام كلما ارتفعت تكاليف الحرب. وعندما تفهم الدول بأن الحروب بالغة التكاليف، فستكون أقل تحمساً للدخول فيها. وستكون الحرب أمراً نادراً، إلا إنها لن تختفي نهائياً؛ لأن حتى أعتى الدول الاقتصادية لن تستطيع قهر الخوف، أو اجتثاث الإهتمام بالشرف القومي،[28] كما في الحالة الروسية. فقد أصبحت المصالح الاقتصادية أكثر قوة بحيث بدأت الأسواق في احتلال مكانة السياسة داخلياً وخارجياً، وباتت فكرة أن الاقتصاد يقلل من قيمة السياسة ويضع حدوداً لأهميتها تعتبر جديرة بإشاعة الفرح.[29]

إن العالم يقف بالفعل أمام منعطفات حادة، وفق سياقات جديدة، غير أننا نُصِرُّ أن فكرة العولمة ليست جديدة بالكامل؛ فعبر القرون وبغض النظر عن التيارات المضادة، قد كان الاتصال متنامياً، ساعدت في ذلك التجارة، والفتوحات العسكرية، وتقنية الحديد، والملاحة، والطباعة، وغيرها من وسائل التواصل. كما أن هنالك تغييرات تقنية عظمى أحدثت ارتفاعات مفاجئة في ميزان التفاعل الإنساني، وهي عمليات تواصلت حتى اليوم. ووضع مثل هذه التغييرات في الميزان العام تؤدي إلى تحولٍ في العلاقة بين البشر وبيئاتهم. كما أوضح كارل ماركس وفريدريك أنغلز، في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أشارا إلى كيف أن الصناعات الكبرى قد أدت إلى خلق سوق على مستوى العالم، منهية بذلك المشاريع الاقتصادية الصغيرة، ومنشئة سياقاً جديداً ذا حاجات جديدة، تحتاج إلى إشباعها بمنتجات بلاد بعيدة، ومناخات مختلفة. إلا أن، بالنسبة للكثير من الناس، تعتبر حركة العولمة عملية لا تزال بعيدة، وأن ماتقدمه من عدم اطمئنان أكثر مما تقدمه من مكافآت. وكما تم اكتشافه بواسطة القادة السياسيين عبر العالم الصناعي، فإنه من الصعب المحافظة على دعم حركة العولمة، إذا نُظر إلى الاقتصاد العالمي باعتباره نظام يمنح ميزات لأصحاب رؤوس الأموال على حساب العمال والمجتمعات الصغيرة والبيئة. ومما لا شك فيه، أن نهاية الحرب الباردة قد حرمت العالم من مخطط منطقي مقنع لميزان القوة العالمي، الذي يعترف بالتعددية القطبية والتعاون، وقد تعود هذه القطبية ثانية وفق منطق ومنظورات جديدة. فالحديث عن نظام عالمي جديد، بغض النظر عن هذه النزاعات المتزائدة، والضغوطات، والعجز الديمقراطي، والعجز الوظيفي، الذي ينتشر في الاقتصاد العالمي، يتجاهل الحقيقة البينة بأن الاقتصاد موضوع داخل أكثر النظم مؤسسية. وأكثر من ذلك، فهو موجود في الفترة الأولى، التي أصبحت فيها القوة العظمى القيادية مؤقتاً، خاصة حلفاء روسيا في الحرب الباردة، في حالة سلام عميق مع بعضها البعض، ومع الغرب.

لقد ذكرنا كحقيقة مُدْرَكَة أن الناس حول العالم أصبحوا على اتصال مع بعضهم أكثر من أي وقت مضى، كما تتدفق المعلومات والمال بصورة أسرع مما كان؛ فالبضائع، التي يتم إنتاجها في بقعة من العالم تكون متاحة بصورة متزايدة في بقية أنحاء المعمورة في أوقات وجيزة. وأصبح السفر العالمي أكثر توفراً، والاتصالات العالمية في كل مكان، ووسائلها في كل يد، وصار تعبير “عصر العولمة” المصطلح المفضل لوصف الأزمان الحالية. وكما كانت تستخدم تعابير فترة الحرب الباردة، وعصر الفضاء، أو الحروب الصليبية، وأيام الخلافة الراشدة، لوصف فترات تاريخية معينة، فإن “العولمة” تصف مناخ اليوم السياسي، والاقتصادي، والثقافي. وبينما يرى البعض بأن العولمة هي في الأساس مرادف للنشاط الاقتصادي العالمي، إلا أن آخرين يرون أنها أكثر من ذلك؛ فإن نفس القوى، التي سمحت للنشاطات الاقتصادية أن تعمل كأنما الحدود القومية غير موجودة، سمحت أيضاً للنشطاء الاجتماعيين، ومنظمي العمل، والصحفيين، والأكاديميين، وغيرهم بالعمل على المسرح العالمي.

وقد لا ينطبق ذلك تماماً على حالة العديد من دول العالم، بما فيها السودان، خاصة عندما تأتي إلى أداء وسائل الإعلام ومنظمي العمل والصحفيين. ففي الوقت، الذي كانت فيه مصطلحات مثل “التخمة العالمية”، و”هبوط أسعار السلع”، على كل لسان، على مستوى العالم، فإن الصحافة الاقتصادية المتمكنة ربما كانت السلعة الوحيدة، التي لا تزال في حالة شح في دول العالم الثالث. فمن المألوف أن يتم تعيين الصحفيين في أقسام الاقتصاد حتى لوكانت خبرتهم الوحيدة في مجال السياسة الداخلية، أو السياسة الخارجية. وفي حالة السودان، فإن الأمر قد يُثير الصدمة حيث كان أفضل وصف قدمه السيد عبدالرحيم حمدي، وزير المالية والاقتصاد الوطني الأسبق، عندما قرر، في فترة توليه المنصب في المرة الأولى، أن يوصد موقتاً الباب أمام صغار الصحفيين، الذين كانوا يترددون على مكتبه، لأنهم، على حد قوله، لا يعرفون الفرق في علم الاقتصاد بين مفردة “المليون” و”الطن”،[30] وهذا لعمري وصف شديد القسوة على من ظنوا في أنفسهم أنهم رُسل معرفة. وقد تدعي كليات الصحافة الكبرى في البلاد بأنها تخرج صحفيين ذوي معرفة بعلم الاقتصاد، إلا أن برنامجاً دراسياً واحداً، أو اثنين، غير كافيان لاستيعاب تعقيدات الأسواق المعاصرة. ومن الجانب الآخر، فإن كتابات بعض الاقتصاديين للجمهور العريض تنحو إلى الإغراق في المصطلحات، فاقدة بذلك رؤية الصورة الكاملة، أو القدرة على إيضاحها للقارئ. هذا مع الاعتراف الواجب بأن هناك من يجتهدون في تقديم تحليلات متقدمة تربط الواقع “المحلي” بما يدور في مراكز العولمة من حركة وتبادلات.

ومعلوم أنه في الشئون الاقتصادية، يتم تنزيل تعابير العولمية، أو العالمية، إلى أرض الواقع بواسطة الحكومات عن طريق دعم الإتفاقيات الإقليمية متعددة الأطراف والمؤسسات، ويتم الهجوم عليها بواسطة النشطاء الجماهيريين في اليمين واليسار غبر وسائل الإعلام، بينما يتم الترويج لها عن طريق المؤسسات الإنتقالية، التي يعتنق مديروها مبدأ العولمية كوسيلة لإختراق أسواق جديدة والهيمنة على الأسواق القائمة اليوم. وتاريخياً، فإن مساندة فكرة العالمية أقوى ما تكون بين الجماعات المهتمة بموضوعات الأمن والسلام. وبعد الخروج من توترات الحرب الباردة، فقد أصبح من الصعب تحريك الجماعات المساندة للأمم المتحدة وحفظ السلام العالمي لِتُصْبِحَ موالية لـ”المكان” بمحدوديته “المحلية”. لذلك، فإن التوليفة الحالية لسياسة واقتصاد العولمة قد خلقت فرصاً لوضع سياسة خارجية أكثر استنارة، ودبلوماسية سريعة الاستعداد لتعظيم الفرص ومجابهة التحديات، تلك التي تستجيب لفهم أفضل للمصالح القومية، وفهم أفضل لأنفسنا كأعضاء في المجتمع العالمي. وبين الإحتمالات الجديدة لإعادة تشكيل وتقوية القواعد المكونة لتوسيع أجندة الشئون العالمية؛ برز الشعور المشترك حول قضايا مثل الإرهاب، والإحتباس الحرارى، ومبيعات الأسلحة، وثراء المؤسسات الفاحش، والدَين القومي، والمساعدات المالية، وإدارة التجارة، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي، ودعم الصادرات، والميزانيات العسكرية، وتضمين كل ذلك في أهداف السياسة الخارجية. إلا أنه في معظم الأحيان يتم تشكيل هذه التحالفات المتنامية كرد فعل لتغير الزمن، وكإستجابة لقضايا محددة بدلاً من أن تكون تمظهرات لرؤية جديدة لدور جديد في مجتمع عالمي يكون بلد مثل السودان فيه عضواً نشطاً.

خاتمة:

يتميز العولميون بالخوف الكبير، الذي يكون طبيعياً عند الإنسلاخ عن التقاليد القومية الراسخة، وعند الاعتماد الكلي على ضبابية العالم العولمي، ويتجلى هذا الخوف مرة أخرى أكثر  ما يتجلى لدى الرأسماليين منهم. ومعروف ذلك الخوف، الذي شعر به  الإشتراكيون الشيوعيون حين أذنبوا بحق المجتمع، وأذنبوا بحق الدولة الروسية بعد أن حولوا “الحرب الإمبريالية” إلى إشكالية أهلية. لقد أجبرهم هذا الخوف على أن يستعجلوا بشتى الأشكال الثورة البروليتارية العالمية، التي لن تشطب الحساب كله وحسب، وإنما ستبدأ كما كان متوقعاً بتدمير الغول المقيت؛ أي الدولتية الروسية، لينهار ما بُنِيَى تحت اسم الاتحاد السوفيتي. إن العولميين المعاصرين، الذين تسنى لهم ارتكاب عدد لا يستهان به من الذنوب بحق الدولتية الروسية، قادرون على استعجال حرب عالمية ثالثة؛ عبر أوكرانيا، أو غيرها. وهم، على كل حال، لا يخجلون من استعجال الأمريكيين في تنفيذ مهمتهم بالتحرك نحو الشرق، ولا يخجلون من أن يروا في تحرك الناتو شرقاً الضمانة الوحيدة للديمقراطية الروسية، مثلما زعم ك. بوروفوي، وس. كوفاليوف، وف. نوفودفورسكايا، وغيرهم. ‏وكلما صار العالم أحادي القطب، أي كلما صار خالياً من الأنداد الحقيقيين للسيادة الأمريكية على الكوكب، شعر الدولتيون في روسيا بالأمان لأن “طابور العولمة الخامس”، الذي لا يشتكي من المضايقات غير الموجودة أصلاً، والتي لا يمكن لها أن توجد اليوم بسبب من الطابع الكومبرادوري للسلطة نفسها، وإنما من عدم وضوح الآفاق أمامه على المدى البعيد في “هذا البلد”، لا يُدرِك حقيقة مثل هذا الخوف الإمبريالي. ‏

في هذه الأثناء لا ينفك مهندسو عالم القطب الواحد الأمريكيون يعرضون قانون التحول ذاته، أي تحول العولمة إلى مركزية إثنية، وتحول عبادة “ما فوق القومي” إلى تشجيع القومية الضيقة. إذ يشجع العولميون الأمريكيون بكل الوسائل روح الإنفصالية والتطرف القبلييين، في سعيهم إلى تفكيك الدول المستقلة الضخمة، باعتبارها حاملة لمبدأ السيادة القومية “المتقادم”. فقد دُبِّرت ضد يوغسلافيا، الدولة ذات السيادة، حرب لحماية إنفصاليي كوسوفو. ودُعِمَ الإنفصاليون الشيشان ضد روسيا، ويجري اليوم دعم أوكرانيا، التي لم تفقد بعد تماماً سيادتها، لذات الهدف. وفي أثناء ذلك لا يشعر العولميون بالقلق من أن “المناضلين من أجل الاستقلال” الذين يحمونهم هم بكل معنى الكلمة؛ منبوذو الحضارة المتسلحون بأشد الممارسات إجراميةً؛ بدءاً من الإتجار بالمخدرات، وحتى الإتجار بالرقيق. وقد صارت إيديولوجية حقوق الإنسان العولمية وأخلاق “مواطنو العالم” متلازمتين تماماً مع شياطين السلفية القبلية المندفعين إلى العلن، مستغلين ضعف البنى القومية، أو ما يمكن أن نسميه القواعد التنظيمية للحداثة الكلاسيكية. ‏

فالدولة، مثل الإنسان، جاءت بصمت إلى هذا العالم، ثم تكلمت حين استحالت فكرة، تحملها الجماعة البشرية إلى مجالها وحيزها وأرضها السياسية “المكان”، فهي سابقة على الفكرة، لأنها تركيب شائك بين العنصر التجريدي والعنصر العيني، بين الخيالي والواقعي. وتشبه الدولة الأيدولوجيا من حيث هي ظاهرة حالة في الزمن، فالأيدولوجيا هي الخريطة الفكرية للكون، أي أنها الكيفية، التي نرى العالم السياسي من خلالها. وحين تذوي الظاهرة الأيدولوجية في مكان ما وزمان ما، فلا يعني إنها هي التي ذوت وأندثرت، وإنما تدثرت بشرطها الخاص، الذي حلت فيه. وقد تموت الأيدولوجيا في ظاهرة سياسية اجتماعية ما حين تموت هذه الأخيرة، سواء تعلق الأمر بدولة، أو بجماعة، أو بطبقة اجتماعية سياسية. والدولة هنا ظاهرة أيدولوجية تنفجر حين تكتمل، وتموت ويبقى جوهرها، الذي حفزها على الإنبثاق، وبهذا، يكون فناء الظاهرة في صورتها لا في جوهرها القابل للالتباس في كل صورة، ذلك أن الظاهرة الأيدولوجية؛ وهي هنا الدولة، ستظهر في خطاب جديد، ولون جديد.


[1] John Kincaid, “Values and Value Tradeoffs in Federalism,” Publius: The Journal of Federalism, Spring 1995. p. 34.

[2] James M. Buchanan, “Federalism As an Ideal Political Order and an Objective for Constitutional Reform, Publius: The Journal of Federalism, Spring 1995. p. 19.

[3] Ibid. , p. 20.

[4] Kincaid, op. cit. ,  p. 41.

[5] Kincaid,  op. cit. , p. 42.

[6] Buchanan, op. cit. , p. A.

[7] الدكتور علي مزروعي، إشارة إلى ورقة أعدها عام 1968، تقول: تشكل العلاقات بين الشمال والجنوب إحدى أزمات الانشقاق الأكثر حدة في قارة أفريقيا قاطبة، لأنه يمثل “هامشية متعددة”، وكرر خشيته من انصال الجنوب لهذه الأسباب في محاضرات لاحقة له في الخرطوم.

[8] The Republic of the Sudan Constitution of 1998: CHAPTER II, DIVISION OF POWERS, Federal Powers:

110. Federal organs shall exercise the power for planning, legislation and execution in the following affairs: –

(a) defence, armed forces, police, security and disciplined people’s forces;

(b) the Sudan international borders and settlement of border disputes between states;

(c) nationality, passports, immigration and aliens’ affairs;

(d) foreign relations;

[9] The Sudan Constitution of 1998.

[10] Arif Dirlik, “Globalism and the Politics of Place,” Development, Journal of the Society for International Development (SID), Volume 41 Issue 02 – Publication Date: 1 June 1998, p. 7.

[11] “Equals, in this context, means that both sides hold no jurisdiction over one another. ”  ”متساوون تعنى هنا بأن كلا الطرفين لا يملك أحدهما سلطات سيادية على الآخر.”

[12] David J. Elkins, Beyond Sovereignty: Territory and Political Economy in the Twenty-First Century, University of Toronto Press, Toronto, 1995, pp. 5-31.

[13] There are exceptions to this, such as secessionist movements or people fleeing from repressive regimes; however, even people contesting the boundaries of the state still seek to create a new state or to find sanctuary in another.

[14] هنالك استثناءات لهذا، مثل تحركات الإنفصاليين، أو الذين يهربون من أنظمة قمعية؛ بالرغم من ذلك، حتى أولئك الذين يعارضون حدود الدولة لا يزالون يبحثون عن إنشاء دولة جديدة، أو البحث عن ملاذ في أخرى.

[15] B. Dan Wood, “The Dynamics of Foreign Policy Agenda Setting,” American Political Science Review, March, 1998, p. 27.

[16] Venue shopping means that because of the system of fragmented representation, potential agenda setters have multiple institutions through which to pursue policy goals.

[17] استطلاع المكان هنا يعني أنه بسبب نظام التمثيل المتجزئ، فإن واضعي الأجندة المتمكنين يملكون مؤسسات متعددة يتم من خلالها السعي وراء أهداف السياسة.

[18] لم يُقصَد بهذا الاشارة الخفية بأن مجموعات المصالح لن تصبح مشاركة في السياسة الخارجية، أو ألا يكون لها تأثير، إلا أن مشاركتهم تكون في العادة أقل من السياسة الداخلية. درجة المشاركة هذه تعتمد بالطبع على نوع الموضوع. حرب الخليج، مثلاً، ستوفر المادة اللاحمة اللازمة لعلاقات النظم التحتية لتتطور. أدبيات العلوم السياسية حول وضع الأجندة قد تم توجيهها لشرح الطريقة الكيفية، التي تصل بها موضوعات السياسة الداخلية وتبقى في الأجندة المؤسسية والنظمية. بالرغم من ذلك، السياسة الخارجية إلى جانب هذا النوع من السياسة العملية، تتطلب ممارسة نظرية مهمة، نوع من الخطاب، الذي يخدم، متزامناً، حصر ودعم أكثر الجوانب إيجابية للحركة الجماهيرية السودانية الناشئة. هذا الخطاب، الذي تم تأسيسه بواسطة أولئك الذين لهم علاقة مباشرة في العملية السياسية، والمثقفين المحترفين يسلط الضوء على فكرة راديكالية لأهمية “المجتمع المدني ” للصراع المستمر في السودان، قبل وبعد أي انتقال قد يحدث.

[19] The Ministry of External Relations, released a general guidelines titled: “Foreign Policy Fundamentals and Obgectives. ” In 1998.

[20] Samuel P. Huntington, “The Clash of Civilizations?”, Foreign Affairs, Summer 1993, pp. 18-23.

[21] Robert D. Kaplan, “The Coming Anarchy”. The Atlantic Monthly, February 1994, p. 28.

[22] Thomas Freedman, The Lexus and the Olive Tree, Farrar, Straus and Giroux, New York, 1999, pp. 112-19.

[23] Martin Wolf, Will the Nation-State Survive Globalization?, Foreign Affairs, January/February 2001, p. 147.

[24] Francis Fukuyama, “The End of History?”, The National Interest, Summer 1989, pp. 37-42.

[25] Joseph S. Nye, Jr. , Bound to Lead, The Changing Nature of American Power, 1990.

[26] Benjamin R. Barber, “Jihad vs. McWorld”, The Atlantic Monthly, March 1992, pp. 45-7.

[27] Robert Keohane and Joseph Nye, Power and Interdependence, West View, New York, 1977, pp.

[28] Kenichi Ohmae, The Borderless World,  Borders, New York, 1990, pp.

[29] Friedman, op. Cit. , 1999, 196-97.

[30] جاءت هذه العبارة في حديث للوزير عبدالرحيم حمدى للمؤلف عندما كان الأخير مستشاراً صحفياً للرئيس السوداني.
________
*الدكتور الصادق الفقيه/
أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية/جامعة صقاريا، تركيا/الخميس 10 يونيو 2022.

** مادة هذا البحث كتبت في الأصل باللغة الإنجليزية عام 2001، كجزء من دراسة موسعة، نُشِرَت منها أجزاء، وتنتظر البقية دورها. وقد حرصت أن لا أضيف عليها إلا ما اقتضاه السياق.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات